خطب ومحاضرات
سلسلة الأندلس عهد الدولة العامرية والفتنة
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد:
فنبدأ بعون الله في الحلقة السابعة من حلقات الأندلس: من الفتح إلى السقوط.
في الحلقة السابقة توقفنا عند آخر عهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله، وذكرنا الفترة العظيمة التي مرت في تاريخ الأندلس من سنة (300هـ) منذ ولاية عبد الرحمن الناصر رحمه الله إلى سنة (366هـ).
في آخر عهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر ، مع أنه كان من أفضل حكام المسلمين في هذه البلاد، إلا أنه أخطأ خطأً كبيراً جداً، فقد أصيب في آخر أيامه بالفالج، يعني: الشلل، فاستخلف ابنه هشام بن الحكم على حكم هذه البلاد العظيمة وعمره اثنتا عشرة سنة فقط، وقد كان أكبر أولاده، فاستخلفه على حكم الأندلس ومن فوقها بلاد النصارى في الشمال، ومن تحتها بلاد الدولة الفاطمية، وكل ممالك أوروبا تتشوق إلى هزيمة هذه البلاد وإلى الكيد لها.
فهذه زلة خطيرة جداً من الحكم بن عبد الرحمن الناصر وكان عليه أن ينتقي خليفة مناسباً ولو من غير بني أمية، يستطيع أن يقوم بالأعباء الثقيلة لمهمة حكم دولة قوية مثل دولة الأندلس، دولة متسعة الأطراف ولها أعداء كثر.
لكن الذي حدث هو أنه استخلف ابنه، ثم مات في سنة ( 366هـ) ليتولى هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر الحكم، وهو طفل صغير لا يستطيع أن يحكم البلاد، ولذلك جعل عليه مجلس وصاية.
فمجلس الوصاية هذا كان مكوناً من ثلاثة:
الأول: الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، والحاجب يعني: رئيس الوزراء، فهذا كان أحد الأوصياء على هشام بن الحكم .
الثاني: قائد الشرطة: محمد بن أبي عامر ، وقائد الشرطة في هذا الوقت مثل وزير الداخلية، ومحمد بن أبي عامر كان من اليمن ليس من بني أمية.
الثالث: أم هشام بن الحكم وكان اسمها صبح .
والمثل يقول: المركب الذي فيه سائقان يغرق، فقد كان محمد بن أبي عامر طموحاً في أن يكون والياً على هذه البلاد.
فدبر مكيدة لسجن الحاجب جعفر بن عثمان ثم قتله بعد ذلك.
فهذا الرجل الذي قام بمكائد عدة ومؤامرات عظيمة، حتى تظن أنه من أكثر الناس مجوناً وفساداً، ثم إذا به يقوم بحسنات عظيمة حتى تظنه أنه من أعظم المجاهدين، فأمره عجيب جداً وسنرى، فصلاً من حياته مع سيرة هشام بن الحكم .
أما أم هشام بن الحكم فقد كانت ضعيفة بالنسبة لقائد الشرطة فلم تؤثر عليه في شيء فتركها في قصرها، لكنه تقلد الأمور وحده وبدأ يحكم في بلاد الأندلس باسم الخليفة الصغير هشام بن الحكم .
وأراد أن يقوي منصبه أكثر من ذلك، فتزوج ابنة غالب بن عبد الرحمن أمير الجيش، وبذلك ضمن ولاء الجيش الأندلسي له، ثم دبر محمد بن أبي عامر مكيدة أخرى لـغالب ثم قتله؛ لأنه اكتشف نواياه وعلم خطته.
ثم بعد ذلك استدعى جعفر بن علي بن حمدون ، قائد الجيش الأندلسي في المغرب في عهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر ، فاستدعاه وقربه إليه واستفاد من قوته، ثم بعد ذلك دبر له مكيدة أخرى ثم قتله، وبذلك تمكن من كل الأمور، كان كلما قتل واحداً عين آخر برأيه هو، وهو الوصي الأساسي على هشام بن الحكم الذي هو صورة خليفة في قصر السلاح.
الأمر الذي بعد هذا أنه بدأ يقنع الخليفة هشام بن الحكم بالاختفاء عن العيون في قصره خوفاً عليه من المؤامرات، وقال: إن الخلفاء يجب أن يتفرغوا للعبادة، ويتركوا أمور الناس لرئاسة الوزراء أو لقوة الشرطة .. أو ما إلى ذلك، فقام هو بإدارة كل شيء، وربي هشام بن الحكم الطفل الصغير على ترك الأمور لـمحمد بن أبي عامر ، ومرت السنوات ومحمد بن أبي عامر يتولى كل شيء في بلاد الأندلس وهشام بن الحكم يكبر في السن ولكنه ربي على عدم تحمل المسئولية.
وفي سنة (371هـ) أي: بعد حوالي خمس سنوات من تولي هشام بن الحكم الأمور ووصاية محمد بن أبي عامر عليه سمى محمد بن أبي عامر نفسه بـالحاجب المنصور ، ولأول مرة نسمع أن رئيس الوزراء أو الوصي يسمي نفسه باسم المنصور ، وأصبح يدعى له على المنابر مع الخليفة هشام بن الحكم ، وبدأ محمد بن أبي عامر ينقش اسمه على النقود والكتب، وأصبح هو كل شيء في بلاد الأندلس.
نحن نعرف أن عبد الرحمن الناصر رحمه الله كان قد أسس مدينة الزهراء في الشمال الغربي من مدينة قرطبة، أما محمد بن أبي عامر فقد أسس مدينة أخرى في شرق قرطبة وسماها مدينة الزاهرة أو العامرية، ونقل إليها دواوين الحكم والوزارات، وأنشأ له قصراً كبيراً هناك، وبدأ يجمل كثيراً في هذه المدينة، حتى أصبحت مدينة الزاهرة أو العامرية هي المدينة الأساسية في الأندلس، وبها قصر الحكم وبها كل شيء.
وفي عام (381هـ) قام محمد بن أبي عامر بأمر ما عمل في تاريخ المسلمين، وهو أنه يعهد بالحجابة لابنه من بعده، يعني: رئيس وزراء يستخلف رئيس وزراء من بعده لما يموت، وكان معروفاً أن الخليفة هو الذي يستخلف خليفة أو رئيس وزراء من بعده، فاستخلف ابنه عبد الملك بن المنصور على الحجابة من بعده.
وفي عام (386هـ): سمى نفسه الملك الكريم وذلك تمهيداً لإقامة ملك على أنقاض بني أمية، كل هذا وهشام بن الحكم يكبر في السن، لكن ليس له من الأمر شيء، وبدأ العامريون يكثرون في أماكن الحكم في بلاد الأندلس، وبدأ يكوّن ما يسمى في التاريخ بالدولة العامرية، والتي استمرت حقبة من الزمان بدايتها من سنة (366هـ) منذ أن تولى محمد بن أبي عامر الوصاية على هشام بن الحكم ونهايتها سنة (399هـ) يعني: استمرت (33 سنة)، لكن فترة الدولة العامرية تعتبر داخلة في فترة الخلافة الأموية؛ لأن الذي في الصورة حاكم هو الخليفة هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر .
و محمد بن أبي عامر عمل شيئاً آخر أدى إلى انقسامات في بلاد الأندلس، وهو أنه كان يخشى أن يستعين بالقبائل المضرية وبقبائل بني أمية معه في الجيش وفي الأمور، فبدأ يعظم من أمر البربر؛ لأن محمد بن أبي عامر من قبيلة يمنية، واليمنيون ليسوا بكثرة في داخل الأراضي الأندلسية، لذلك فكر أن يستعين بعنصر آخر غير عنصر المضريين، حتى يضمن له الولاء من قبلها، فبدأ يستعين بالبربر ورفع من شأنهم بشدة وقوى من أمرهم.
وقد تولى محمد بن أبي عامر الحكم من سنة (366هـ - 392هـ) إلى أن مات.
مع كل المكائد والمؤامرات والقتل من محمد بن أبي عامر، إلا أنه كانت له جوانب مضيئة في حياته، جعلت جميع المؤرخين يتعجبون جداً من سيرته، ومن ذلك ما يلي:
أولاً: كان محمد بن أبي عامر مجاهداً من الطراز الأول، غزا في حياته أربعاً وخمسين غزوة لم يهزم في واحدة، فقد وصل في فتوحاته إلى أماكن لم يصل إليها أحد من قبل في بلاد النصارى في مملكة ليون، فاستطاع أن يغزو النصارى في عمق دارهم، ووصل إلى خليج بسكاي والمحيط الأطلنطي في الشمال.
كان الحاجب المنصور يقاتل في سبيل الله في كل عام مرتين، عرفت بالصوائف والشواتي، أي: مرة في الصيف، ومرة في الشتاء، أو مرة في الربيع، ومرة في الخريف.
ومما يذكر عنه أنه سير جيشاً كاملاً لإنقاذ ثلاث من نساء المسلمين أسيرات في مملكة نافار، ذلك أنه كان بينه وبين مملكة نافار عهد، وكانوا يدفعون له الجزية، وكان من ضمن هذه العهود: ألا يأسروا أحداً من المسلمين أو يستبقوهم في بلادهم.
فذات مرة ذهب رسول من رسل محمد بن أبي عامر إلى مملكة نافار، فتجول فيها بعد أن أدى الرسالة إلى ملك نافار، ففي أثناء هذه الجولة وجد ثلاثاً من نساء المسلمين في كنيسة من الكنائس، فتعجب لوجودهن، فلما سألهن عن ذلك قلن: نحن أسيرات في هذا المكان، فغضب الرسول غضباً شديداً وعاد إلى الحاجب المنصور وأبلغه بذلك، فما كان منه إلا أن سير جيشاً كاملاً لإنقاذ هؤلاء النسوة، فلما ذهب الجيش إلى بلاد نافار، استغرب ملك نافار وقال: نحن لا نعلم لماذا جئتم وقد كان بيننا وبينكم معاهدة على ألا نتقاتل ونحن ندفع الجزية، قالوا: عندكم أسيرات مسلمات، فقال: لا نعلم بهن، فذهب الرسول إلى الكنيسة وأخرج النساء، فقال ملك نافار: إن هؤلاء النسوة لا نعرف بهن، وقد أسرهن جندي من الجنود، وقد تم عقاب هذا الجندي، وأرسل رسالة إلى الحاجب المنصور يعتذر فيها اعتذاراً كبيراً، فعاد الحاجب المنصور ومعه النساء الثلاث.
وهذه عزة كبيرة جداً لجيش المسلمين ولدولة المسلمين أن يسير قائد المسلمين جيشاً كبيراً جباراً لمجرد إنقاذ ثلاث من نساء المسلمين.
يذكر عنه أيضاً أنه عبر بجيشه مضيقاً في الشمال بين جبلين لفتح بلاد النصارى، فنصب له النصارى كميناً كبيراً وتركوه حتى دخل بكل جيشه، ثم قطعوا عليه طريق العودة.
فلما رجع الحاجب المنصور ووجد المضيق مغلقاً بالجنود عاد مرة أخرى إلى الشمال واحتل مدينة من مدن النصارى في الشمال وأخرج أهلها وعسكر فيها، ووزع ديارها على جنده، وتحصن فيها وعاش فيها فترة واتخذها مركزاً له، وأخذ يرسل منها السرايا إلى أطراف ممالك النصارى ويأخذ الغنائم، ويقتل المقاتلين من الرجال، ثم يأتي بهؤلاء المقاتلين ويرمي بجثثهم على المضيق الذي احتله النصارى ومنعوه من العودة منه، فضج النصارى وذهبوا إلى قوادهم، وقالوا: لا نجد لنا حلاً في هذا الرجل إلا أن تفتحوا له الباب حتى يعود إلى بلاده مرة ثانية، فعرضوا عليه أن يخلوا بينه وبين طريق العودة فرفض، وقال لهم: سأمكث فيها ستة شهور وأقوم بالصوائف والشواتي من مركزي في هذه البلاد، فقال النصارى: ارجع إلى بلدك ولك ما تريد، فاشترط عليهم شروطاً وهي ما يلي:
الشرط الأول: أن يفتحوا المضيق ولا يبقوا فيه نصرانياً واحداً.
الشرط الثاني: أن ترفعوا جثثكم التي ألقيناها في المضيق.
الشرط الثالث: أن تحملوا الغنائم من بلاد ليون في الشمال إلى قرطبة في الجنوب.
وكان من عادته أن ينفض ثيابه بعد كل موقعة، ويرفع ما خرج منها من غبار ويضعه في قارورة ويجمعه معه، ثم أمر في نهاية حياته أن تدفن هذه القارورة معه حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى، وذلك متشبثاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم) ، هذا حديث رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح.
ومع كل هذه الحروب ومع كل هذا الجهاد، ومع أنه غزا (54) غزوة لم يهزم في واحدة منها، إلا أن سمت الحروب للحاجب المنصور لم يكن سمتاً إسلامياً، مثل: سمت الحروب في عهد عبد الرحمن الناصر أو الحكم بن عبد الرحمن الناصر ، فكان الحاجب المنصور يخترق بلاد النصارى ويصل إلى العمق ويقتل منهم ويعود محملاً بالغنائم، لكن لم يكن من همه أبداً أن يضم هذه البلاد إلى بلاد المسلمين، أو أن يعلم أهلها الإسلام أو ينشر الدعوة في هذه البلاد، فبقي الحال كما هو عليه، بل إن النصارى ازداد في قلوبهم الحمية لدينهم والحقد على المسلمين.
هذا جانب من جوانب حياة محمد بن أبي عامر الجانب الجهادي أو الجانب العسكري من حياته.
وقد اهتم بالجانب المادي والحضاري في البلاد، فأسس مدينة الزهراء على أحدث طراز وزاد في مساحة مسجد قرطبة حتى أضاف إليه ضعف مساحته الأصلية، وكان يضيف هذه المساحات الزائدة إلى مسجد قرطبة بعد أن يشتري من كل ساكن حول المسجد بيته بالمبلغ الذي يرتضيه هذا الساكن، حتى إنه يذكر أن امرأة كانت تسكن وحيدة حول المسجد، وكان في بيتها نخلة فأبت أن تبيع البيت إلا لما يأتي لها الحاجب المنصور بمنزل فيه نخلة، فأمر الحاجب المنصور بشراء ذلك البيت الذي فيه نخلة شبيه بيتها ولو أتى ذلك على أموال بيت المال، وبالفعل اشتروا لها بيت فيه نخلة وأضاف بيتها إلى حدود المسجد، حتى أصبح أكبر مسجد في العالم في زمانه، وبقي فترة طويلة جداً من الزمان يعتبر أكبر مسجد، بل إنه أكبر من أي مسجد أو كنيسة في العالم في ذلك الوقت.
ومسجد قرطبة موجود إلى الآن، لكنه ولا حول ولا قوة إلا بالله قد حول إلى كنيسة بعد سقوط الأندلس، وما زال حتى الآن كنيسة قائمة في بلاد أسبانيا.
ازدهرت في حياة الحاجب المنصور العلوم والتجارة والصناعة.. وغيرها من الأمور، وامتلأت خزانة الدولة بالمال، وعم الرخاء جداً ولم يعد هناك فقراء، كما كان العهد في فترة الحكم بن عبد الرحمن الناصر أو عبد الرحمن الناصر نفسه .
والأمر اللافت للنظر أيضاً في حياة الحاجب المنصور أنه لم يكن في عهده ثورات مطلقاً، وقد ظل يحكم فترة طويلة من الزمن من سنة (366هـ - 392هـ)، فقد كان قوياً جداً، وكان محكماً للأمن والأمان في البلاد، كما إنه كان عادلاً جداً مع الرعية.
ومن ضمن الحكايات التي تحكى عن عدل الحاجب المنصور أنه كان له نائب يلقب بـالوسيط، وفي يوم من الأيام جاء رجل إلى الحاجب المنصور فقال له: إن لي مظلمة وإن القاضي لم ينصفني في هذه المظلمة، فقال: ما هي مظلمتك؟ فسمعها منه، ثم أتى بالقاضي وقال: ما هي مظلمة الرجل وكيف لم تنصفه؟ فقال: إن مظلمته عند الوسيط، فجاء الحاجب المنصور بـالوسيط وقال له: اخلع ما عليك من الثياب، وانزع سيفك واجلس مع الرجل أمام القاضي، وقال للقاضي: انظر في أمرهما.
فنظر القاضي في أمرهما فوجد أن الحق مع الرجل، فقال للحاجب المنصور : إن الحق مع هذا الرجل، والعقاب الذي أقضيه كذا وكذا وكذا على الوسيط، فقام الحاجب المنصور بإنفاذ مظلمة الرجل له، ثم أقام على الوسيط أضعاف الحد، فقال القاضي: يا سيدي إنني لم آمر بكل هذه العقوبة، فقال الحاجب المنصور : إنه ما فعل ذلك إلا تقرباً منا، ولذلك زدنا عليه الحد ليعلم أن قربه منا لن يمكنه من ظلم الرعية.
ظل الحاجب المنصور يحكم من وراء الستار من سنة (366هـ - 392هـ) ثم مات في هذه السنة، واستخلف على الحجابة ابنه عبد الملك بن المنصور فتولى الحجابة من سنة (392هـ - 399هـ) أي: سبع سنوات متصلة، وكان كأبيه في الجهاد، فقد كان يجاهد في كل عام مرة أو مرتين في بلاد النصارى، وظل عبد الملك بن المنصور يحكم من وراء الستار، وهشام بن الحكم كان عند بداية ولاية عبد الملك بن المنصور يبلغ من العمر (38) عاماً، ومع ذلك لم يطلب الحكم، ولم يحاول أن ينفذ أموره في بلاد الأندلس، فقد تعود على حياة الدعة واستماع الأوامر من الحاجب المنصور وهكذا من تلاه من أولاده.
وقد كان بخلاف عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر الذي كان عمر كل واحد منهما (25) سنة أو (22) سنة، وكان كل واحد منهما يدير الأمة كأحسن ما تدار، لكن هشام بن الحكم تولى الحكم وعمره (12) سنة وربي على استماع الأوامر من غيره.
في سنة (399هـ) توفي عبد الملك بن المنصور في حملة من الحملات في الشمال، وتولى أخوه عبد الرحمن بن المنصور الحجابة، وفي هذه الفترة بدأت الدولة العامرية تسيطر على الأمور، فبعد وفاة عبد الملك المنصور تولى عبد الرحمن بن المنصور الحجابة، وأخذ يدير الأمور من وراء الستار، لكن عبد الرحمن بن المنصور كان مختلفاً عن أبيه وعن أخيه.
فقد كان شاباً ماجناً فاسقاً شارباً للخمر مكثراً من الزنا، وكان يفعل من المنكرات الكثير، وكان الشعب يكرهه بشدة، بالإضافة إلى أن أمه كانت بنت ملك نافار وكانت نصرانية، وكان الشعب يكره أن يتولى عليهم الحكم رجل تجري في عروقه دماء النصارى.
فقام عبد الرحمن بن المنصور بإقناع الخليفة هشام بن الحكم بأن يجعله ولياً للعهد من بعده، بمعنى: أنه لو مات هشام بن الحكم سيصبح خليفة المسلمين في هذه البلاد عبد الرحمن بن المنصور ، فضج بنو أمية لهذا الأمر وغضبوا وغضب الناس أجمعون، لكن لم تكن لهم قدرة على عبد الرحمن بن المنصور وقد جعل جميع الولايات في يد العامريين وفي يد البربر أتباع العامريين منذ أيام الحاجب المنصور .
ومع كل هذا الفسق والمجون الذي كان فيه عبد الرحمن بن المنصور إلا أن الشعب كان قد تعود على أمور الجهاد والخروج كل عام إلى بلاد النصارى، فخرج عبد الرحمن بن المنصور على رأس جيش من الجيوش ليحارب في الشمال، فانتهز الناس فرصة وبدءوا يحاولون أن يغيروا من الأمر فذهبوا إلى هشام بن الحكم في قصره وخلعوه بالقوة وعينوا رجلاً آخر من بني أمية اسمه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر ، من أحفاد عبد الرحمن الناصر ، ودبروا مكيدة لـعبد الرحمن بن المنصور وقتلوه وانتهى بذلك عهد الدولة العامرية.
منذ مقتل عبد الرحمن بن المنصور.
وبعد ذلك انفرط العقد تماماً في بلاد الأندلس، سبحان الله! كنا نتكلم منذ قليل على قوة ومجد وعز وسلطان بلاد الأندلس، وكيف كانت بلاد النصارى في الشمال تدفع الجزية للمسلمين، وكيف كانت السفارات تأتي من كل بلاد العالم تطلب ود عبد الرحمن الناصر وتطلب ود ابنه الحكم بن عبد الرحمن الناصر ، ثم بعد ذلك انفرط العقد تماماً، وبدأت البلاد تقسم والثورات تكثر، والمكائد تتوالى، وأمور عجيبة جداً تحدث في بلاد الأندلس.
لا بد لنا من وقفة مع هذا الحدث، وكما ذكر بعض أساتذتي في التاريخ أن عبد الرحمن بن المنصور كان رجلاً ماجناً فاسقاً فأساء للإسلام والمسلمين، وبسببه سقطت الخلافة الأموية والدولة العامرية، وحدثت الهزة الكبيرة في بلاد الأندلس.
ليس من سنن الله سبحانه وتعالى أن تهلك الأمم لمجرد ولاية رجل فاسق لفترة شهور معدودات، فـعبد الرحمن بن المنصور لم يمكث في الحكم إلا شهور، فمهما كان من الفاسقين والظالمين لا يمكن أبداً أن تسقط البلاد هذا السقوط السريع، وتفشل هذا الفشل الذريع، إلا إذا كانت هناك بذور كبيرة جداً للضعف نمت من قبل، وبدأت تتزايد مع مرور الزمان، عندما حللنا عهد الإمارة الأموية، ورأينا كيف ضعفت الإمارة بعد عهد القوة، وجدنا أن هناك بذوراً للضعف في عهد الإمارة الأموية، وهكذا كانت بذور الضعف سبباً في هلاك الدولة الأموية أو الخلافة الأموية، بعد سنوات من نمو هذه البذور في حياة الأمويين في بلاد الأندلس.
السبب الأول لضعف الدولة الأموية بدأ منذ أيام عبد الرحمن الناصر ذاته، هذا الخليفة القوي الذي أقام ملكاً لم يتكرر مثله في التاريخ، بدأت بعض بذور الضعف تنشأ في عهده.
وأول هذه البذور: الترف الشديد والبذخ الشديد، وكثرة إنفاق الأموال في زخرفة الدنيا، وقد علم أن الدنيا مهلكة، وانشغال الناس بكثرة الأموال من الأمور المهلكة.
فقد أنشأ عبد الرحمن الناصر قصر الزهراء، والذي أصبح أعجوبة من أعاجيب الزمان في ذلك الوقت، فقد كان على رغم اتساعه وكبر حجمه مبطناً من داخله بالذهب، بل وكان السقف لهذا القصر مبطناً أيضاً بخليط من الذهب والفضة بأشكال تخطف الأبصار وتذهل العقول، وهذا تجاوز خطير في أموال الدولة، رغم أنه كان يصرف على كل شيء حق الصرف، كان لا يقصر في نواحي التعليم والجيش، لكن هذا الترف الشديد وهذا البذخ الشديد جعلت القلوب تتعلق بهذه الدنيا.
حتى إن القاضي المنذر بن سعيد رحمه الله دخل على عبد الرحمن الناصر في قصره لما بناه بهذه الفخامة وبهذا الترف الشديد، فقال له عبد الرحمن الناصر : ما تقول يا منذر ! في هذا؟ فقال القاضي المنذر بن سعيد رحمه الله ودموعه تقطر على لحيته: ما ظننت الشيطان يبلغ منك هذا المبلغ مع ما آتاك الله من النعمة، وفضلك به على كثير من عباده تفضيلاً، حتى ينزلك منازل الكافرين، فقال عبد الرحمن الناصر : انظر ما تقول؟ كيف أنزلني الشيطان منازل الكافرين؟ قال: أليس الله تعالى يقول في كتابه الكريم: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ [الزخرف:33]، أي: لجعلنا هذا الأمر، لكنا لم نجعله، أما عبد الرحمن الناصر فقد فعله وجعل سقف قصره من فضة، فوجم عبد الرحمن الناصر وسقطت عليه الكلمات كالصخر، ثم بدأت دموعه تنسال رحمه الله ثم قام ونقض السقف وأزال الذهب والفضة وبنى السقف كما كانت تبنى السقوف في ذلك الزمن، لكن مع مرور الوقت يعود من جديد ويبرز مظهر من مظاهر الترف بسبب كثرة الأموال، لدرجة أنه ينفق على أشياء لا ينفق فيها.
والإسراف والترف مهلكان، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، وكأن الآية أنزلت في ذلك الزمن.
ولما أسرف هؤلاء في الترف وعاشوا فيه أياماً وشهوراً وسنوات طويلة، بعد ذلك كتب الله عليهم الهلكة والتدمير الذي حل في بلاد الأندلس، بعد هذا الملك الكبير والعز العظيم الذي دام سنوات وسنوات، فسنن الله لا تتبدل ولا تتغير، قال تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر:43].
السبب الثاني: توسيد الأمر لغير أهله، فـالحكم بن عبد الرحمن الناصر كانت حياته الطويلة في الجهاد والعلم ونشر الدين في البلاد، ثم قبل أن يموت يوسد الأمر لغير أهله، ويكل الأمور إلى طفل لم يبلغ إلا اثنتي عشرة سنة من عمره، فيتحكم فيه الأوصياء وتحدث المكائد والمؤامرات، وقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمارات الساعة فقال: (أن تضيع الأمانة، فقال الرجل: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) .
هكذا إذا تولى من لا يستحق منصباً من المناصب حدثت الهزة في البلاد وحدث الانهيار، فما بالك لو كان هذا المنصب منصب الخليفة.
ذكرت حادثة في الجرائد عن الإمساك برجل روسي جاسوس للأمريكان في بلاد الروس، فلما سألوه: ماذا كنت تفعل للأمريكان؟ قال: ما كنت أفعل شيئاً، إلا أنه إذا عرض علي خمسة من الرجال لمنصب من المناصب أختار أسوأهم، هذا الرجل كان له منصب كبير في الحكومة الروسية، فمع مرور الزمان كان يختار أسوأ الناس، فضيع الأمر وضيعت الأمانة وبالتالي سقطت البلاد بعد ذلك، فهذا أحد العوامل الذي أسقط البلاد بعد ذلك، فتوسيد الأمر إلى غير أهله علامة من علامات ضياع الأمم، هكذا تعلمنا من سيرة الأندلس في هذا الموقف.
السبب الثالث المثير للانتباه: أن الفترة العامرية اعتمدت عليها الدولة في جهازها على القوة المادية من جند وعدد ومال ومعمار، ولم يصرفوا نواياهم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى، ولم يربوا الشعب على الجهاد في سبيله سبحانه وتعالى، وعلى طلب الجنة والموت في سبيل الله، لذلك حدث هذا الخلل على ممر ثلاث وثلاثين سنة في الدولة العامرية، أدى في النهاية إلى أن الشعب أصبح يفتقد روح الجهاد الحقيقي، ولا يبغي إلا جمع المال وجمع الغنائم، وسبحان الله! فإن للتاريخ دورات، كنا نتحدث عن عهد القوة، والآن سنبدأ عهداً جديداً من عهود الأندلس هو ما عرف في التاريخ بعهد ملوك الطوائف.
انفرط العقد تماماً بعد خلع هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر وولاية محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، الملقب بـالمهدي، وكان فتىً لا يدرك الأمور، وليس له في الإدارة شيء، وأول شيء عمله لما تولى الحكم أنه ألقى القبض على كثير من العامريين، الذين كانوا يحكمون البلد من وراء هشام بن الحكم ، فبدأ يقتل في العامريين في منتهى الرعونة.
الأمر الثاني: بدأ ينتقم أيضاً من البربر، الذين كانوا العون الرئيسي لـمحمد بن أبي عامر ولمن خلفه من أولاده في ولاية الحكم في بلاد الأندلس، فبدأ يقتل في البربر ويقيم عليهم الأحكام حبساً وتشريداً، فأثار غضب البربر والعامريين بل والأمويين؛ لأن بني أمية الموجودين في أرض الأندلس ما كانوا يبتغون أبداً هذا القتل الشديد وهذه الرعونة في التصرف، فبدأ يحدث سخط كبير جداً من كل الطوائف على المهدي .
لم يسكت البربر، إنما اجتمعوا وانطلقوا إلى الشمال وأتوا برجل اسمه سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر يعني: أخو هشام بن الحكم المخلوع، ونصبوا سليمان بن الحكم عليهم وأسموه بخليفة المؤمنين، وبدأ يحدث صراع بين سليمان بن الحكم ومن ورائه البربر وبين المهدي في قرطبة.
لكن سليمان بن الحكم والبربر لما وجدوا أن قوتهم ضعيفة استعانوا بملك مملكة قشتالة، أحد أجزاء مملكة ليون في الشمال الغربي، فقد حدث في سنة (359هـ) حرب أهلية داخل مملكة ليون فانقسمت إلى قسمين: قسم غربي الذي هو مملكة ليون، وقسم شرقي وهو مملكة قشتالة، وقشتالة تحريف لكلمة كاستلا، والتي تعني: قلعة باللغة الأسبانية، فحرفت في العربية إلى قشتالة، فهذا كان أول ظهور لمملكة قشتالة، ثم بدأت مملكة قشتالة تكبر نسبياً في أول عهد ملوك الطوائف، فاستعان بها سليمان بن الحكم والبربر على حرب المهدي ودارت موقعة بين المهدي من ناحية وبين سليمان بن الحكم والبربر وملك قشتالة من ناحية أخرى، وهزم المهدي في الموقعة، وتولى سليمان بن الحكم الحكم في بلاد الأندلس.
كانت مملكة قشتالة تتحين الفرصة لتضرب الأندلسيين بعضهم في بعض، وتضع جيوشها وجنودها في البلاد التي كثيراً ما دفعت الجزية لملوكها من قبل.
تولى سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر الحكم ولقب نفسه بـالمستعين بالله ، وهو ما كان مستعيناً بالله، بل كان مستعيناً بملك قشتالة، وتولى الحكم في سنة (400هـ)، وفي الفترة القادمة ما يقارب من اثنين وعشرين سنة سيتولى أمور المسلمين ثلاثة عشر خليفة، من سنة (399هـ) بداية بـهشام بن الحكم ثم المهدي ثم سليمان بن الحكم إلى سنة (422هـ) يعني: في (22) سنة أو (23) سنة سينفرط العقد بصورة مؤسفة جداً.
استعانة المهدي بأمير برشلونة على سليمان بن الحكم
أولاً: أن يدفعوا لأمير برشلونة مائة دينار ذهبية عن كل يوم في القتال.
ثانياً: أن يدفعوا ديناراً ذهبياً لكل جندي عن كل يوم في القتال، فتطوع أناس كثيرون لحرب المسلمين.
ثالثاً: أخذ كل الغنائم من السلاح وغيرها من قبل أمير برشلونة.
رابعاً: أخذ مدينة سالم، وهي التي حررها عبد الرحمن الناصر منذ عهد الخلافة الأموية.
فهذه شروط مخزية وقبيحة وفضيعة جداً، وافق عليها المسلمون، وبدأت بالفعل موقعة كبيرة في شمال قرطبة بين المهدي محمد بن هشام بن عبد الجبار ومعه الفتى واضح العامري وأمير برشلونة، وبين الأمير سليمان بن الحكم الملقب بـالمستعين بالله ومعه البربر، فانتصر المهدي ومن معه وهزم سليمان بن الحكم وفر ومن معه ومن بقي من البربر، وسلمت مدينة سالم والغنائم كلها لأمير برشلونة، وتولى المهدي الحكم من جديد في قرطبة.
لكن الذي حصل أن الفتى واضح انقلب على المهدي ، فقد كان المهدي أحمق في أنه يتفق مع الفتى واضح العامري ، ومنذ شهور بسيطة كان المهدي يذبح العامريين في كل مكان، فكيف يأمن أن يعقد معاهدة مع الفتى واضح على أن يعاونه في تملك الحكم في بلاد قرطبة؟
فر المهدي من سليمان بن الحكم إلى طرطوشة في الشمال، وهناك قابل رجلاً من بني عامر اسمه الفتى واضح، أقنع المهدي بأن يتعاون معه ليعيده إلى الملك من جديد، ويكون الفتى واضح على الوزارة، لكن الفتى واضح قال له: إنه ليس لنا طاقة بـسليمان بن الحكم مع البربر ومعه أيضاً ملك قشتالة، ففكر الفتى واضح والمهدي بالاستعانة بأمير برشلونة في مملكة أراجون في الشمال الشرقي، والتي كانت تدفع الجزية لـعبد الرحمن الناصر ولابنه وللحاجب المنصور، فوافق أمير برشلونة على أن يساعدهم في حربهم ضد سليمان بن الحكم الموجود في قرطبة، واشترط عليهم شروطاً وهي:
أولاً: أن يدفعوا لأمير برشلونة مائة دينار ذهبية عن كل يوم في القتال.
ثانياً: أن يدفعوا ديناراً ذهبياً لكل جندي عن كل يوم في القتال، فتطوع أناس كثيرون لحرب المسلمين.
ثالثاً: أخذ كل الغنائم من السلاح وغيرها من قبل أمير برشلونة.
رابعاً: أخذ مدينة سالم، وهي التي حررها عبد الرحمن الناصر منذ عهد الخلافة الأموية.
فهذه شروط مخزية وقبيحة وفضيعة جداً، وافق عليها المسلمون، وبدأت بالفعل موقعة كبيرة في شمال قرطبة بين المهدي محمد بن هشام بن عبد الجبار ومعه الفتى واضح العامري وأمير برشلونة، وبين الأمير سليمان بن الحكم الملقب بـالمستعين بالله ومعه البربر، فانتصر المهدي ومن معه وهزم سليمان بن الحكم وفر ومن معه ومن بقي من البربر، وسلمت مدينة سالم والغنائم كلها لأمير برشلونة، وتولى المهدي الحكم من جديد في قرطبة.
لكن الذي حصل أن الفتى واضح انقلب على المهدي ، فقد كان المهدي أحمق في أنه يتفق مع الفتى واضح العامري ، ومنذ شهور بسيطة كان المهدي يذبح العامريين في كل مكان، فكيف يأمن أن يعقد معاهدة مع الفتى واضح على أن يعاونه في تملك الحكم في بلاد قرطبة؟
انقلب الفتى واضح على المهدي، وبدأ يتولى الأمور؛ لكن الفتى واضح كان أذكى من عبد الرحمن بن المنصور الذي طلب ولاية العهد من هشام بن الحكم قبل ذلك.
فقد رفض أن يكون خليفة البلاد؛ لأنه سيحدث انقلاب من كل القبائل الموجودة، ولأن الناس غير متعودين أن يكون الخليفة عامرياً، فبحث عن رجل من بني أمية يكون هو الخليفة في الظاهر، فوجد الرجل الذي يناسبه ألا وهو هشام بن الحكم المخلوع من قبل، الذي ظل ألعوبة لمدة (33) سنة في يد محمد بن أبي عامر وعبد الملك بن المنصور ثم في يد عبد الرحمن بن المنصور، فعرض على هشام بن الحكم الخلافة من جديد بشرط أن يكون الفتى واضح هو الذي يدير الأمور في البلاد، فوافق هشام بن الحكم فوراً، وعاد من جديد هشام بن الحكم الذي كان ملقباً بـالمؤيد بالله للحكم ومن ورائه الفتى واضح .
و سليمان بن الحكم كان موجوداً في البلاد وكان يدبر المكائد ويريد أن يعود للحكم من جديد، فاستعان بملك قشتالة من جديد، لكن ملك قشتالة أرسل إلى هشام بن الحكم أن سليمان بن الحكم يريد مساعدتي في قتالك وحربك، فماذا تعطيني حتى لا أساعده؟ فعرض عليه أموراً فاختار كل الحصون الشمالية للمسلمين في بلاد الأندلس، فتوسعت قشتالة جداً حتى أصبحت حدود قشتالة أكبر من حدود مملكة ليون، مع أن مملكة قشتالة كانت جزءاً صغيراً منفصلاً عن مملكة ليون، وتوحدت البلاد النصرانية في الشمال، فهذه كارثة كبيرة جداً تحل على الأمة الإسلامية، وكل هذه الأحداث والصراعات والاستعانة بالنصارى ودخولهم في بلاد المسلمين والقتل والسلب والنهب في ثلاث سنوات فقط.
في سنة (403هـ) هجم سليمان بن الحكم ومن معه من البربر على قرطبة فعاثوا فيها فساداً، قتلاً واغتصاباً للنساء، وهذا أمر في منتهى الغرابة جداً، وهذه من بذور الضعف، والقشة التي قصمت ظهر البعير كانت في وفاة عبد الرحمن بن المنصور وخلع هشام بن الحكم ، لكن لم يكن هذا هو السبب، وإنما هو تملك الترف في الناس وتوسع الدنيا، ووسد الأمر إلى غير أهله، وكل هذه الأمور أدت إلى هذه الهلكة العجيبة في البلاد، ومن جديد يتولى سليمان بن الحكم الحكم في بلاد الأندلس، ومقر الحكم قرطبة، لكن البلاد تفككت، كان في قرطبة هشام بن الحكم والعامريون، ففر العامريون إلى شرق الأندلس في منطقة بلنسية وما حولها، وطرد هشام بن الحكم من البلاد ثم قتل بعد ذلك.
والمفاجأة الأخرى أن كل هذه المؤمرات والمكائد، وهشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر وسليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر أخوان، فهما من أولاد الحكم بن عبد الرحمن الناصر القائد المظفر الذي استخلف على الحكم من لا يملك مؤهلات الحكم، ووسد الأمر إلى غير أهله.
استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة الأندلس عبد الرحمن الداخل صقر قريش | 2785 استماع |
سلسلة الأندلس الإمارة الأموية | 2719 استماع |
سلسلة الأندلس عهد الفتح الإسلامي | 2708 استماع |
سلسلة الأندلس دولة المرابطين | 2702 استماع |
سلسلة الأندلس سقوط الأندلس | 2663 استماع |
سلسلة الأندلس عهد الولاة | 2644 استماع |
سلسلة الأندلس دولة الموحدين | 2594 استماع |
سلسلة الأندلس عهد ملوك الطوائف | 2263 استماع |
سلسلة الأندلس بين المرابطين والموحدين | 2125 استماع |
سلسلة الأندلس الطريق إلى الأندلس | 2074 استماع |