مقدمة في الفقه - المكفرات من المخالفات [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد:

الحالة السادسة، وهي آخر الأحوال عندنا إخوتي الكرام: أن يسلك الإنسان طريق الحيل الماكرة التي يزعم بها أنه يريد تطوير الشريعة المطهرة، لتساير قوانين الكفرة الفجرة بالتأويلات الخارجة، هذا نوع من الكفر وما أكثره في هذه الأيام، هو يقول: أنا لا أريد معصية، وما يفعله هو شر المعاصي، فبدلاً من أن تستورد القوانين الوضعية الوضيعة لتحكم في بلاد المسلمين على أنها قوانين كفرية مستوردة، يقول: لا، دعونا نطور شريعة الله المطهرة، لتحتوي على تلك المواد الكافرة لكن باسم شريعة الله، وأول من فعل هذا هو الشيطان السنهوري ، وما حاوله هو شر الحلول، وأعظم المصائب التي ابتُليت بها الأمة في هذا العصر المرذول.. الكفر نكسوه ثوب الإسلام، فنطور شريعتنا من أجل أن تتناسب مع حياتنا، ومن أجل أن نقترب مع الكفار أعدائنا، فهي أحكام إسلامية دون أن نأخذها مستوردة، نحن نطور شريعة الله جل وعلا. هذا إخوتي الكرام ما أكثره في هذه الأيام!‏

القول بجواز الربا للضرورة وأنه ليس محرماً

استمعوا ماذا يقول السفهاء في هذه الأيام، وهذا كتبه بعض الناس ممن له شأن كبير في السعودية، ومشرف على الأمور المالية هناك، ونُشر مقاله من عدد من السنين، ومشايخ البلاد هناك ردوا على ما عنده من زندقة وإلحاد عندما نشر هذا الكفر بين العباد، ردت عليه هيئة كبار العلماء، حتى بينت أن هذا كلام ضلال وكفر بواح لا يجوز أن ينشر ولا يجوز أن يعتبر.

يقول هذا الشيطان العاتي: لا تتم حياة البشرية إلا بسياسة اقتصادية، ولا يمكن أن يوجد اقتصاد من غير بنوك، ولا بنوك من غير فوائد ربوية، وعليه فالفوائد الربوية يقول: هي ضرورية، ثم قال: لا تظنوا أنها محرمة في الشريعة الإسلامية، فاطمئنوا، هنا الإسلام لا يتعارض مع الواقع، فالفوائد الربوية ليست محرمة، قال: لأن المحرم لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] وهو الربا الفاحش، الذي تأخذ على الريال مائة ريـال أو ألف ريـال هذا هو الربا المحرم، أما أن تأخذ بالمائة خمسة، بالمائة سبعة، بالمائة عشرة، هذه مقابل خدمة، ومقابل تيسير الأمور على الناس، فهذا ليس هو الربا الذي حرمه الله في كتابه، وإن كان يسمى ربا بمعنى الزيادة، لكن هذا ضرورة، وشريعة الإسلام تتسع له، فلا حياة من غير اقتصاد، ولا اقتصاد من غير بنوك، ولا بنوك من غير فوائد، وعليه فالفوائد ضرورية، وأما الربا المحرم فذاك هو الربا الفاحش، الذي قال الله فيه: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]. أضعافاً مضاعفة.

قرأ المكي عبد الله بن كثير والشامي عبد بن عامر ومعه أبو جعفر أحد المدنيين يزيد بن القعقاع ويعقوب أحد البصريين: (ولا تأكلوا الربا أضعافاً مضعَّفة واتقوا الله لعلكم تفلحون).

إخوتي الكرام! الربا إن قل أو كثُر فهو محرم، وقوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، ما هو الجواب على هذا الإشكال الذي أثاره هذا الشيطان وأمثاله في هذه الأيام، أن الربا المحرم هو الربا الفاحش؟

نقول: هذه الآية في نظائرها عندنا في كتاب ربنا ما هو محكم وما هو متشابه، ما يحتمل معنى وما يحتمل عدة معانٍ، عندنا نصوص قطعية في تحريم الربا قل أو كثُر، والنصوص في ذلك متواترة، وهذه الآية تحتمل ما فهمه هذا لعجمة قلبه لا لعجمة لسانه، ولعله جمع العجمتين، لكن معنى الآية ليس كما فهم، فالآية مسوقة لزيادة ذم هذه الصورة التي كان يفعلها العرب في الجاهلية، فكأن الله جل وعلا يقول لهم: الربا في أصله محرم، هو جريمة واعتداء من الإنسان على أخيه واستغلال له سواء قل أو كثر، فكيف إذا كان الربا بهذه الصورة، مطلق الربا حرام فكيف إذا كان بهذه الصورة الذي فيها استغلال تام للإنسان أضعافاً مضاعفة.

وهذا كقول الله جل وعلا: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:33]، وإكراه الإناث الجواري على الزنا محرم سواء أردن التحصن أو لم يردن، لكن الصورة تزداد شناعة وقبحاً عندما تكره الجارية على العهر وهي تريد العفة والطهر، فقد عملت جريمتين، هي طبيعتها تنفر من ذلك فأكرهتها، والله قد حرم هذا وأنت فعلته، فجمعت بين بليتين واعتداءين، مع أنها لو كانت راغبة فلا يجوز أن تسمح لها بمزاولة الزنا الذي حرمه ربنا، فكيف وهي ممتنعة.

إذاً: الصورة سيقت بهذا الوضع لزيادة التقبيح، لبيان ما حصل من رئيس المنافقين في ذلك الحين، على أن جريمته هي أبشع الجرائم، حينما يكره من تريد التحصن من تريد العفة والعفاف والطهر، فهي مسوقة لزيادة ذم لا أنها إذا رضيت فهذا جائز.

وهنا كذلك: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا [آل عمران:130] ثم الصورة التي يفعلونها: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] لزيادة التقبيح والتشنيع الذي كانوا يفعلونه في جاهليتهم.

ولذلك يقول الإمام النسفي في تفسيره في الجزء الأول صفحة إحدى وخمسين ومائتين: في الآية نهي عن الربا مع التوبيخ لما كانوا عليه من تضعيفه. فهو نهي عن الربا مطلقاً، ثم في هذه الصورة (أضعافاً مضاعفة) مع توبيخ لما كانوا عليه من تضعيفه.

هذه صورة -إخوتي الكرام- من صور الكفر الذي نعيشه في هذه الأيام، تطوير شريعة ذي الجلال والإكرام لتناسب أحوال الناس في هذه الأيام، حسب مشابهة الكفار اللئام، نطور شريعة الله المطهرة، فالبنوك لا بد منها للحياة الاقتصادية، وبنوك من غير فوائد ربوية لا يمكن، ولذلك واقع الأمر أن البنوك الربوية انتشرت في جميع البلاد بلا استثناء نسأل الله العافية والسلامة من ذلك.

فهذا من جملة الأمور التي يقولها دعاة الشرور في هذه الأيام، والدعوة إلى ذلك مكفرة، فمن قال بشيء من ذلك فقد كفر، من قال: إن الحياة لا تصلح إلا بالربا فقد كفر، ومن قال: إن الربا لا يحرم إلا إذا كان أضعافاً مضاعفة والقليل منها ليحققوا مصلحة، فقد كفر، فلا بد من وعي هذا الأمر.

