شرح العقيدة الطحاوية [48]


الحلقة مفرغة

فقد عرفنا أن معتقد أهل السنة والجماعة الاعتماد على كتاب الله عز وجل، وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الإيمان بالغيب، والإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، والإيمان بما أخبر الله به مما بعد الموت، فيرجعون في ذلك إلى هذه الأدلة؛ لقطعهم بصحتها وثبوتها، ولقطعهم بصراحتها ومعرفة مدلولها.

معلوم أن الله تعالى خاطب العرب بما يفهمون، وأنزل عليهم القرآن بلسان عربي مبين، وهم فصحاء يفهمون المراد، ويعقلون المعاني، ويسمعون وينظرون، ومعلوم أنهم تقبلوا تلك النصوص التي جاءتهم بها الرسل، وأنهم وثقوا بأن معناها مراد، وأنها ليست ألفاظاً جوفاء، بل هي ألفاظ لها معانٍ، وعرفوا أنه مطلوب منهم فهمها، وتعقل معناها؛ ذلك لأن الله تعالى يأمر بتعقل هذا الكتاب، يقول الله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء:82] ، أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون:68] ، لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص:29] ، والتدبر: هو التعقل. ولو كانت لا معاني لها، أو لا يجوز اعتقاد معناها، وإنما يتعبد بألفاظها، لما أمرنا بالتدبر، ولما أمرنا بالتفهم.

وقد ثبت -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أمته ما يخفى عليهم بقوله وبفعله، فكان يبين لهم المعاني التي اشتملت عليها الآيات من الأمور الغيبية ونحوها، وكان يخبرهم بما ورد في القرآن، فيخبرهم بشرح أمور الآخرة، وبشرح أسماء الله وصفاته، ويخبرهم بما يطلب منهم، وبما يعفى عنهم.

ومعلوم -أيضاً- أن الصحابة رضي الله عنهم عرب فصحاء، ذوو فهم ومعرفة، ولو كانوا لم يفهموا ما قال لهم لما نقلوه بلفظه، ولما شرحوا معانيه، ولما اعتقدوا مدلولاته.

وأيضاً: لو كانوا أمروا أن يعرفوا منه غير المتبادر لبينوا لتلامذتهم، ولقالوا لهم: لا تعتقدوا ظواهر النصوص، فإنها ظواهر ظنية، لا تفيد اليقين. فلما لم يقولوا ذلك عرف بأنهم فهموا أنه مطلوب منهم تعقلها واعتقاد مدلولها.

فهذا هو مذهب أهل السنة: يقرءون الآيات، ويفهمون معانيها، ويسمعون الأحاديث، ويفهمون معانيها، سواء كانت تتعلق بالآخرة، أو كانت تتعلق بالأسماء والصفات، أو كانت تتعلق بعلم الغيب، أو بالإيمان بالكتاب والبعث والنشور أو ما أشبه ذلك، كل ذلك يعرفونه ويعتقدون مدلوله.

إذا قرءوا ما يتعلق بالبعث اعتقدوا حقيقة أنه سيحصل البعث والنشور والجزاء والعذاب والثواب.

إذا قرءوا ما يتعلق بصفات الله اعتقدوا أن هذه النصوص دالة على علو الله وارتفاعه فوق خلقه، ودالة على قربه واطلاعه على خلقه، ودالة على علمه بكل شيء، ودالة على سمعه وبصره وقدرته التامة، ودالة على مراقبته لخلقه في كل أعمالهم وأحوالهم.

وإذا قرءوا ما يتعلق بعموم قدرة الله اعتقدوا أن الله قادر عليهم، وأنه خالق كل شيء، وأنه المتصرف في الخلق، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، هذه مدلولات النصوص يعتقدونها كما هي.

والدليل على ذلك: أنهم نقلوا ذلك، وكتبوه في مؤلفاتهم، ومن جملة ذلك ما كتبه صاحب هذا المتن الذي هو الطحاوي ، وقبله الأئمة، فكتب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله رسائل تتعلق بالعقيدة، وكتب ابنه عبد الله بن أحمد رسالة في السنة، وكتب -أيضاً- زميله ابن أبي شيبة رسالة تتعلق بالإيمان، وهي رسائل موجودة مَنَّ الله بحفظها حتى وصلت إلينا، ولم تتغير.

المبتدعة قسموا الآيات والأحاديث أقساماً لكي يخالفوها

المخالفون لأهل السنة لم يعملوا بهذه النصوص، ولم يعملوا بالآيات، ولم يعملوا بالأحاديث، فعلى أي شيء اعتمدوا في المعتقد؟

اعتمدوا على عقولهم فحكموها، وجعلوها هي الدليل، فقبلوا ما وافقت عقولهم عليه، وردوا ما أنكرته عقولهم، وزعموا أن العقل هو الدليل الأساسي، وقالوا: ما عرفنا صدق الرسل إلا بالعقول، فإذا جاء عن الرسل ما يخالف العقول وجب اطراحه.

