سلسلة السيرة النبوية ما بعد الحديبية


الحلقة مفرغة

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من رد أبي جندل وتسليمه لأبيه

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمع الدرس الرابع من دروس العهد المدني في السيرة النبوية، فترة الفتح والتمكين.

تحدثنا في الدرس السابق عن صلح الحديبية الذي سماه ربنا سبحانه وتعالى بالفتح المبين، قال سبحانه وتعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، وكثير من المفسرين وكثير من الصحابة يطلقون هذا الفتح المبين على صلح الحديبية، وآثار الحديبية كثيرة جداً وعظيمة جداً.

وتكلمنا في الدرس السابق عن بنود صلح الحديبية وعن مدى استفادة المسلمين من هذا الصلح العظيم، ومع كل هذا إلا أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لم يروا الخير الذي في ذلك الصلح أول الأمر، بل رأوا أنهم قد أعطوا الدنية في دينهم، ورأوا أنهم لم يدخلوا المسجد الحرام أو البيت الحرام، وكانوا قد وعدوا بدخوله والطواف حول البيت وما إلى ذلك، فهذا ترك أثراً سلبياً عند الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

ووقفنا في الدرس السابق عند كتابة هذا الصلح، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أظهر مرونة واضحة في كتابه هذا الصلح حتى يتمه، وبعد أن كتب الصلح حدث أمر زاد من هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو أن أحد المسلمين الذين أسلموا في مكة ولم يستطع أن يهاجر إلى المدينة المنورة مع المسلمين جاء إلى المسلمين بعد كتابه الصالح، فهو عندما علم أن المسلمين قد جاءوا إلى الحديبية جاء إليهم وهو يرسف في أغلاله، كان أبوه قد قيده في داخل البيت من أجل ألا يهاجر إلى المسلمين، وعندما علم أن المسلمين على أبواب مكة جاء إليهم يرسف في أغلاله، فمن هو هذا الرجل؟ هذا الرجل هو أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، هو ابن سفير قريش في معاهدتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوه هو الذي كتب المعاهدة بينه وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وجاء أبو جندل بن سهيل لينضم إلى صف المسلمين، ولقد فجع سهيل حين رأى ولده أبا جندل مع أنه كان قد قيده قبل ذلك في البيت، فأصبحت الأزمة أزمة كبيرة جداً، فهذا ابن سهيل يريد أن ينضم إلى المسلمين، هنا انتفض سهيل بن عمرو وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده، فالمعاهدة تقول: من جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مسلماً يرده صلى الله عليه وسلم إلى أوليائه، وهذا سهيل بن عمرو ولي أمر أبي جندل يطلب أن يرده الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول عليه الصلاة والسلام حاول قدر المستطاع أن يأخذ أبا جندل ، فقال: (إنا لم نقض الكتاب بعد) يعني: نحن ما زلنا نكتب الكتاب، فقال سهيل: إذاً -والله- لا أقاضيك على شيء أبداً.. يعني: إما أن آخذ أبا جندل وإما ألا يكون هناك صلح، فأصبح الموقف صعباً، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يشعر بقيمة هذه المعاهدة ويريد لها أن تتم قدر المستطاع، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذاً فأجزه لي) يعني: أعطه لي كرماً منك، قال: ما أنا بمجيزه لك. يعني: لن أعطيه لك، فقال صلى الله عليه وسلم يحاول أن يسترضي سهيل بن عمرو قال: (بلى تفعل، قال: ما أنا بفاعل) إنه موقف صعب، وقد ذكرنا في الدرس الذي سبق أن ثلاثة من أولاده أسلموا قبل ذلك وانضموا إلى جيش المسلمين وإلى دولة المدينة المنورة، وهؤلاء الثلاثة هاجروا هجرة الحبشة ثم هاجروا بعد ذلك هجرة المدينة المنورة، فهذا هو الذي بقي له أبو جندل ، فهو متمسك به إلى النهاية، قال: ما أنا بمجيزه لك، ما أنا بفاعل. ثم لم يكتف بذلك سهيل بن عمرو، بل قام وأخذ يضرب أبا جندل أمام المسلمين، والمسلمون يتأثرون ويبكون على حال أبي جندل ، لقد كان موقفاً مؤثراً جداً، وأبو جندل رضي الله عنه وأرضاه لم يكتف بهذا المشهد المؤثر جداً في المسلمين، بل ذهب إلى المسلمين وقال لهم: (يا معشر المسلمين! أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟!

الحقيقة أن هذا موقف صعب شديد الصعوبة، فماذا يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، وهو يريد لهذه المعاهدة أن تتم ويرى ما فيها من آثار، وموقف أبي جندل لا شك أنه محرج، لكن ماذا يفعل؟

إذاً: الموازنة هنا وتحكيم العقل تقول: إنه يرد أبا جندل مع كل التداعيات التي قد تحدث لـأبي جندل بعد ذلك؛ لأن ثمن إتمام صلح الحديبية هو أن يرد أبا جندل إلى المشركين مرة ثانية؛ لأننا قد كتبنا العهد، والمسلمون عند عهودهم، والمسلمون يتصفون بوفاء لا غدر، فما دام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد كتب المعاهدة مع سهيل بن عمرو وأقرت فلا معنى هنا لنقض المعاهدة، وخاصة أنها في صالح المسلمين كما ذكرنا، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك أبا جندل هكذا إنما قال له كلمات، وفي داخل هذه الكلمات إشارات جميلة جداً منه صلى الله عليه وسلم، قال له صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل ! اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، فلا نغدر بهم).

