هذا الحبيب يا محب 66


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد:

لنقضي ساعة مع حبيبنا صلى الله عليه وسلم، وقد انتهى بنا الدرس إلى أولى غزوات السنة الرابعة، وهي [غزوة بني النضير] وبنو النضير هم قبيلة من قبائل اليهود الثلاث التي كانت تسكن المدينة النبوية.

قال: [بنو النضير إحدى ثلاث طوائف كانت] هذه الطوائف الثلاث [تسكن حوالي المدينة من اليهود] عليهم لعائن الله [وقد وادعهم الرسول صلى الله عليه وسلم يوم قدم المدينة مهاجراً] وادعهم: من الموادعة والمهادنة [وكتب لهم بذلك كتاباً] أي: صكاً يحمل الموادعة التي تمت بينه وبينهم، فلا ظلم ولا اعتداء [فنقضت بنو قينقاع عهدها أول من نقض] بنو قينقاع كانوا جنوب المدينة وهم أول من نقض العهد وحل الاتفاقية [وذلك] أي: ذلك النقض تم [في السنة الثانية وبعد غزوة بدر مباشرة -كما تقدم استعراضه في أحداث السنة الثانية-] ما صبروا إلا سنة واحدة ونقضوه في السنة الثانية من الهجرة النبوية [فأجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم] أي: أبعدهم من المدينة [ولم يقتلهم؛ إذ قبل فيهم شفاعة حليفهم عبد الله بن أبي]، فقد جاء وتوسط لهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أحلافي فاسمح لهم يا رسول الله! بالخروج من المدينة.

قال: [فخرجوا من المدينة ونزلوا أذرعات بالشام وهلكوا بها] وأهل الشام يعرفونها إلى الآن [وهاهم أولاء بنو النضير ينقضون عهدهم] أيضاً [اليوم بتآمرهم على قتل النبي] صلى الله عليه وسلم [بصورة مكشوفة واضحة] تآمروا -كما ستسمعون- مؤامرة شنيعة على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

غدر بني النضير برسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضهم للعهد

يقول: [إنه بعد انتهاء وقعة أحد المؤلمة] التي عشناها [جاء أبو براء العامري زائراً المدينة] وتقدم الحديث عن هذا [فلاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يرفض، وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: لو تبعث إلى ديارنا بعثاً من صالحي رجالك يدعون إلى أمرك] التي تدعو إليه، يعني: إلى الإسلام [فإني أرجو أن يجابوا لذلك] وتقبل دعوتهم، وكان حسن ظن منه [فأبدى النبي صلى الله عليه وسلم] أي: أظهر [تخوفاً] وهو كذلك [على أصحابه] فوعده أبو براء بأنه سيكون جاراً حتى لا يُمسوا بسوء] كما هي عادة العرب، من قال: هذا بجواري لا يمسه أحد، وهو المعروف الآن باللجوء السياسي.

[وبعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً من خيرة الأصحاب] وحدثت واقعة بئر معونة [واستشهد فيها كافة الأصحاب. وإن عمرو بن أمية لما وقع في أسر عامر بن الطفيل ] الذي أعتقه عن أمه [أعتقه وعاد عمرو إلى المدينة، وفي طريقه] إلى المدينة [لقي رجلين من بني عامر فقتلهما؛ ثأراً لشهداء بئر معونة، وكان القتيلان معاهدين للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يعلم بذلك عمرو ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحادث] الجلل [فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأدينّهما] أي: لأدفعن ديتهما؛ لأن بيني وبين قومهم معاهدة [وفعلاً جاء ذووهما يطالبون بديتهما] جاء رجال قبيلة الرجلين القتيلين يطالبون بالدية حسب الاتفاقية.

[وكانت معاهدة اليهود تقضي بأن يدي كل من الطرفين ما لزمه من دية شرعية] الاتفاقية التي كانت بين الرسول وبين بني النضير تقضي بأنه إذا أودى الرسول قتيلاً أو قتلى فإنهم يشاركون فيها، وإن بنو النضير أودوا -أيضاً- لحادث قتلى أو قتيل فإن الرسول يساهم معهم [فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر وعلي ] خرج مع ثلاثة من رجالات المهاجرين أي إلى بني النضير، شرق المدينة [يطالبهم بالإسهام والمشاركة في دية العامريين بموجب المعاهدة، فانتهى] صلى الله عليه وسلم [إلى ديارهم] مع أصحابه الثلاثة [وذكر لهم ما جاءهم من أجله] قال: جئت لكي تشاركونا في دفع دية العامريين [فأبدوا ارتياحاً واستعداداً، وأنزلوه مع أصحابه منزلاً حسناً] وذلك [في ظل جدار من بيت أحدهم] حصير على الأرض وظل جدار، نِعم المجلس! [وأظهروا أنهم يسعون في تحقيق طلبه] أي: يتجولون على جيرانهم وإخوانهم ليجمعوا ما يريد [وإذا بهم يتآمرون على قتله] قالوا: الفرصة سانحة هذا هو اليوم المختار [إذ قالوا: إنها فرصة قد لا تتاح لكم، فتخلصوا من الرجل بقتله، وعينوا لذلك عمرو بن جحاش ] اليهودي [فقال: أنا لذلك] مستعد [فقالوا: نطلع على السطح ونلقي عليه رحى من فوق نقتله بها] والرحى: صخرة يطحن بها الحب معروفة.

قال: [وأنكر عليهم سلام بن مشكم عملهم] ما رضي هذا [وقال: لا تفعلوا، لكنهم أجمعوا على أن ينفذوا خطتهم القذرة هذه] المنتنة [وقبل أن يفعلوا بدقائق] وذاك الوقت ما في دقائق بل لحظات [أوحى الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما هموا به] وعزموا [من قتله] إنه الإعلام السريع الخفي! [فقام على الفور] ما إن بلغته المؤامرة حتى قام [كأنه يقضي حاجة] يتبول [ودخل المدينة، ولما استبطأه أصحابه] الثلاثة [قاموا ولحقوا به، فأخبرهم بمؤامرة اليهود، وأن خبر السماء قد سبقهم] قبل أن يطلقوا الرحى [وكأن آية المائدة نزلت في هذه الحادثة، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة:11]] وقتل الرسول قتل لكل مؤمن، أليس كذلك؟ والله لأن يرضى المؤمنون كلهم أن يقتلوا ولا يقتل نبيهم.

قال المؤلف: [ولهذه الحادثة أشباه] ونظائر [وتتلى الآية عند كل واحدة منها تذكيراً بنعمة الله وفضله على المؤمنين ليشكروا الله بالصبر والطاعة].

مساندة المنافقين ليهود بني النضير

[وبعث إليهم صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره] ومحمد بن مسلمة هو الذي قتل كعب بن الأشرف [لنقضهم العهد الذي بينهم وبينه، فبعث إليهم المنافقون -وعلى رأسهم ابن أبي كبير المنافقين-] يشجعونهم على البقاء وعدم الجلاء يقولون: اثبتوا فنحن معكم، إن قاتلتم قاتلنا معكم، وإن متم متنا معكم، واصبروا. وهذا المسلك إلى الآن يسلكه المنافقون والكافرون واليهود، وليس هناك تغير أبداً.

[وفي ذلك يقول تعالى من سورة الحشر: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر:11] في عدة آيات إلى قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الحشر:15] وهم بنو قينقاع أهلكهم الله.

خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير

[ولما لم ينصاعوا للأمر بالجلاء والخروج من المدينة لتشجيع المنافقين لهم] وقد سمعتم ما أخبر الله تعالى عنهم بالحرف الواحد [أعلن القائد الأعظم الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم الحرب عليهم] انتهت الاتفاقية وانحل العقد وأعلنت الحرب [فولى على المدينة ابن أم مكتوم ] ولاه أميراً على المدينة، يخلفه في أهلها بالقضاء والشرع والحكم فيها، وابن أم مكتوم رجل أعمى، ورغم ذلك أصبح أميراً يقود أمة، وأذكر بذلك الغافلين الناسين غير العالمين.

من هو عبد الله بن أم مكتوم الأعمى؟ إنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، كان يقول صلى الله عليه وسلم: ( إن بلالاً يؤذن بليل، وابن أم مكتوم يؤذن، فإذا سمعتم أذانه فأمسكوا عن الطعام والشراب )، هذا الرجل الكفيف كان في مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتصدى في الدعوة لرجالات قريش ذوو الاعتبار، الذين إذا أسلم الواحد منهم انفتح به باب للإسلام، وهي سياسة رشيدة، فجاء ابن أم مكتوم مرة يجري وراء الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! علمني، والرسول كان مشغولاً بفلان وفلان من الكفار، فجذبه قائلاً: علمني مما علمك الله! فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وهل غضب لنفسه؟ لا. للدعوة. فأنزل الله تعالى فيهما قرآناً يقرأ إلى اليوم، وهو قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2]، وما قال: عبست وتوليت، ولكن بحكاية الغيبة: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى [عبس:1-5] أي: استغنى عنك وعن دعوتك فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ [عبس:6-11]، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جالساً وجاء ابن أم مكتوم يقف له ويجلسه مكانه، ويقول: ( مرحباً بالذي عاتبني ربي من أجله ). هذا الرجل أصبح اليوم أميراً على المدينة، بعد أن خرج الرسول في غزوة وولاه عليها.

ونحن شاهدنا اثنين ممن فقدوا أبصارهم ورأينا فيهم الخير العظيم، الأول: هو الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية رحمه الله، فقد كان من خيرة الرجال وهو كفيف، والثاني: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، ولو جمعنا اليوم علماء العالمي الإسلامي كلهم لا يزنونهم، وقد جلست مرة إلى بعض الهابطين -مسئول- فكان يسخر من أحدهم لأنه أعمى.

إذاً: ابن أم مكتوم الآن أميراً على المدينة، يخلف رسول الله في قيادته، وليست هذه أول مرة يوليه فيها الرسول، فقد ولاه قبل ذلك أيضاً، لأن الله عاتبه من أجله، وهذا معناه أنه محبوب لله، ولو لم يكن ابن أم مكتوم محبوباً لله ما عاتب عليه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويا ليتنا نعرف قبره فنزوره الآن!

قال: [وخرج إليهم برجاله، فحاصرهم قرابة نصف شهر] خمس عشرة يوماً [وأثناء ذلك] الحصار المضروب عليهم [هددهم بإحراق نخلهم وقطعه، وفعلاً أحرق بعض المؤمنين طرفاً وقطعوا بعضاً] من بساتينهم [وتألم لذلك بعض المسلمين، لاسيما لما قال اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم: عهدُنا بك تنهى عن الفساد وتعيب صاحبه، فكيف تأذن بإحراق النخيل؟ ونزل في ذلك قوله تعالى من سورة الحشر: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ [الحشر:5]] صحح الله الموقف ورد على اليهود، واللينة: هي نخل الرطب، الذي تمره لين، وهو نوع جيد، أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا أي: جذوعها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ويذلهم. والفاسقون هنا هم اليهود. فقد فسقوا أشد فسق.

إجلاء بني النضير عن المدينة

قال: [ونزل اليهود أخيراً على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم منصاعين] منقادين [لأمره] ما هذا الحكم؟ [وهو أن يخرجوا من المدينة حاملين أموالهم على إبلهم، ما عدا الحلقة (السلاح)] وهي السيوف والرماح، فلا تحمل وتبقى [حتى لا يحاربوا بها مرة أخرى، فأخذوا أموالهم الصامتة والناطقة] والأموال الناطقة هي: الإبل والبقر والغنم؛ لأنها تصرخ، والأموال الصامتة الذهب والفضة وكل الأمتعة [حتى إن أحدهم يهدم سقف بيته ويحمل بعض أخشابه] على بعير، يأخذها للمكان الذي سيبني فيها بيته الجديد [أو يهد نجف الباب ليأخذ الباب] ويمشي [وفي هذا يقول تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]] أين أولو الأبصار من العرب؟ ما بقي بصيرة! ولو بقيت بصائر ما حكمنا اليهود وسادونا!

وقوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا) من العبّارة، وهذه يعرفها المصريون؛ لأنهم يعبرون بها النيل. فكلمة كهذه تعبر بها يا عبد الله! المهالك والمخاوف وتجتازها، وانظر ماذا حصل للذين فسقوا عن أمر الله وخرجوا عن طاعة رسوله وتآمروا عليه وعلى أوليائه، ماذا فعل بهم؟ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [الحشر:2].

قال تعالى: [ وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ [الحشر:3]] والخروج من المدينة [ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا [الحشر:3]] بالقتل [ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ [الحشر:3]] ولكن لما أمر بإجلائهم نجوا من القتل، وأما عذاب النار لازم [ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر:4]] والشق والمشاقة: أن تقف في شق ويأخذ آخر شقاً آخر، كالمعاداة، ذاك في عدوة وهذا في عدوة، فلا لقاء ولا اتصال ولا تفاهم. فالذين شاقوا الله ورسوله جلسوا في شق وتركوا الله ورسوله في ناحية مقابلة، ما آمنوا ولا طبقوا شرعاً ولا شعيرة ولا عبدوا الله.

قال تعالى: [ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:4]] ولما شاق المسلمون ربهم، ونزلوا في شق وخلوا الله ورسوله في شق، سلط عليهم الكفار فأذلوهم واستعمروهم، والعجب أنهم إلى الآن لم يرجعوا عما هم فيه، فما زالوا في شق واحد بعيد، لكن يوم أن يقولوا: الله أكبر! إمامنا فلان، وشريعتنا القرآن وتطبق فيهم، يكونوا عادوا وتابوا، ولو أعلنوا الحرب ضد العالم بكامله لانتصروا عليه، ولن تغن عنه الطائرات ولا الذرة ولا الهيدروجين.

قال: [وأجلي بنو النضير عن المدينة] الرسول صلى الله عليه وسلم. من كتب عليهم الجلاء؟ الله [ولم يُسلم منهم إلا رجلان، هما: يامين بن عمير وأبو سعيد بن وهب فأحرزا أموالهما] وبقيا بالمدينة [ولما مر اليهود بخيبر] طريقهم إلى الشام [نزل بها سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع وحيي بن أخطب شياطين اليهود، فاستقبلهم يهود خيبر بالطبول والمزامير والغناء بزهاء وفخر؛ كأنهم أبطال فاتحون، وما هم إلا خونة ناكثون مهزومون] استقبلوهم بالطبول والمزامير وكأنهم فتحوا المدينة، وهم شاردون أذلة هاربون، ولكن من باب التغطية والتعمية على إخوانهم.

تقسيم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير على المهاجرين

[وقسم الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير بين المهاجرين لا غير] فقد كانت أموالهم فيئاً، أفاء الله به على رسوله، فقسمه النبي صلى الله عليه وسلم على المهاجرين فقط؛ لأنهم فقراء، أما الأنصار أصحاب النخيل والديار فما أعطاهم شيئاً؛ لأن هذه ليست غنيمة، فالغنيمة قسمها الله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ [الأنفال:41]، وأربع أخماس للمجاهدين، وهل قاتل الرسول والمؤمنون بنو النضير؟ لا. الله الذي أجلاهم، كان مجرد حصار ما سالت فيه دماء ولا أطلق رصاص، وخرجوا، فالمال هذا فيء؛ لأنه رجع إلينا ونحن أحق به، وهو من فاء الظل إذا رجع، فالأموال التي في أيدي الكفار ليست حقاً لهم، ونحن أحق بها، فإذا رجعت إلينا سمينها فيء.

قال: [إذ هم أصحاب الحاجة، حتى إنهم عالة على الأنصار] وقد عرفنا هذا، فقد قاسموهم الطعام والشراب، [هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أموال بني النضير لم تكن غنائم أحرزت بالقتال] أي: ما أطلقت فيها رصاصة [وإنما كانت فيئاً أفاءها الله على رسوله بدون سفر ولا قتال] من المدينة إلى بني النضير ثلاثة كيلو أو أربعة كيلو، فلا سفر ولا قتال، إذاً: أموالهم ليست بغنيمة، ولكنها فيء.

[وفي هذا يقول تعالى من سورة الحشر: وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُم [الحشر:6-7].

إلا أنه صلى الله عليه وسلم قد شكا إليه أبو دجانة ] وهذا رأيناه في أحد يختال بفرسه [و سهل بن حنيف حاجة فأعطاهما خاصة دون بقية الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين] ما أعطى إلا لرجلين شكوا خصاصتهما وفقرهما، وهل يردهما الرسول؟ لا. ولو شكا آخرون لأعطاهم، لا يستطيع أن يرد أحداً صلى الله عليه وسلم، لكن ما شكا إليه إلا أبو دجانة وسهل بن حنيف رضي الله عنهما.

والحمد لله، أنتم الآن في مسجد رسول الله، الملائكة تصلي عليكم، فالحمد لله، ماذا تريدون بعد هذا؟!

وأذكركم بأن هذه الحلقة مضت عليها معاشر المستمعين! قرابة السبعين أو الثمانين سنة، وأنت إذا مررت بديار الشام أو المغرب أو أي مكان تدخل فيه لا تجد في المسجد إلا ثلاثة أو أربعة أنفار، وتمر بالمقاهي -وخاصة في المساء- فتجد عندها حلقات لا تحصى، لا يتلقون فيها إلا الفسق والفجور، ولا تسمع ذكر الله، إلا سب الله، والدخان إلى عنان السماء، ولا صلاة ولا فريضة ولا ولا .. وهم أذلاء تحت سلطان الكفر، ما الذي حملهم على هذا؟ إنه الجهل! جهلوا ربهم وما عرفوه، وما سألوا عن محابه ولا عن مساخطه، وما تعرفوا إليه، وما عرفوا ما لديه وما عنده، جيلاً بعد جيل وهم هابطون، -والله- يخبرونني رجال من العراق أن المؤذن في صلاة الصبح يؤذن ولا يدخل المسجد، لأنه لا يجد من يصلي! ونريد أن ننتصر على اليهود!! أنضحك على الله؟! سيقول شخص: يا شيخ ما هذه المبالغات وهذه الشطحات، تأدب! فأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لتقاتلن اليهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم! هذا يهودي ورائي فاقتله إلا شجر الغرقد ).

أسألكم بالله إذا نطق الشجر والحجر هل يكذب؟ هل يقول: يا مسلم ومن يناديه ليس بمسلم؟ لِم لم يقل: يا عربي وقال: يا مسلم؟! الآن لو تجمعون قواكم -أيها العرب- وتزحفون والله ما انتصرتم على اليهود، ستقولون: هذا الشيخ أحمق!. إن هذا الكلام قلناه من خمسين سنة؛ لأن اليهود سلطهم الله لفسقنا وفجورنا وذنوبنا وآثامنا وشركنا وهبوطنا، ولن يدفعهم عنا إلا إذا أسلمنا؛ لتتجلى الآيات العظمى ويلوح في الآفاق أن الله مع أوليائه لا مع أعدائه.

والطريق هو: أنه إذا دقت الساعة السادسة مساء، إذا بالعواصم والمدن فارغة!! أين رجالها أين أهلها؟ في بيوت الرب! فلا دكان مفتوح ولا مقهى ولا متجر ولا مصنع، أين أهل البلاد؟ عند ربهم، في بيته عز وجل، والنساء كذلك وراء الستار ومكبرات الصوت لديهن، والغلمان كالملائكة صفوفاً في طهرهم وصفائهم، والفحول أولياء الله أمامهم، وليلة يتعلمون آية من كتاب الله، وليلة حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحفظون الآية ويتغنون بها، فتشرح صدورهم، وتوضع أيديهم على المطلوب منها، فإن كان فيها معتقداً عقدوه في قلوبهم، وإن كان أدباً وخلقاً تحلوا به على الفور، وإن كان واجباً عزموا على النهوض به، وإن كان محرماً كرهوه على الفور وتركوه، ويوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام وإذا بالعالم الإسلامي كله ولي لله، ومن يقوى وقتها على أن ينال منه مكروهاً؟ فلو قالوا: الله أكبر! -والله- لارتجت الأرض تحت أرجل الكفار، ولم يبق شح ولا بخل ولا رغبة في الدنيا ولا باطل ولا ولا .. هذا هو الطريق.

ستقولون: لا نستطيع يا شيخ! فنحن مسحورون سحرنا اليهود! وكيف نترك أعمالنا ومقاهينا و.. و.. ونجلس من المغرب إلى العشاء، ونتعلم قال الله وقال الرسول، والناس صاروا في السماء وغاصوا في الماء، ويملكون كذا وكذا؟! وهذا هو الواقع المر!! لتدوم هذه الذلة والمسكنة إلى أن يشاء الله رفعها.

يقول: [إنه بعد انتهاء وقعة أحد المؤلمة] التي عشناها [جاء أبو براء العامري زائراً المدينة] وتقدم الحديث عن هذا [فلاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يرفض، وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: لو تبعث إلى ديارنا بعثاً من صالحي رجالك يدعون إلى أمرك] التي تدعو إليه، يعني: إلى الإسلام [فإني أرجو أن يجابوا لذلك] وتقبل دعوتهم، وكان حسن ظن منه [فأبدى النبي صلى الله عليه وسلم] أي: أظهر [تخوفاً] وهو كذلك [على أصحابه] فوعده أبو براء بأنه سيكون جاراً حتى لا يُمسوا بسوء] كما هي عادة العرب، من قال: هذا بجواري لا يمسه أحد، وهو المعروف الآن باللجوء السياسي.

[وبعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً من خيرة الأصحاب] وحدثت واقعة بئر معونة [واستشهد فيها كافة الأصحاب. وإن عمرو بن أمية لما وقع في أسر عامر بن الطفيل ] الذي أعتقه عن أمه [أعتقه وعاد عمرو إلى المدينة، وفي طريقه] إلى المدينة [لقي رجلين من بني عامر فقتلهما؛ ثأراً لشهداء بئر معونة، وكان القتيلان معاهدين للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يعلم بذلك عمرو ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحادث] الجلل [فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأدينّهما] أي: لأدفعن ديتهما؛ لأن بيني وبين قومهم معاهدة [وفعلاً جاء ذووهما يطالبون بديتهما] جاء رجال قبيلة الرجلين القتيلين يطالبون بالدية حسب الاتفاقية.

[وكانت معاهدة اليهود تقضي بأن يدي كل من الطرفين ما لزمه من دية شرعية] الاتفاقية التي كانت بين الرسول وبين بني النضير تقضي بأنه إذا أودى الرسول قتيلاً أو قتلى فإنهم يشاركون فيها، وإن بنو النضير أودوا -أيضاً- لحادث قتلى أو قتيل فإن الرسول يساهم معهم [فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر وعلي ] خرج مع ثلاثة من رجالات المهاجرين أي إلى بني النضير، شرق المدينة [يطالبهم بالإسهام والمشاركة في دية العامريين بموجب المعاهدة، فانتهى] صلى الله عليه وسلم [إلى ديارهم] مع أصحابه الثلاثة [وذكر لهم ما جاءهم من أجله] قال: جئت لكي تشاركونا في دفع دية العامريين [فأبدوا ارتياحاً واستعداداً، وأنزلوه مع أصحابه منزلاً حسناً] وذلك [في ظل جدار من بيت أحدهم] حصير على الأرض وظل جدار، نِعم المجلس! [وأظهروا أنهم يسعون في تحقيق طلبه] أي: يتجولون على جيرانهم وإخوانهم ليجمعوا ما يريد [وإذا بهم يتآمرون على قتله] قالوا: الفرصة سانحة هذا هو اليوم المختار [إذ قالوا: إنها فرصة قد لا تتاح لكم، فتخلصوا من الرجل بقتله، وعينوا لذلك عمرو بن جحاش ] اليهودي [فقال: أنا لذلك] مستعد [فقالوا: نطلع على السطح ونلقي عليه رحى من فوق نقتله بها] والرحى: صخرة يطحن بها الحب معروفة.

قال: [وأنكر عليهم سلام بن مشكم عملهم] ما رضي هذا [وقال: لا تفعلوا، لكنهم أجمعوا على أن ينفذوا خطتهم القذرة هذه] المنتنة [وقبل أن يفعلوا بدقائق] وذاك الوقت ما في دقائق بل لحظات [أوحى الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما هموا به] وعزموا [من قتله] إنه الإعلام السريع الخفي! [فقام على الفور] ما إن بلغته المؤامرة حتى قام [كأنه يقضي حاجة] يتبول [ودخل المدينة، ولما استبطأه أصحابه] الثلاثة [قاموا ولحقوا به، فأخبرهم بمؤامرة اليهود، وأن خبر السماء قد سبقهم] قبل أن يطلقوا الرحى [وكأن آية المائدة نزلت في هذه الحادثة، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة:11]] وقتل الرسول قتل لكل مؤمن، أليس كذلك؟ والله لأن يرضى المؤمنون كلهم أن يقتلوا ولا يقتل نبيهم.

قال المؤلف: [ولهذه الحادثة أشباه] ونظائر [وتتلى الآية عند كل واحدة منها تذكيراً بنعمة الله وفضله على المؤمنين ليشكروا الله بالصبر والطاعة].

[وبعث إليهم صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره] ومحمد بن مسلمة هو الذي قتل كعب بن الأشرف [لنقضهم العهد الذي بينهم وبينه، فبعث إليهم المنافقون -وعلى رأسهم ابن أبي كبير المنافقين-] يشجعونهم على البقاء وعدم الجلاء يقولون: اثبتوا فنحن معكم، إن قاتلتم قاتلنا معكم، وإن متم متنا معكم، واصبروا. وهذا المسلك إلى الآن يسلكه المنافقون والكافرون واليهود، وليس هناك تغير أبداً.

[وفي ذلك يقول تعالى من سورة الحشر: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر:11] في عدة آيات إلى قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الحشر:15] وهم بنو قينقاع أهلكهم الله.