أرشيف المقالات

التوحيد في القرآن الكريم (1)

مدة قراءة المادة : 21 دقائق .
التوحيد في القرآن الكريم (1)

بادئ ذي بدءٍ، أشير إلى أن التوحيد ليس موضوعًا كباقي الموضوعات التي عالجتها بعض آيات القرآن أو سوره، بل القرآن كله مِن ألفِه إلى يائه كتاب توحيد؛ فآياته كلها وسُوَره تتحدث عن موضوع التوحيد، وأما التقسيم الذي قال به بعضُ أهل العلم من أن القرآن ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد وأخبار وأحكام، فهذه الأقسام عند التحقيق كلها تعود إلى التوحيد.
 
بيان ذلك: أن الأخبارَ في القرآن إما أخبار عن الله -تعالى- وأسمائه وصفاته، فهذا يدخل في التوحيد، أو أخبار عن الأمم الماضية وقصصهم مع أنبيائهم والصراع الدائر حول توحيد الألوهية، وإما أخبار عن أمور الساعة والجنة والنار، وهذا يدخل في جزاء التوحيد، وأما الأحكام فهي من لوازم التوحيد؛ لأنه لا يمكن أن يحقِّقَ هذه الأحكامَ إلا مَن حقق التوحيد، فهو الأس والأساس.
 
إذًا؛ فالحق أن القرآن كلَّه يتحدث عن التوحيد، وما ذاك إلا لعِظَم شأن التوحيد وأهميته والحاجة الماسة إليه.
 
فمن رحمته - سبحانه وتعالى - أنه كلما عظُمت الحاجة لشيء تعددت أساليب نيله والوصول إليه؛ فمثلاً لما كانت حاجة الناس إلى الهواء أكثرَ مِن حاجتهم إلى الماء، كانت سُبل تحصيله أيسَرَ وأكثر، ولما كانت حاجة الناس إلى الماء أعظمَ من حاجتهم إلى الطعام، كانت سبل تحصيله كذلك أيسرَ من تحصيل الطعام، وهكذا، ولا شك أن حاجةَ الناس إلى التوحيد أعظمُ الحاجات، بل أعظمُ من حاجتهم إلى الماء والهواء، وكيف لا وتحقيقه هو سبب فلاحهم في الدارين، وعليه تتوقف حياتهم الحقيقية، حياة الروح والقلب، وبقدر تحقيقه يكونُ الأمن في الدنيا والآخرة؟!

ولما كانت الحاجة إلى التوحيد أعظمَ، كانت سبلُ معرفته أيسرَ، والدلائل عليه أكثر؛ لذلك كان القرآن - كما سلف - كتاب توحيد من أوله إلى آخره، وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه؛ فإن القرآنَ إما خبَرٌ عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العِلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلعِ كل ما يُعبَد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطَّلبي، وإما أمر أو نهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره، فهي حقوقُ التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعَل بهم في الدنيا، وما يُكرِمهم به في الآخرة، فهو جزاءُ توحيده، وإما خبر عن أهل الشِّرك، وما فعَل بهم في الدنيا من النَّكال، وما يحلُّ بهم في العقبى من العذاب، فهو خبرٌ عمن خرَج عن حُكم التوحيد؛ فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقِه وجزائه، وفي شأن الشِّركِ وأهله وجزائهم"؛ مدارج السالكين: (3/450).
 
وقد عدَّ بعضُ أهل العلم التوحيدَ والدعوة إليه من كليات القرآن الكريم؛ يقول الشيخ عبدُالرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله تعالى - في مقدمة تفسيره: "ومن كليات القرآن أنه يدعو إلى توحيد الله ومعرفته، بذكر أسماء الله، وأوصافه، وأفعاله الدالة على تفرُّده بالوحدانية، وأوصاف الكمال، وإلى أنه الحقُّ، وعبادته هي الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، ويبين نقص كل ما عُبِد من دون الله من جميع الوجوه"؛ تيسير الكريم الرحمن.
 
فالتوحيد أوجب الواجبات، وتحقيقُه غاية الغايات؛ كما قال حافظ الحكمي - رحمه الله تعالى -:

أول واجبٍ على العبيدِ
معرفةُ الرَّحمن بالتوحيدِ

إذ هو مِن كلِّ الأوامر أعظمُ
وهو نوعانِ أيَا مَن يفهَمُ

 
سلم الوصول إلى علم الأصول.
فهو الغايةُ من خَلْق الخَلْق، ومن أجله خُلقت الجنة والنار، ومن أجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب، وبه ينقسم الناسُ إلى أبرار وفجَّار، وبه يختلف مصيرُهم في دار القرار، فريق في نعيمٍ مقيمٍ، وآخر يَصْلَى نار الجحيم.
 
ولما كان التوحيد بهذا الشأن، فقد عالجه القرآنُ الكريم أعظمَ معالجة، بل إن كل آية - على التحقيق - تدخُل في هذه المعالجة لهذا الموضوع الجَلَل، وقد اختلفت درجةُ هذه المعالجة وحِدَّتها بحسب أحوال الناس؛ لذلك نجد موضوعَ التوحيد في القرآن المكي أبرزَ منه في القرآن المدني، وهذا أحدُ الفروق بين هذين القسمين: المكي والمدَني: فالأول يتميز بالدعوة إلى التوحيد، وذِكر أمور البعث والحشر، والجنة والنار، في حين أن الثاني يتميَّزُ بذِكر آيات الأحكام والفرائض والحدود، وهذه من لوازم التوحيد.
 
وقد أفاض القرآن الكريم في مناقشة موضوع التوحيد من وجوه شتى، وجوانب عدة، وهذا ما سنبيِّنه - إن شاء الله تعالى - بشيء من التفصيل:
1- بيان القرآن أن الغايةَ من خَلْق الخَلْق هي توحيده - سبحانه -:
قال -تعالى-: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وهذا أسلوب من أقوى أساليب الحصر والقصر، وهو النفي مع الاستثناء، واللام للتعليل؛ فالغاية من خلق الثَّقَلين هي عبادته - سبحانه، وأسُّ العبادةِ التوحيدُ والاعتقاد الصحيح، بل كما ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله تعالى - في مسائله في كتاب التوحيد: "التوحيدُ هو العبادة"؛ "أي إن العبادة مبنية على التوحيد، فكل عبادة لا توحيد فيها ليست بعبادةٍ، لا سيما أن بعض السلف فسروا قوله -تعالى-: ﴿ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾: إلا ليوحِّدونِ؛ القول المفيد على كتاب التوحيد: ص (36).
 
فالله -تعالى- لم يخلُقْنا عبثًا ولا سدًى، ولم يتركنا هملاً؛ كما قال -تعالى-: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]، بل خلَقنا لأمرٍ جلل، وغاية عظيمة، ووظيفة جسيمة، وهي توحيده - سبحانه.
 
2- بيان القرآن للميثاق العظيم الذي أخَذه الله -تعالى- على عباده وهم في عالم الذرِّ لتوحيده - جل في علاه -:
قال -تعالى-: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [الأعراف: 172، 173]، وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذا الميثاق، فمنهم من فسَّره بالفطرة، وهو ما جنَح إليه الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسيره، والشيخ محمد رشيد رضا في منارِه، ومنهم من فسَّره بأنه ميثاق حقيقي، وأن الله -تعالى- مسَح فعلاً ظهر آدم واستخرج ذريته، وأشهَدهم على ألوهيته وتوحيده، فشهدوا على ذلك مُقرِّين، وهذا هو الراجح؛ لظاهر الآية الكريمة، وللأحاديث الثابتة في ذلك.
 
قال الحافظ ابن كثير: وقد وردت أحاديثُ في أخذ الذرية من صُلْب آدم - عليه السلام - وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وفي بعضها الاستشهادُ عليهم بأنه ربهم؛ عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير: (72).
 
ومن هذه الأحاديث ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيتَ لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول: قد أردتُ منك أهونَ من ذلك، قد أخذتُ عليك في ظهر آدمَ ألا تشرك بي شيئًا، فأبَيْتَ إلا أن تُشرِكَ بي)).
 
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعًا - ومنهم من رواه موقوفًا - قال: ((إن الله أخَذ الميثاق من ظهر آدم - عليه السلام - بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صُلبه كل ذرية ذرها فنثرها بين يديه، ثم كلَّمهم قبلاً، قال: ﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ [الأعراف: 172] إلى قوله: ﴿ الْمُبْطِلُونَ ﴾ [الأعراف: 173]؛ رواه ابن جرير في تفسيره مرفوعًا، وابن أبي حاتم موقوفًا، وممن رواه مرفوعًا الإمام أحمد في مسنده، وقد صححه الشيخ الألباني - رحمه الله تعالى - مرفوعًا في الجامع الصحيح، رقم (1701)، وفي مشكاة المصابيح، قال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله تعالى - في تحقيقه لتفسير ابن كثير: "والرفع زيادة من ثقة، فهي مقبولة"؛ عمدة التفسير: (73).
 
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتاب الروح ما خلاصته: "إن الله - سبحانه - استخرَج صُوَر البشر وأمثالهم، فميَّز شقيَّهم وسعيدَهم، ومعافاهم من مبتليهم، والآثار متظاهرة به مرفوعة، وإن اللهَ أقام عليهم الحجَّة حينئذ، وأشهَدهم بربوبيته، واستشهد عليهم ملائكتَه، كما تدلُّ على ذلك الآية"؛ نقلاً من تفسير المراغي: (433/3)، دار الكتب العلمية.
 
3- بيان القرآن لوظيفة الرسل وأنها الدعوة إلى التوحيد:
تعتبر الدعوة إلى التوحيد زبدة رسالات الأنبياء والرسل من لدن نوح - عليه السلام - إلى خاتمهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما من أحدٍ منهم إلا أرسل أولاً قبل كل شيء بالدعوة إلى توحيدِ الله؛ كما قال - جل وعلا -: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]، بل كل واحد منهم كان يفتتح دعوتَه بالتوحيد؛ كما قال -تعالى-: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال -تعالى-: ﴿ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ [الزخرف: 45]، وقال -تعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: ﴿ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [الأنبياء: 108].
 
يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "فكل نبيٍّ بعَثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والفطرة شاهدة بذلك أيضًا، والمشركون لا برهانَ لهم، وحجَّتُهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد"؛ تفسير ابن كثير.
 
فالتوحيد كان أساس دعوة الرسل، وهو رأس الوحي، وقد صحَّ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((خيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له))؛ رواه الترمذي، وهو في صحيحه: (2837).
 
4- بيان القرآن لأنواع التوحيد وأقسامه، وذم وتقريع من يُقِرُّ بربوبيته - سبحانه - دون ألوهيته:
كما هو معلوم فقد قسَّم أهلُ العلم التوحيدَ إلى أقسام، وإن اختلفوا في هذا التقسيم، فمنهم من جعله ثنائيًّا، ومنهم من جعله ثلاثيًّا، وهذا مجرد اصطلاح، ولا مشاحَّةَ في الاصطلاح كما يقال.
 
فمن التقسيم الثنائي: التوحيد العلمي الخبري، أو توحيد المعرفة والإثبات، والتوحيد العملي الإرادي، أو توحيد العبادة أو القصد والطلب.
 
أما الثلاثي فهو: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
 
وكما قلت، هذا مجرد تقسيم اصطلاحي؛ فمثلاً التوحيد العلمي الخبري، أو توحيد المعرفة والإثبات يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، والتوحيد العلمي الإرادي أو القصد والطلب هو توحيد الألوهية.
 
وهذه الأقسام لم يهتدِ إليها العلماء صدفة، أو يحدثوها إحداثًا، بل باستقراء آيات القرآن الكريم، فبالاستقراء لنصوص الكتاب وصَلوا لهذه الأقسام.
 
فالقرآن مليء بالآيات الدالة على أقسام التوحيد الثلاثة، بل هناك آيةٌ من كتاب ربنا حَوَتْ جميع هذه الأقسام، وهي قوله -تعالى-: ﴿ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65].
 
والملاحظ لمن تتبع آيات الكتاب أن الله -تعالى- أكثَرَ من ذكر الآيات المتعلقة بربوبيته – سبحانه - وذلك - كما قال العلماء - لأمرينِ اثنين:
• غرس محبة الله -تعالى- في قلوب عباده.
 
• إقامة الحجَّة على أهل الشرك والأوثان؛ لأن توحيدَ الربوبية مستلزِم لتوحيد الألوهية، ومَن أقر بالأول، لزِمه الإقرارُ بالثاني، وإلا فقد عظُم ذنبُه وثقل وزره؛ كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الذنب أعظمُ؟ قال: ((أن تجعَلَ لله ندًّا وهو خلَقَك...))؛ متفق عليه.
 
وقد ذكَر الله -تعالى- في مواضعَ كثيرة من كتابه أن المشركين يُقِرُّون بربوبيته - سبحانه - وبأنه الخالق الرازق المنعم المحيي المميت، لكنهم في ألوهيته يجعلون معه شركاءَ وأندادًا؛ كما قال -تعالى-: ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 106]، وقال -تعالى-: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [العنكبوت: 61]، ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [العنكبوت: 63]، ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [الزخرف: 87]، ﴿ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 86 - 89].
 
