خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [78]
الحلقة مفرغة
معلوم أن من الأمور الاعتقادية ما يكفر بمخالفته، ومنها ما لا يكفر بمخالفته، وقد تقدم لنا في هذه العقيدة ذكر المسح على الخفين، وهو من الفروع العملية التي لا يكفر المخالف فيها، فقد خالف فيه بعض الصحابة وبعض الأئمة، ولكن استقر قول أهل السنة على القول به، وجاءت مسألة أخرى من الفروع، وهي إهداء الأعمال إلى الأموات أو الأحياء، فهي من المسائل الفرعية، ولا يكفر المخالف فيها وإن ذكرت في العقيدة، وذلك لأنهم:
أولاً: قد تمسكوا بقول الله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39].
وثانياً: لهم واجتهاد اجتهدوه، فلأجل ذلك لم يكفروا بمثل ذلك ولكنهم مخطئون.
إنما كان إهداء الأعمال إلى الأحياء أو الأموات من مسائل العقيدة؛ لأن الخلاف فيه مع المخالفين في العقيدة، ومعلوم أن العقيدة هي الأسماء والصفات، والبعث بعد الموت، واليوم الآخر، والإيمان بالملائكة، والرسل، والكتب المتقدمة، ولا شك أن هذه من الأمور الاعتقادية، ولكن تلحق بها أيضاً أمور عملية، وتعطى حكم العقيدة، وإن لم تكن من العقيدة التي يعقد عليها القلب، بمعنى: أنه يؤمن بها وإن لم ير لها دلالات، وقد يكون إدخال إهداء الأعمال إلى الأموات أو الإحياء في العقيدة من باب أنه أمر غيبي، يعني: أننا لا ندري هل يصل إلى الأموات ثواب هذه الأعمال، أو لا يصل إليهم؟! ولكن لما جاءت شواهد ودلائل تدل على أنه ينتفع الميت بعمل الحي إذا أهداه إليه، قال بذلك أهل السنة، فنراهم يصلون على الأموات، لأن الأموات ينتفعون بصلاتهم عليهم، ونراهم يدعون لهم، فيدعو أحدهم لأبويه ولأمواته، كقول نوح عليه السلام: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ [نوح:28] فقد ذكروا أن والديه كانا مسلمين.
والنهي عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى، يدل على أنهم لو كانوا مسلمين لانتفعوا بهذا الاستغفار، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر موت عمه أبي طالب وطلب منه أن ينطق بالشهادة فلم يفعل، وكان آخر كلامه أن قال: هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل الله مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، ومفهومه: أن لهم أن يستغفروا للمسلمين، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فمنعني) يعني بعموم هذه الآية: (ولو كانوا أولي قربى) فهذا يفيد: أنهم ينتفعون بالاستغفار إذا كانوا مؤمنين، ولا ينتفعون به إذا كانوا مشركين، ومعلوم أن الاستغفار دعاء، فإنه إذا قال: رب اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين، فقد دعا الله لنفسه ولوالديه وللمؤمنين، وهذا الدعاء يفيد وينفع.
وقد اشتهر الاستدلال بعموم الآيات مثل قول الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان [الحشر:10] فنحن نقول: ندعو لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان قديماً وحديثاً، فندعو للصحابة وبيننا وبينهم عدة قرون، وللتابعين وللأئمة وللعلماء في كل قرن وفي كل زمان، فإن هذه دعوة آبائنا وأجدادنا ومن خلفنا وإخواننا وأقاربنا وأصحابنا وأصدقائنا من المؤمنين الذين سبقونا بالإيمان، فلا شك أن ذلك ينفعهم.
ورد في بعض الكتب أن إنساناً رأى بعض الأموات في منامه فأخبره ذلك الميت بأنه يأتيهم من دعاء الأحياء أمثال الجبال من الهدايا، التي هي دعاء وصدقات وأعمال ونحو ذلك، تنور عليهم قبورهم وتزداد بها حسناتهم، وتحط بها سيئاتهم.
والأعمال التي تهدى إليهم كثيرة منها الدعاء، ولا شك في انتفاع المدعو به إذا كان الداعي والمدعو له أهلاً لذلك.