وقد تقدم أنهم قالوا في الآيات: إنها تنقسم إلى قسمين، وكذلك الأحاديث.

قسموا الآيات إلى قسمين:

فقسم قالوا: إنه ظاهر الثبوت، ولكنه ظني الدلالة فلا يقبلونه؛ لاحتماله بزعمهم التأويل، ولأجل ذلك سلطوا التأويل على تلك النصوص.

والقسم الثاني: جعلوه ظاهراً، ولكن لا يلزم أيضاً قبوله ولو كان ظاهر الدلالة، لأنه محتمل للتأويل.

أما السنة فجعلوها قسمين: متواتراً، وآحاداً.

فقالوا: إن المتواتر قطعي الثبوت، ولكنه ليس قطعي الدلالة لاحتمال أنه ذو معان كثيرة، فسلطوا عليه التأويل.

أما الآحاد فجعلوه ظني الثبوت، وما دام أنه ظني الثبوت فلا يدخل في المعتقد، ويقولون: إن العقيدة لا تبنى إلا على اليقين، والآحاد ظنية.

ومعنى هذا: اطراح الأحاديث كلها إلا أفراداً قليلة، فالأحاديث المتواترة قليلة، والبقية كلها آحاد، فيقولون: الآحاد لا تقبل في المعتقد.

وقد تقدم تعقب الشارح لذلك.

لا شك أن أكثر الأحاديث التي وردت في صحيح البخاري وفي مسلم، وكذلك في كتب أهل السنة؛ أنها في اصطلاحهم آحاد؛ وهي ما يرويها واحد أو اثنان أو ثلاثة، ولم تبلغ حد التواتر، وإذا كانت كذلك فإنها ظنية الثبوت فلا تفيد يقيناً، فقالوا مثلاً:

الأحاديث التي في إثبات النظر إلى الله تعالى ورؤيته في الآخرة كلها ظنية-آحاد- فلا نعتقدها، والأحاديث التي في علو الله على عرشه، وعلوه فوق سمواته كلها ظنية، فلا نقبلها لكونها آحاداً، والأحاديث التي في نزوله لفصل القضاء، وفي نزوله إلى السماء الدنيا ونحو ذلك، كلها آحاد، فلا يقبلونها، والأحاديث التي في صفة الفعل لا يقبلونها أيضاً.

إذاً: ماذا بقي؟

ما بقي إلا أحاديث قليلة في الشفاعة وفي الحوض وما أشبهها، جعلوها متواترة، وقبلها بعضهم، والبعض لم يقبلها، وقال: إنها وإن كانت قطعية الثبوت لكنها محتملة للتأويل.

وقد رد عليهم الشارح رحمه الله فقال: إن الأمة لم يزالوا يعملون بالآحاد، وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل رسله آحاداً، فيعمل بقولهم، فيرسل الداعية إلى اليمن مثلاً وهو واحد، ويكلف الذين أرسل إليهم أن يقبلوا منه، ويرسل المبلغين آحاداً، ويرسل كتبه مع آحاد ويقبل منهم، ويرسل أيضاً الجباة الذين يجمعون الصدقات آحاداً، فيقبل منهم، ولا شك أن ذلك كله دليل على أنهم عرفوا صدق أولئك الذين جاءوا بهم.

فما دام كذلك: فإن هذه الأخبار التي رويت في الصحيحين نقلها عدل عن عدل، ضابط عن ضابط، ثقة عن ثقة، إذا دونت في الكتب أليست قطعية الثبوت؟

هي قطعية، فلماذا لا نعمل بها؟ لماذا لا نطبقها؟ لماذا لا ندخلها في الاعتقاد كما أدخلناها في العمل؟ ما الفرق بين العمل والاعتقاد؟ لا فرق بينهما.

فإذاً: واجب على الأمة أن يعملوا بهذا وهذا، في الاعتقاد وفي العمل.

المخالفون لأهل السنة لم يعملوا بهذه النصوص، ولم يعملوا بالآيات، ولم يعملوا بالأحاديث، فعلى أي شيء اعتمدوا في المعتقد؟

اعتمدوا على عقولهم فحكموها، وجعلوها هي الدليل، فقبلوا ما وافقت عقولهم عليه، وردوا ما أنكرته عقولهم، وزعموا أن العقل هو الدليل الأساسي، وقالوا: ما عرفنا صدق الرسل إلا بالعقول، فإذا جاء عن الرسل ما يخالف العقول وجب اطراحه.

وقد تقدم أنهم قالوا في الآيات: إنها تنقسم إلى قسمين، وكذلك الأحاديث.

