مقدمة في الفقه - فقه الإمام الشافعي [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً, سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! كنا نتدارس ترجمة موجزة للفقيه الثالث سيدنا أبي عبد الله الإمام الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وكنا نتدارس الجانب الثالث من الجوانب الأربعة التي نتدارسها في تراجم أئمتنا، تدارسنا ما يتعلق بالأمر الأول في نسبه وجده في طلبه، وما يتعلق بالأمر الثاني في ثناء العلماء عليه ومنزلته، ووقفنا عند الأمر الثالث في فقهه رضي الله عنه وأرضاه، والأمر الرابع نتدارسه بعد هذا الأمر بعون الله وتوفيقه في عبادته لربه سبحانه وتعالى.

إخوتي الكرام! فقه سيدنا الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، وفقه الإمامين المتقدمين سيدنا أبو حنيفة وسيدنا الإمام مالك، وهكذا الإمام الرابع سيدنا الإمام أحمد رضي الله عنهم وأرضاهم، لا نزاع في فقههم رضي الله عنهم وأرضاهم، وطريقة فقههم تقدمت معنا عند الفقيه الأول فقيه الملة سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين، وقلت: إن مصادر الأحكام عندهم هي مصادر الأحكام عند أهل السنة المهتدين: كتاب رب العالمين، وحديث نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وإجماع العلماء المجتهدين، والقياس السوي السديد السليم, هذه الأمور الأربعة هي مصادر الأحكام، وعليها سار أئمة الإسلام، وكما قلت: لن أتكلم على طريقته رضي الله عنه وأرضاه في التفقه وفي مصادر الأحكام، فهذا مرَّ الكلام عليه، إنما سأذكر بعض ما نُقل عنه من فقهه، وبيان منزلته في ذلك رضي الله عنه وأرضاه.

فقهه وفهمه لحديث: (على رسلكما إنها صفية) في مجلس سفيان بن عيينة

الخبر الأول: إخوتي الكرام! لنرى منزلة أئمتنا الفقهاء، وكما قلت: إنهم بمنزلة الأطباء، كما أن المحدثين بمنزلة الصيادلة، وهذا الكلام تقدم معنا أُثر عن عدد من أئمة الإسلام منهم الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: الفقهاء أطباء والمحدثون صيادلة.

استمعوا إلى هذا الخبر الذي ينقله الإمام ابن حجر في كتابه توالي التأسيس صفحة خمس وسبعين، قال: حدث سفيان بن عيينة رحمة الله ورضوانه عليه بحديث أمنا صفية رضي الله عنها وأرضاها عندما كانت في زيارة نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وهو معتكف، فلما خرجت شيعها؛ لأن بيتها كان متأخراً عن بيوت أمهاتنا أزواج نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فلما خرج معها ليوصلها إلى بيتها بعد العشاء مرَّ به عليه صلوات الله وسلامه أنصاريان، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: ( على رِسلكما إنها صفية ).

الحديث ثابت في المسند وفي الصحيحين، وفي سنن أبي داود وابن ماجه ، ورواه الإمام ابن حبان والإمام ابن خزيمة في صحيحيهما، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، انظروه في جامع الأصول في الجزء الأول صفحة أربع وأربعين وثلاثمائة، ولفظ الحديث من رواية علي بن الحسين رضي الله عنهم أجمعين عن أمنا الطيبة المباركة سيدتنا صفية رضي الله عنها وأرضاها، قالت: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت لأنقلب -لتعود إلى بيتها ومنزلها رضي الله عنها وأرضاها- فقام معي ليقلبني ) كما قلت: في ظلام الليل بعد العشاء امرأة تمشى بمفردها، هذا غير مستحسن مع أن المسافة قريبة، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد ، يعني في الدار التي صارت بعد ذلك لسيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنهم وأرضاهم، ( فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي المختار على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أسرعا ) حياء منه يمشي مع أهله من أجل أن يجاوزاه، فأسرعا في المشي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( على رسلكما )، على مهلكما بتؤدة وتأنٍ، ( إنها صفية بنت حيي . فقالا: سبحان الله يا رسول الله! ) يعني نحن نظن فيك حتى تخبرنا أن هذه زوجتك، أنت خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، وما عندنا شك في عصمتك وفي طهارتك، نشك في نفوسنا ولا يقع في قلوبنا شك نحوك، سبحان! نتعجب كيف تخبرنا أنها زوجتك، وهل هذا يحتاج إلى إخبار عليه صلوات الله وسلامه؟! فاستمع لكلام نبينا عليه الصلاة والسلام ولفقه إمامنا في معنى حديث نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ماذا فهم الشافعي من هذا؟ عندما أشكل الأمر على سفيان بن عيينة، ( فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً أو قال شيئاً ).

والاحتياط لابد منه إخوتي الكرام! وكون الشيطان مع كل إنسان، ويجري منه مجرى الدم، هذا تواترت به أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ، وجزء من الحديث في سنن أبي داود من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع إحدى نسائه، فمر به رجل فدعاه وقال: هذه زوجتي )، تكررت الحادثة، هنا مر أنصاريان، وهنا مر به رجل فدعاه فقال: ( هذه زوجتي، فقال هذا الصحابي المبارك: يا رسول الله! من كنت أظن به فلن أظن بك )، يعني لن يقع في بالي خاطر نحوك عليه صلوات الله وسلامه، خاطر سوء، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).