في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من إشارة:

أولاً: الرسول عليه الصلاة والسلام حكم العقل وقال: لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن ننقض المصالحة الآن، وذكر قاعدة هامة جداً من قواعد المسلمين في المعاهدات وهي الوفاء لا الغدر، حتى لو كانت هناك تداعيات سلبية بعد ذلك، فما دمت قد عاهدت فلا غدر، والمسلمون عند عهودهم.

ثانياً: أنه صلى الله عليه وسلم أعطى طريقاً للنجاة لـأبي جندل ، قال له: (اصبر واحتسب) ثم بشره بأن الله عز وجل سوف يخرجه من هذه الأزمة فقال: (فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً) فهو صلى الله عليه وسلم ذكر أن مع أبي جندل في داخل مكة المكرمة بعض المستضعفين، وفي هذا إشارة إلى أنك إذا وجدت جهدك مع أولئك المستضعفين فقد يكون ذلك هو السبب في خروجكم من الأزمة، وهو السبب في الفرج الذي سيجعله الله عز وجل لك ولمن معك من المستضعفين.

وهؤلاء المستضعفون عندهم أكثر من طريق، فيمكن أن يهاجروا كما هاجر المسلمون قبل هذا إلى الحبشة، يمكن أن يهاجروا إلى أي مكان آخر غير المدينة المنورة، حتى لا يوقعوا المسلمين في حرج بعد هذه المعاهدة، ويمكن أن يكتموا إسلامهم، ويمكن أن يتظاهروا بالكفر، ويمكن أن يعملوا أي شيء إلى أن يجعل الله عز وجل لهم فرجاً ومخرجاً، وهذا وعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان أبو جندل صادق الإيمان فلا شك أنه سيؤمن بهذا الوعد، وكذلك المؤمنون معه من أهل مكة المكرمة، وقد يقول شخص: قدِّر أن أبا جندل فتن في دينه؛ نتيجة الإيذاء والتعذيب الذي وقع عليه من سهيل بن عمرو أو من غيره من زعماء مكة!

نقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام يرد على هذه الكلمات كما جاء في صحيح مسلم، قال: (إن من ذهب منا إليهم فأبعده الله)، يعني: الذي يترك الإسلام ويرتد ويعود إلى المشركين أبعده الله، ولا نريده: (ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً)، يعني: من جاءنا منهم ورددناه بعد ذلك إلى مكة فلا شك أن الله عز وجل سوف يخرجه من هذه الأزمة، وليس من الممكن أبداً أن يسعى هو إلى الله عز وجل، ثم يوقعه الله عز وجل في فتنة.

إذاً: فهذا الأمر كان واضحاً جداً في ذهن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه وإن رد أبا جندل فهو في يوم من الأيام سيأتي إلى المسلمين مرة ثانية، لكن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ما كانوا يرون هذه الأبعاد، كل ما يرونه أن أحد المؤمنين يحاول أن ينضم إلى جيش المسلمين وإلى دولة المسلمين ولا يستطيع المسلمون مع قوتهم ومع دولتهم أن يأخذوه، ورأوا أن ذلك هو الدنية في الدين، وأن هذا نقص كبير جداً في المعاهدة، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في هذا الموقف حين رأى أبا جندل يضربه أبوه سهيل بن عمرو والرسول عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يأخذه معه إلى جيشه؛ قام عمر بن الخطاب واقترب من أبي جندل وقرب إليه مقبض سيفه موحياً له أن يأخذ السيف ويقتل أباه، قال عمر بن الخطاب مخاطباً أبا جندل : (اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني منه قائم السيف).

يقول عمر بعد ذلك تعليقاً على هذا الأمر: (رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه فضن الرجل بأبيه)، يعني أن : أبا جندل ما أخذ السيف وما قتل أباه، فهذا فعل العاطفة وليس فعل العقل.

والحمد لله أن أبا جندل لم يأخذ السيف ويقتل به سهيل بن عمرو ، والرسول عليه الصلاة والسلام ما كان ليقر ذلك أبداً؛ لأن هذا لا شك أنه سيؤدي إلى تأزم الموقف، وقد تنقض قريش العهد بكامله وتعترض على المصالحة، ويكون في ذلك خسارة للمسلمين.

ورد أبو جندل إلى المشركين، وأنفذ العهد كما أمر صلى الله عليه وسلم.

وبعد معاهدة صلح الحديبية دخلت قبيلة بني بكر في حلف قريش، ودخلت قبيلة خزاعة في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يعبر عن أهمية هذا الصلح وقيمته؛ لأن قبيلة خزاعة مع تاريخها الطويل مع بني هاشم إلا أنها لم تدخل في حلف الرسول عليه الصلاة والسلام إلا بعد أن عقد صلح الحديبية.

موقف الصحابة رضوان الله عليهم من صلح الحديبية

بعد تمام صلح الحديبية رجع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى معسكره في الحديبية ليعد العدة للعودة إلى المدينة المنورة مرة ثانية، ثم بعد ذلك بعام يأتي إلى مكة المكرمة من جديد للعمرة، فالرسول عليه الصلاة والسلام في كل هذه الرحلة وكل هذه المحاورات كان محرماً، فقد أحرم من ذي الحليفة كما ذكرنا قبل ذلك، وجاء ملبياً حتى وصل إلى الحديبية، فمنع هناك، فهو في هذا المكان عند الحديبية أحصر صلى الله عليه وسلم عن دخول مكة المكرمة، فانطبق عليه حكم المحصر عن العمرة، يعني: أنه نوى عمرة ولم يستطع أن يصل إلى مكة المكرمة لأي سبب من الأسباب، لذلك قرر صلى الله عليه وسلم أن يقوم بالنحر والحلق في هذا المكان؛ ليتحلل من إحرامه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن هذا الهدي الذي كان معه صلى الله عليه وسلم هو مستحب وليس فرضاً على المسلمين، لكن عند الإحصار لابد له أن ينحر هذا الهدي الذي وهبه لله عز وجل.

فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة جميعاً بالنحر، قال لهم: (قوموا فانحروا)، وهذا أمر واضح جداً، لكن رد الفعل كان غريباً جداً، يقول الراوي: (فوالله ما قام منهم أحد) والرسول عليه الصلاة والسلام كرر الأمر مرة ثانية وقال: (قوموا فانحروا. فلم يقم أحد، فكرر الثالثة: قوموا فانحروا، فلم يقم منهم أحد)، ومع ذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف كان يقدر الحالة النفسية التي عليها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم مع طاعتهم له التي وصفها عروة بن مسعود قبل هذه المعاهدة بساعات قليلة جداً، فقد وصف حالة الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم في تفانيهم في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم في هذا الموقف لا يستطيعون أن يقوموا بالنحر والحلق، لأن معنى النحر والحلق أنهم تحللوا من العمرة، ومعنى تحللهم من العمرة أنهم راجعون إلى المدينة المنورة، وهم إلى هذه اللحظة ما زال لديهم أمل في أن يدخلوا مكة المكرمة ويعتمروا كما كانوا يرغبون، فهم غير قادرين على أن ينفذوا هذا الأمر بالذات، أمر النحر والحلق، وموقف أبي جندل زاد المأساة عند الصحابة، والقضية عندهم قضية خطيرة، والرسول عليه الصلاة والسلام يشعر بما يشعر به الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وليس معنى هذا أن يعذر الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم معذورون وليسوا مخطئين، بل هذا خطأ وسنتحدث عنه -إن شاء الله- بالتفصيل عند الحديث عن أخطاء المؤمنين، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام تعامل مع الموقف بمنتهى الحكمة، فقد دخل صلى الله عليه وسلم إلى خيمته وهو حزين جداً ولم يعنف الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم؛ لأنه يرى ما بهم من أزمة.

فالصحابة إذا كانوا غير راضين بإقرار هذه المعاهدة فالبديل عن هذه المعاهدة هو الحرب، وهم كانوا مستعدين أن يحاربوا ويقاتلوا إلى الموت كما ذكرنا في الدرس السابق، فهم قد بايعوا على عدم الفرار، فلو لم يتم هذا الصلح فستكون النتيجة القتال، قد تذهب فيه أرواحهم جميعاً، فحزن الصحابة يدل على مدى تجردهم وحبهم للموت في سبيل الله عز وجل، والرسول عليه الصلاة والسلام يدرك كل هذه المشاعر، فلذلك قدر موقف الصحابة رضي الله عنهم جميعاً.

فالرسول صلى الله عليه وسلم دخل إلى خيمته وكانت معه في هذه الرحلة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها (فلما دخل عليها ورأت ما به من الحزن سألته، فذكر لها ما لاقى من الناس، فقالت: يا رسول الله! أتحب ذلك -يعني: أن ينحروا ويحلقوا-؟ فقال: نعم، قالت: اخرج) انتبه إلى هذه النصيحة الجميلة جداً من أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وانتبه إلى تشاور المصطفى صلى الله عليه وسلم مع زوجته في قضية من أخطر قضايا المسلمين، لم يذهب للتشاور مع أبي بكر أو مع عمر أو مع غيرهما، لكنه ذهب إلى زوجته وتحدث معها في قضية تهز كيان الدولة الإسلامية بكاملها، واستمع إلى رأيها، وكان رأيها حكيماً جداً، أخرج المسلمين من الأزمة، ماذا قالت أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها؟ قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (اخرج ثم لا تكلم أحداً حتى تنحر بُدُنَك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام صلى الله عليه وسلم فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك)، نحر البدن ودعا الحالق فحلق له، فالرسول عليه الصلاة والسلام فعل أمراً جميلاً جداً بنصيحة السيدة أم سلمة، فلما رأى الصحابة ذلك الأمر قاموا جميعاً لم يتخلف منهم أحد، قاموا وبدءوا في النحر، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. يعني: كاد بعضهم أن يصيب الآخر من شدة الحزن والغم الذي كان يشعر به، لكن في النهاية استجاب الجميع، ونحروا وحلقوا.

ومما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم أن قدم جملاً يعرفه الجميع لينحره مع الناس، هذا الجمل هو جمل أبي جهل ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذه من غنائم بدر، وأتى به إلى هذا المكان في الحديبية لينحره، وبذلك حقق هدفين رئيسين:

أولاً: أغاظ المشركين؛ لأن هذا الجمل كان مشهوراً ومعروفاً عند المشركين، وكان معلماً بعلامة، فيه حلقة من فضة موضوعة في أنفه، فالجميع يعرفه.