قسموا الآيات إلى قسمين:

فقسم قالوا: إنه ظاهر الثبوت، ولكنه ظني الدلالة فلا يقبلونه؛ لاحتماله بزعمهم التأويل، ولأجل ذلك سلطوا التأويل على تلك النصوص.

والقسم الثاني: جعلوه ظاهراً، ولكن لا يلزم أيضاً قبوله ولو كان ظاهر الدلالة، لأنه محتمل للتأويل.

أما السنة فجعلوها قسمين: متواتراً، وآحاداً.

فقالوا: إن المتواتر قطعي الثبوت، ولكنه ليس قطعي الدلالة لاحتمال أنه ذو معان كثيرة، فسلطوا عليه التأويل.

أما الآحاد فجعلوه ظني الثبوت، وما دام أنه ظني الثبوت فلا يدخل في المعتقد، ويقولون: إن العقيدة لا تبنى إلا على اليقين، والآحاد ظنية.

ومعنى هذا: اطراح الأحاديث كلها إلا أفراداً قليلة، فالأحاديث المتواترة قليلة، والبقية كلها آحاد، فيقولون: الآحاد لا تقبل في المعتقد.

وقد تقدم تعقب الشارح لذلك.

لا شك أن أكثر الأحاديث التي وردت في صحيح البخاري وفي مسلم، وكذلك في كتب أهل السنة؛ أنها في اصطلاحهم آحاد؛ وهي ما يرويها واحد أو اثنان أو ثلاثة، ولم تبلغ حد التواتر، وإذا كانت كذلك فإنها ظنية الثبوت فلا تفيد يقيناً، فقالوا مثلاً:

الأحاديث التي في إثبات النظر إلى الله تعالى ورؤيته في الآخرة كلها ظنية-آحاد- فلا نعتقدها، والأحاديث التي في علو الله على عرشه، وعلوه فوق سمواته كلها ظنية، فلا نقبلها لكونها آحاداً، والأحاديث التي في نزوله لفصل القضاء، وفي نزوله إلى السماء الدنيا ونحو ذلك، كلها آحاد، فلا يقبلونها، والأحاديث التي في صفة الفعل لا يقبلونها أيضاً.

إذاً: ماذا بقي؟

ما بقي إلا أحاديث قليلة في الشفاعة وفي الحوض وما أشبهها، جعلوها متواترة، وقبلها بعضهم، والبعض لم يقبلها، وقال: إنها وإن كانت قطعية الثبوت لكنها محتملة للتأويل.

وقد رد عليهم الشارح رحمه الله فقال: إن الأمة لم يزالوا يعملون بالآحاد، وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل رسله آحاداً، فيعمل بقولهم، فيرسل الداعية إلى اليمن مثلاً وهو واحد، ويكلف الذين أرسل إليهم أن يقبلوا منه، ويرسل المبلغين آحاداً، ويرسل كتبه مع آحاد ويقبل منهم، ويرسل أيضاً الجباة الذين يجمعون الصدقات آحاداً، فيقبل منهم، ولا شك أن ذلك كله دليل على أنهم عرفوا صدق أولئك الذين جاءوا بهم.

فما دام كذلك: فإن هذه الأخبار التي رويت في الصحيحين نقلها عدل عن عدل، ضابط عن ضابط، ثقة عن ثقة، إذا دونت في الكتب أليست قطعية الثبوت؟

هي قطعية، فلماذا لا نعمل بها؟ لماذا لا نطبقها؟ لماذا لا ندخلها في الاعتقاد كما أدخلناها في العمل؟ ما الفرق بين العمل والاعتقاد؟ لا فرق بينهما.

فإذاً: واجب على الأمة أن يعملوا بهذا وهذا، في الاعتقاد وفي العمل.

قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته، وبين حاله للناس. قال سفيان بن عيينة : ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث. وقال عبد الله بن المبارك : لو هم رجل في السحر أن يكذب في الحديث، لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب.

وخبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب، ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلاً بالحديث، والبحث عن سيرة الرواة؛ ليقف على أحوالهم وأقوالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك.

وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم، فهم يزك الإسلام، وعصابة الإيمان، وهم نقاد الأخبار، وصيارفة الأحاديث. فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم، وعرف حالهم، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم؛ ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه.

ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم من العلم بأحوال نبيهم وسيرته وأخباره ما ليس لغيرهم به شعور، فضلاً أن يكون معلوماً لهم أو مظنوناً، كما أن النحاة عندهم من أخبار سيبويه والخليل وأقوالهما ما ليس عند غيرهم، وعند الأطباء من كلام بقراط وجالينوس ما ليس عند غيرهم، وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره، فلو سألت البقال عن أمر العطر، أو العطار عن البز، ونحو ذلك، لعد ذلك جهلاً كبيراً].

خبرة أهل الحديث بالحديث

الأحاديث التي رواها الثقات وكتبت في أمهات الكتب قد تأكد العلماء من صحتها.

وإذا قيل: إن هناك أحاديث موضوعة، وأحاديث مكذوبة قد رويت وقد كتبت، وقد ألفت فيها الكتب، فما دام أن الأحاديث وجد فيها مكذوب، ووجد فيها موضوع، ووجد فيها ضعيف ومضطرب ومعلوم وشاذ وكذا وكذا .. فكيف تعتمدون هذه الأحاديث وتجعلونها دليلاً، وتعتقدونها في المعتقد، والعقيدة لا تعتمد إلا على اليقين؟

والجواب: قد أجاب الشارح رحمه الله وبيَّن أن الأحاديث قد يسر الله لها من يحررها وينقحها، ويبين صحيحها من سقيمها، هؤلاء العلماء هم علماء الحديث الذين رزقهم الله علماً ثاقباً، ورزقهم الله فهماً وقوة يدركون بها ما هو حديث وما ليس بحديث، ولأجل ذلك شبههم بالنقاد، وشبههم بالصيارفة، والصيرفي: الذي حرفته أن يصرف الذهب والفضة، ويبيع هذا بهذا، فحرفته منذ نشأ أن يعرف الدرهم الذي فيه غش، والدينار الذي فيه غش، والجنيه المغشوش الذي فيه زيف، والحلي الصافي، والحلي المغشوش المخلوط؛ لأن هذه حرفته وصنعته، فكذلك أهل الحديث، هذه حرفتهم وهذه صنعتهم، منذ أن نشئوا وهم يتتبعون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت معهم ملكة يدركون بها ما هو صحيح وما هو ضعيف، لدرجة أن أحدهم لمجرد سماعه أول الحديث يقول: هذا ضعيف، هذا مكذوب، وبمجرد سماع الإسناد يعرفون من هو مقبول الحديث ومن ليس بمقبول، هؤلاء هم الذين يسرهم الله تعالى لحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

تبيين أهل الحديث للأحاديث الضعيفة

حكي أن المهدي العباسي قبض على زنديق وعرف أنه من المنافقين، وعزم على قتله، فقال ذلك الزنديق: هب أني قتلت، كيف تفعل بأربعة آلاف حديث قد كذبتها وبثثتها في الناس؟!

فقال المهدي : تعيش لها نقادها، أي: جهابذة المحدثين ونقاد الحديث يزيفونها ويخرجونها من جملة الأحاديث، إذا سمعوا عشرة أحاديث من شخص واحد وفيها حديث موضوع قالوا: امحوا هذا، اضربوا هذا الحديث، هذا ليس بصحيح، فهذه صنعتهم، وهذه حرفتهم، تخصصوا بها وصار معهم ملكة ليست مع غيرهم، وعندهم معرفة بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وبسنته، وبما ثبت عنه، وبما يقوله، إذا جاءهم الحديث مخالفاً للأحاديث الصحيحة عرفوا أنه مكذوب، وقالوا: سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا تتضارب، وإذا جاءهم الحديث ولفظه مستبشع قالوا: هذا مكذوب؛ لأنهم مع كثرة سماعهم لألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم يدركون اللفظ الركيك المضطرب المتقطع المتضارب، يقولون: ينزه أفصح الخلق عن أن يتكلم بمثل هذا، فيحكمون بأنه مكذوب.

وهكذا أيضاً يدركونه إذا رأوا فيه مبالغة كبيرة، كذكر ثواب كبير على عمل قليل، أو ذكر عقاب كثير على سيئة صغيرة أو نحو ذلك، فيدركون أن هذه المبالغة لا ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغ، وأشباه ذلك.

وبكل حال: قد بينوا الأحاديث الموضوعة، وبينوا من وضعها، والأسباب التي حملت عليها، وجعلوا ذلك صنعتهم.

روي أن رجلاً جاء إلى أبي حاتم الرازي رحمه الله وكان من المتخصصين بالأحاديث، فقال له: كيف تدرك الحديث الموضوع والحديث الصحيح بمجرد ما تسمعه؟ فقال: هذه صنعتنا، ولكن إذا كنت شاكاً في ذلك فاسألني، وأقول لك: اعرض علي مائة حديث أبين لك مثلاً عشرة منها أنها مكذوبة، ثم اذهب واعرضها على أبي زرعة ويبين لك العشرة نفسها، واعرضها مثلاً على النسائي ويبين لك العشرة نفسها، واعرضها على الإمام أحمد ويبين لك العشرة نفسها، ففعل ذلك، فعرض عليه مائة حديث، فكان فيها -مثلاً- عشرة فيها علة، فقال: هذا علته كذا، وهذا علته كذا، ثم عرضها على غيره فتوافقوا؛ هؤلاء مثلاً عشرة من نقاد الأحاديث اتفقوا على سماع هذه المائة واتفقوا على الحديث المعلول، وأن علته كذا وعلته كذا، مع أن بعضهم لم يخبر بعضاً، وإنما ذلك صنعتهم، فهذه حرفة أئمة الحديث ومعلوم أن ذلك هو ديدنهم وعملهم.

مثل الشارح بأن كل من اهتم بعلم من العلوم فإنه يبحث عن أهله وأصله، فمثلاً: الذين حرفتهم علم النحو يتتبعون أخبار النحاة والمجتهدين من الصدر الأول مثل: سيبويه أبي بشر المشهور بعلم النحو، الخليل بن أحمد الفراهيدي ، والمشتغلون -مثلاً- بعلم الطب يعكفون على كتب الأطباء المتقدمين كـبقراط وجالينوس ، وكانوا أطباء متقدمين قبل الإسلام، ومؤلفاتهم وكتبهم في الطب موجودة يعتمدها الذين جاءوا بعدهم.

وهكذا كل إنسان وصنعته وحرفته، فالبقال ليس مثل العطار، البقال صنعته أن يبيع البقول والمعلبات ونحوها، والعطار يبيع الأطياب وصنعته معرفة الطيب المخلوط، والطيب الخالص، وكذا وكذا، كل أحد وصنعته، فهذه صنعة المحدثين سخرهم الله لتنقية الأحاديث حتى يتميز الحديث الذي ليس فيه طعن من الأحاديث المطعونة.

تبيين أهل الحديث للضعفاء والمتروكين

عندما تقرأ الأحاديث التي في أمهات الكتب يقولون: هذا الحديث صححه فلان، أو هذا الحديث ضعيف الإسناد، أو هذا حديث فيه اضطراب، أو هذا حديث مدرج، أو هذا حديث منقطع، أو معضل، أو مضطرب المتن، أو مرسل، أو نحو ذلك؛ لأنهم أرادوا أن يبينوا للأمة، ما دام أن هذه الأحاديث كتبت وستعرض على الأفراد، فلابد أن يعرف الفرد الحديث الذي يعمل به والذي لا يعمل به، فأصبحت السنة والحمد لله محفوظة.

فإذاً: لماذا تردونها أيها المعتزلة والمتكلمون؟ لماذا تقولون: إن السنة قد دخلها الكذب؟ نقول: صحيح أنه دخلها الكذب، ولكن تميزت الأحاديث المكذوبة من الأحاديث الثابتة الصحيحة، ولأجل ذلك فضح الله الكذابين، سمعنا أن الأئمة يقولون: ما هم أحد بكذب إلا فضحه الله على رءوس الأشهاد.

هناك أناس دخلوا في الإسلام وهم زنادقة، وصاروا يكذبون أحاديث ويفشونها، وهناك أناس يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم حسبة أو انتصاراً لمذهب، أو نحو ذلك، ولكنهم افتضحوا، وألفت فيهم المؤلفات، تجدون كتباً مذكور فيها تراجم الضعفاء والمتروكين والمجروحين ومن ضعفه المحدثون، عندنا مثلاً كتاب اسمه الكامل لـابن عدي في نحو ثمانية مجلدات، كله في أسماء الرجال الضعفاء، يذكر أحاديثهم أو بعضها ويمثل بالأحاديث الضعيفة، وعندنا أيضاً كتاب للعقيلي في أربعة مجلدات اسمه أيضاً: الضعفاء، وهكذا كتاب في ثلاثة أجزاء لـابن حبان اسمه: المجروحون، لا شك أن اهتمام العلماء بهم يبين أنهم من جملة من لا يقبل حديثهم إذا تفردوا به.

فعرف بذلك أن السنة والحمد لله محفوظة، فلماذا لا تفرقون بينها وبين غيرها؟ لماذا تردون السنة مع ثبوتها؟

الأحاديث التي رواها الثقات وكتبت في أمهات الكتب قد تأكد العلماء من صحتها.

وإذا قيل: إن هناك أحاديث موضوعة، وأحاديث مكذوبة قد رويت وقد كتبت، وقد ألفت فيها الكتب، فما دام أن الأحاديث وجد فيها مكذوب، ووجد فيها موضوع، ووجد فيها ضعيف ومضطرب ومعلوم وشاذ وكذا وكذا .. فكيف تعتمدون هذه الأحاديث وتجعلونها دليلاً، وتعتقدونها في المعتقد، والعقيدة لا تعتمد إلا على اليقين؟