ومنها الصدقة: وقد دل عليها الحديث الذي فيه: (إن أمي افتلتت نفسها ولم تتصدق، وأظنها لو تكلمت تصدقت، ألا أتصدق عنها؟ قال: نعم).
ومنها الحج: وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أذن للخثعمية أن تحج عن أبيها مع أنه حي ولكنه لا يستطيع الثبوت على الراحلة، وسمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة ، فقال: (أحججت عن نفسك؟ قال: لا، فقال: حج عن نفسك ثم حج عن
وكل ذلك يفيد أن الأموات ينتفعون بإهداء أعمال الحي، وقد تقدم لنا التفصيل في ذلك، وعرفنا القول الصحيح والأدلة عليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذهب قوم من المتفلسفة وغالية المتصوفة إلى أن الدعاء لا فائدة فيه! قالوا: لأن المشيئة الإلهية إن اقتضت وجود المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء، وإن لم تقتضه فلا فائدة في الدعاء! وقد يخص بعضهم بذلك خواص العارفين! ويجعل الدعاء علة في مقام الخواص!
وهذا من غلطات بعض الشيوخ، فكما أنه معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام فهو معلوم الفساد بالضرورة العقلية، فإن منفعة الدعاء أمر اتفقت عليه تجارب الأمم، حتى إن الفلاسفة تقول: ضجيج الأصوات في هياكل العبادات، بفنون اللغات، يحلل ما عقدته الأفلاك المؤثرات! وهذا وهم مشركون.
وجواب الشبهة بمنع المقدمتين، فإن قولهم عن المشيئة الإلهية: إما أن تقتضيه أو لا، فثمّ قسم ثالث، وهو: أن تقتضيه بشرط لا تقتضيه مع عدمه، وقد يكون الدعاء من شرطه، كما توجب الثواب مع العمل الصالح ولا توجبه مع عدمه، وكما توجب الشبع والري عند الأكل والشرب، ولا توجبه مع عدمهما، وحصول الولد بالوطء، والزرع بالبذر، فإذا قدر وقوع المدعو به في الدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب، فقول هؤلاء كما هو مخالف للشرع فهو مخالف للحس والفطرة.
ومما ينبغي أن يعلم ما قاله طائفة من العلماء، وهو أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومعنى التوكل والرجاء يتألف من وجوب التوحيد والعقل والشرع.
وبيان ذلك: أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه، ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوق ما يستحق هذا؛ لأنه ليس بمستقل، ولا بد له من شركاء وأضداد، مع هذا كله، فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر.
وقولهم: إن اقتضت المشيئة المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء! قلنا: بل قد تكون إليه حاجة، من تحصيل مصلحة أخرى عاجلة وآجله، ودفع مضرة أخرى عاجلة وآجلة، وكذلك قولهم: وإن لم تقتضه فلا فائدة فيه، قلنا: بل فيه فوائد عظيمة من جلب منافع ودفع مضار، كما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل ما يعجل للعبد من معرفته بربه وإقراره به، وبأنه سميع قريب قدير عليم رحيم، وإقراره بفقره إليه، واضطراره إليه، وما يتبع ذلك من العلوم العلية والأحوال الزكية، التي هي من أعظم المطالب.
فإن قيل: إذا كان عطاء الله معللاً بفعل العبد، كما يعقل من إعطاء المسئول للسائل، كان السائل قد أثر في المسئول حتى أعطاه؟! قلنا: الرب سبحانه هو الذي حرك العبد إلى دعائه، فهذا الخير منه وتمامه عليه، كما قال عمر رضي الله عنه: إني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه، وعلى هذا قوله تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5] فأخبر سبحانه أنه يبتدئ بتدبير الأمر، ثم يصعد إليه الأمر الذي دبره، فالله سبحانه هو الذي يقذف في قلب العبد حركة الدعاء، ويجعلها سبباً للخير الذي يعطيه إياه، كما في العمل والثواب، فهو الذي وفق العبد للتوبة، ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه، فما أثر فيه شيء من المخلوقات، بل هو جعل ما يفعله سبباً لما يفعله، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير أحد أئمة التابعين: نظرت في هذا الأمر، فوجدت مبدأه من الله، وتمامه على الله، ووجدت ملاك ذلك الدعاء].
وهذا يتعلق بالدعاء الذي أمر الله به والذي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم، والذي نهجه علماء الأمة وحثوا عليه ورغبوا فيه، وهو سؤال الله تعالى الحاجات، فعلى العبد أن ينزل حاجاته بربه، وأن يسأله قضاءها، وأن يرغب إليه بأن ييسر كل يسير، وأن يعطيه كل مطلب، وقد تقدمت أدلة تفيد الأمر بالدعاء والحث عليه، مثل قوله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] من هو الذي يجيبه؟ هو الله.
ولما قال الصحابة: (يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه أنزل الله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]) فهذا خبر من ربنا تعالى أنه قريب وأنه يجيب دعوة من دعاه، وكما أمر بذلك في قوله: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الدعاء وأخبر بأنه عبادة في قوله: (الدعاء هو العبادة، وقرأ هذه الآية: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر:60])، وكذلك حث عليه الصلاة والسلام على الإكثار من الدعاء، وروي عنه أنه قال: (إن الله يحب الملحين في الدعاء) والإلحاح: هو تكرار الدعاء والإكثار منه.
وإذا قيل: إن الكثير قد يدعون ولا يرون أثراً للإجابة فأين معنى: (ادعوني أستجب لكم )؟
نقول: ورد في بعض الأحاديث: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أجاب الله دعوته، أو ادخرها له في الآخرة، أو دفع عنه من الشر مثلها) فلا يخلو من ثلاث حالات: إما أن تجاب دعوته عاجلاً ويرى أثرها، وإما أن يدفع عنه شر بسبب هذه الدعوة، كما يدفع بالأعمال الصالحة، وإما أن يدخرها الله له في الآخرة فيثيبه عليها كما يثيبه على الأعمال الصالحة، أي: كما يثيبه على الصلاة والصدقات والزكوات والصيام والحج والجهاد.. ونحوها، فكذلك يثيبه على الدعاء.
ومعلوم أيضاً أن الدعاء وإن أجيب الداعي وأعطي سؤله في الدنيا فإن الله بكرمه يثيبه في الآخرة، بمعنى: أنه يدفع عنه السوء، أو يعظم له الأجر، أو يجزل له الثواب، وسبب ذلك: أن الإنسان الذي يعلم أن ربه هو الذي يقضي الحاجات، وهو الذي يفرج الكربات، وهو الذي يجيب الدعوات، وهو الذي يقضي حاجات عباده، ثم ينزل حاجته بربه، لا شك أنه -والحال هذه- قد عبد ربه فإنك إذا رفعت يديك تدعو الله تعالى ولم يتعلق قلبك بأي مخلوق، أليس ذلك دليلاً على أنك أردت أنه الذي يقضي حاجتك، وأنه الذي يملكها وحده، وأنه هو الذي يفرج الكروب، وأنه علام الغيوب؟ لا شك أن هذه عبادة قلبية، أليس يستحق الداعي ثواباً على ذلك؟
إذاً: فالدعاء يثاب عليه في الدنيا بأن يجيب الله دعوته، وفي الآخرة بأن يعطيه جزاءً على عبادته ومعرفته.
وقد تقدم اعتراض بعض الفلاسفة ونحوهم على الدعاء، وقولهم: إن الدعاء لا فائدة فيه، وقولهم:إذا كان هذا القدر قد قدر الله أنه يأتي، فسوف يأتي دعوت أو لم أدع، وإذا لم يقدره الله فلن يأتي ولو دعوت ثم دعوت، إذاً: فلا موجب للدعاء. هذه شبهتهم.
وبعبارة أخرى إذا قلنا له مثلاً: ادع ربك أن يفرج عنك هذا الكرب، وأن يقضي عنك هذا الدين، وأن يزيل عنك هذا الهم والغم، وأن يوسع عليك في الرزق، وأن يصحك في بدنك، وأن يرزقك ولداً؛ فإنه يقول: إن كان الله قد قدر أنه يرزقني فسوف يرزقني سواء دعوت أم لم أدع، وإذا كان الله لم يكتب لي هذا الرزق فلا فائدة في هذا الدعاء، دعوت أو لم أدع، هكذا يقول أحدهم.
ونقول: هذا ليس بصحيح، وذلك لأننا نقول: إن ربنا سبحانه قد قدر لك هذا الأمر، ولكن جعل له سبباً، وجعل له سبباً وهو الدعاء، فكأنه كتب في الأزل أنك تدعو فترزق، ولو لم تدع لم ترزق، فيكون الدعاء سبباً من أسباب هذا الأمر الذي حصل لك.
ومعلوم أن الأسباب مرتبطة بمسبباتها، وأن الله سبحانه جعل في هذه الدنيا أسباباً وأمر العباد بمباشرتها، وجعل لتلك الأسباب تأثيراً، وإن كان قد قدر ذلك أزلاً، وكتبه في اللوح المحفوظ، وقد ذكر الشارح الأسباب الحسية، والأسباب الحسية لا ينكرها منكر، في ذلك أن الإنسان لو ترك الأكل وهو ينظر إليه ويجده حتى مات اعتبر قاتلاً لنفسه، لأن الله تعالى جعل هذا الأكل سبباً في بقاء الحياة، وقدر أن الإنسان يأكل من هذا الطعام فيعيش، وأمر بذلك في قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31] وكذلك جعل الشراب سبباً في بقاء الحياة، ولو تركه الإنسان وهو قادر على أن يشرب حتى مات ظمأً لعد قاتلاً لنفسه.
وكذلك الأسباب الأخرى يشاهد أنها مؤثرة في مسبباتها، فالنكاح والوطء سبب في حصول الولد، فالله تعالى أمر بذلك بقوله فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]، وذلك لأن النكاح سبب في الولد، فلو أن إنساناً قال: لا أتزوج، وإذا كان الله قد قدر لي أولاداً حصلوا وإن أتزوج، وإن لم يقدر لي أولاداً فلا فائدة في الزواج، نقول: ليس كذلك، فالله إذا قدر لك ولداً فإنه قد جعل سببه في النكاح، فعليك أن هذا السبب حتى يحصل ما قدره، وعليك أن تدعو الله فهو الذي يقدر ذلك.
ولو قال إنسان لا حاجة في أن أبذر هذه الأرض، فإن كان الله قدر أنها تنبت ويكون فيها قمح وزرع فذلك سيحصل، سواء زرعتها وسقيتها وحرثتها أو لم أفعل، وإذا قدر أنها لا تنبت فإنه لا يحصل فيها شيء، فلا فائدة في زرعي لها، فهل هذه المقالة صحيحة؟
لا شك بأنها مقالة باطلة؛ وذلك لأن الله تعالى قد أمر بالسبب الذي هو بذر الأرض وزرعها، وهو الذي إذا شاء جعله مثمراً، قال تعالى أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:63-64]، فأثبت لهم حرثاً ( تحرثون )، وأخبر بأنه هو الذي ينبته ولو شاء لم ينبت، ولهذا قال لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا [الواقعة:65] فهذا بيان أن الأسباب لها فائدة ولو كان ذلك مكتوباً أزلاً.
إذاً الدعاء سبب كما أن النكاح سبب، وكما أن البذر سبب والزرع سبب والغرس سبب، وهذا يبين أن هذه الأسباب تؤثر بإذن الله تعالى، فهناك من يعتمد على الأسباب كلها، وقد تقدم أن الاعتماد على الأسباب يعتبر شركاً، يعني أن الاعتقاد بأن السبب هو المؤثر يعتبر شركاً بالله، أي: أنه جعل لغيره تأثيراً ولم يدعه لتقدير الله، فالله تعالى أخبر بأنه هو الذي يخلق الخلق وهو الذي يرزقهم.
لو قال إنسان: الإنسان هو الذي يخلق ولده؛ لأنه يصبه في الرحم ثم يتكون ولداً، ولم يجعل الله خالقاً؛ كان هذا كفراً بالله الذي هو مسبب الأسباب، فهذا الحكم الأول، والحكم الثاني: الذين يعرضون عن الأسباب وينفونها ولا يلتفتون إلى الأسباب، لا شك أن هذا محو للأسباب وهو نقص في العقل، إذ لا يليق بالعاقل أن يترك العقل فيقول: إذا قدر الله لي أن أعيش فإني سوف أعيش وإن لم آكل.
كذلك أيضاً طلب الرزق، فمن يقول: سينزل علي من السماء طعامي وشرابي وحاجتي، وإن لم أتحرك، فهذا نقص في العقل، وإعراض عن الأسباب، وهو قدح في الشرع.
فالحاصل أن الاعتماد على الأسباب يعتبر شركاً وقدحاً في التوحيد، ومحوها نقص في العقل، ومحو تأثيرها قدح في الشرع، وعلى كل حال فهذا الدعاء قد أمر الله به وحث عليه ورغب فيه، وأخبر بأنه يحب الذين يدعونه، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، ففيه حث على أن الإنسان يدعو الله حتى يحصل على رضاه، وأن بعض السلف كان يقول: سلوا الله حاجاتكم كلها حتى ملح للطعام، وإن كان ذلك يستدعي أن الإنسان يفعل السبب مع عدم اعتماده عليها، ومن جملتها أن يدعو الله تعالى، والدعاء يحصل بخيري الدنيا والآخرة، فيدعو بأمور الدنيا ويدعو بأمور الآخرة، ويعلم أنها بيد الله، وأنه سبحانه هو الذي يعطي عباده ولا تنفذ خزائنه، مهما أنفق ومهما أعطى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمنيه)، وكما في الحديث القدسي يقول: (قال الله تعالى: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)، وأشباه ذلك مما ورد في الأحاديث التي فيها الحث على الدعاء والترغيب فيه، وبيان أهميته وفائدته، وبيان أن قول الذين قالوا إنه لا فائدة فيه، قول باطل، بمقدمتين: المقدمة الأولى قولهم: إذا كان الله قدره فسوف يأتي، نقول: نعم قدره ولكن جعل له سبباً، والمقدمة الثانية قولهم: إذا لم يقدر فلا فائدة في الدعاء، كيف يدعو بشيء قد قدر الله أنه لا يحصل، نقول: بل له فائدة، ولو لم يكن فيه إلا تضرع العبد لربه، وإظهاره الافتقار إليه، والرغبة فيما عنده، لكان ذلك كافياً وإن لم تحصل له طلبته.
والواقع يشهد بفائدة الدعاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل مرة وهو على المنبر أن يدعو الله تعالى بالغيث، رفع يديه وقال: (اللهم أغثنا) مرتين أو ثلاثاً فاستجاب الله دعاءه فنزل المطر في ذلك اليوم، واستمر نزوله أسبوعاً، وفي الجمعة الثانية دعا بقوله: (اللهم حوالينا ولا علينا)، فانفرجت السماء وصارت كالإكليل استجابة لدعوته، فدل على أنه يؤثر بالدعاء، سيما إذا كان مستجاب الدعوة وهو الذي تتم فيه الصفات التي يكون بها أهلاً لأن تجاب دعوته، فيأتي بشروط إجابة الدعوة، فإن للدعاء شروطاً مذكورة في الكتب المطولة، وقد جمع العلماء ما وصلهم أو ما صح عندهم من الأدعية، ففي صحيح البخاري كتاب اسمه: كتاب الدعوات أورد فيه كثيراً من الأدعية المرفوعة، سواءً كانت تتعلق بأمور الدنيا أو بأمور الآخرة، مثل: سؤال الجنة والنجاة من النار، وسؤال الخير ومحو الشر وأشباه ذلك, والتحفظ مثل: الاستعاذة من الشرور ونحوها.
كذلك في صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء جمع فيه أدعية كثيرة، وأفردت الأدعية أيضاً بكتب من أوسعها كتاب الدعاء للبيهقي مطبوع في ثلاثة مجلدات، وإن كانت فيه مقدمة طويلة وفهارس ,لكن فيه أدعية كثيرة، واهتم بذلك العلماء متقدمهم ومتأخرهم، وكل أفرد ما يسر الله أن يطلع عليه وما عَنّ له من الأدعية، ولا شك أن ذلك دليل على إجابة الدعاء.
قال المؤلف رحمه الله: [وهنا سؤال معروف، وهو: أن من الناس من قد يسأل الله فلا يعطى شيئاً، أو يعطى غير ما سأل؟ وقد أجيب عنه بأجوبة، فيها ثلاثة أجوبة محققة:
أحدها: أن الآية لم تتضمن عطية السؤال مطلقاً، وإنما تضمنت إجابة الداعي، والداعي أعم من السائل، وإجابة الداعي أعم من إعطاء السائل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له).
ففرق بين الداعي والسائل، وبين الإجابة والإعطاء، وهو فرق بين العموم والخصوص، كما أتبع ذلك بالمستغفر وهو نوع من السائل، فذكر العام ثم الخاص ثم الأخص، وإذا علم العباد أنه قريب يجيب دعوة الداعي علموا قربه منهم وتمكنهم من سؤاله، وعلموا علمه ورحمته وقدرته، فدعوه دعاء العبادة في حال، ودعاء المسألة في حال، وجمعوا بينهما في حال، إذ الدعاء اسم يجمع العبادة والاستعانة، وقد فسر قوله وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم [غافر:60] بالدعاء الذي هو العبادة، والدعاء الذي هو الطلب، وقوله بعد ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر:60] يؤكد المعنى الأول.
الجواب الثاني: أن إجابة دعاء السؤال أعم من إعطاء عين السؤال، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، أو يدخر له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها، قالوا: يا رسول الله إذاً نكثر، قال: الله أكثر)، وقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا بد في الدعوة الخالية من العدوان من عطاء السؤال معجلاً، أو مثله من الخير مؤجلاً، أو يصرف عنه من السوء مثله.
الجواب الثالث: أن الدعاء سبب مقتض لنيل المطلوب، والسبب له شروط وموانع، فإذا حصلت شروطه وانتفت موانعه حصل المطلوب، وإلا فلا يحصل ذلك المطلوب، بل قد يحصل غيره، وهكذا سائر الكلمات الطيبات من الأذكار المأثورة، المعلق عليها جلب منافع أو دفع مضار، فإن الكلمات بمنزلة الآلة في يد الفاعل، تختلف باختلاف قوته وما يعينها، وقد يعارضها مانع من الموانع، ونصوص الوعد والوعيد المتعارضة في الظاهر من هذا الباب، وكثيراً ما تجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم، ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله، أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكر الحسنة، أو صادف وقت إجابة ونحو ذلك فأجيبت دعوته، فيظن أن السر في ذلك الدعاء، فيأخذه مجرداً عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي.
وهذا كما إذا استعمل رجل دواءً نافعاً في الوقت الذي ينبغي، فانتفع به، فظن آخر أن استعمال هذا الدواء بمجرده كافٍ في حصول المطلوب، وكان غالطاً، وكذا قد يدعو باضطرار عند القبر فيجاب فيظن أن السر للقبر، ولم يدر أن السر للاضطرار وصدق اللجوء إلى الله تعالى، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله تعالى كان أفضل وأحب إلى الله تعالى.
فالأدعية والتعوذات والرقى بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحاً تاماً، والساعد ساعداً قوياً، والمحل قابلاً، والمانع مفقوداً، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير، فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثم مانع من الإجابة لم يحصل الأثر.]
هذه الأجوبة قد تقدمت الإشارة إلى بعضها، والسؤال هو: أن بعض الناس يدعو ويكرر الدعاء، ومع ذلك لا يستجاب دعاؤه، والله تعالى يقول ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم [غافر:60].؟!
وقد يقال: لماذا لا يستجيب وقد وعد بالإجابة؟ وكذلك قوله: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، فكيف لم تحصل الإجابة؟
ومن هذه الأجوبة التي ذكرها الشارح:
القول بأن الإجابة أعم من الإعطاء، حيث إن الله: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] وقال: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ [البقرة:186]، ولم يقل: أعطيه مطلبه، ولا أعطيه ما سأل، فالإجابة يدخل فيها الثواب، ويدخل فيها التلبية لطلبه أو نحو ذلك، أو السماع، أي أنه سمع دعوته سماع قبول وقبل دعوته، فيكون هناك فرق بين إعطائه سؤله وبين إجابة الدعوة، فالله ذكر إجابة الدعوة ولم يذكر إعطاء المسئول، فلا يكون هناك اعتراض على الآية.
وسمعنا الاستشهاد بحديث النزول الذي يقول الله فيه: (من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟)، ويظهر هنا الفرق بين السؤال والدعاء، ففي السؤال قال: أعطيه، أما في الدعاء فقال: أجيبه، والآية ليس فيها إلا الدعاء: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم [غافر:60]، فإذا أجابه بأن سمع دعاءه أو بأن قبل دعاءه صدق عليه أنه أجابه، فيقال: أنت ممن قبل الله دعاءك وإن لم يعطك سؤلك.
أما الجواب الثاني ففيه: أن الداعي لا يسلم من إحدى ثلاث:
الحالة الأولى: أن يعطى سؤله في الدنيا.
الحالة الثانية: أن يدخر له في الآخرة.
الثالثة: أن يصرف عنه من الشر مثله.
فهو رابح بكل حال.
أما الجواب الثالث فهو: أن الدعاء قد يتخلف سبب الإجابة فيه؛ وذلك لأن الإجابة لها أسباب وموانع، فمثلاً: كون الإنسان مؤمناً صحيح الاعتقاد هذا يعتبر سبباً من أسباب الإجابة، وكذلك الإلحاح في الدعاء، واستحضار القلب، واجتماع القلب واللسان على الدعاء، وكذلك الاضطرار، بأن يقع المرء في شدة وضرورة فيلجأ إلى ربه صادقاً في دعائه أن يرزقه وأن يستره وأن ينصره، ومن ذلك أن يستعمل المرء أدعية مأثورة، وكذلك تحري أوقات الإجابة وأماكن الإجابة، فإذا اجتمعت فيه الأسباب أعطي سؤله.
فلو حصل ذلك لرجل فسمع به رجل آخر وقال: فلان أعطي سؤاله لما دعا بقوله مثلاً: اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له، أو لما قال: اللهم ارزقني رزقاً حسناً ويسر لي اليسرى وجنبني العسرى، وأنا دعوت ولكن لم يستجب لي، فأنا لا أزال في شدة، ولا أزال في جهد.
نقول: تخلف فيك سبب من أسباب الإجابة، فلو اجتمعت الأسباب فيك لاستجيب دعاؤك، ولكن العلة أنه تخلف سبب أو وجد مانع، فمثلاً: قد يكون التقصير في شيء من الأعمال مانعاً من الإجابة، وارتكاب شيء من السيئات والمخالفات يكون مانعاً من الإجابة.
ثم ما مثل به الشارح رحمه الله بقوله: قد يوجد مثلاً من إنسان دعاء عند قبر ولكنه دعا وهو مضطر، ودعا وهو صادق الرغبة فظن أن إجابته بسبب ذلك القبر، فسمعه الآخرون فقالوا: هذا القبر تستجاب عنده الدعوة، وهذا القبر يجيب من دعاه، وليس كذلك في الحقيقة، بل الأمر إنما حصل إما مصادفة، وإما بأمر سماوي، وإما بحاجة حصلت له، فالحاصل أن الإنسان عليه أن ينظر ويأتي بالأسباب التي تكون مؤثرة ومفيدة في إجابة الدعاء.
نحمد الله على ما أولى من النعم، ودفع من النقم، نحمد الله على طول الأعمار والتردد في الآثار، نحمد الله على ظهور فضله ونسأله سبحانه الإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [87] | 2712 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [60] | 2629 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [1] | 2589 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [79] | 2560 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [93] | 2471 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [77] | 2407 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [53] | 2385 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [99] | 2372 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [71] | 2335 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2299 استماع |