ثانياً: أنه رفع معنويات المسلمين وذكرهم بيوم بدر، وذكرهم أن الله عز وجل أخرجهم من أزمة بدر من موقف كان بعض المؤمنين يكرهونه، كما قال الله عز وجل: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5]، والآن سوف يخرجهم الله عز وجل من هذا الموقف الذي يكرهه بعض الصحابة أو جل الصحابة إلى نصر وسيادة وتمكين؛ لأن الله عز وجل هو الذي أوحى لنبيه بهذا الصلح.

موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه من صلح الحديبية

لقد ظل الحزن مسيطراً على عامة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد وصل الحزن ببعضهم إلى أمر لا نتخيله حقيقة، وصل إلى حوار عجيب دار بينهم وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا الحوار دار بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحوار يعبر عن مدى الأسى والحزن الذي كان في قلب عمر والصحابة رضي الله عنهم؛ من جراء هذا الصلح الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحوار العجيب جاء في صحيحي البخاري ومسلم .

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فقلت: ألست نبي الله؟) فالرسول عليه الصلاة والسلام بسعة صدر عجيبة، قال: (بلى، قلت: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) هذا كلام غريب جداً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مستحيل أن يعطي الدنية أبداً في دينه، لكن هكذا صرح عمر بن الخطاب بهذه الكلمات التي كانت في قلوب كثير من الصحابة، ولكن لم يجرءوا على التصريح بها، فقال صلى الله عليه وسلم كلمات واضحة جداً، قال: (إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري) وفي رواية: (ولن يضيعني أبداً) يعني: هذا وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وهو عز وجل أمرني ولن أعصيه في هذا الأمر، وهذا الأمر الذي تكرهونه سترون من ورائه خيراً إن شاء الله.

ومع كل هذه التوضيحات والتوجيهات من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن عمر رضي الله عنه قال: (أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟) يعني: أنت قلت لنا: سنأتي البيت الحرام ونطوف به.

وأنا لا أعرف كيف قال سيدنا عمر بن الخطاب هذه الكلمات لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لكن هذا يعبر عن مدى المأساة التي كان يعيشها عمر رضي الله عنه وأرضاه والصحابة أجمعون، ومع ذلك وسع الرسول عليه الصلاة والسلام صدره وصبر على كلمات عمر بن الخطاب، وقال له: (بلى) يعني: أنا أخبرتك بهذا الأمر فعلاً، لكن انتبه إلى ما قال بعد، قال: (أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قال عمر : لا) يعني: أنا أخبرتكم أننا سندخل مكة المكرمة معتمرين إن شاء الله، لكن ما ذكرت لكم أن هذا يكون في هذا العام، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإنك آتيه ومتطوف به). قال هذا الكلام وهو في منتهى الثقة؛ لأن هذا وعد رب العالمين سبحانه وتعالى، وعمر بن الخطاب في ظننا بعد هذه الكلمات الواضحة جداً سيترك الموضوع ويسلم الأمر لله عز وجل، وينطلق إلى المدينة المنورة، لكن عمر بن الخطاب ذهب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فقال له: (يا أبا بكر ! أليس هذا نبي الله حقاً؟)، فما زال يتكلم في الموضوع وبهذه الصيغة، (قال أبو بكر : بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) فـأبو بكر الرجل الهادئ اللطيف لما سمع هذه الكلمات انتفض وقال: (يا عمر ! إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه عز وجل، وهو ناصره) فكلمات الصديق رضي الله عنه وأرضاه دون أن يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم توافقت مع نفس كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم مناقب الصديق كما يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله في شرح صحيح البخاري ، ثم إن الصديق يعطيه نصيحة هامة جداً وهي له ولعموم الأمة الإسلامية، قال: (فاستمسك بغرزه) يعني: أي خطوة يخطوها صلى الله عليه وسلم استمسك بها، تمسك بسنته، قال: (فاستمسك بغرزه حتى تموت، فو الله إنه لعلى الحق) كل هذا الكلام وما زال عمر رضي الله عنه يعترض، فقال: (أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟)، رد عليه الصديق : (قال: بلى، ثم قال: أفأخبرك أنه يأتيه العام؟) سبحان الله! نفس الكلمات: (أفأخبرك أنه يأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومتطوف به).

هذا يدل على أن الصديق رضي الله عنه أعظم البشر بعد الأنبياء، وهذا لم يأت من فراغ، فقد كان لديه يقين مرتفع جداً، وإيمان كامل بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وظهر ذلك في مواطن كثيرة جداً من حياته، وهذه من أعظم مواطنه رضي الله عنه وأرضاه.

وبعد أن انتهى الرسول عليه الصلاة والسلام من هذا الموقف ركب الطريق إلى المدينة المنورة، وفي طريقه إلى المدينة المنورة نزلت عليه سورة الفتح، يقول صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]) وأول ما أنزلت عليه هذه السورة دعا عمر رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه كان متأثراً جداً من هذا الحدث، دعاه صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه -كما يقول عمر بن الخطاب- السورة كاملة من أول آية إلى آخر آية، وبعد أن انتهى قال عمر : (يا رسول الله! أوفتح هو؟ قال: نعم) هذا الصلح في حد ذاته فتح من الله عز وجل، وفي آخر الدرس إن شاء الله سنقول: لماذا سمي هذا الصلح العظيم بالفتح المبين، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم.

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمع الدرس الرابع من دروس العهد المدني في السيرة النبوية، فترة الفتح والتمكين.

تحدثنا في الدرس السابق عن صلح الحديبية الذي سماه ربنا سبحانه وتعالى بالفتح المبين، قال سبحانه وتعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، وكثير من المفسرين وكثير من الصحابة يطلقون هذا الفتح المبين على صلح الحديبية، وآثار الحديبية كثيرة جداً وعظيمة جداً.

وتكلمنا في الدرس السابق عن بنود صلح الحديبية وعن مدى استفادة المسلمين من هذا الصلح العظيم، ومع كل هذا إلا أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لم يروا الخير الذي في ذلك الصلح أول الأمر، بل رأوا أنهم قد أعطوا الدنية في دينهم، ورأوا أنهم لم يدخلوا المسجد الحرام أو البيت الحرام، وكانوا قد وعدوا بدخوله والطواف حول البيت وما إلى ذلك، فهذا ترك أثراً سلبياً عند الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

ووقفنا في الدرس السابق عند كتابة هذا الصلح، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أظهر مرونة واضحة في كتابه هذا الصلح حتى يتمه، وبعد أن كتب الصلح حدث أمر زاد من هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو أن أحد المسلمين الذين أسلموا في مكة ولم يستطع أن يهاجر إلى المدينة المنورة مع المسلمين جاء إلى المسلمين بعد كتابه الصالح، فهو عندما علم أن المسلمين قد جاءوا إلى الحديبية جاء إليهم وهو يرسف في أغلاله، كان أبوه قد قيده في داخل البيت من أجل ألا يهاجر إلى المسلمين، وعندما علم أن المسلمين على أبواب مكة جاء إليهم يرسف في أغلاله، فمن هو هذا الرجل؟ هذا الرجل هو أبو جندل بن سهيل بن عمرو ، هو ابن سفير قريش في معاهدتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوه هو الذي كتب المعاهدة بينه وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وجاء أبو جندل بن سهيل لينضم إلى صف المسلمين، ولقد فجع سهيل حين رأى ولده أبا جندل مع أنه كان قد قيده قبل ذلك في البيت، فأصبحت الأزمة أزمة كبيرة جداً، فهذا ابن سهيل يريد أن ينضم إلى المسلمين، هنا انتفض سهيل بن عمرو وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده، فالمعاهدة تقول: من جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مسلماً يرده صلى الله عليه وسلم إلى أوليائه، وهذا سهيل بن عمرو ولي أمر أبي جندل يطلب أن يرده الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول عليه الصلاة والسلام حاول قدر المستطاع أن يأخذ أبا جندل ، فقال: (إنا لم نقض الكتاب بعد) يعني: نحن ما زلنا نكتب الكتاب، فقال سهيل: إذاً -والله- لا أقاضيك على شيء أبداً.. يعني: إما أن آخذ أبا جندل وإما ألا يكون هناك صلح، فأصبح الموقف صعباً، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يشعر بقيمة هذه المعاهدة ويريد لها أن تتم قدر المستطاع، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذاً فأجزه لي) يعني: أعطه لي كرماً منك، قال: ما أنا بمجيزه لك. يعني: لن أعطيه لك، فقال صلى الله عليه وسلم يحاول أن يسترضي سهيل بن عمرو قال: (بلى تفعل، قال: ما أنا بفاعل) إنه موقف صعب، وقد ذكرنا في الدرس الذي سبق أن ثلاثة من أولاده أسلموا قبل ذلك وانضموا إلى جيش المسلمين وإلى دولة المدينة المنورة، وهؤلاء الثلاثة هاجروا هجرة الحبشة ثم هاجروا بعد ذلك هجرة المدينة المنورة، فهذا هو الذي بقي له أبو جندل ، فهو متمسك به إلى النهاية، قال: ما أنا بمجيزه لك، ما أنا بفاعل. ثم لم يكتف بذلك سهيل بن عمرو، بل قام وأخذ يضرب أبا جندل أمام المسلمين، والمسلمون يتأثرون ويبكون على حال أبي جندل ، لقد كان موقفاً مؤثراً جداً، وأبو جندل رضي الله عنه وأرضاه لم يكتف بهذا المشهد المؤثر جداً في المسلمين، بل ذهب إلى المسلمين وقال لهم: (يا معشر المسلمين! أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟!

الحقيقة أن هذا موقف صعب شديد الصعوبة، فماذا يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، وهو يريد لهذه المعاهدة أن تتم ويرى ما فيها من آثار، وموقف أبي جندل لا شك أنه محرج، لكن ماذا يفعل؟

إذاً: الموازنة هنا وتحكيم العقل تقول: إنه يرد أبا جندل مع كل التداعيات التي قد تحدث لـأبي جندل بعد ذلك؛ لأن ثمن إتمام صلح الحديبية هو أن يرد أبا جندل إلى المشركين مرة ثانية؛ لأننا قد كتبنا العهد، والمسلمون عند عهودهم، والمسلمون يتصفون بوفاء لا غدر، فما دام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد كتب المعاهدة مع سهيل بن عمرو وأقرت فلا معنى هنا لنقض المعاهدة، وخاصة أنها في صالح المسلمين كما ذكرنا، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك أبا جندل هكذا إنما قال له كلمات، وفي داخل هذه الكلمات إشارات جميلة جداً منه صلى الله عليه وسلم، قال له صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل ! اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، فلا نغدر بهم).