وكما قلت: الأحاديث في ذلك كثيرة، ثبت في المسند أيضاً وسنن الترمذي بسند صحيح من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلجوا على المُغيبات)، جمع مُغيبة وهي من غاب عنها زوجها في سفر أو غزو، فنهى أن يدخل الإنسان عليها ويخلو بها، ( فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم، قالوا: ومنك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! قال: ومني، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم )، وتقدم معنا توجيه الحديث على الضبطين، أسلمَ، أي: استسلم وانقاد لي، وصار مؤمناً من أتباعي، وأسلمُ: أسلمُ من شره وإغوائه؛ لأنه صار من أتباعي واستسلم وانقاد لي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

وقلت: ضُبط بالضبطين، ومن ادعى أن الفتح تحريف لفظي فقد وَهِم، كما زعم ذلك الإمام ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية، قال: ضبطه بالفتح تحريف لفظي خطأ. فقد ثبت ضبطه بالرفع وبالفتح ثابت، أي: أسلم الشيطان، صار من أتباعي، فقول الإمام ابن أبي العز أن معنى الضبط بالفتح، أي: صار من أتباعي وصار من المؤمنين، أن هذا تحريف معنوي والشيطان لا يؤمن، هذا خطأ أيضاً، إنما هو يختار المعنى الثاني لضبط الفتح أسلمَ، أي: استسلم لي وانقاد، وقلت: إن الأمور الثلاثة حقة معتبرة، واجمعوا بينها وقررها أئمتنا البررة، أنا أسلمُ منه لأنه استسلم لي وصار من أتباعي فلا يأمرني إلا بخير، وهذا من خصوصيات نبينا عليه الصلاة والسلام، أن أسلمَ شيطانه وقرينه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

الحديث في الصحيحين، بعد أن رواه الإمام أبا محمد سفيان بن عيينة ، التفت إلى الإمام أبي عبد الله الشافعي رضي الله عنهم أجمعين، وقال: ما فقهه يا أبا عبد الله ؟ ما معنى هذا الحديث؟ وهل وقع في قلب الأنصاريين شيء؟ وهل يمكن أن يقع في قلب فرد من أفراد الأمة خاطر سوء نحو نبينا عليه الصلاة والسلام؟ ما معنى هذا؟ ما فقهه؟ فقال الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: يا أبا محمد ! لو كان القوم اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم لكفروا بذلك، لكفروا باتهامهم إياه، لو وقع في قلبهم خاطر سوء، وخاطر رديء نحو نبينا عليه الصلاة والسلام لكفروا. إذاً ما معنى الحديث؟ استمع لهذا الفقه وهذا التوجيه، ولا يُظن بصحابي، ولا يُظن بمؤمن فضلاً عن الصحابي أن يَظن بالنبي عليه الصلاة والسلام سوءاً وشراً، فما معنى الحديث؟

قال الإمام الشافعي : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤدب من بعده، فقال: إذا كنتم هكذا فافعلوا هكذا، هذا فيما بينكم، أنا أفعل هذا من أجل أن تتعلموا، لا أن هذين سيظنان بي سوءاً أو شراً، فمن خطر بقلبه شيء نحوي سيكفر، لكن انتبهوا يا أمتي! هكذا فافعلوا إذا كنتم هكذا، إذا كان الإنسان مع زوجه في ظلام الليل، ومر به أصحابه فيقول: على رِسلكم تمهلوا هذه زوجتي! وما أمشي مع امرأة في سواد الليل لريبة أو فتنة ومشكلة، لأنه قد يظن به شر؛ لأنه ليس بمعصوم، وأما نبينا المبارك الميمون عليه الصلاة والسلام فلا يمكن أن يظن به أحد من المسلمين سوءاً وشراً.

إذاً: رسول الله صلى الله عليه وسلم أدَّب من بعده، فقال هذا الكلام بقصد التأديب والتعليم: إذا كنتم هكذا فافعلوا هكذا، حتى لا يظن بكم أحد سوءاً، لا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أمين الله على وحيه متهم، لا ثم لا, ما أراد أن يخبر الأنصاريين بأن هذه زوجته، لأنه يمكن أن يُتهم، وأن يحوم حوله تهمة عليه صلوات الله وسلامه، وهذا لا يخطر ببال أحد، إنما هذا الحديث توجيه من نبينا عليه الصلاة والسلام لأمته أن يفعلوا هذا الفعل، لا أنه يمكن أن يظن به أحد من أمته سوءاً أو شراً، ما أجمل هذا التوجيه! وما أسده!

ولذلك قال الأنصاريان: سبحان الله! تعجبوا غاية العجب، من الذي يخطر بباله خاطر سوء نحو النبي عليه الصلاة والسلام؟! هذا لا يدور ببالنا، ولا يقع في خَلَدِنا، ولا في خلد مسلم، فعلامَ تخبرنا؟! والإخبار كما فهم الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، أنه من أجل أن تحتاط الأمة، إذا كنتم هكذا فافعلوا هكذا، حتى لا يَظن أحد بكم سوءاً.

فقال سفيان بن عيينة : جزاك الله خيراً يا أبا عبد الله ! ما يأتينا منك إلا ما نحب. انظر لفقهه ووعيه وحسن استنباطه رضي الله عنه وأرضاه.

كلام الشافعي في مجلس سفيان بن عيينة أن النظر والاستدلال والفقه من اختصاص الفقهاء

وفي صفحة ست وسبعين من توالي التأسيس أيضاً: كان الإمام الشافعي في مجلس سفيان بن عيينة ، وهو شيخه في الحديث عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، فدخل بعض الناس وعرَّض بالإمام الشافعي ، فقال لـأبي محمد سفيان بن عيينة : بعض الناس يقولون كذا وكذا، من الفقه والاستنباط، ولا يتقيدون بالأثر والرواية، على زعم الزاعم وفهم الفاهم، فالإمام سفيان بن عيينة ما تحمل ما قيل له، فقال: من يبلغني عنه هذا فلا يحضر مجلسي، لا أريد أن يحضر مجلسي أحد يبلغني عنه هذا، فالتفت إليه الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، وهو المقصود بالكلام، قال: يا أبا محمد ! هذا ليس إليك، هذا لأهل النظر، فلا تتدخل في هذا، أنت عليك بالأثر، اروِ الأحاديث واذكر طرقها ومخارجها وجزاك الله خيراً، أما الاستنباط والأحكام فما لك ولها، لا تدخل نفسك فيما لست له بأهل.

وحقيقة إذا أراد الإنسان أن يدخل نفسه في صناعة أو في عمل لا يحسنه سيفسد، مهما كان عنده من الذكاء والألمعية في اختصاصه، عندما يتحدث في اختصاص آخر هو بمنزلة العامي، فدع عنك هذا, هذا لأهل النظر ليس لك.

فأطرق سفيان بن عيينة رضي الله عنه وأرضاه، قالوا: فما رئي بعد ذلك إلا معظماً مكرماً للإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.. هذا ليس لك، موضوع الفقه والاستنباط لا تتدخل فيه على الإطلاق، اروِ الأحاديث وجزاك الله خيراً، هذا لأهل النظر، هذا لأهل الفقه، هذا لأهل الاستنباط، هذا للأطباء، لا ينبغي أن يتدخل فيه الصيادلة، ابقَ على رتبتك وجزاك الله خيراً، أنت على ثغرة من ثغرات الإسلام فلا يُؤتى الإسلام من قبلك، لكن لا تذهب لثغرة أخرى، ابقَ على ما أنت عليه.

وسفيان بن عيينة بعد هذا التوجيه من صاحبه وقرينه وتلميذه الإمام الشافعي رضوان الله عليهم أجمعين، كان لا يتكلم في مسألة فقهية بعد ذلك، كان يسأل الإمام الشافعي ، فإذا لم يحضر مجلسه يسأل طلبة الفقه أتباع سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين ليجيبوه عما يُسأل هو عنه، فاستمع لهذه القصة التي يرويها الخطيب في تاريخ بغداد في الجزء السابع صفحة اثنتين وثمانين، وهي في الجواهر المضية في تراجم السادة الحنفية في الجزء الأول صفحة ثلاث وخمسين وأربعمائة، والخطيب أوردها، وهكذا الإمام القرشي في الجواهر في ترجمة بشر بن الوليد الكندي ، وهو من أتباع سيدنا أبي حنيفة لكنه ما أدركه، وُلد في العام الذي توفي فيه سيدنا أبو حنيفة ، يعني في العام الذي وُلد فيه الإمام الشافعي رضوان الله عليهم أجمعين، سنة خمسين ومائة، لكنه تتلمذ على سيدنا أبي يوسف رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين, انظروا ترجمته في السير في الجزء العاشر صفحة ثلاث وسبعين وستمائة، ونعته الذهبي بقوله وقال: هو الإمام العلامة المحدث الصادق قاضي العراق أبو الوليد الكندي الحنفي ، توفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين، فقد عاش إذاً ثمانياً وثمانين سنة. قال: تفقه على أبي يوسف وبه تميز، قال الدارقطني : إنه ثقة. قال الإمام الذهبي : وكان حسَن المذهب، أي: في أمر الاعتقاد وصفاء العقيدة, له هفوة لا تزيل صدقه وخيره إن شاء الله.

وذكر في الميزان ومعه اللسان في الجزء الثاني صفحة خمس وثلاثين أن وِرده كان في اليوم مائتا ركعة، لازمها وما تركها حتى عندما شاخ وفُلج، أي: أصيب بفالج في آخر عمره وهو الشلل، رضي الله عنه وأرضاه، ما ترك مائتي ركعة حتى لقي بربه سبحانه وتعالى، قال الإمام القرشي في الجواهر: هو أحد أعلام المسلمين وأحد المشاهير. أما الهفوة والزلة اليسيرة التي وقعت له يغفر الله لنا وله، فإنه امتُحن في محنة خلق القرآن كما امتُحن الإمام أحمد تماماً، وكل منهما ثبت وقال: القرآن كلام الله، فقالوا له: مخلوق؟ قال: القرآن كلام الله، لا أقول: مخلوق، ولا أضيف إلى هذا شيئاً آخر، القرآن كلام الله, ففي عهد المعتصم فُصل من القضاء، وجعل المعتصم على بيته شرطة حتى لا يخرج، ولا يسأله سائل، حتى جاء المتوكل بعد ذلك وأفرج عنه كما أفرج عن الإمام أحمد رضي الله عنهم أجمعين، وهذا كله يحصل أجره عند الله جل وعلا, وبعد أن أُفرج عنه وانتهت المحنة في عهد الخليفة المتوكل ، قال: إن القرآن كلام الله, لا أقول: إنه مخلوق، الهفوة: ولا أقول: إنه غير مخلوق, قف عند هذا الحد، كلام الله، لا تقل: مخلوق، وهذا حق ينبغي أن تقوله ليس بمخلوق، لكن ولا تقل أيضاً: ليس بمخلوق، وهذه مشكلة، يقول: أقف عند هذه الكلمة، القرآن كلام الله، فإذا كان صفة من صفاته سبحانه وتعالى، فالصفة لها حكم الموصوف، فصفات الله ليست مخلوقة.

على كل حال: هذه هي الهفوة التي أشار إليها الإمام الذهبي ، قال: لا تزيل خيره وصدقه، واجتهد في ذلك والله يغفر لنا وله, إمام مبارك، كان في مجلس سفيان بن عيينة أيضاً، قال: كنا نكون عند سفيان بن عيينة ، فإذا وردت مسألة مُشكِلة التفت وقال: هل هاهنا أحد من أصحاب أبي حنيفة ، فيشير الحاضرون إلي، هذا بشر بن الوليد الكندي من تلاميذ أبي يوسف الكبار، فيقول: ما تقول فيها؟ فأجيب وأفصل الحكم الشرعي فيها، فيقول سفيان بن عيينة -وانظر لإنصافه رضي الله عنه وأرضاه-: التسليم للفقهاء سلامة. هذا في تاريخ بغداد -كما قلت- وفي الجواهر المضيئة في ترجمة هذا العبد الصالح، وأشار إلى القصة الإمام الذهبي في السير في ترجمته في الجزء الذي حددته.

ذكر كلام الشافعي الدال على أخذه بالحديث والأثر

إخوتي الكرام! مما يُؤثر عن الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، وهذا كما سيأتينا أثر عن الأئمة الأربعة، وهو قول كل مسلم موحد، يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: متى رويت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب! لست من العباد العقلاء، إنما العباد المجانين السفهاء، إذا رويت حديثاً عن خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه ثم خالفته، ولم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب، فانتبهوا، ولا أحد يقتدي بي في هذه الحالة؛ لأنني خرجت من زمرة العقلاء.

وهذا الكلام متواتر عن هذا الإمام كما سيأتينا، انظروه في توالي التأسيس في صفحة سبع ومائة، وفي الجزء العاشر في ترجمة الإمام الشافعي من السير صفحة ثمان وسبعين، وفي كتاب الاحتجاج بالإمام الشافعي للخطيب البغدادي صفحة اثنتين وسبعين، ورواه البيهقي في مناقب الإمام الشافعي ، وهكذا الإمام الخطيب في الفقيه والمتفقه أيضاً.

وقال أيضاً: إذا رأيتم قولي يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ودعوا قولي. ومرة روى حديثاً فقال له بعض الحاضرين: أتأخذ به يا أبا عبد الله ؟! فأطرق وبكى عليه رحمة الله، ثم قال: سبحان الله! هل تراني خرجت من كنيسة، أو ترى في وسطي زُنَّاراً. تراني من النصارى حتى أروي حديث النبي عليه الصلاة والسلام ثم لا آخذ به! عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

قال الإمام ابن حجر في سبعة وتسع ومائة من توالي التأسيس: اشتهر عن هذا الإمام أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وهذا قاله قبله الإمامان المباركان، وقاله بعده الإمام الرابع الإمام المبجل أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين، قال الإمام محمد بن عابدين في رد المحتار على الدر المختار في الجزء الأول صفحة ثمان وستين: هذا ثابت عن الفقهاء الأربعة: إذا صح الحديث فهو مذهبي.

أقول أنا وهو قول كل عالم: بل هو قول كل مسلم، إذا صح الحديث فهذا مذهبه وهذه ديانته، ولا يجوز أن يتركه وأن يعرض عنه، فقد أمرنا الله باتباع كلامه وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، بإطاعته وإطاعة رسوله عليه صلوات الله وسلامه، لكن انتبه لهذا الأمر، لكن ذلك لمن كان أهلاً للنظر في النصوص ومعرفة محكمها من منسوخها، هذا لابد منه، إذا صح الحديث فهو مذهبي، فليس معنى هذا إذا اطلعت أنت على حديث تقول: ما قاله الشافعي خطأ، وهذا الحديث هو مذهب الشافعي! يا عبد الله! قف أنت عند حدك، هذا الكلام يوجهه الإمام الشافعي لأهل الاجتهاد وأهل الاستنباط، وقد وضح هذا أئمتنا رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

الإمام تقي الدين السبكي والد صاحب الطبقات له رسالة سماها: معنى قول الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي. والرسالة في قرابة عشرين صفحة موجودة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية مطبوعة في مجلدين في أربعة أجزاء، هذه في المجلد الثاني، وهو الجزء الثالث سيكون من صفحة ثمان وتسعين إلى مائة وأربع عشرة، والإمام محمد بن عابدين صاحب رد المحتار له أيضاً رسالة حول هذا الأمر، تكلم عن هذا الأمر ضمن رسالة شرح رسم المفتي له، ذكر نظماً ما ينبغي أن يمتثله وأن يلتزم به المفتي ثم شرحه، ورسالته موجودة ضمن مجموع رسائل الإمام محمد بن عابدين ، ومطبوعة أيضاً في مجلدين، لكن هذه رسائله ليس معها رسائل أخرى لغيره، كما هو في الرسائل المنيرية التي جمعها محمد منير الدمشقي ، وهي رسائل نفسية جمعها في مجلدين، أما هذه فهي كلها رسائل لـمحمد بن عابدين عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وهي الرسالة الثانية من رسائله، انظروها في الجزء الأول من صفحة عشر إلى صفحة اثنتين وخمسين.

معنى قول الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي

ولأوضح الأمر -إخوتي الكرام- بمثال أنقل لكم كلام شيخ الإسلام الإمام النووي في توضيح كلام أئمتنا الأربعة: إذا صح الحديث فهو مذهبي. ثم أوضحه بمثال أشار إليه الإمام النووي في المجموع في مقدمة المجموع في الجزء الأول صفحة أربع وستين، قال: فصل: صح عن الشافعي رحمه الله أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا قولي. ورُوي عنه: إذا صح الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث واتركوا قولي، أو قال: فهو مذهبي. ورُوي هذا المعنى بألفاظ مختلفة.

قال عليه رحمة الله: هذا الذي قاله الشافعي عليه رحمة الله ورضوانه، ليس معناه أن كل واحد رأى حديثاً صحيحاً قال: هذا مذهب الشافعي وعمل بظاهره، يعني: يعمل بظاهره وينسبه إلى الشافعي ، وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب، على ما تقدم من صفته، أو قريب منه، وشرطه أن يغلب على ظنه أن الشافعي رحمه الله لم يقف على هذا الحديث، أو لم يعلم صحته، وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها، ونحو ذلك من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قلَّ من يتصف به، وإنما اشترطنا ما ذكرنا. يعني أن يطلع على كتب الإمام الشافعي وكتب أصحابه ليعلم أن هذا الحديث ما بلغهم ولا علموه، ومن أجل هذا هو يعمل به وينسبه إلى مذهب الشافعي ، أما إذا بلغهم الحديث وذكروه، وبينوا تأويله أو معناه، أو ما يعارضه، وقدموا غيره عليه، فلا يجوز بعد ذلك أن تأتي وتقول: هذا الحديث هو مذهب الشافعي ، كما سيذكر مثالاً الإمام النووي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وأبين ما يتعلق بهذا المثال، قال: إنما اشترطوا ما ذكرنا لأن الشافعي رحمه الله ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها، لكن قام الدليل عنده على طعن فيها لا تثبت عنده أو نسخها أو تخصيصها أو تأويلها أو نحو ذلك، قال الشيخ أبو عمرو -وهو الإمام ابن الصلاح عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا-: ليس العمل بظاهر ما قاله الشافعي بالهين: إذا صح الحديث فهو مذهبي.

عدم صحة نسبة العمل بحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) إلى الشافعي لمجرد صحة الحديث

إذاً: إذا وجدت حديثاً صحيحاً تعمل به وتنسبه إلى مذهب الشافعي! لا، ليس كل فقيه يسوغ له أن يستقل بالعمل بما يراه حجة من الحديث، وفيمن سلك هذا المسلك من الشافعيين من عمل بحديث تركه الشافعي رحمه الله عمداً، يعني منهم من سلك هذا المسلك إذا بلغه صحة الحديث يعمل به وينسبه إلى الشافعي، مع أن الشافعي تركه عمداً، مع علمه بصحته، لمانع اطلع عليه وخفي على غيره، كـأبي الوليد موسى بن أبي الجارود ممن صحب الشافعي ، وهذا من أصحاب الشافعي وتلاميذه، يقول الحافظ في ترجمته في التقريب: صدوق فقيه صاحب الإمام الشافعي، وهو من أصحابه المكيين، وكان يفتي بمذهبه في مكة، وروى له الإمام الترمذي في السنن، وهو موسى بن أبي الجارود المكي ، وانظروا ترجمته الطيبة في طبقات السادة الشافعية للإمام السبكي في الجزء الثاني صفحة إحدى وستين ومائة قال: إنه فقيه جليل، أقام بمكة يفتي الناس على مذهب الإمام الشافعي .

وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في الجزء العاشر صفحة تسع وثلاثين وثلاثمائة: هو من الفقهاء المكيين بمكة كان يفتي بمذهب الشافعي . استمع لإعماله لهذه القاعدة وهو من أصحابه ومن تلاميذه، وممن له شأن، ومع ذلك الشافعية قاطبة ردوا عليه عندما نسب هذا الحكم الذي استنبطه من الحديث إلى الإمام الشافعي ، وهو: ( أفطر الحاجم والمحجوم )، قال: مذهب الشافعي أن الحاجم والمحجوم يفطران؛ لأن الحديث صح، والشافعي يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي. مع أن الشافعي ذكر الحديث وقال: إنه منسوخ كما سيأتينا، فلا يجوز أن يُعمل به، وإذا لم يُسلم النسخ على أقل الأحوال قال: إنه معارض بما هو أقوى منه، والقياس يقوي الحديث الذي عارضه، وهذا خلاف القياس، فهناك حديث أصح، ويشهد له القياس، فإذا لم يكن تعارض الحديثان، فيُقدم الأقوى الذي يشهد له القياس، وحتى لو لم يشهد له القياس فهو أقوى أيضاً كما سيأتينا.

استمع لكلام الإمام النووي عليه رحمة الله ورضوانه قال: كـأبي الوليد موسى بن أبي الجارود ممن صحب الشافعي ، قال: صح حديث: ( أفطر الحاجم والمحجوم )، فأقول: قال الشافعي : أفطر الحاجم والمحجوم. فردوا ذلك على أبي الوليد -الشافعية قاطبة- لأن الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا تركه مع علمه بصحته، لكونه منسوخاً عنده، وبيَّن الشافعي نسخه واستدل عليه، وستراه في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى من المجموع. انظروا الجزء السادس صفحة واحدة وخمسين وثلاثمائة من المجموع، وأُلخص ما قاله بعد الانتهاء من هذه الأسطر الباقية، قال الإمام النووي:

وقد قدمنا عن إمام الأئمة ابن خزيمة عليه رحمة الله أنه قال: لا أعلم سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتبه. هذه تحتاج إلى تعليق من قِبل بعض المعاصرين، يعلق على الإمام ابن خزيمة والنووي معه، عندما يسمعون مثل هذا الكلام تضيق صدورهم، ولا يفهمون معناه، ثم بعد ذلك يخطئون ويتكلمون.

قال الإمام النووي عليه رحمة الله: وجلالة الإمام ابن خزيمة وإمامته في الحديث والفقه، ومعرفته بنصوص الشافعي بالمحل المعروف. قال الشيخ الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: الفقهاء أطباء والمحدثون صيادلة.

استمعوا إلى هذا الخبر الذي ينقله الإمام ابن حجر في كتابه توالي التأسيس صفحة خمس وسبعين، قال: حدث سفيان بن عيينة رحمة الله ورضوانه عليه بحديث أمنا صفية رضي الله عنها وأرضاها عندما كانت في زيارة نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وهو معتكف، فلما خرجت شيعها؛ لأن بيتها كان متأخراً عن بيوت أمهاتنا أزواج نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فلما خرج معها ليوصلها إلى بيتها بعد العشاء مرَّ به عليه صلوات الله وسلامه أنصاريان، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: ( على رِسلكما إنها صفية ).

الحديث ثابت في المسند وفي الصحيحين، وفي سنن أبي داود وابن ماجه ، ورواه الإمام ابن حبان والإمام ابن خزيمة في صحيحيهما، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، انظروه في جامع الأصول في الجزء الأول صفحة أربع وأربعين وثلاثمائة، ولفظ الحديث من رواية علي بن الحسين رضي الله عنهم أجمعين عن أمنا الطيبة المباركة سيدتنا صفية رضي الله عنها وأرضاها، قالت: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت لأنقلب -لتعود إلى بيتها ومنزلها رضي الله عنها وأرضاها- فقام معي ليقلبني ) كما قلت: في ظلام الليل بعد العشاء امرأة تمشى بمفردها، هذا غير مستحسن مع أن المسافة قريبة، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد ، يعني في الدار التي صارت بعد ذلك لسيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنهم وأرضاهم، ( فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي المختار على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أسرعا ) حياء منه يمشي مع أهله من أجل أن يجاوزاه، فأسرعا في المشي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( على رسلكما )، على مهلكما بتؤدة وتأنٍ، ( إنها صفية بنت حيي . فقالا: سبحان الله يا رسول الله! ) يعني نحن نظن فيك حتى تخبرنا أن هذه زوجتك، أنت خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، وما عندنا شك في عصمتك وفي طهارتك، نشك في نفوسنا ولا يقع في قلوبنا شك نحوك، سبحان! نتعجب كيف تخبرنا أنها زوجتك، وهل هذا يحتاج إلى إخبار عليه صلوات الله وسلامه؟! فاستمع لكلام نبينا عليه الصلاة والسلام ولفقه إمامنا في معنى حديث نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ماذا فهم الشافعي من هذا؟ عندما أشكل الأمر على سفيان بن عيينة، ( فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً أو قال شيئاً ).

والاحتياط لابد منه إخوتي الكرام! وكون الشيطان مع كل إنسان، ويجري منه مجرى الدم، هذا تواترت به أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ، وجزء من الحديث في سنن أبي داود من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع إحدى نسائه، فمر به رجل فدعاه وقال: هذه زوجتي )، تكررت الحادثة، هنا مر أنصاريان، وهنا مر به رجل فدعاه فقال: ( هذه زوجتي، فقال هذا الصحابي المبارك: يا رسول الله! من كنت أظن به فلن أظن بك )، يعني لن يقع في بالي خاطر نحوك عليه صلوات الله وسلامه، خاطر سوء، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).

وكما قلت: الأحاديث في ذلك كثيرة، ثبت في المسند أيضاً وسنن الترمذي بسند صحيح من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلجوا على المُغيبات)، جمع مُغيبة وهي من غاب عنها زوجها في سفر أو غزو، فنهى أن يدخل الإنسان عليها ويخلو بها، ( فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم، قالوا: ومنك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! قال: ومني، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم )، وتقدم معنا توجيه الحديث على الضبطين، أسلمَ، أي: استسلم وانقاد لي، وصار مؤمناً من أتباعي، وأسلمُ: أسلمُ من شره وإغوائه؛ لأنه صار من أتباعي واستسلم وانقاد لي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

وقلت: ضُبط بالضبطين، ومن ادعى أن الفتح تحريف لفظي فقد وَهِم، كما زعم ذلك الإمام ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية، قال: ضبطه بالفتح تحريف لفظي خطأ. فقد ثبت ضبطه بالرفع وبالفتح ثابت، أي: أسلم الشيطان، صار من أتباعي، فقول الإمام ابن أبي العز أن معنى الضبط بالفتح، أي: صار من أتباعي وصار من المؤمنين، أن هذا تحريف معنوي والشيطان لا يؤمن، هذا خطأ أيضاً، إنما هو يختار المعنى الثاني لضبط الفتح أسلمَ، أي: استسلم لي وانقاد، وقلت: إن الأمور الثلاثة حقة معتبرة، واجمعوا بينها وقررها أئمتنا البررة، أنا أسلمُ منه لأنه استسلم لي وصار من أتباعي فلا يأمرني إلا بخير، وهذا من خصوصيات نبينا عليه الصلاة والسلام، أن أسلمَ شيطانه وقرينه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

الحديث في الصحيحين، بعد أن رواه الإمام أبا محمد سفيان بن عيينة ، التفت إلى الإمام أبي عبد الله الشافعي رضي الله عنهم أجمعين، وقال: ما فقهه يا أبا عبد الله ؟ ما معنى هذا الحديث؟ وهل وقع في قلب الأنصاريين شيء؟ وهل يمكن أن يقع في قلب فرد من أفراد الأمة خاطر سوء نحو نبينا عليه الصلاة والسلام؟ ما معنى هذا؟ ما فقهه؟ فقال الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: يا أبا محمد ! لو كان القوم اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم لكفروا بذلك، لكفروا باتهامهم إياه، لو وقع في قلبهم خاطر سوء، وخاطر رديء نحو نبينا عليه الصلاة والسلام لكفروا. إذاً ما معنى الحديث؟ استمع لهذا الفقه وهذا التوجيه، ولا يُظن بصحابي، ولا يُظن بمؤمن فضلاً عن الصحابي أن يَظن بالنبي عليه الصلاة والسلام سوءاً وشراً، فما معنى الحديث؟

قال الإمام الشافعي : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤدب من بعده، فقال: إذا كنتم هكذا فافعلوا هكذا، هذا فيما بينكم، أنا أفعل هذا من أجل أن تتعلموا، لا أن هذين سيظنان بي سوءاً أو شراً، فمن خطر بقلبه شيء نحوي سيكفر، لكن انتبهوا يا أمتي! هكذا فافعلوا إذا كنتم هكذا، إذا كان الإنسان مع زوجه في ظلام الليل، ومر به أصحابه فيقول: على رِسلكم تمهلوا هذه زوجتي! وما أمشي مع امرأة في سواد الليل لريبة أو فتنة ومشكلة، لأنه قد يظن به شر؛ لأنه ليس بمعصوم، وأما نبينا المبارك الميمون عليه الصلاة والسلام فلا يمكن أن يظن به أحد من المسلمين سوءاً وشراً.

إذاً: رسول الله صلى الله عليه وسلم أدَّب من بعده، فقال هذا الكلام بقصد التأديب والتعليم: إذا كنتم هكذا فافعلوا هكذا، حتى لا يظن بكم أحد سوءاً، لا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أمين الله على وحيه متهم، لا ثم لا, ما أراد أن يخبر الأنصاريين بأن هذه زوجته، لأنه يمكن أن يُتهم، وأن يحوم حوله تهمة عليه صلوات الله وسلامه، وهذا لا يخطر ببال أحد، إنما هذا الحديث توجيه من نبينا عليه الصلاة والسلام لأمته أن يفعلوا هذا الفعل، لا أنه يمكن أن يظن به أحد من أمته سوءاً أو شراً، ما أجمل هذا التوجيه! وما أسده!

ولذلك قال الأنصاريان: سبحان الله! تعجبوا غاية العجب، من الذي يخطر بباله خاطر سوء نحو النبي عليه الصلاة والسلام؟! هذا لا يدور ببالنا، ولا يقع في خَلَدِنا، ولا في خلد مسلم، فعلامَ تخبرنا؟! والإخبار كما فهم الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، أنه من أجل أن تحتاط الأمة، إذا كنتم هكذا فافعلوا هكذا، حتى لا يَظن أحد بكم سوءاً.

فقال سفيان بن عيينة : جزاك الله خيراً يا أبا عبد الله ! ما يأتينا منك إلا ما نحب. انظر لفقهه ووعيه وحسن استنباطه رضي الله عنه وأرضاه.

وفي صفحة ست وسبعين من توالي التأسيس أيضاً: كان الإمام الشافعي في مجلس سفيان بن عيينة ، وهو شيخه في الحديث عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، فدخل بعض الناس وعرَّض بالإمام الشافعي ، فقال لـأبي محمد سفيان بن عيينة : بعض الناس يقولون كذا وكذا، من الفقه والاستنباط، ولا يتقيدون بالأثر والرواية، على زعم الزاعم وفهم الفاهم، فالإمام سفيان بن عيينة ما تحمل ما قيل له، فقال: من يبلغني عنه هذا فلا يحضر مجلسي، لا أريد أن يحضر مجلسي أحد يبلغني عنه هذا، فالتفت إليه الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، وهو المقصود بالكلام، قال: يا أبا محمد ! هذا ليس إليك، هذا لأهل النظر، فلا تتدخل في هذا، أنت عليك بالأثر، اروِ الأحاديث واذكر طرقها ومخارجها وجزاك الله خيراً، أما الاستنباط والأحكام فما لك ولها، لا تدخل نفسك فيما لست له بأهل.

وحقيقة إذا أراد الإنسان أن يدخل نفسه في صناعة أو في عمل لا يحسنه سيفسد، مهما كان عنده من الذكاء والألمعية في اختصاصه، عندما يتحدث في اختصاص آخر هو بمنزلة العامي، فدع عنك هذا, هذا لأهل النظر ليس لك.

فأطرق سفيان بن عيينة رضي الله عنه وأرضاه، قالوا: فما رئي بعد ذلك إلا معظماً مكرماً للإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.. هذا ليس لك، موضوع الفقه والاستنباط لا تتدخل فيه على الإطلاق، اروِ الأحاديث وجزاك الله خيراً، هذا لأهل النظر، هذا لأهل الفقه، هذا لأهل الاستنباط، هذا للأطباء، لا ينبغي أن يتدخل فيه الصيادلة، ابقَ على رتبتك وجزاك الله خيراً، أنت على ثغرة من ثغرات الإسلام فلا يُؤتى الإسلام من قبلك، لكن لا تذهب لثغرة أخرى، ابقَ على ما أنت عليه.

وسفيان بن عيينة بعد هذا التوجيه من صاحبه وقرينه وتلميذه الإمام الشافعي رضوان الله عليهم أجمعين، كان لا يتكلم في مسألة فقهية بعد ذلك، كان يسأل الإمام الشافعي ، فإذا لم يحضر مجلسه يسأل طلبة الفقه أتباع سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين ليجيبوه عما يُسأل هو عنه، فاستمع لهذه القصة التي يرويها الخطيب في تاريخ بغداد في الجزء السابع صفحة اثنتين وثمانين، وهي في الجواهر المضية في تراجم السادة الحنفية في الجزء الأول صفحة ثلاث وخمسين وأربعمائة، والخطيب أوردها، وهكذا الإمام القرشي في الجواهر في ترجمة بشر بن الوليد الكندي ، وهو من أتباع سيدنا أبي حنيفة لكنه ما أدركه، وُلد في العام الذي توفي فيه سيدنا أبو حنيفة ، يعني في العام الذي وُلد فيه الإمام الشافعي رضوان الله عليهم أجمعين، سنة خمسين ومائة، لكنه تتلمذ على سيدنا أبي يوسف رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين, انظروا ترجمته في السير في الجزء العاشر صفحة ثلاث وسبعين وستمائة، ونعته الذهبي بقوله وقال: هو الإمام العلامة المحدث الصادق قاضي العراق أبو الوليد الكندي الحنفي ، توفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين، فقد عاش إذاً ثمانياً وثمانين سنة. قال: تفقه على أبي يوسف وبه تميز، قال الدارقطني : إنه ثقة. قال الإمام الذهبي : وكان حسَن المذهب، أي: في أمر الاعتقاد وصفاء العقيدة, له هفوة لا تزيل صدقه وخيره إن شاء الله.

وذكر في الميزان ومعه اللسان في الجزء الثاني صفحة خمس وثلاثين أن وِرده كان في اليوم مائتا ركعة، لازمها وما تركها حتى عندما شاخ وفُلج، أي: أصيب بفالج في آخر عمره وهو الشلل، رضي الله عنه وأرضاه، ما ترك مائتي ركعة حتى لقي بربه سبحانه وتعالى، قال الإمام القرشي في الجواهر: هو أحد أعلام المسلمين وأحد المشاهير. أما الهفوة والزلة اليسيرة التي وقعت له يغفر الله لنا وله، فإنه امتُحن في محنة خلق القرآن كما امتُحن الإمام أحمد تماماً، وكل منهما ثبت وقال: القرآن كلام الله، فقالوا له: مخلوق؟ قال: القرآن كلام الله، لا أقول: مخلوق، ولا أضيف إلى هذا شيئاً آخر، القرآن كلام الله, ففي عهد المعتصم فُصل من القضاء، وجعل المعتصم على بيته شرطة حتى لا يخرج، ولا يسأله سائل، حتى جاء المتوكل بعد ذلك وأفرج عنه كما أفرج عن الإمام أحمد رضي الله عنهم أجمعين، وهذا كله يحصل أجره عند الله جل وعلا, وبعد أن أُفرج عنه وانتهت المحنة في عهد الخليفة المتوكل ، قال: إن القرآن كلام الله, لا أقول: إنه مخلوق، الهفوة: ولا أقول: إنه غير مخلوق, قف عند هذا الحد، كلام الله، لا تقل: مخلوق، وهذا حق ينبغي أن تقوله ليس بمخلوق، لكن ولا تقل أيضاً: ليس بمخلوق، وهذه مشكلة، يقول: أقف عند هذه الكلمة، القرآن كلام الله، فإذا كان صفة من صفاته سبحانه وتعالى، فالصفة لها حكم الموصوف، فصفات الله ليست مخلوقة.

على كل حال: هذه هي الهفوة التي أشار إليها الإمام الذهبي ، قال: لا تزيل خيره وصدقه، واجتهد في ذلك والله يغفر لنا وله, إمام مبارك، كان في مجلس سفيان بن عيينة أيضاً، قال: كنا نكون عند سفيان بن عيينة ، فإذا وردت مسألة مُشكِلة التفت وقال: هل هاهنا أحد من أصحاب أبي حنيفة ، فيشير الحاضرون إلي، هذا بشر بن الوليد الكندي من تلاميذ أبي يوسف الكبار، فيقول: ما تقول فيها؟ فأجيب وأفصل الحكم الشرعي فيها، فيقول سفيان بن عيينة -وانظر لإنصافه رضي الله عنه وأرضاه-: التسليم للفقهاء سلامة. هذا في تاريخ بغداد -كما قلت- وفي الجواهر المضيئة في ترجمة هذا العبد الصالح، وأشار إلى القصة الإمام الذهبي في السير في ترجمته في الجزء الذي حددته.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمة في الفقه - المكفرات من المخالفات [1] 4369 استماع
مقدمة في الفقه - تقوية اليقين بأخبار الصالحين [2] 3674 استماع
مقدمة في الفقه - فضل العلم [2] 3657 استماع
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [2] 3538 استماع
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [1] 3305 استماع
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [1] 3290 استماع
مقدمة في الفقه - لم يتبدل موضوع الفقه 3255 استماع
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [2] 3255 استماع
مقدمة في الفقه - فقه الإمام الشافعي [2] 3185 استماع
مقدمة في الفقه - فقه الإمام أبي حنيفة [3] 3164 استماع