تحليل ما حرم الله بزعم أنه يحقق مصالح دنيوية ويوافق روح الشريعة

أيضاً من كلامهم المعسول وهو مرذول مردود، يقولون: شرائع الله جاءت لرعاية المصالح، ولذلك أينما وجدت المصلحة فثم شرع الله، فتراه يأتي بمفاسد ثابتة ويقول: إن مصلحة العباد تتوقف عليها، وهذا يوافق روح الشريعة وإن خالف نصوصاً جزئية، فإن روح الشريعة هو تحقيق مصلحة الناس، نعم، نحن خالفنا نصوصاً جزئية هذا أمر آخر، اختلاط المرأة بالرجل يخالف نصوصاً جزئية لكنه يوافق روح الشريعة الإسلامية، وهي: تنمية الاقتصاد. والناس الآن في حاجة إلى عمل، وإذا أردنا أن يحقق الناس المصلحة فإنه يصعب عليهم الصيام في رمضان، فلا بد من أن يفطروا، وهم في فطرهم يطيعون الرحمن؛ لأن العمل عبادة، ولذلك ظهر بعض الطواغيت يشرب الخمر على شاشة التلفاز في نهار رمضان، ويدعو رعيته للفطر، يقول: لئلا يتأخر في الاقتصاد؛ لأنهم دولة نامية -على تعبيرهم- نامية أو نائمة أو ميتة، العلم عند الله جل وعلا.

هذا التطوير كفر، لكنه يريد أن يطلي عليه ثوب الشريعة المطهرة، وأن هذا الكفر مقدس ومشروع، وهو روح الشريعة.

وقال بعض العتاة ممن يحسبون من الدعاة أيضاً، وهذا قول مكفر بلا شك، يقول: إن تعطيل الحدود الإسلامية في هذه الأوقات، وخروج النساء سافرات، وإن خالف نصوصاً جزئية، فقد وافق روح الشريعة الإسلامية، وهو تحقيق المصلحة، ولو التزمت المرأة بالحجاب فإنها لن تخرج بعد ذلك من أجل العمل. والله أمرنا بالسعي والكدح للحاجة التي نحن فيها، فهذه مصلحة، ومثل ذلك تعطيل الحدود.. وهكذا مصالح نحققها، ثم نحن مع هذا نطيع الله كيف؟ قال: لقد وافقنا روح الشريعة وحافظنا عليها وإن خالفنا نصوصاً جزئية.

إخوتي الكرام! مثل هذه العبارات تسمعونها بكثرة في هذه الأيام: روح الشريعة، والمصلحة، وما شاكل هذا.

إخوتي الكرام! من الذي سيقدر المصلحة أنا أو أنت أو غيرنا من الخلق، أو سيقدرها الإله الحق؟ من الذي يقول هذه مصلحة وهذه مفسدة؟ هذا ينبغي أن يقوله المشرع، ينبغي أن يقوله العليم الحكيم سبحانه وتعالى، أما أنا وأنت وغيرنا فقد نستحسن ما هو ضلال، ولذلك كل أمة تستحسن جاهليتها التي هي عليها وترى أن المصلحة فيها، وما أتى رسول من رسل الله الكرام على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه إلى قوم من الأقوام إلا عارضوه، وأنه خالف مصالحهم، وما هم فيه مصلحة لهم، وهذا جاء ليغير مصالحهم التي ألفوها واعتادوها، فمن الذي سيقول: هذا مصلحة وهذا مفسدة؟ الذي سيقوله العزيز الغفور سبحانه وتعالى، وأما أن تستباح المحرمات ضمن ستار موافقة روح شريعة رب الأرض والسموات، فهذا ضلال مبين.

الشعارات الرديئة التي تكتب في بعض الأماكن في بلاد الشام، فقد كتب على مدرسة لها شأن واعتبار: أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة، وحدة.. حرية.. اشتراكية.. هل بعد هذا الكفر يوجد كفر؟ ما بقي بعد هذا الكفر من كفر، فجاء ضال مُضل من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ومن هؤلاء الذين -كما قلت- يطورون، فقال: ينبغي أن تُكتب آية فوق هذا الشعار من أجل أن يكون هذا الشعار تفسيراً لهذه الآية وإيضاح لها: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].

فكتب هذا، ثم لما تُكلم معه وقيل له: الأمة هنا يراد منها الأمة الإسلامية والملة الإسلامية، وأنت بعد ذلك نريد أمة عربية، -قال هذا بدون حياء من الله جل وعلا- قال: أمة عربية واحدة نعني بها الأمة الإسلامية، ذات رسالة خالدة، قال: هي رسالة الإسلام، وحدة: قال: الإسلام دين الوحدة، حرية: دين الحرية، اشتراكية: قال اقصدوا بها الزكاة، نجيء نقصد ونتلاعب! فهي شعارات لها دلالات معتبرات عند من قالها، نحن سنقصد بالاشتراكية الزكاة، وكما قال الشيطان الثاني الشاعر:

والاشتراكيون أنت إمامهم

سنقصد نحن هذا، فلها مدلول معين، فهذا -إخوتي الكرام- كله من باب تطوير الشريعة لتتسع للضلالات الشنيعة، وهو كفر ومن سلكه فهو كافر.

وكان أئمتنا يقولون: من كان لاعباً فلا يلعبن بدينه، إن أردت أن تعصي الله فاعصه، وما أحد سلم من معصية نسأل الله أن يتوب علينا، لكن اعصِ على أنك عاصٍ لا تعص على أنك مطيع، والله ما طمع بهذا إبليس، أن يعصي الله ويريد أجراً على معصيته، إبليس ما طمع بهذا، فنحن سنفعل المعاصي ثم ندعي أننا مطيعون للحي القيوم، ما بعد هذا الجنون جنون، من كان لاعباً فلا يلعبن بدينه، قف عند حدك، ولا داعي بعد ذلك لتطوير الشريعة لنجعلها تتسق مع الكفر وتتمشى معه، فقفوا عند حدكم.

تحريف شرع الله تعالى بدعوى مسايرة القوانين الوضعية

إخوتي الكرام! حقيقة ابتلينا بصنف في هذه الأيام يحرفون دين الإسلام، وحالهم كحال اليهود اللئام، عليهم لعائن ذي الجلال والإكرام، قال الله في حق اليهود: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75].

والتحريف إخوتي الكرام: تغيير النص لفظاً أو معنى، فهو شامل للأمرين، إما أن يحرفه لفظاً ويغيره ويتلاعب فيه، وإما أن يحرف معناه، ونحن ابتلينا بهذا الصنف الذي يحرف معاني نصوص الشريعة المطهرة لتساير كما قلت الأنظمة الكافرة، أنظمة الفجرة، وفعل هذا من المكفرات، وقد خشي علينا نبينا عليه الصلاة والسلام، وخاف على أمته عليه الصلاة والسلام من هذا الصنف الخبيث أكثر من خوفه وخشيته عليها من الدجال .

ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث في السنن الأربعة إلا سنن النسائي، من رواية سيدنا النواس بن سمعان رضي الله عنه وأرضاه، في حديث الدجال الطويل، وفيه: أن نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه قال: ( غير الدجال أخوفني عليكم من الدجال ) عندما ذكر نبينا عليه الصلاة والسلام الدجال ، وارتاع الصحابة، وظنوا أنه في طائفة من النخل، قال عليه الصلاة والسلام: ( غير الدجال أخوفني عليكم من الدجال ) من؟ ثبت في مسند الإمام أحمد بسند جيد، من رواية سيدنا أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه. قالوا: ( من يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! قال: الأئمة المضلون )، إمام ضلالة، إمام حكم أو إمام دعوة، إمام ضلالة هذا أشد خطراً على الأمة من الدجال ؛ لأنه يفسد فيها باسم الإسلام، ( غير الدجال أخوفني عليكم من الدجال، الأئمة المضلون ).

وهذا الحديث -أعني حديث سيدنا أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه الذي فيه أن نبينا عليه الصلاة والسلام يخشى علينا من الأئمة المضلين أكثر من خشيته علينا هذه الأمة من الدجال - رُوي عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فروي من رواية سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير، ومن رواية سيدنا أبي إمامة رضي الله عنه وأرضاه في معجم الطبراني الكبير، ومن رواية سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه في مسند الإمام أحمد، ومن رواية سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه في مسند أبي يعلى، ومن رواية سيدنا شداد بن أوس وسيدنا ثوبان مولى نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه في مسند الإمام أحمد .

انظروا هذه الروايات في المجمع، في الجزء الخامس صفحة تسع وثلاثين ومائتين، وانظروا رواية النواس بن سمعان -وكما قلت إنها في صحيح مسلم والسنن الأربعة إلا سنن النسائي - في جامع الأصول، في الجزء العاشر صفحة إحدى وأربعين وثلاثمائة: ( غير الدجال أخوفني عليكم من الدجال ، الأئمة المضلون ) يدَّعون أنهم يطورون شرع الحي القيوم ليتمشى مع الكفر الملعون.

ولقد خشي علينا نبينا عليه الصلاة والسلام من كل منافق عليم اللسان، فقد ثبت في صحيح ابن حبان ، انظروا الإحسان في الجزء الأول صفحة ثمان وأربعين ومائة، والحديث رواه البزار والطبراني في معجمه الكبير كما في المجمع، في الجزء الأول صفحة سبع وثمانين ومائة، ورواه البيهقي في شعب الإيمان، من رواية سيدنا عمران بن حصين رضي الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان ).

والحديث كما قلت: رواه البزار والطبراني وغيرهما، لكن بالنسبة لإسناد البزار والطبراني يقول الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح، ورواه ابن حبان وصححه، وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الأول صفحة سبع وعشرين ومائة: رواته محتج بهم في الصحيح، وهذا الحديث رُوي أيضاً عن عدة من الصحابة الكرام، فقد رواه الإمام أحمد في المسند، والإمام البزار وأبو يعلى من رواية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل منافق عليم اللسان )، والحديث رُوي من رواية سيدنا علي وعقبة بن عامر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم أجمعين.

هذه -إخوتي الكرام- الحالة السادسة التي من تلبس بها فقد كفر بشرع الله عز وجل، وهي: أن يطور شريعة الله المطهرة لتتمشى مع أنظمة الكفرة الفجرة، فهذا كفر، ومن فعله فهو كافر مرتد.

استمعوا ماذا يقول السفهاء في هذه الأيام، وهذا كتبه بعض الناس ممن له شأن كبير في السعودية، ومشرف على الأمور المالية هناك، ونُشر مقاله من عدد من السنين، ومشايخ البلاد هناك ردوا على ما عنده من زندقة وإلحاد عندما نشر هذا الكفر بين العباد، ردت عليه هيئة كبار العلماء، حتى بينت أن هذا كلام ضلال وكفر بواح لا يجوز أن ينشر ولا يجوز أن يعتبر.

يقول هذا الشيطان العاتي: لا تتم حياة البشرية إلا بسياسة اقتصادية، ولا يمكن أن يوجد اقتصاد من غير بنوك، ولا بنوك من غير فوائد ربوية، وعليه فالفوائد الربوية يقول: هي ضرورية، ثم قال: لا تظنوا أنها محرمة في الشريعة الإسلامية، فاطمئنوا، هنا الإسلام لا يتعارض مع الواقع، فالفوائد الربوية ليست محرمة، قال: لأن المحرم لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] وهو الربا الفاحش، الذي تأخذ على الريال مائة ريـال أو ألف ريـال هذا هو الربا المحرم، أما أن تأخذ بالمائة خمسة، بالمائة سبعة، بالمائة عشرة، هذه مقابل خدمة، ومقابل تيسير الأمور على الناس، فهذا ليس هو الربا الذي حرمه الله في كتابه، وإن كان يسمى ربا بمعنى الزيادة، لكن هذا ضرورة، وشريعة الإسلام تتسع له، فلا حياة من غير اقتصاد، ولا اقتصاد من غير بنوك، ولا بنوك من غير فوائد، وعليه فالفوائد ضرورية، وأما الربا المحرم فذاك هو الربا الفاحش، الذي قال الله فيه: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]. أضعافاً مضاعفة.

قرأ المكي عبد الله بن كثير والشامي عبد بن عامر ومعه أبو جعفر أحد المدنيين يزيد بن القعقاع ويعقوب أحد البصريين: (ولا تأكلوا الربا أضعافاً مضعَّفة واتقوا الله لعلكم تفلحون).

إخوتي الكرام! الربا إن قل أو كثُر فهو محرم، وقوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، ما هو الجواب على هذا الإشكال الذي أثاره هذا الشيطان وأمثاله في هذه الأيام، أن الربا المحرم هو الربا الفاحش؟

نقول: هذه الآية في نظائرها عندنا في كتاب ربنا ما هو محكم وما هو متشابه، ما يحتمل معنى وما يحتمل عدة معانٍ، عندنا نصوص قطعية في تحريم الربا قل أو كثُر، والنصوص في ذلك متواترة، وهذه الآية تحتمل ما فهمه هذا لعجمة قلبه لا لعجمة لسانه، ولعله جمع العجمتين، لكن معنى الآية ليس كما فهم، فالآية مسوقة لزيادة ذم هذه الصورة التي كان يفعلها العرب في الجاهلية، فكأن الله جل وعلا يقول لهم: الربا في أصله محرم، هو جريمة واعتداء من الإنسان على أخيه واستغلال له سواء قل أو كثر، فكيف إذا كان الربا بهذه الصورة، مطلق الربا حرام فكيف إذا كان بهذه الصورة الذي فيها استغلال تام للإنسان أضعافاً مضاعفة.

وهذا كقول الله جل وعلا: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:33]، وإكراه الإناث الجواري على الزنا محرم سواء أردن التحصن أو لم يردن، لكن الصورة تزداد شناعة وقبحاً عندما تكره الجارية على العهر وهي تريد العفة والطهر، فقد عملت جريمتين، هي طبيعتها تنفر من ذلك فأكرهتها، والله قد حرم هذا وأنت فعلته، فجمعت بين بليتين واعتداءين، مع أنها لو كانت راغبة فلا يجوز أن تسمح لها بمزاولة الزنا الذي حرمه ربنا، فكيف وهي ممتنعة.

إذاً: الصورة سيقت بهذا الوضع لزيادة التقبيح، لبيان ما حصل من رئيس المنافقين في ذلك الحين، على أن جريمته هي أبشع الجرائم، حينما يكره من تريد التحصن من تريد العفة والعفاف والطهر، فهي مسوقة لزيادة ذم لا أنها إذا رضيت فهذا جائز.

وهنا كذلك: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا [آل عمران:130] ثم الصورة التي يفعلونها: أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130] لزيادة التقبيح والتشنيع الذي كانوا يفعلونه في جاهليتهم.

ولذلك يقول الإمام النسفي في تفسيره في الجزء الأول صفحة إحدى وخمسين ومائتين: في الآية نهي عن الربا مع التوبيخ لما كانوا عليه من تضعيفه. فهو نهي عن الربا مطلقاً، ثم في هذه الصورة (أضعافاً مضاعفة) مع توبيخ لما كانوا عليه من تضعيفه.

هذه صورة -إخوتي الكرام- من صور الكفر الذي نعيشه في هذه الأيام، تطوير شريعة ذي الجلال والإكرام لتناسب أحوال الناس في هذه الأيام، حسب مشابهة الكفار اللئام، نطور شريعة الله المطهرة، فالبنوك لا بد منها للحياة الاقتصادية، وبنوك من غير فوائد ربوية لا يمكن، ولذلك واقع الأمر أن البنوك الربوية انتشرت في جميع البلاد بلا استثناء نسأل الله العافية والسلامة من ذلك.

فهذا من جملة الأمور التي يقولها دعاة الشرور في هذه الأيام، والدعوة إلى ذلك مكفرة، فمن قال بشيء من ذلك فقد كفر، من قال: إن الحياة لا تصلح إلا بالربا فقد كفر، ومن قال: إن الربا لا يحرم إلا إذا كان أضعافاً مضاعفة والقليل منها ليحققوا مصلحة، فقد كفر، فلا بد من وعي هذا الأمر.