وأوَّلُ أمر في القرآن هو أمر بتوحيده - سبحانه - في ألوهيتِه؛ لأنه الواحد في ربوبيته؛ قال -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 21، 22].
 
لذلك ذمَّ الله -تعالى- المشركين في ألوهيته، مع أنهم يُقِرون بربوبيته، وذلك في آيات كثيرة من القرآن الكريم، نذكر منها: قوله - جل وعلا -: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ الآيات؛ النمل [59 - 64].
 
ومن الآيات في توحيد الألوهية قوله -تعالى-: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163].
 
وأما توحيد الأسماء والصفات: فكثيرة هي الآياتُ الواردة في هذا النوع من التوحيد، فقد عرَّفَنا ربُّنا بنفسه عن طريق أسمائه وصفاته، وهذا من لُطفه ورحمته بعباده؛ إذ لا يتصور عبادة من لا نعرفه؛ قال -تعالى-: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [محمد: 19]، "ومن أعظم طُرق العلم بأنه -تعالى- "لا إله إلا هو" تدبُّر أسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلاله، فإنها توجِبُ بَذْلَ الجُهد في التألُّه له، والتعبُّد للرب الكامل الذي له كلُّ حمدٍ ومجدٍ وجلال وجمال"؛ تيسير الكريم الرحمن.
 
ولعِظَمِ شأن هذا النوع من أنواع التوحيد لا تكاد تخلو آية من آيات القرآن من ذكرِ صفةٍ أو اسم؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: "والقرآن فيه من ذِكْر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذِكر الأكل والشُّرب والنكاح في الجنة، والآياتُ المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظمُ قدرًا من آيات المعاد؛ فأعظمُ آيةٍ في القرآن آيةُ الكرسي المتضمنة لذلك...، وأعظم سورةٍ سورةُ أمِّ القرآن...؛ درء تعارض العقل والنقل، (3/61)، دار الكنوز الأدبية.
 
وتعريف العباد بربهم عن طريق أسمائه وصفاته كان مِن أعظم وظائف الرسل - عليهم السلام - كما يقول شيخُ الإسلام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "إن دعوةَ الرسل تدور على ثلاثة أمور: - منها -: تعريف الربِّ المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله.."؛ الصواعق المرسلة: (4/1489)، دار العاصمة.
 
وقد أمَرَنا اللهُ -تعالى- بدعائه بأسمائه فقال -تعالى-: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180].
 
والمتدبِّرُ لكلام الله - جل ذكره - يجد أن الآياتِ المختومةَ ببعض أسماء الله -تعالى- لا تنتهي إلا بما يناسِبُها من الأسماء، ولنكتفِ بمثال واحد؛ قال -تعالى- في سورة المائدة: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 38، 39]، قال الأصمعي - رحمه الله تعالى -: "قرأتُ هذه الآيةَ وإلى جنبي أعرابي، فقلت: والله غفور رحيم - أي بدلاً من "وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" - سهوًا، فقال الأعرابيُّ: كلامُ من هذا؟ قلت: كلامُ الله، قال: أعِدْ، فأعَدْتُ والله غفور رحيم، فقال: ليس هذا كلامَ الله، فتنبَّهْتُ، فقلت: "وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" فقال: أصَبْتَ، هذا كلامُ الله، فقلت: أتقرأُ القرآن؟ قال: لا، فقلت: فمن أين علِمْتَ أني أخطأت؟ فقال: يا هذا، عزَّ فحكَم فقطَع، ولو غفَر ورحِم ما قطَع"؛ ذكَر هذه القصة ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - في تفسيره المسمى زاد المسير.
 
كما وردتْ آياتٌ كثيرة تنزِّه الله -تعالى- عن النقائص، وتُثبِت له الكمال المطلق، مثل قوله -تعالى-: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ﴿ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 74]، ﴿ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الروم: 27]، ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1]؛ أي: أحدٌ في ذاته، وفي صفاته وأسمائه، وأفعاله - سبحانه.
 
والملاحظ أن آياتِ الإثبات ترِدُ في القرآن الكريم مفصَّلة، فنجد الآياتِ في إثبات الصفاتِ العلى لله -تعالى- كثيرة جدًّا على وجه التفصيل، في حين أن التنزيهَ يرِدُ عمومًا مجمَلاً؛ وذلك لأنَّ الكمالَ في الإثبات أن يكونَ مفصَّلاً بخلاف النفيِ، فالكمالُ فيه أن يكون مجمَلاً.
 
يتبع إن شاء الله تعالى

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير