شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 333-335


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أحاديث هذه الليلة نسأل الله أن يعيننا عليها، وأن يجعلها من العلم النافع المقرب إليه زلفى.

فالحديث الأول: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بإصبعه السبابة )، والحديث رواه مسلم، كما قال المصنف رحمه الله تعالى.

وذكر الرواية الأخرى للحديث أيضاً: ( وقبض أصابعه كلها ). ‏

تخريج الحديث

الحديث رواه مسلم في صحيحه، في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صفة الجلوس في الصلاة، وكيفية وضع اليدين على الفخذين.

وقد رواه أيضاً: أبو عوانة في مستخرجه، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد .. وغيرهم.

شواهد الحديث

وكلا اللفظين اللذين ساقهما المصنف موجود في الموضع الذي أشرت إليه: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صفة الجلوس في الصلاة، وكيفية وضع اليدين على الفخذين، اللفظ الأول الذي ساقه المصنف بكماله، واللفظ الآخر الذي أشار إلى طرف منه، وهو قوله: ( وقبض أصابعه كلها، وأشار بالتي تلي الإبهام )، وهذا اللفظ الثاني الذي نقل المصنف منه رحمه الله هذا الجزء، ذكره أيضاً في الموضع من رواية علي بن عبد الرحمن المعاوي أنه قال: ( رآني ابن عمر وأنا أعبث بالحصى في الصلاة، فلما انصرف نهاني رضي الله عنه، وقال: اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع، قلت: وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قال: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى أو على فخذه اليمنى، وكفه اليسرى على اليسرى، وقبض أصابعه كلها وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه ) .. إلى آخره.

فهذا هو اللفظ، وقد ساق المصنف منه موضع الاختلاف رحمه الله تعالى.

كيفية وضع اليدين عند التشهد

قوله في الرواية الأولى: (وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع اليمنى على اليمنى) يعني: وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وفي هذا دليل على مشروعية وضع اليد اليمنى على الركبة اليمنى، واليد اليسرى على الركبة اليسرى.

وقد جاء في رواية عند مسلم أيضاً: عن عبد الله بن الزبير في الموضع نفسه أيضاً أنه قال: ( ألقم كفه اليسرى ركبته اليسرى، وكفه اليمنى ركبته اليمنى ) فهذا دليل على أنه وضعها عليها، كأنه ممسك بها، وفي روايات: أنه وضعها عليها وضعاً، كما في رواية الباب، والأمر في ذلك متقارب، وعلى سبيل العموم فقد أجمع العلماء كما ذكره النووي رحمه الله في المجموع : أجمعوا على استحباب وضع اليد على الركبة، أو عند الركبة، يعني: اليمنى عند اليمنى، واليسرى عند اليسرى، سواء وضعها فوق الركبة وألقمها بها أو وضعها فوقها عندها، فهذا قوله وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى.

معنى عقد الأصابع في قوله: (وعقد ثلاثاً وخمسين)

ثم قال: (وعقد ثلاثاً وخمسين)، والمقصود بالعقد هنا: عقد أصابعه، وقد اتفقوا على أن العقد هاهنا باليد اليمنى فحسب فإنها هي التي يشار بها، ( وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح في السنن وسنده صحيح- رجلاً يشير بيده اليسرى أو بكلتا يديه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أحد أحد )، يعني: أشر بيد واحدة فحسب، وهي اليمين.

فقوله: (وعقد ثلاثاً وخمسين)، يعني: بيده اليمنى، وهذا فيه إشارة إلى العقود التي كان العرب يستخدمونها، فكانوا يعبرون عن العقود بحركات في أيديهم وأصابعهم متعارف عليها فيما بينهم، وإن كان العلماء يقولون: إن العقد الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في يده ليس عقد الثلاث والخمسين المعروف عند أهل الحساب، فإن عقد النبي صلى الله عليه وسلم المشار إليه في قوله: (وعقد ثلاثاً وخمسين): هو أنه عليه الصلاة والسلام وضع إصبعه الخنصر والبنصر على راحته، ووضع الإبهام على الوسطى مع اختلاف في صفة وضع الإبهام مع الوسطى، وأشار بإصبعه السبابة، وهذا العقد لا يسمى عند أهل الحساب ثلاثاً وخمسين، إلا على ما ذكره بعضهم، وأشار إليه ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، أن الحساب هذا عند المتقدمين، فالمتقدمون من أهل الحساب يسمون هذه ثلاثاً وخمسين، أما المتأخرون فلا يكون هذا هو العقد عندهم، ولكنه يتكلف له نوع من التأويل، وأصل عقد الثلاث والخمسين كما ذكر النووي في شرحه لصحيح مسلم، وفي المجموع، وكما ذكره أهل الحساب في كتبهم، وفي مصنفات خاصة في رسالة صغيرة هي: حساب العقود، مطبوعة ومتداولة، فيقولون: إن أصل عقد ثلاث وخمسين هو وضع الإصبع الإبهام بجنب المسبحة التي هي السبابة على طرف الراحة أو حرفها أسفل منها، يعني: كأنه هكذا عقد ثلاثاً وخمسين.

والذي نقله الصحابة الآخرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيلاً لإجمال حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع الخنصر والبنصر على راحته، ووضع الإبهام على السبابة )، وفي بعض الروايات: ( أنه حلقها بها )، وفي بعضها: ( وضعها عليها )، وقد اختلفوا في أكثر من ثلاث صور، هي تفاصيل لا ندخل فيها.

على أي حال الإصبع أو الأصابع في التشهد -وهذا الكلام كله في التشهد كما هو واضح- لها صفتان رئيسيتان، يتفرع عنهما صفات أخرى، نقتصر منها على الصفتين الرئيستين:

فالصفة الأولى: هي كما ذكرت، وهي المشار إليها بحديث ابن عمر رضي الله عنه: ( وعقد ثلاثاً وخمسين )، وهي: أن يضع الخنصر والبنصر على راحته، ويضع الإبهام على الوسطى، ويشير بالسبابة أو المسبحة، وإنما سميت المسبحة؛ لأنه يسبح بها والسبابة، قيل: لأن الإنسان إذا سب أشار بها إلى من يسب، وقيل: لأنه يسب بها نفسه حينما يستغفر، فإن الاستغفار هو نسبة النقص إلى الذات، فهذا هو الوجه الأول، أو هذه هي الصيغة الأولى.

الصيغة الثانية للأصابع: هي قبض الأصابع كلها، وقد جاء هذا في الموضع ذاته، كما أشرت إليه من صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وهو في الرواية التي سقتها قبل قليل (أنه قبض أصابعه كلها)، فيكون قبض الأصابع كلها الثلاث بما في ذلك الوسطى قبضها أيضاً، ووضع عليها الإبهام أو قريباً منها، وبقيت المسبحة أو السبابة هي القائمة التي يشير بها، وهذه أيضاً فيها أكثر من تفصيل، لكن هذا مجملها ونقتصر على المجمل؛ لأن هذا هو ما ورد بنصوص صريحة واضحة.

وكلا الصفتين واردة في الروايات، كما رأيتم فبأيها عمل الإنسان فقد أصاب السنة، والأولى أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، ليكون هذا من جنس السنن التي جاءت على أكثر من صورة، فيستحب للإنسان أن يفعلها حيناً بهذه الصفة، وحيناً بالصفة الأخرى، حتى يصيب السنة بالحالتين، هذا ما يتعلق بقوله: (وعقد ثلاثاً وخمسين).

حكم الإشارة بالسبابة حال التشهد

أما قوله: (وأشار بإصبعه السبابة)، فهذا دليل على مشروعية الإشارة بالإصبع السبابة، وهي المسبحة، وهي التي تكون بين الإبهام وبين الوسطى، والحديث فيه نص على الإشارة، وسيرد لذلك مبحث وحديث طويل، فإنه قد ذهب بعض أهل العلم إلى الاقتصار على الإشارة، وهذا مذهب جمهور أهل العلم، وهو المشهور عن الأئمة الثلاثة ورواية أيضاً عن الإمام مالك أن المشروع هو الإشارة بالإصبع.

وفي رواية أخرى عن الإمام مالك، وهي أيضاً نقلت عن الإمام أحمد في بعض مسائله، ونقلت وجهاً عند الإمام الشافعي، كما ذكره النووي في المجموع، أنه يحرك أصبعه للتشهد على الدوام.

فنبقى في القول الأول: وهو الاقتصار على الإشارة، وعدم تحريك الإصبع.

والمسألة فيها على كل حال أحاديث، وقد رأيت أن أعرض لكم هذه الأحاديث بشيء من الاختصار، المسألة فيها كتب، قلت في بعض المسائل والمناسبات: إن فيها قريباً من ثلاثين بحثاً، وأظن أنني لست مبالغاً في هذا الرقم، فقد اطلعت على عدد من الكتب، ووقفت على أسماء عدد آخر منها قد يكون مخطوطاً، وفيها بحوث كثيرة لبعض طلبة العلم المعاصرين، منها ما نشر في بعض المجلات، ومنها ما لم ينشر.

وعلى أي حال: المسألة لا بأس ببحثها، لكن ينبغي أن تبحث في إطارها الطبيعي، ولا يتعدى الأمر ذلك، ولا داعي لاستخدام ألفاظ الخشونة في مثل هذه المسألة، كما ننبه عليه في مناسبات كثيرة، فالمسألة ليست من المسائل الكبار والخلاف فيها قوي وقديم، والجمهور على ترك التحريك، والاقتصار على الإشارة فحسب، وهذا هو الذي تؤيده الأحاديث في صحيح مسلم، ولعل من السابق لأوانه أن نذكر الترجيح قبل أن أسرد لكم الروايات، ولكني أرى أنه سواء ما أقدمه راجحاً أو مرجوحاً أن الأمر لا يستدعي مزيداً من الانفعال، فالأمر إن شاء الله يسير، وأيها فعل الإنسان مجتهداً فقد أصاب إن شاء الله، ولا ينبغي أن يطال البحث في مثل هذه المسائل، تبحث في إطارها المعتاد فحسب

حكم تحريك السبابة حال التشهد

الآن مسألة الإشارة متفق عليها، هذه أولاً مسألة الإشارة متفق عليها، وقد أجمع أهل العلم على مشروعية الإشارة بالإصبع في الصلاة كما نقله غير واحد، ولكن الخلاف هو في التحريك، والتحريك معناه: التحريك المستمر في الصلاة.

فيما يتعلق بالتحريك جاء فيه أحاديث:

الأول: حديث وائل بن حجر رضي الله عنه، وقد ذكر حديث وائل بن حجر الإشارة بالسبابة، وزاد قوله: ( يحركها )، فهذا اللفظ الآن نص على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بالسبابة يحركها، فعلى هذا كأنه كان يشير بها دائماً ولا يتوقف عن التحريك، وهذه عمدة من قالوا بأنه يشرع للمصلي أن يحرك سبابته دوماً، حتى يسلم من صلاته، هذه الرواية من حديث وائل بن حجر : (يحركها) تفرد بها زائدة بن قدامة عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر رضي الله عنهم، هو حديث وائل كما ذكرت لكم، وهذه الزيادة بلفظ: (يحركها) أخرجها ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان في صحيحه أيضاً، والبيهقي من طريقه، والنسائي في سننه، وأحمد .. وغيرهم. والبخاري فيما أظن في جزء رفع اليدين .. وغيرهم، وقد أشار ابن خزيمة رحمه الله عقب روايتها، أشار إلى تفرد زائدة بن قدامة بهذا الحرف الذي هو لفظ: (يحركها).

إذاً: تفرد به زائدة بن قدامة، ولا كلام في زائدة، ولكن الكلام في أن زائدة قد خالفه أكثر من خمسة عشر من الرواة الثقات، فلم يذكروا هذا اللفظ، فرووه من نفس الطريق دون أن يذكروا اللفظ: (يحركها)، وكثير منهم أئمة ثقات أثبات، كـشعبة مثلاً، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وزهير بن معاوية، وابن فضيل، وأبي عوانة، وعنبسة بن سعيد وغيرهم، فخمسة عشر خالفوا زائدة، ولم يذكروا هذا اللفظ، رووه بدون هذه الزيادة، فهذه الكثرة تؤكد ما ذهب إليه ابن خزيمة، أو أومأ إليه من أن زائدة قد تفرد بهذا الحرف، وأنه يعتبر شاذاً، وإذا لم يكن هذا هو الشاذ فما هو الشاذ إذاً؟ واحد يتفرد من بين خمسة عشر كثير منهم أوثق منه، فيتفرد بلفظ: (يحركها)، فدل هذا على أن لفظ التحريك شاذ ولا يثبت. هذا أولاً.

ثانياً: وقد جاء أيضاً ما يخالفه ويعارضه من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه بنحو حديث وائل بن حجر، والذي ذكرت قبل قليل، فإنه قال: ( كان يشير بإصبعه إذا دعا لا يحركها )، وكل ذلك المقصود بالتشهد، وقول ابن الزبير أو ما جاء في حديث ابن الزبير أنه لا يحركها، هذا جاء في سنن أبي داود، وأيضاً في سنن البيهقي، ورواه البغوي في شرح السنة، وأيضاً زيادة: (لا يحركها): أشبه بأن فيها تفرداً، فقد تفرد بها زياد بن سعد عن محمد بن عجلان، وكلاهما قد توبع بدونها، يعني: زياد بن سعد خالفه آخرون، فرووه عن محمد بن عجلان بدون زيادة: (لا يحركها)، وكذلك محمد بن عجلان توبع عليها بدون هذا اللفظ: (وهو لا يحركها)، وتابعه على ذلك كثيرون؛ ولهذا حكم أيضاً بعض الباحثين على هذا اللفظ الذي هو لفظ: (لا يحركها) بالشذوذ.

وأود أن أسألكم أيها الإخوة! الآن وقد رأيتم: أيهما أولى بأن يحكم بالشذوذ على لفظ: (يحركها) أو لفظ: (لا يحركها)؟ لفظ: (يحركها)؛ لأنه واحد في مقابل خمسة عشر، أما الآخر فهو دون ذاك، ولكن لا مانع أن يقال: بأنه حتى هذا اللفظ شاذ ومخالف. وعلى أي حال فهما تعارضا فتساقطا، فلفظ: (لا يحركها) أيضاً لا يثبت، ومثله أيضاً حديث ابن عمر رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه ولا يحركها )، وهذا اللفظ رواه ابن حبان في كتاب الثقات، وقال الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق : إسناده حسن في الجملة .. أو كلمة نحو هذا، إلا أن هذا اللفظ جاء من طريق كثير بن زيد، والرواة خالفوا كثيراً فلم يذكروا ترك التحريك لا إثباتاً ولا نفياً.

إذاً: يبدو أن ذكر التحريك إثباتاً أو نفياً لا يثبت، فإثبات التحريك في قوله: (يحركها)، تفرد به زائدة بن قدامة وخالفه غيره، وإثبات: (لا يحركها) بالنفي من حديث ابن الزبير، تفرد به زياد بن سعد عن محمد بن عجلان، ومن حديث ابن عمر، تفرد به كثير بن زيد وخالفه الأكثرون، فلا يثبت لفظ التحريك إثباتاً ولا نفياً، ويكفينا بدلاً من هذه الروايات التي فيها ما فيها من المقال، وفيها ما فيها من الإشكال، وفيها ما فيها من التعارض، يكفينا الروايات الصحيحة الواضحة التي لا إشكال ولا كلام فيها، مثل: حديث ابن عمر رضي الله عنه، كما في صحيح مسلم، في قوله: ( ورفع إصبعه التي تلي الإبهام فدعا بها )، (ورفع إصبعه)، لاحظ لفظ: (رفع إصبعه التي تلي الإبهام فدعا بها) بحيث نقول: إنه حتى على فرض ثبوت الألفاظ الأخرى، فإنها من تصرف الرواة، والأصل هو هذا اللفظ الذي فيه رفع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه التي تلي الإبهام، وفي رواية: ( وأشار بإصبعه السبابة )، كما في اللفظ الذي ساقه المصنف.

ومثله أيضاً: حديث عبد الله بن الزبير، وهو في صحيح مسلم في الموضع نفسه كما أشرت، وفيه قال: ( وأشار بإصبعه ).

إذاً: نأخذ من مجمل هذه الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع إصبعه السبابة في التشهد يشير بها، لماذا يرفعها؟ يدعو بها كما قال في حديث ابن عمر : (فدعا بها)، وهذا القدر وارد في الصحيح كما رأيتم، فالاقتصار عليه أولى، وترك تلك الأحاديث المتعارضة، أو حملها عليها كما ذهب إلى ذلك جماعة، فمن نفى التحريك قصد نفي التحريك المستمر، ومن أثبت التحريك قصد التحريك لمناسبة الدعاء، فهذا أيضاً وجه آخر على فرض ثبوت تلك الأحاديث.

إذاً: هذا القدر الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع إصبعه السبابة يدعو بها، وبناءً عليه نقول: يشرع للمصلي في التشهد أن يرفع إصبعه السبابة، ويشير بها عند الدعاء، مثل قوله: (السلام عليك أيها النبي) هذا دعاء، (السلام علينا)، وكذلك عند الشهادة والتوحيد، فهذا ثابت أيضاً ومنقول عن الفقهاء، بل نقل الإجماع على أنه مشروعية رفع الإصبع عند التشهد معروف في مناسبات أخرى أيضاً، فيشير بها أيضاً عند التشهد عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله)، ويشير بها فيما بقي من الدعاء: (اللهم صل على محمد)، (اللهم بارك على محمد)، (أعوذ بالله من عذاب جهنم)، وهذا مذهب الجمهور كما ذكرت لكم قبل قليل.

هذه مسألة كما ذكرت لكم كثر الكلام فيها ولكن هذا مختصر، أرجو أن يكون مفيداً لمجمل الروايات الواردة في المسألة. الذين يقولون بالتحريك يرون أنه يحركها دائماً وأبداً، يرون أنها لا تتوقف أبداً، وإنما تظل الحركة مستمرة.

والمالكية يرون أنه يحركها يميناً وشمالاً لا ينصبها.

وعلى كل حال المسألة كما ذكرت لكم الأمر فيها إن شاء الله واسع، ومن اجتهد في أمر ورآه بالدليل فلا حرج عليه في ذلك، ولا ينبغي أن يكون هذا مجالاً للقيل والقال والجدال وغير ذلك.

استحباب النظر إلى موضع الإشارة حال التشهد

ومما ينبغي أن يعلم فيما يتعلق بسنة الإشارة أنه يشرع للمصلي ألا يجاوز بصره موضع إشارته، يعني: يرمي ببصره إليها إلى موضع إشارته، وقد ثبت هذا عند أبي داود في سننه من حديث عبد الله بن الزبير بسند صحيح صححه النووي والألباني وغيرهما: ( أنه صلى الله عليه وسلم لا يجاوز بصره إشارته )، وكذلك جاء في الحديث: ( أنه حناها شيئاً )، وهذا في سنن أبي داود أيضاً أنه حناها، يعني: لا يشير بها إشارة مستقيمة هكذا، وإنما حناها شيئاً ما، وهذا الحديث مختلف فيه، وكأنه محتمل للتحسين إن شاء الله تعالى.

الإشارة بين السجدتين

بقي أيضاً في الإشارة مسألة: وهي الإشارة بين السجدتين، وهذه يكثر السؤال عنها، مسألة الإشارة بالإصبع بين السجدتين، ذكرت أن الأحاديث كلها صريحة في الإشارة في التشهد الأول والآخر على حد سواء، فهل ورد شيء مما يتعلق بالإشارة بين السجدتين، لم أقف على كلام لأحد من أهل العلم، قال بمشروعية الإشارة بين السجدتين من المتقدمين، اللهم إلا الإمام ابن القيم، فإنه نص على ذلك في الجزء الأول من زاد المعاد في صفة الصلاة، فذكر أنه يستحب أن يشير بإصبعه السبابة في جلسته بين السجدتين، وحجته في ذلك رواية رواها الإمام أحمد في مسنده من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه، وقد سبق الحديث، وفيها قوله (ثم جلس) ذكر صفة الصلاة في سجود النبي صلى الله عليه وسلم (سجد) يعني: السجدة الأولى قال: ثم جلس ...

فهو من رواية عاصم بن كليب عن أبيه كليب عن وائل يعني: جده، وائل بن حجر رضي الله عنه، كما ذكرت قبل قليل أيضاً، وهذا الحديث رواه أحمد كما أسلفت في مسنده، والطبراني في معجمه، وعبد الرزاق في مصنفه، والحديث عند أحمد والطبراني من طريق عبد الرزاق بن همام صاحب المصنف، وقد رواه عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه.

وخالف عبد الرزاق الفريابي فرواه عن الثوري بدون هذه الزيادة (تحريك الإصبع بين السجدتين).

والفريابي نص علماء الجرح والتعديل على أنه مقدم في روايته عن الثوري على عبد الرزاق ونظرائه عند التعارض فهو مقدم عليه، وقد خالفه في هذا الموضع فيقدم عليه، وكذلك رواه ثقات كثيرون عن الثوري، فلم يذكروا هذه الزيادة، هذا فضلاً عن أن الأحاديث الأخرى، كأحاديث عبد الله بن عمر، وأحاديث عبد الله بن الزبير وغيرهما تؤكد أن أصل مسألة تحريك الإصبع إنما جاءت في التشهد الأول والأخير، وبعضها قد يقول: إذا قعد، ويقصد به القعود للتشهد، وبعضهم يقول في الثنتين والأربع. يعني: بعد التشهد الأول، وبعد التشهد الثاني. وبعضهم: يقول يدعو بها، ويقصدون بذلك التشهد، فكأنه أمر مألوف معروف مشتهر في الروايات، ولهذا فلا شك فيما يظهر لي أن رواية تحريك الإصبع بين السجدتين من حديث عبد الرزاق عن الثوري عن عاصم عن أبيه أنها رواية شاذة، قد خولف فيها عبد الرزاق، وكذلك الأحاديث الأخرى الكثيرة تدل على ذلك، وبناءً عليه فإن تحريك الإصبع بين السجدتين لا يثبت له دليل.

بعضهم أخذ هذا من النظر، فقال: إن ما بين السجدتين دعاء، والإصبع يدعى بها. فنقول: الصلاة فيها دعاء كثير، والأولى الاقتصار على ما ثبت، ولو أن إنساناً حرك إصبعه بين السجدتين أخذاً بكلام ابن القيم، أو كلام من يوافقه من فضلاء علمائنا ومشايخنا المعاصرين، فإنه لا حرج عليه في ذلك ولا تثريب، والأمر في هذا واسع، ولا ينبغي أن يشق طلبة العلم في هذا على الناس، أو على غيرهم، المناقشة العلمية لا بأس بها، أما الشد في مثل هذه الأمور فلا ينبغي.

فالأمر إن شاء الله في هذا كله واسع، وقد ثبت: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم يشير بإصبعه في الخطبة حال الصلاة) كما في صحيح مسلم والأمر في هذا لا إشكال فيه إن شاء الله، هذه أهم المسائل الموجودة في حديث ابن عمر رضي الله عنه .

الحديث رواه مسلم في صحيحه، في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صفة الجلوس في الصلاة، وكيفية وضع اليدين على الفخذين.

وقد رواه أيضاً: أبو عوانة في مستخرجه، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد .. وغيرهم.

وكلا اللفظين اللذين ساقهما المصنف موجود في الموضع الذي أشرت إليه: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صفة الجلوس في الصلاة، وكيفية وضع اليدين على الفخذين، اللفظ الأول الذي ساقه المصنف بكماله، واللفظ الآخر الذي أشار إلى طرف منه، وهو قوله: ( وقبض أصابعه كلها، وأشار بالتي تلي الإبهام )، وهذا اللفظ الثاني الذي نقل المصنف منه رحمه الله هذا الجزء، ذكره أيضاً في الموضع من رواية علي بن عبد الرحمن المعاوي أنه قال: ( رآني ابن عمر وأنا أعبث بالحصى في الصلاة، فلما انصرف نهاني رضي الله عنه، وقال: اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع، قلت: وكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قال: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى أو على فخذه اليمنى، وكفه اليسرى على اليسرى، وقبض أصابعه كلها وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه ) .. إلى آخره.

فهذا هو اللفظ، وقد ساق المصنف منه موضع الاختلاف رحمه الله تعالى.

قوله في الرواية الأولى: (وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع اليمنى على اليمنى) يعني: وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وفي هذا دليل على مشروعية وضع اليد اليمنى على الركبة اليمنى، واليد اليسرى على الركبة اليسرى.

وقد جاء في رواية عند مسلم أيضاً: عن عبد الله بن الزبير في الموضع نفسه أيضاً أنه قال: ( ألقم كفه اليسرى ركبته اليسرى، وكفه اليمنى ركبته اليمنى ) فهذا دليل على أنه وضعها عليها، كأنه ممسك بها، وفي روايات: أنه وضعها عليها وضعاً، كما في رواية الباب، والأمر في ذلك متقارب، وعلى سبيل العموم فقد أجمع العلماء كما ذكره النووي رحمه الله في المجموع : أجمعوا على استحباب وضع اليد على الركبة، أو عند الركبة، يعني: اليمنى عند اليمنى، واليسرى عند اليسرى، سواء وضعها فوق الركبة وألقمها بها أو وضعها فوقها عندها، فهذا قوله وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى.