شرح العقيدة الطحاوية [66]


الحلقة مفرغة

من أركان الإيمان الإيمان باليوم الآخر، وهو البعث بعد الموت، وما يكون في يوم القيامة من الأهوال والحساب والجزاء على الأعمال، والعرض والمناقشة، ونصب الموازين، وتفريق الدواوين، وأخذ الصحف والكتب بالأيمان أو بالشمائل، ونصب الصراط على متن جهنم، والورود على نار جهنم، والوقوف في ذلك اليوم الطويل، والشفاعة التي ثبتت للأنبياء وللرسل ولنبينا صلى الله عليه وسلم، وما بعد ذلك.. إلى أن يستقر أهل الجنة في دار النعيم، وأهل النار في الجحيم، ويبقى في النار من حكم عليه بالخلود، ويدخل الجنة من حكم له بالخلود، وتفاصيل ذلك مذكورة في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وأهل السنة يؤمنون بذلك على ما جاء في النصوص، ويصدقون بتلك النصوص، ويعتقدون أنها حق وصدق؛ لأنها كلام الله، وكلام أعرف الخلق بالله، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، ويحملون ذلك كله على أنه حقيقة لا لبس فيه ولا تأويل، ولا نفي لشيء مما دلت عليه تلك النصوص، ويردون على من أنكر البعث الجسماني كالفلاسفة، وعلى من أنكر النعيم والعذاب في الآخرة كالباطنية، فهم ينكرون عليهم ويعتقدون أن كفرهم أشد من كفر اليهود والنصارى، ولو تسموا بأنهم من أهل الإسلام.

من آمن بتفاصيل يوم القيامة وما يكون في ذلك اليوم؛ فإنه بلا شك يستعد لذلك اللقاء، ويظهر عليه أثره في أعماله، وفي سيرته وفي نهجه، وكلما كان الإنسان أشد يقيناً وأشد إيماناً كان أشد استعداداً وتأهباً، وهكذا كانت حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم، فإيمانهم يحملهم على أن يستعدوا للموت، ويستعدوا للجزاء، ويستعدوا للقاء ربهم، ويعملوا العمل الصالح الذي ينجون به، ويكونون به من أهل السعادة ومن أهل الفلاح، حتى لو قيل لأحدهم: إنك تموت في هذا اليوم، لم يكن هناك عمل يزداد به في ذلك اليوم؛ لأنه لم يضيع لحظة من لحظاته في غير طاعة.

علم المؤمن بأن الموت لابد وأن ينزل، وأنه قد يأتي فجأة على غير موعد، وعلم أن بعد الموت حساباً، وعذاباً أو ثواباً، وعلم أن بعد الموت بعثاً ونشوراً وجنة أو ناراً، فصارت كل دقيقة تمر عليه يشغلها في طاعة الله، هكذا كان أولياء الله المتقون.

أما المفرطون الذين يقولون: آمنا، ولكن يقولونه باللسان، وقلوبهم كأنها غير مصدقة؛ فإنهم لا يستعدون، فهؤلاء إيمانهم ضعيف، ألسنتهم تصف، وقلوبهم تعرف، وأعمالهم تخالف، ذلك بأن إيمانهم وتصديقهم لم يكن عن يقين أو كان عن تردد، أو كان يقينهم قد أتاه ما يضعفه من الشهوات، وزينة الدنيا، والركون إليها، ومحبة التوسع في الملذات، وعدم استحضار الموت، وعدم استحضار ما بعد الموت، فكان ذلك حاملاً على كثرة الغفلة، والانهماك في لذة الدنيا، وعدم التفكر في عاقبة هذه الملذات والشهوات، وعدم التفريق بين الحلال منها والحرام، فحصل ما حصل منهم من التفريط، فجاءهم أمر الله بغتة وهم لا يشعرون، فندموا حين لا ينفع الندم، ويقول أحدهم: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ [الزمر:56].

فعلينا أن نتفقد أنفسنا ونتفقد إخواننا، فإذا رأينا الذي شغل وقته كله بأعمال الآخرة، قلنا: هذا صادق الإيمان بالآخرة، هذا مؤمن حقاً، هذا ممن استعد للقاء ربه، وإذا رأيناه ضعيف الإيمان، ضعيف الأعمال، قليل الاهتمام، قلنا: هذا قليل الاهتمام، هذا ضعيف الإيمان بالآخرة، ولو كان إيمانه قوياً لما فرط في أيامه، ولما تناسى لقاء ربه، فنثبت الأول ونحثه على الاستعداد والزيادة؛ ونحذر الثاني ونخوفه من أن يفجأه الأجل وهو على هذا التفريط والإهمال، وبذلك نكون جميعاً من المؤمنين بالدار الآخرة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

[قوله: (والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر مقدران على العباد).

أما قوله: (إن الجنة والنار مخلوقتان) اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل على ذلك أهل السنة، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية فأنكرت، وقالت: بل ينشئهما الله يوم القيامة، وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله، وأنه ينبغي أن يفعل كذا.. ولا ينبغي له أن يفعل كذا، وقاسوه على خلقه في أفعالهم، فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجهم فيهم، وصاروا مع ذلك معطلة، وقالوا: خلق الجنة قبل الجزاء عبث؛ لأنها تصير معطلة مدداً متطاولة، فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى، وحرفوا النصوص عن مواضعها، وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم.

فمن نصوص الكتاب قوله تعالى عن الجنة: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [الحديد:21]، وعن النار قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، وقوله تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلْطَّاغِينَ مَآباً [النبأ:21-22]، وقال تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13-15]، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، ورأى عندها جنة المأوى كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء، وفي آخره: (ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنادب اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك).

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)، وتقدم حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وفيه: (ينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها)، وتقدم حديث أنس بمعنى حديث البراء رضي الله عنه].

معنى الجنة

يصدر الناس بعد الموقف يوم القيامة إلى دار الجزاء، وجزاء المحسنين جنات النعيم، وجزاء الكافرين نار الجحيم، والجنة في الأصل هي: البستان الذي يجمع الخضرة والزهور والأنهار والثمار والظلال والأشجار والنضرة والبهجة والسرور؛ فهذا يسمى في الأصل جنة؛ لأنه يجن من بداخله ويستره، ومنه قول الله تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [القلم:17] يعني: أصحاب البستان، ومنه قوله تعالى: وَجَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ [الكهف:32] أي: بستانين من أعناب، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا [الكهف:32-33].

فالجنة في الدنيا: هي البساتين التي تبهج وتفرح من دخلها، وسميت دار النعيم بهذا الاسم؛ لأن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فقد ذكر الله ما في الجنان مثل قوله تعالى: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:52] فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50] فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68] وقوله تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [محمد:15]، وكما في قوله تعالى: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً [البقرة:25]، وكما في قوله تعالى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً [النساء:57]، وقوله: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ [الزخرف:71]، وكذلك قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17].

وغير ذلك من الآيات الدالة دلالة واضحة على أن هذه الجنة مشتملة على ما يجلب السرور والحبور، وأن فيها الجزاء الأوفى، وأن فيها النعيم الذي ما بعده نعيم، وأن أهلها يغتبطون بمقامهم فيها، ويقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34]، وكذلك يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74].

أسماء النار وصفتها

الجحيم هي نار تلظى، نار موقدة، نار حامية، ذكر الله لها عدة أسماء، وذكر أنها لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر:44].

وأخذ العلماء لها سبعة أسماء من الآيات: لظى، والحطمة، وجهنم، والجحيم، وسقر، والسعير، والهاوية؛ وكلها موجودة في القرآن، وكلها دالة على شدة الحرارة.

وقد أخبر الله تعالى بشدة العذاب فيها، وأنهم كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها، وقال: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء:97]، كلما خبت النار وانطفأت زِيد في حرها، وقال: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، وقال: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ [الهمزة:7-8] يعني: مطبقة، وغير ذلك من أنواع العذاب الذي ذكره الله.

ولا شك أنه عندما يذكر الله الجنة يشوق إليها، وكأنه يقول: أيها المؤمنون بالجنة المصدقون بها! اطلبوها بالأعمال الصالحة، فهذا نعيمها وهذه صفتها، وأيها المؤمنون بالنار والمصدقون بها! احذروها وابتعدوا عنها، فهذه حرارتها، وهذا عذابها، وأيها المفرطون! وأيها الكافرون! هذا عذابكم أفلا تتبون؟ أفلا تندمون وتبتعدون عن الأعمال السيئة التي تجعلكم من أهل ذلك العذاب؟ وهكذا ذكر الله هذا العذاب وهذا الثواب، وسمى دار الكفار بالنار.

والنار في الأصل هي هذه النار التي نوقدها في الدنيا، والتي ننتفع بها، قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ [الواقعة:71] يعني: تقدحونها حتى تشتعل وتتقد، أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً [الواقعة:72-73] تذكرة بالنار الأخرى، وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ [الواقعة:73]، وقد سمى ذلك العذاب ناراً؛ لأن فيه ناراً تشتعل وتتقد، وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].

ولا شك أن الله ذكر الجنة وذكر النار كثيراً في القرآن؛ لأجل أن يرغب الله في دار الثواب، ويحذر من دار العقاب.

اعتقاد أهل السنة أن الجنة والنار موجودتان الآن

من عقيدة أهل السنة أن الجنة والنار موجودتان الآن، وإن كنا لا نعلم جهتها ولا مكانها، فإن علمنا قاصر، ما نحيط إلا بالأرض وبما على الأرض، ولكن الجهات كثيرة لا يعلمها إلا الله، ففي يوم القيامة يجاء بجهنم، قال الله تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر:23]، وذكر في الحديث: (تجيء الملائكة بجهنم، ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)، أولئك الملائكة قد يكون أحدهم قادراً على قلع الجبال وجرها بإذن الله، ومع ذلك هذا عددهم، فما مقدارها؟!

فإخبار الله تعالى بأنه يجاء بها في يوم القيامة، دليل على أنها موجودة.

وكذلك الجنة موجودة أيضاً، وتبرز يوم القيامة، يقول الله تعالى: وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء:90-91]، فأزلفت؛ معناه: قربت وأظهرت، ولا شك أن هذا دليل على أنها موجودة وأنها تبرز، ويقال: هذه الجنة دار المتقين.

وأظهرت النار لأهلها، وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء:91]، ولا شك أن إبرازها دليل على أنها موجودة الآن، وكذلك الآيات التي سمعنا، مثل قول الله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] أي: هيئت فهي معدة لهم، وقال في النار: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، أي: هيئت لهم، وهذا دليل على أنها موجودة، وأنها قد أعدت لأهلها.

وكذلك قوله في الجنة في سورة النجم: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:14-15] دليل على أن الجنة فوق السماء السابعة حيث يشاء الله، فهي موجودة الآن، وذكر الله سعتها في قوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، فهذه صفتها، ومعنى (أعدت) أي: هيئت لهم.

وتقدمت الأحاديث التي فيها أن الجنة موجودة، وأنه يقال للعبد في قبره: (افتحوا له باباً إلى الجنة، فيأته من روحها وريحانها؛ فيقول: رب! أقم الساعة، ويقال للكافر: افتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها؛ فيقول: رب! لا تقم الساعة)، وهذا دليل أيضاً على أنها موجودة، وأنه يفتح له باب إليها، ويقال: هذا مقعدك من الجنة، هذا مقعدك من النار، وهذه الأدلة واضحة.

إنكار المعتزلة لوجود الجنة والنار قبل يوم القيامة

ذكر المؤلف أن قوماً من المعتزلة أنكروا وجود الجنة والنار الآن، وقالوا: لا حاجة إلى وجودها الآن مادام أنه ليس فيها أحد، فتبقى مغلقة الأبواب، وتحتاج إلى من يسقي شجرها هذه المدة الطويلة قبل أن يأتي إليها أهلها، فجعلوا أفكارهم متحكمة في أمر الله، فقالوا: الجنة والنار غير موجودتين، وزعموا أنها إنما تنشأ يوم القيامة عندما يبعث الله الخلق.

ولكن الصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الجنة موجودة الآن، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك النار موجودة، وقد عرضت عليه الجنة والنار في صلاة الكسوف، فلما عرضت الجنة تقدم، ولما عرضت عليه النار تقهقر وتأخر، وكل ذلك دليل على أنه رآها، وأنها موجودة الآن.

ولا يلزم ما يقوله أولئك المعتزلة: من أنها معطلة، وأنه لا حاجة إلى وجودها على أصلهم الفاسد الذي أصلوه: وهو أنهم يتحكمون في أمر الله، ويفرضون على الله ما يريدونه، فيقولون: يجب على الله أن يفعل كذا.. وألا يفعل كذا.. فكأنهم هم الذين يوجبون بعقولهم ما يشاءون.

فهذه عقيدة أهل السنة، ولا يضر خلاف من خالفها.

أدلة وجود الجنة والنار

قال رحمه الله: [وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خسفت الشمس في حياة رسول صلى الله عليه وسلم.. فذكرت الحديث، وفيه: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به حتى لقد رأيتني آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني أقدم، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت).

وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (انخسفت الشمس على عهد رسول صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، وفيه: فقالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولت شيئاً في مقامك، ثم رأيناك تكعكعت، فقال: إني رأيت الجنة فتناولت عنقوداً، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أرَ منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء، فقالوا: بمَ يا رسول؟ قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت خيراً قط).

وفي صحيح مسلم من حديث أنس : (وايم الذي نفسي بيده! لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً وبكيتم كثراً، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار)، وفي الموطأ والسنن من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه: (إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة)، وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة.

وفي صحيح مسلم والسنن والمسند -من حديث أبي هريرة رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزتك! لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بالجنة فحفت بالمكاره، فقال: ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها ثم رجع فقال: وعزتك! لقد خشيت ألا يدخلها أحد، قال: ثم أرسله إلى النار، قال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها، فإذا هي يركب بعضها بعضاً، ثم رجع فقال: وعزتك! لا يدخلها أحد سمع بها، فأمر بها فحفت بالشهوات، ثم قال: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها فذهب فنظر إليها، فرجع فقال: وعزتك! لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها)، ونظائر ذلك في السنة كثيرة].

هذه الأحاديث صريحة في وجود الجنة وفي وجود النار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كما في أحاديث كثيرة، ففي صلاة الكسوف ذكر أنه عرضت عليه الجنة، وأنه تناول منها عنقوداً لو أخذه لأكلوا منه ما بقيت الدنيا؛ وذلك لأن نعيم الجنة لا ينفد، وعرضت عليه النار فتكعكع: يعني: تقهقهر وتأخر، وذكر أنه رأى فيها فلاناً وفلاناً، وسمى من رأى فيها، فرأى فيها عمرو بن لحي ، وكان أول من غير دين إبراهيم، ورأى فيها سارق الحاج الذي كان يسرق المتاع بمحجنه، ورأى فيها المرأة التي تعذب بهرة ربطتها حتى ماتت جوعاً.

وفي هذا الحديث يقول: (رأيت أكثر أهلها النساء..)؛ بسبب أنهن يكفرن الإحسان، فإذا أحسن الزوج إلى المرأة -غالباً، وليس دائماً- ثم رأت منه شيئاً يخالف ما تشتهيه أنكرت إحسانه، فيكون ذلك سبباً في عذابها.

وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة، أي أن الله جعل أرواحهم في أجواف طير خضر تدخل الجنة، وتأكل من شجرها حتى يردها الله إلى أجسادها، وأخبر الله تعالى: أن أرواحاً من الكفار كآل فرعون تعرض على النار، قال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً [غافر:46]، فدل على أن النار موجودة، وأنهم يعرضون عليها في الصباح وفي المساء.

فكل هذه الأدلة واضحة الدلالة على أن الجنة والنار موجودتان الآن، ولا يلزم ما تقوله المعتزلة من أنها تبقى معطلة سنين طويلة، بل إنها تعتبر تذكرة، وتعتبر ظاهرة لمن أطلعه الله عليها، وقد ذكر ابن عمر : (أنه رأى رؤيا، وهي: أن رجلين أتيا به النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، يقول: فرأيت فيها رجالاً أعرفهم، فقيل: لن تراع..).

وكذلك: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة الطويل أنه دخل الجنة في المنام مع رجلين هما ملكان، وأنه رأى فيها كذا.. وكذا..، ولا شك أن هذا كله دليل على أنها موجودة، وأنها مهيأة معدة لأهلها، وأن من مات وصل إليه ألمه إن كان من أهل العذاب، ونعيمه إن كان من أهل الثواب.

الرد على شبهة من ينكر وجود الجنة الآن حتى لا يلزم موت أهلها يوم القيامة

قال المؤلف رحمه الله: [وأما على قول من قال: إن الجنة الموعود بها هي الجنة التي كان فيها آدم ثم أخرج منها، فالقول بوجودها الآن ظاهر، والخلاف في ذلك معروف.

وأما شبهة من قال: إنها لم تخلق بعد: وهي أنها لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضطراراً أن تفنى يوم القيامة، وأن يهلك كل من فيها ويموت؛ لقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]، وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، وقد روى الترمذي في جامعه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، وقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)، قال: هذا حديث حسن غريب.

وفيه أيضاً من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) قال: هذا حديث حسن صحيح.

قالوا: فلو كانت مخلوقة مفروغاً منها لم تكن قيعاناً، ولم يكن لهذا الغراس معنى، قالوا: وكذا قوله تعالى عن امرأة فرعون إنها قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ [التحريم:11] ؟

فالجواب: إنكم إن أردتم بقولكم إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور، وقيام الناس من القبور، فهذا باطل، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها، وأنها لا يزال الله يحدث فيها شيئاً بعد شيء، وإذا دخلها المؤمنون أحدث الله فيها عند دخولهم أموراً أخر، فهذا حق لا يمكن رده، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر].

هذه الأحاديث وأشباهها دالة على أن الجنة موجودة، ولكن يحدث الله فيها ما يشاء، ويجدد الله فيها ما يشاء، ففي حديث الإسراء أخبر أنه لقي إبراهيم فقال: (أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) يعني: أن الجنة موجودة، ولكن كل أحد يغرس له فيها غراس أعماله التي يعملها في الدنيا، فمما يغرس له في الجنة أنه إذا قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ غرست له شجرة في الجنة، وإذا كررها فكذلك.

وهكذا أيضاً: يبنى له غرف بأعماله الصالحة، ورد في بعض الأحاديث (أن الملائكة تبني لابن آدم بيوتاً وغرفاً ما دام يعمل الصالحات، ويذكر الله ويشكره، ويأتي بالحسنات، وإذا توقف عن العمل توقفوا عن البناء، فإذا قيل: لماذا توقفتم؟ قالوا: حتى تأتينا النفقة)، فالباني في الدنيا يحتاج إلى نفقة، والعمال الذين يعملون لك في الدنيا لا يعملون إلا إذا أعطيتهم نفقة، ونفقة الملائكة التي يبنون بها هي ذكر الله، وعبادته، والحسنات، فهم مشتغلون يبنون، والبناء الذي تبنيه في الآخرة هو الذي يبقى؛ ولهذا يقول بعض الشعراء:

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها

فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها

النفس ترغب في الدنيا وقد علمت أن الزهادة فيها ترك ما فيها

فاغرس أصول التقى ما دمت مجتهداً واعلم بأنك بعد الموت لاقيها

فهكذا تكون أعمال الإنسان في الدنيا بمنزلة الغراس في الجنة، كلما عمل حسنة غرس له أو بني له بها بيوت ومنازل في الجنة؛ وهذا يدلنا على أن الجنة موجودة، وأنها تتكامل يوم القيامة بالأعمال الصالحة، كلما توفي مؤمن كان قد بني له بقدر أعماله، وهكذا إلى أن يأذن الله بقيام الساعة.

وفي حديث عبادة الذي في الصحيح: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) فالجنة أعدها الله لأوليائه، والنار هي دار العذاب، أعدها الله لأعدائه، ولمن كفر به.

وصفات الجنة والنار تؤخذ من الكتاب والسنة، فقد وصفهما الله تعالى، وذكر ما فيهما من العذاب وما فيهما من الثواب، ولا شك أن من آمن بذلك حقاً فإنه يستعد لذلك؛ ولذلك يقول بعض السلف: عجبت للجنة كيف ينام طالبها؟! وعجبت للنار كيف ينام هاربها؟! يعني: أن من تحقق هذه الجنة وما فيها فإنه يطلبها، ولا يهنأ بالمنام ولا بالمقام، وكذلك من آمن بالنار وعذابها وما فيها من الأنكال والأغلال، فإنه يهرب منها، ولا يهنأ بالمنام ولا بالمقام.

الكلام في الجنة والنار يتعلق بالكلام على حقيقتهما، وهذا يؤمن به كل من آمن بالله، ويتعلق بوجودهما الآن، وهذا يؤمن به أهل السنة، ويخالف فيه المبتدعة، ويتعلق ببقائهما واستمرارها، وهذا أيضاً يؤمن به أهل السنة، فيؤمنون بأن الجنة والنار موجودتان الآن مخلوقتان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى الجنة وقد رأى النار رؤيةً حقيقة: إما في المنام، وإما في الإسراء، ويؤمنون بما ذكر الله عنهما، فقد ذكر الله عن الجنة والنار: أن هذه أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] يعني: هيئت وأزلفت لهم، وأن هذه أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24] فهي معدة مهيأة لهم، وغير ذلك من الأدلة.

ويدخل في ذلك الرد على من أنكر ذلك كالمعتزلة الذين أنكروا وجود الجنة والنار الآن، وقالوا: إنما يخلقان غداً يوم القيامة، وهذا منهم مصادمة لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي فيها الإخبار أن الله هيَّأ الجنة وأعدها لمن آمن به؛ فهي مخلوقة موجودة الآن بما فيها من النعيم، وهيَّأ النار وأعدها؛ فهي موجودة الآن مهيأة بما فيها من العذاب!

وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الميت في قبره يفتح له بابان: باب إلى الجنة، وباب إلى النار، فإذا كان مؤمناً يقال: هذا منزلك من الجنة، وهذا منزلك من النار لو كفرت، فيزداد فرحاً حيث يرى العذاب الذي سلم منه، والثواب الذي حظي به، ويفتح للكافر بابان: باب إلى الجنة، ويقال: هذا منزلك لو آمنت بالله، وباب إلى النار ويقال: هذا منزلك ومقيلك، فيزداد حسرة على ما فاته من الثواب، وعلى ما فاته من النعيم، وذلك بلا شك دليل على أنهما موجودتان الآن مهيأتان كما أخبر الله، فيؤمن أهل الإيمان بالله بما أخبر الله، ويؤمنون بهذه الأخبار الواضحة التي تدل على وجود الجنة والنار.

الرد على احتجاج منكري وجود الجنة بآية: (كل شيء هالك إلا وجهه)

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

[وأما احتجاجكم بقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]، فأتيتم من سوء فهمكم معنى الآية، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن نظير احتجاج إخوانكم بها على فنائها وخرابها وموت أهلها، فلم توفقوا أنتم ولا إخوانكم لفهم معنى الآية.

وإنما وفق لذلك أئمة الإسلام، فمن كلامهم: أن المراد كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء، وكذلك العرش فإنه سقف الجنة، وقيل المراد: إلا ملكه، وقيل: إلا ما أريد به وجهه، وقيل: إن الله تعالى أنزل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض وطمعوا في البقاء، فأخبر تعالى عن أهل السماء والأرض أنهم يموتون، فقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]؛ لأنه حي لا يموت، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت، وإنما قالوا ذلك توفيقاً بينها وبين النصوص الدالة على بقاء الجنة وعلى بقاء النار أيضاً على ما يذكر عن قريب إن شاء الله تعالى]

الذين يحتجون بهذه الآية هم المبتدعة من المعتزلة ونحوهم، يقولون: لو كانت الجنة موجودة لأتى عليها الفناء، ولأتى عليها الهلاك، وكذلك النار لو كانت موجودة لفنيت كما يفنى غيرها؛ لأن الله يقول: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88].

والجواب: أن الله أخبر بأن الذي خلق للبقاء فإنه باقٍ، وذلك أن الجنة والنار خلقتا للبقاء؛ لأنهما يثاب بهما ويعاقب بهما في الدار الآخرة -أي: بعد الموت وبعد البعث من الموت- فهما مخلوقتان للبقاء، فلا يأتي عليهما الفناء، فيكون قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88] أي: كل شيء خلقه الله في الدنيا لابد أن يهلك ويفنى إلا وجه الله، أي: إلا الله وحده، أو: إلا ما أريد به وجهه.

كذلك قول الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، الضمير في (عليها) يعود إلى الأرض، أي: كل من على الأرض فانٍ ويبقى وجه ربك، ولكن يقال أيضاً: إن المراد كل من على هذه الحياة فان، ولا مانع من أن يموت أهل السماوات وأهل الأرض من الملائكة ومن المخلوقات التي خلقها الله للفناء، ثم بعد ذلك يبعثون ويعودون كما كانوا؛ وذلك لقوله الله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، ويقول في الحديث: (أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون).

فأخبر بأن الحياة لله وحده، وأن ما سواه فإنه يموت، ولا يلزم أن ذلك يعم المخلوقات كلها -كالجمادات ونحوها- قد ذكر الله أن الجبال تكون هباء، وأن الأرض تبدل بغيرها يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ [إبراهيم:48]، وأن السماوات تتفطر، يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [المعارج:8]، إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1]، وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ [الفرقان:25]، فذكر أن كل هذه الأشياء تتغير في ذلك اليوم الذي هو يوم القيامة، ولكن لا يكون ذلك عاماً في كل الموجودات.

وعلى كل حال فلا يلزم من ذلك فناء الجنة، إذ هي مما خلقه الله للبقاء.

أبدية الجنة وعدم فنائها والكلام على الاسثناء في آية هود

قال المؤلف:[وقوله: (لا تفنيان أبداً ولا تبيدان).

هذا قول جمهور الأئمة من السلف والخلف، وقال ببقاء الجنة وفناء النار جماعة منهم السلف والخلف، والقولان مذكوران في كثير من كتب التفسير وغيرها.

وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة، وكفروه به، وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض، وهذا قاله بأصله الفاسد الذي اعتقده: وهو امتناع وجود ما لا ينتهي من الحوادث، وهو عمدة أهل الكلام المذموم، التي استدلوا بها على حدوث الأجسام، وحدوث ما لم يخلُ من الحوادث، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم.

فرأى الجهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنعه في المستقبل، فدوام الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع، كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي، وأبو الهذيل العلاف -شيخ المعتزلة- وافقه على هذا الأصل، لكن قال: إن هذا يقتضي فناء الحركات، فقال: بفناء حركات أهل الجنة والنار حتى يصيروا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة.

وقد تقدم الإشارة إلى اختلاف الناس في تسلسل الحوادث بالماضي والمستقبل، وهي مسألة دوام فاعلية الرب تعالى، وهو لم يزل رباً قادراً فعالاً لما يريد، فإنه لم يزل حياً عليماً قديراً، ومن المحال أن يكون الفعل ممتنعاً عليه لذاته، ثم ينقلب فيصير ممكناً لذاته من غير تجدد شيء، وليس للأول حد محدود حتى يصير الفعل ممكناً له عند ذلك الحد، ويكون قبله ممتنعاً عليه، فهذا القول تصوره كافٍ في الجزم بفساده.

فأما أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به، قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، أي: غير مقطوع، ولا ينافي ذلك قوله (إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ).

واختلف السلف في هذا الاستثناء، فقيل: معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار ثم أخرج منها لا لكلهم.

وقيل: إلا مدة مقامهم في الموقف.

وقيل: إلا مدة مقامهم في القبور والموقف.

وقيل: هو استثناء استثناه الرب ولا يفعله، كما تقول: والله! لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا تراه بل تجزم بضربه.

وقيل: (إلا) بمعنى الواو، وهذا على قول بعض النحاة وهو ضعيف، وسيبويه يجعل (إلا) بمعنى: (لكن) فيكون الاستثناء منقطعاً، ورجحه ابن جرير وقال: إن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله: عطاء غير مجذوذ، قالوا: ونظيره أن تقول: أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت، أي: سوى ما شئت، أو لكن ما شئت من الزيادة عليه.

وقيل: الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله، لا أنهم يخرجون عن مشيئته، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود، كما في قوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً [الإسراء:86]، وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24]، وقوله تعالى: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ [يونس:16]، ونظائره كثيرة يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

وقيل: إن (ما) بمعنى (مَنْ) أي: إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء.

وقيل غير ذلك، وعلى كل تقدير فهذا الاستثناء من المتشابه، وقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] محكم، وكذلك قوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص:54]، وقوله: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [الرعد:35]، وقوله: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48].

وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن وأخبر أنهم لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى [الدخان:56] وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله تعالى: إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107]، تبين لك المراد من الآيتين، واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود كاستثناء الموتة الأولى من جملة ا




استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2708 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2626 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2585 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2557 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2467 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2403 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2382 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2367 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2330 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2295 استماع