في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من إشارة:

أولاً: الرسول عليه الصلاة والسلام حكم العقل وقال: لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن ننقض المصالحة الآن، وذكر قاعدة هامة جداً من قواعد المسلمين في المعاهدات وهي الوفاء لا الغدر، حتى لو كانت هناك تداعيات سلبية بعد ذلك، فما دمت قد عاهدت فلا غدر، والمسلمون عند عهودهم.

ثانياً: أنه صلى الله عليه وسلم أعطى طريقاً للنجاة لـأبي جندل ، قال له: (اصبر واحتسب) ثم بشره بأن الله عز وجل سوف يخرجه من هذه الأزمة فقال: (فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً) فهو صلى الله عليه وسلم ذكر أن مع أبي جندل في داخل مكة المكرمة بعض المستضعفين، وفي هذا إشارة إلى أنك إذا وجدت جهدك مع أولئك المستضعفين فقد يكون ذلك هو السبب في خروجكم من الأزمة، وهو السبب في الفرج الذي سيجعله الله عز وجل لك ولمن معك من المستضعفين.

وهؤلاء المستضعفون عندهم أكثر من طريق، فيمكن أن يهاجروا كما هاجر المسلمون قبل هذا إلى الحبشة، يمكن أن يهاجروا إلى أي مكان آخر غير المدينة المنورة، حتى لا يوقعوا المسلمين في حرج بعد هذه المعاهدة، ويمكن أن يكتموا إسلامهم، ويمكن أن يتظاهروا بالكفر، ويمكن أن يعملوا أي شيء إلى أن يجعل الله عز وجل لهم فرجاً ومخرجاً، وهذا وعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان أبو جندل صادق الإيمان فلا شك أنه سيؤمن بهذا الوعد، وكذلك المؤمنون معه من أهل مكة المكرمة، وقد يقول شخص: قدِّر أن أبا جندل فتن في دينه؛ نتيجة الإيذاء والتعذيب الذي وقع عليه من سهيل بن عمرو أو من غيره من زعماء مكة!

نقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام يرد على هذه الكلمات كما جاء في صحيح مسلم، قال: (إن من ذهب منا إليهم فأبعده الله)، يعني: الذي يترك الإسلام ويرتد ويعود إلى المشركين أبعده الله، ولا نريده: (ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً)، يعني: من جاءنا منهم ورددناه بعد ذلك إلى مكة فلا شك أن الله عز وجل سوف يخرجه من هذه الأزمة، وليس من الممكن أبداً أن يسعى هو إلى الله عز وجل، ثم يوقعه الله عز وجل في فتنة.

إذاً: فهذا الأمر كان واضحاً جداً في ذهن الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه وإن رد أبا جندل فهو في يوم من الأيام سيأتي إلى المسلمين مرة ثانية، لكن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ما كانوا يرون هذه الأبعاد، كل ما يرونه أن أحد المؤمنين يحاول أن ينضم إلى جيش المسلمين وإلى دولة المسلمين ولا يستطيع المسلمون مع قوتهم ومع دولتهم أن يأخذوه، ورأوا أن ذلك هو الدنية في الدين، وأن هذا نقص كبير جداً في المعاهدة، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في هذا الموقف حين رأى أبا جندل يضربه أبوه سهيل بن عمرو والرسول عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن يأخذه معه إلى جيشه؛ قام عمر بن الخطاب واقترب من أبي جندل وقرب إليه مقبض سيفه موحياً له أن يأخذ السيف ويقتل أباه، قال عمر بن الخطاب مخاطباً أبا جندل : (اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، ويدني منه قائم السيف).

يقول عمر بعد ذلك تعليقاً على هذا الأمر: (رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه فضن الرجل بأبيه)، يعني أن : أبا جندل ما أخذ السيف وما قتل أباه، فهذا فعل العاطفة وليس فعل العقل.

والحمد لله أن أبا جندل لم يأخذ السيف ويقتل به سهيل بن عمرو ، والرسول عليه الصلاة والسلام ما كان ليقر ذلك أبداً؛ لأن هذا لا شك أنه سيؤدي إلى تأزم الموقف، وقد تنقض قريش العهد بكامله وتعترض على المصالحة، ويكون في ذلك خسارة للمسلمين.

ورد أبو جندل إلى المشركين، وأنفذ العهد كما أمر صلى الله عليه وسلم.

وبعد معاهدة صلح الحديبية دخلت قبيلة بني بكر في حلف قريش، ودخلت قبيلة خزاعة في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يعبر عن أهمية هذا الصلح وقيمته؛ لأن قبيلة خزاعة مع تاريخها الطويل مع بني هاشم إلا أنها لم تدخل في حلف الرسول عليه الصلاة والسلام إلا بعد أن عقد صلح الحديبية.

بعد تمام صلح الحديبية رجع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى معسكره في الحديبية ليعد العدة للعودة إلى المدينة المنورة مرة ثانية، ثم بعد ذلك بعام يأتي إلى مكة المكرمة من جديد للعمرة، فالرسول عليه الصلاة والسلام في كل هذه الرحلة وكل هذه المحاورات كان محرماً، فقد أحرم من ذي الحليفة كما ذكرنا قبل ذلك، وجاء ملبياً حتى وصل إلى الحديبية، فمنع هناك، فهو في هذا المكان عند الحديبية أحصر صلى الله عليه وسلم عن دخول مكة المكرمة، فانطبق عليه حكم المحصر عن العمرة، يعني: أنه نوى عمرة ولم يستطع أن يصل إلى مكة المكرمة لأي سبب من الأسباب، لذلك قرر صلى الله عليه وسلم أن يقوم بالنحر والحلق في هذا المكان؛ ليتحلل من إحرامه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن هذا الهدي الذي كان معه صلى الله عليه وسلم هو مستحب وليس فرضاً على المسلمين، لكن عند الإحصار لابد له أن ينحر هذا الهدي الذي وهبه لله عز وجل.

فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة جميعاً بالنحر، قال لهم: (قوموا فانحروا)، وهذا أمر واضح جداً، لكن رد الفعل كان غريباً جداً، يقول الراوي: (فوالله ما قام منهم أحد) والرسول عليه الصلاة والسلام كرر الأمر مرة ثانية وقال: (قوموا فانحروا. فلم يقم أحد، فكرر الثالثة: قوموا فانحروا، فلم يقم منهم أحد)، ومع ذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف كان يقدر الحالة النفسية التي عليها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم مع طاعتهم له التي وصفها عروة بن مسعود قبل هذه المعاهدة بساعات قليلة جداً، فقد وصف حالة الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم في تفانيهم في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم في هذا الموقف لا يستطيعون أن يقوموا بالنحر والحلق، لأن معنى النحر والحلق أنهم تحللوا من العمرة، ومعنى تحللهم من العمرة أنهم راجعون إلى المدينة المنورة، وهم إلى هذه اللحظة ما زال لديهم أمل في أن يدخلوا مكة المكرمة ويعتمروا كما كانوا يرغبون، فهم غير قادرين على أن ينفذوا هذا الأمر بالذات، أمر النحر والحلق، وموقف أبي جندل زاد المأساة عند الصحابة، والقضية عندهم قضية خطيرة، والرسول عليه الصلاة والسلام يشعر بما يشعر به الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وليس معنى هذا أن يعذر الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم معذورون وليسوا مخطئين، بل هذا خطأ وسنتحدث عنه -إن شاء الله- بالتفصيل عند الحديث عن أخطاء المؤمنين، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام تعامل مع الموقف بمنتهى الحكمة، فقد دخل صلى الله عليه وسلم إلى خيمته وهو حزين جداً ولم يعنف الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم؛ لأنه يرى ما بهم من أزمة.

فالصحابة إذا كانوا غير راضين بإقرار هذه المعاهدة فالبديل عن هذه المعاهدة هو الحرب، وهم كانوا مستعدين أن يحاربوا ويقاتلوا إلى الموت كما ذكرنا في الدرس السابق، فهم قد بايعوا على عدم الفرار، فلو لم يتم هذا الصلح فستكون النتيجة القتال، قد تذهب فيه أرواحهم جميعاً، فحزن الصحابة يدل على مدى تجردهم وحبهم للموت في سبيل الله عز وجل، والرسول عليه الصلاة والسلام يدرك كل هذه المشاعر، فلذلك قدر موقف الصحابة رضي الله عنهم جميعاً.

فالرسول صلى الله عليه وسلم دخل إلى خيمته وكانت معه في هذه الرحلة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها (فلما دخل عليها ورأت ما به من الحزن سألته، فذكر لها ما لاقى من الناس، فقالت: يا رسول الله! أتحب ذلك -يعني: أن ينحروا ويحلقوا-؟ فقال: نعم، قالت: اخرج) انتبه إلى هذه النصيحة الجميلة جداً من أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وانتبه إلى تشاور المصطفى صلى الله عليه وسلم مع زوجته في قضية من أخطر قضايا المسلمين، لم يذهب للتشاور مع أبي بكر أو مع عمر أو مع غيرهما، لكنه ذهب إلى زوجته وتحدث معها في قضية تهز كيان الدولة الإسلامية بكاملها، واستمع إلى رأيها، وكان رأيها حكيماً جداً، أخرج المسلمين من الأزمة، ماذا قالت أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها؟ قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (اخرج ثم لا تكلم أحداً حتى تنحر بُدُنَك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام صلى الله عليه وسلم فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك)، نحر البدن ودعا الحالق فحلق له، فالرسول عليه الصلاة والسلام فعل أمراً جميلاً جداً بنصيحة السيدة أم سلمة، فلما رأى الصحابة ذلك الأمر قاموا جميعاً لم يتخلف منهم أحد، قاموا وبدءوا في النحر، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً. يعني: كاد بعضهم أن يصيب الآخر من شدة الحزن والغم الذي كان يشعر به، لكن في النهاية استجاب الجميع، ونحروا وحلقوا.

ومما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم أن قدم جملاً يعرفه الجميع لينحره مع الناس، هذا الجمل هو جمل أبي جهل ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذه من غنائم بدر، وأتى به إلى هذا المكان في الحديبية لينحره، وبذلك حقق هدفين رئيسين:

أولاً: أغاظ المشركين؛ لأن هذا الجمل كان مشهوراً ومعروفاً عند المشركين، وكان معلماً بعلامة، فيه حلقة من فضة موضوعة في أنفه، فالجميع يعرفه.