والجواب: قد أجاب الشارح رحمه الله وبيَّن أن الأحاديث قد يسر الله لها من يحررها وينقحها، ويبين صحيحها من سقيمها، هؤلاء العلماء هم علماء الحديث الذين رزقهم الله علماً ثاقباً، ورزقهم الله فهماً وقوة يدركون بها ما هو حديث وما ليس بحديث، ولأجل ذلك شبههم بالنقاد، وشبههم بالصيارفة، والصيرفي: الذي حرفته أن يصرف الذهب والفضة، ويبيع هذا بهذا، فحرفته منذ نشأ أن يعرف الدرهم الذي فيه غش، والدينار الذي فيه غش، والجنيه المغشوش الذي فيه زيف، والحلي الصافي، والحلي المغشوش المخلوط؛ لأن هذه حرفته وصنعته، فكذلك أهل الحديث، هذه حرفتهم وهذه صنعتهم، منذ أن نشئوا وهم يتتبعون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت معهم ملكة يدركون بها ما هو صحيح وما هو ضعيف، لدرجة أن أحدهم لمجرد سماعه أول الحديث يقول: هذا ضعيف، هذا مكذوب، وبمجرد سماع الإسناد يعرفون من هو مقبول الحديث ومن ليس بمقبول، هؤلاء هم الذين يسرهم الله تعالى لحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

حكي أن المهدي العباسي قبض على زنديق وعرف أنه من المنافقين، وعزم على قتله، فقال ذلك الزنديق: هب أني قتلت، كيف تفعل بأربعة آلاف حديث قد كذبتها وبثثتها في الناس؟!

فقال المهدي : تعيش لها نقادها، أي: جهابذة المحدثين ونقاد الحديث يزيفونها ويخرجونها من جملة الأحاديث، إذا سمعوا عشرة أحاديث من شخص واحد وفيها حديث موضوع قالوا: امحوا هذا، اضربوا هذا الحديث، هذا ليس بصحيح، فهذه صنعتهم، وهذه حرفتهم، تخصصوا بها وصار معهم ملكة ليست مع غيرهم، وعندهم معرفة بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وبسنته، وبما ثبت عنه، وبما يقوله، إذا جاءهم الحديث مخالفاً للأحاديث الصحيحة عرفوا أنه مكذوب، وقالوا: سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا تتضارب، وإذا جاءهم الحديث ولفظه مستبشع قالوا: هذا مكذوب؛ لأنهم مع كثرة سماعهم لألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم يدركون اللفظ الركيك المضطرب المتقطع المتضارب، يقولون: ينزه أفصح الخلق عن أن يتكلم بمثل هذا، فيحكمون بأنه مكذوب.

وهكذا أيضاً يدركونه إذا رأوا فيه مبالغة كبيرة، كذكر ثواب كبير على عمل قليل، أو ذكر عقاب كثير على سيئة صغيرة أو نحو ذلك، فيدركون أن هذه المبالغة لا ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغ، وأشباه ذلك.

وبكل حال: قد بينوا الأحاديث الموضوعة، وبينوا من وضعها، والأسباب التي حملت عليها، وجعلوا ذلك صنعتهم.

روي أن رجلاً جاء إلى أبي حاتم الرازي رحمه الله وكان من المتخصصين بالأحاديث، فقال له: كيف تدرك الحديث الموضوع والحديث الصحيح بمجرد ما تسمعه؟ فقال: هذه صنعتنا، ولكن إذا كنت شاكاً في ذلك فاسألني، وأقول لك: اعرض علي مائة حديث أبين لك مثلاً عشرة منها أنها مكذوبة، ثم اذهب واعرضها على أبي زرعة ويبين لك العشرة نفسها، واعرضها مثلاً على النسائي ويبين لك العشرة نفسها، واعرضها على الإمام أحمد ويبين لك العشرة نفسها، ففعل ذلك، فعرض عليه مائة حديث، فكان فيها -مثلاً- عشرة فيها علة، فقال: هذا علته كذا، وهذا علته كذا، ثم عرضها على غيره فتوافقوا؛ هؤلاء مثلاً عشرة من نقاد الأحاديث اتفقوا على سماع هذه المائة واتفقوا على الحديث المعلول، وأن علته كذا وعلته كذا، مع أن بعضهم لم يخبر بعضاً، وإنما ذلك صنعتهم، فهذه حرفة أئمة الحديث ومعلوم أن ذلك هو ديدنهم وعملهم.

مثل الشارح بأن كل من اهتم بعلم من العلوم فإنه يبحث عن أهله وأصله، فمثلاً: الذين حرفتهم علم النحو يتتبعون أخبار النحاة والمجتهدين من الصدر الأول مثل: سيبويه أبي بشر المشهور بعلم النحو، الخليل بن أحمد الفراهيدي ، والمشتغلون -مثلاً- بعلم الطب يعكفون على كتب الأطباء المتقدمين كـبقراط وجالينوس ، وكانوا أطباء متقدمين قبل الإسلام، ومؤلفاتهم وكتبهم في الطب موجودة يعتمدها الذين جاءوا بعدهم.

وهكذا كل إنسان وصنعته وحرفته، فالبقال ليس مثل العطار، البقال صنعته أن يبيع البقول والمعلبات ونحوها، والعطار يبيع الأطياب وصنعته معرفة الطيب المخلوط، والطيب الخالص، وكذا وكذا، كل أحد وصنعته، فهذه صنعة المحدثين سخرهم الله لتنقية الأحاديث حتى يتميز الحديث الذي ليس فيه طعن من الأحاديث المطعونة.

عندما تقرأ الأحاديث التي في أمهات الكتب يقولون: هذا الحديث صححه فلان، أو هذا الحديث ضعيف الإسناد، أو هذا حديث فيه اضطراب، أو هذا حديث مدرج، أو هذا حديث منقطع، أو معضل، أو مضطرب المتن، أو مرسل، أو نحو ذلك؛ لأنهم أرادوا أن يبينوا للأمة، ما دام أن هذه الأحاديث كتبت وستعرض على الأفراد، فلابد أن يعرف الفرد الحديث الذي يعمل به والذي لا يعمل به، فأصبحت السنة والحمد لله محفوظة.

فإذاً: لماذا تردونها أيها المعتزلة والمتكلمون؟ لماذا تقولون: إن السنة قد دخلها الكذب؟ نقول: صحيح أنه دخلها الكذب، ولكن تميزت الأحاديث المكذوبة من الأحاديث الثابتة الصحيحة، ولأجل ذلك فضح الله الكذابين، سمعنا أن الأئمة يقولون: ما هم أحد بكذب إلا فضحه الله على رءوس الأشهاد.

هناك أناس دخلوا في الإسلام وهم زنادقة، وصاروا يكذبون أحاديث ويفشونها، وهناك أناس يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم حسبة أو انتصاراً لمذهب، أو نحو ذلك، ولكنهم افتضحوا، وألفت فيهم المؤلفات، تجدون كتباً مذكور فيها تراجم الضعفاء والمتروكين والمجروحين ومن ضعفه المحدثون، عندنا مثلاً كتاب اسمه الكامل لـابن عدي في نحو ثمانية مجلدات، كله في أسماء الرجال الضعفاء، يذكر أحاديثهم أو بعضها ويمثل بالأحاديث الضعيفة، وعندنا أيضاً كتاب للعقيلي في أربعة مجلدات اسمه أيضاً: الضعفاء، وهكذا كتاب في ثلاثة أجزاء لـابن حبان اسمه: المجروحون، لا شك أن اهتمام العلماء بهم يبين أنهم من جملة من لا يقبل حديثهم إذا تفردوا به.

فعرف بذلك أن السنة والحمد لله محفوظة، فلماذا لا تفرقون بينها وبين غيرها؟ لماذا تردون السنة مع ثبوتها؟

قال الشارح رحمه الله: [ولكن النفاة قد جعلوا قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] مستنداً لهم في رد الأحاديث الصحيحة، فكلما جاءهم حديث يخالف قواعدهم وآراءهم، وما وضعته خواطرهم وأفكارهم ردوه بـ: (ليس كمثله شيء) تلبيساً منهم وتدليساً على من هو أعمى قلباً منهم، وتحريفاً لمعنى الآية عن مواضعه.

ففهموا من أخبار الصفات ما لم يرده الله ولا رسوله، ولا فهمه أحد من أئمة الإسلام، أنه يقتضي إثباتها التمثيل بما للمخلوقين! ثم استدلوا على بطلان ذلك بـ (ليس كمثله شيء) تحريفاً للنصين!! ويصنفون الكتب، ويقولون: هذا أصول دين الإسلام الذي أمر الله به وجاء من عنده، ويقرءون كثيراً من القرآن ويفوضون معناه إلى الله تعالى، من غير تدبر لمعناه الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه معناه الذي أراده الله.

وقد ذم الله تعالى أهل الكتاب الأول على هذه الصفات الثلاث، وقص علينا ذلك من خبرهم لنعتبر وننزجر عن مثل طريقتهم، فقال تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:75] إلى أن قال: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [البقرة:78] والأماني: التلاوة المجردة، ثم قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79].

فذمهم على نسبة ما كتبوه إلى الله، وعلى اكتسابهم بذلك، فكلا الوصفين ذميم: أن ينسب إلى الله ما ليس من عنده،وأن يأخذ بذلك عوضاً من الدنيا مالاً أو رياسة. نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل بمنه وكرمه].

السنة والحمد لله محفوظة مصونة قد يسر الله لها من يميزها، ويبين صحيحها من سقيمها، والسنة متى ثبتت فليس لأحد ردها، وكذلك كتاب الله تعالى ثابت وصريح الدلالة، وليس لنا أن نرده ولا أن نرد السنة اعتماداً على العقول، واعتماداً على الأقيسة الباطلة ونحوها.

وقد ذكرنا أن هؤلاء المبتدعة اعتمدوا عقولهم وجعلوها هي المقياس، فما وافقها أثبتوه، وما خالفها نفوه، ثم انقسموا إلى ثلاثة أقسام:

قسم يحرفون الكلم عن مواضعه.

وقسم يفوضون الألفاظ والكلمات، ويقولون: لا نعرف معناها.

وقسم يولدون شيئاً من قبل أنفسهم، كلاماً أو عبارات لا أصل لها ويجعلونها معتمدة، وكل الأقسام قد ذمها الله تعالى.

تحريف نصوص الصفات وتسميته تأويلاً

من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه: الذين يؤولون النصوص، ويسلطون عليها التفسيرات البعيدة التي لا تمت إليها بصلة، ولا شك أن هذا مثل تحريف اليهود؛ وهو إما تحريف لفظي وإما تحريف معنوي:

فالتحريف اللفظي: قولهم: إن كلمة استوى بمعنى: استولى، زادوا فيها لاماً، وقد حكى الله أن اليهود لما قيل لهم: حطة، غيروا الكلمة، فلم يقولوا: حطة، بل قالوا: حنطة، فزادوا فيها نوناً، فزيادة اليهود مثل زيادة الجهميين للام في استوى، يقول ابن القيم رحمه الله:

نون اليهود ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدتان

يعني: كما زاد هؤلاء نوناً فكذلك زاد هؤلاء لاماً، فهذا هو التحريف.

بدعة التفويض في الصفات

من أهل الأهواء من يسمون المفوضة، إذا سمعوا النصوص قالوا: لا نعرف معناها، ولكن نرد ظاهرها ولا نفسرها، فيردون مدلولها ويقولون: لا نثبت لله السمع، ولا نثبت لله النزول، ولا نثبت لله الاستواء، ولا نثبت له العلو، ولا نثبت له القدرة؛ لأن العقل ينكر ذلك، يقولون: ولا نفسر قوله: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، ولا نفسر قوله: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ولا نفسر قوله: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29]، ولا نفسر قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255]، بل نفوض ذلك ونسكت عن معناه!

هؤلاء يعتمدون على قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فكلما جاءتهم آيات وأحاديث فيها إثبات صفات قالوا: إذا أثبتنا السمع فإن المخلوق يسمع، فنكون قد شبهنا، والله ليس كمثله شيء، وإذا أثبتنا العلم فالإنسان له علم، فنكون قد شبهنا، فـ(ليس كمثله شيء)، وهكذا كل صفة يردونها اعتماداً على هذه الآية.

ولكن كثيراً منهم يسكتون عن التأويل ويفوضون، فهؤلاء المفوضة النفاة الذين جمعوا بين الأمرين، وادعوا أن أحداً لا يعرف مدلولها ولا المراد بها.

قد ذكرنا أن الصحابة فهموا معانيها وأنهم فسروها، وذكرنا أنها كلام عربي بلسان فصيح، يعرفه من سمعه ومن خوطب به.

وذكرنا أن الله تعالى لا يخاطب الأمة بكلام أعجمي، قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت:44] أينزل على العرب كتاب أعجمي؟ إذاً: فهو عربي، والعرب يفهمون معانيه، فكيف يكون فيه معان لا يدرى ما مدلولها؟ وإنما يطلب منهم تفويض أمرها إلى الله، لا شك أن هذا بعيد عن الصواب.

كذلك القسم الذين جعلوا عمدتهم ما أثبته لهم رؤساؤهم ومشايخهم وعلماؤهم فجعلوه عمدة.

نقول: لا شك أن أولئك المشايخ الذين اعتمدتموهم ليسوا بمعصومين، ثم نقول: على أي شيء اعتمد مشايخكم وعلماؤكم الذين قلدتموهم؟ اعتمدوا على أدلة عقلية، وجعلوا النصوص ظواهر لفظية، إذا جاءتهم الآيات قالوا: آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ظواهر لفظية لا تفيد معنى، ولا يعتمد على ظاهرها، وإنما المطلوب منا أن نتلوها للتبرك، ونقرؤها لمجرد البركة، أما أن نعتقد معناها فلا، هذا يقولونه في الأمور الغيبية، وفي الأمور الأخروية ولكن في باب الأحكام، يقولون: إنها تفيد العلم، وإنه يعمل بها.

فيقال لهم: قد فرقتم بين متماثلين، تعملون بآيات الصلاة والصيام، ولا تعملون بآيات الأسماء والصفات، ولا تعملون مثلاً بآيات الآخرة وما أخبر الله فيها، بل تردون مثل قوله تعالى: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] وقوله: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] وأشباه ذلك، فتقبلون بعضاً وتردون بعضاً، فقد شابهتم اليهود الذين قال الله عنهم: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:85] يعني: أن يخزيهم في الدنيا، وأن يفضحهم في الآخرة.