ثانياً: أنه رفع معنويات المسلمين وذكرهم بيوم بدر، وذكرهم أن الله عز وجل أخرجهم من أزمة بدر من موقف كان بعض المؤمنين يكرهونه، كما قال الله عز وجل: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [الأنفال:5]، والآن سوف يخرجهم الله عز وجل من هذا الموقف الذي يكرهه بعض الصحابة أو جل الصحابة إلى نصر وسيادة وتمكين؛ لأن الله عز وجل هو الذي أوحى لنبيه بهذا الصلح.

لقد ظل الحزن مسيطراً على عامة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد وصل الحزن ببعضهم إلى أمر لا نتخيله حقيقة، وصل إلى حوار عجيب دار بينهم وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا الحوار دار بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحوار يعبر عن مدى الأسى والحزن الذي كان في قلب عمر والصحابة رضي الله عنهم؛ من جراء هذا الصلح الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحوار العجيب جاء في صحيحي البخاري ومسلم .

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فقلت: ألست نبي الله؟) فالرسول عليه الصلاة والسلام بسعة صدر عجيبة، قال: (بلى، قلت: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) هذا كلام غريب جداً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام مستحيل أن يعطي الدنية أبداً في دينه، لكن هكذا صرح عمر بن الخطاب بهذه الكلمات التي كانت في قلوب كثير من الصحابة، ولكن لم يجرءوا على التصريح بها، فقال صلى الله عليه وسلم كلمات واضحة جداً، قال: (إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري) وفي رواية: (ولن يضيعني أبداً) يعني: هذا وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وهو عز وجل أمرني ولن أعصيه في هذا الأمر، وهذا الأمر الذي تكرهونه سترون من ورائه خيراً إن شاء الله.

ومع كل هذه التوضيحات والتوجيهات من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن عمر رضي الله عنه قال: (أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟) يعني: أنت قلت لنا: سنأتي البيت الحرام ونطوف به.

وأنا لا أعرف كيف قال سيدنا عمر بن الخطاب هذه الكلمات لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لكن هذا يعبر عن مدى المأساة التي كان يعيشها عمر رضي الله عنه وأرضاه والصحابة أجمعون، ومع ذلك وسع الرسول عليه الصلاة والسلام صدره وصبر على كلمات عمر بن الخطاب، وقال له: (بلى) يعني: أنا أخبرتك بهذا الأمر فعلاً، لكن انتبه إلى ما قال بعد، قال: (أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قال عمر : لا) يعني: أنا أخبرتكم أننا سندخل مكة المكرمة معتمرين إن شاء الله، لكن ما ذكرت لكم أن هذا يكون في هذا العام، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإنك آتيه ومتطوف به). قال هذا الكلام وهو في منتهى الثقة؛ لأن هذا وعد رب العالمين سبحانه وتعالى، وعمر بن الخطاب في ظننا بعد هذه الكلمات الواضحة جداً سيترك الموضوع ويسلم الأمر لله عز وجل، وينطلق إلى المدينة المنورة، لكن عمر بن الخطاب ذهب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فقال له: (يا أبا بكر ! أليس هذا نبي الله حقاً؟)، فما زال يتكلم في الموضوع وبهذه الصيغة، (قال أبو بكر : بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) فـأبو بكر الرجل الهادئ اللطيف لما سمع هذه الكلمات انتفض وقال: (يا عمر ! إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه عز وجل، وهو ناصره) فكلمات الصديق رضي الله عنه وأرضاه دون أن يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم توافقت مع نفس كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من أعظم مناقب الصديق كما يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله في شرح صحيح البخاري ، ثم إن الصديق يعطيه نصيحة هامة جداً وهي له ولعموم الأمة الإسلامية، قال: (فاستمسك بغرزه) يعني: أي خطوة يخطوها صلى الله عليه وسلم استمسك بها، تمسك بسنته، قال: (فاستمسك بغرزه حتى تموت، فو الله إنه لعلى الحق) كل هذا الكلام وما زال عمر رضي الله عنه يعترض، فقال: (أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟)، رد عليه الصديق : (قال: بلى، ثم قال: أفأخبرك أنه يأتيه العام؟) سبحان الله! نفس الكلمات: (أفأخبرك أنه يأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومتطوف به).

هذا يدل على أن الصديق رضي الله عنه أعظم البشر بعد الأنبياء، وهذا لم يأت من فراغ، فقد كان لديه يقين مرتفع جداً، وإيمان كامل بالله عز وجل وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وظهر ذلك في مواطن كثيرة جداً من حياته، وهذه من أعظم مواطنه رضي الله عنه وأرضاه.

وبعد أن انتهى الرسول عليه الصلاة والسلام من هذا الموقف ركب الطريق إلى المدينة المنورة، وفي طريقه إلى المدينة المنورة نزلت عليه سورة الفتح، يقول صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]) وأول ما أنزلت عليه هذه السورة دعا عمر رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه كان متأثراً جداً من هذا الحدث، دعاه صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه -كما يقول عمر بن الخطاب- السورة كاملة من أول آية إلى آخر آية، وبعد أن انتهى قال عمر : (يا رسول الله! أوفتح هو؟ قال: نعم) هذا الصلح في حد ذاته فتح من الله عز وجل، وفي آخر الدرس إن شاء الله سنقول: لماذا سمي هذا الصلح العظيم بالفتح المبين، كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم.