شرح العقيدة الطحاوية [41]


الحلقة مفرغة

قال الشارح رحمه الله: [وأيضاً: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، فإن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة:

السبب الأول: التوبة، قال تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ [مريم:60] ، وقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:160] وغيرها، والتوبة النصوح، وهي: الخالصة، لا يختص بها ذنب دون ذنب، ولكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة، حتى لو تاب من ذنب، وأصر على آخر لا تقبل؟

والصحيح أنها تقبل.

وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها أم لابد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك، حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر مثلاً هل لا يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر أم لابد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه، أو يتوب توبة عامة من كل ذنب؟

وهذا هو الأصح: أنه لابد من التوبة مع الإسلام، وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة، وليس شيء يكون سبباً لغفران جميع الذنوب إلا التوبة، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، وهذا لمن تاب، ولهذا قال: لا تقنطوا ، وقال بعدها: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر:54] الآية.

السبب الثاني: الاستغفار، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، ولكن الاستغفار تارة يذكر وحده، وتارة يقرن بالتوبة، فإن ذُكر وحده دخلت معه التوبة، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار، فالتوبة تتضمن الاستغفار، والاستغفار يتضمن التوبة، وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى، فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله.

ونظير هذا: الفقير والمسكين، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر، وإذا ذكرا معاً، كان لكل منهما معنى، قال تعالى: فإِطْعَامُ عَشَرَة مَسَاكِينَ [المائدة:89]، فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [المجادلة:4] ، وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أفرد شمل المقل والمعدم، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] كان المراد بأحدهما المقل، والآخر المعدم، على خلاف فيه.

وكذلك: الإثم والعدوان، والبر والتقوى، والفسوق والعصيان، ويقرب من هذا المعنى: الكفر والنفاق، فإن الكفر أعم، فإذا ذكر الكفر شمل النفاق، وإن ذكرا معاً، كان لكل منهما معنى.

وكذلك الإيمان والإسلام، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى].

السبب الأول مما يمحو السيئات: التوبة

لما ذكر الشارح أن الكفر والشرك أعظم الذنوب، وأنه لا يغفر، وذكر أيضاً الذنوب التي دونه، ذكر أن ذلك يغفر بأسباب، وهذه الأسباب أوصلها شيخ الإسلام إلى عشرة أسباب، وأغلبها خاصة بالمسلم، أما المشرك والكافر فلا يغفر له ولا ينفعه إلا السبب الأول وهو التوبة، فمن تاب من الكفر محي عنه الكفر، وإذا تاب من الشرك محي عنه ذنب الشرك، فالتوبة تجب ما قبلها، (والتائب من الذنب كمن لا ذنب له)، وهذا السبب يعم جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، الكفر وما دون الكفر.

إذا وفق الله العبد للتوبة وتاب فإسلامه يعتبر توبة، وندمه على كفره وعلى سيئاته يعتبر توبة، وعزمه وتصميمه على أنه لا يرجع إلى شيء من ذلك هو من شروط التوبة، وتركه للأعمال التي تاب منها يعتبر أيضاً من التوبة، وقد أطال العلماء الكلام على التوبة كما تكلم على ذلك ابن القيم رحمه الله في أول كتابه: المدارج، فإنه جعله الباب الثاني، وأطال فيها إطالة تستدعيها هذه التوبة. وهل يشترط لمن تاب أن يتوب من الذنوب كلها أو يصح أن يتوب من ذنب وهو يعمل ذنباً؟

مثلاً: إذا أسلم الكافر، ودخل في الإسلام، ونطق بالشهادتين، وأتى بالأركان الخمسة، ولكن قال: أنا لا أصبر عن الخمر، أو لا أصبر على الزنا، واستمر على هذا الذنب، فهل يقبل منه إسلامه أم لا يقبل؟

الصحيح: أنه يقبل منه، ويكون كسائر المذنبين، ما دام أنه يوجد في المسلمين ومن يزني، ولا يخرجه ذلك عن كونه مسلماً، وإن كان ينقص إسلامه أو ينقص إيمانه.

كذلك لو أن إنساناً تاب من الزنا ولم يتب من السرقة، قبلت توبته من هذه وعوقب على هذه، وهكذا بقية الذنوب، يصح أن يتوب من ذنب وإن كان معه ذنب آخر، فيقبل عمله في هذا، ويعاقب على الذنب الثاني.

أما أدلة التوبة والترغيب فيها فهي كثيرة في القرآن، وقد ورد الأمر بها، وورد الترغيب فيها، وورد الحث عليها، وورد قبولها، وأن الله يفرح بها، وما أشبه ذلك.

السبب الثاني مما يمحو السيئات: الاستغفار

الاستغفار مشتق من الغفر الذي هو الستر، غفر الشيء يعني: ستره، ومنه سمي المغفر الذي يلبسه المجاهد على رأسه يقيه من السلاح؛ لأنه يستر الرأس، فإذا قال العبد: أستغفر الله. معناه: أطلبه أن يستر ذنوبي ويمحو عني أثرها، إذا قال: اللهم اغفر لي. أي: امح عني السيئات، وكفرها عني، وأزل عني ما تلوثت به منها، هذا معنى: أستغفر الله، أي: أطلب المغفرة أو أطلب محو الذنب؛ وذلك أن الذنب يسبب للإنسان شيئاً من الأثر السيئ، كأنه يؤثر عليه أثراً معنوياً، ليس أثراً حسياً، فهو تلويث ووسخ وقذر وأذى، وإن كان نظيف الجسد ونظيف البدن ونظيف الثياب، لكنه قد تلبس بهذه الذنوب فأكسبته شيئاً من هذا الأذى، ومن هذا الوسخ والقذر، فهذا الاستغفار يمحوها، ويزيل أثر السيئات، فإذا قال: اغفر لي. أي: امح عني، واسترني من آثار هذه السيئات.

ذكر الشارح أن الاستغفار مقارن للتوبة، لا يمكنه أن يكون تائباً إلا إذا كان مستغفراً، إذا قال: أستغفر الله. فمعناه: أطلبه أن يمحو عني ذنوبي، وإذا قال: رب! تب علي. فمعناه: اقبل مني توبتي. وكأن السائل راجع إلى الله بعد أن كان معرضاً، والمستغفر كأنه طالب من الله أن يزيل عنه أثر السيئات، فيكونان متلازمين، لا تكون توبة إلا ومعها استغفار، وذكر الشارح أنهما متقاربان، كل منهما يدخل في معنى الآخر، لو اشتغل إنسان بقوله: إني تائب إلى الله، رب تب علي، أنا تائب إليك، أتوب إلى الله، تبت إليك وأنا من المؤمنين، كفاه عن طلب الاستغفار، ولو قال إنسان مثلاً: رب اغفر لي، أسألك مغفرتك، أستغفر الله، غفرانك ربنا، وأكثر من طلب المغفرة، كفاه عن أن يقول: إني تائب.

فالتوبة تقوم مقام الاستغفار، والاستغفار يقوم مقام التوبة، والجمع بينهما من باب التأكيد والتقوية؛ ولأجل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يجمع بينهما، ثبت عن ابن عمر قال: (كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: رب! اغفر لي وتب علي؛ إنك أنت التواب الرحيم) قوله: (رب اغفر لي) هذا استغفار، وقوله: (وتب علي) هذا توبة، أتى بهما معاً، مع أن أحدهما بمعنى الآخر؛ ولكن من باب التقوية ومن باب المعاهدة.

وكان عليه الصلاة والسلام يكثر من الاستغفار، مع أن الله قد غفر له وقال: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2] وكان يعد الغفلة ذنباً فيتوب ويبادر، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه ليغان على قلبي -يعني: يغفل قلبي عن الذكر أحياناً- فأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) هذه توبة واستغفار من ترك الذكر، أو من الغفلة أحياناً، كيف بنا ونحن دائماً إلا ما شاء الله في غفلة، وفي سهو، وفي حديث نفس؟!

أليس علينا أن نكثر من التوبة، وأن نكثر من الاستغفار؟

هذا هو الواجب.

فهذان سببان عظيمان في حصول محو السيئات، وإزالة أثرها سواء كانت كبيرة أو صغيرة.

السبب الثالث مما يمحو السيئات: الحسنات

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:

[السبب الثالث: الحسنات؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته، وقال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وقال صلى الله عليه وسلم. (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) .

السبب الرابع: المصائب الدنيوية، قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا غم ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه) ، وفي المسند: (أنه لما نزل قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] قال أبو بكر : يا رسول الله، نزلت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر ! ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به) .

فالمصائب نفسها مكفرة، وبالصبر عليها يثاب العبد، وبالسخط يأثم، والصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه، ويكفر ذنبه بها، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله، والصبر والسخط من فعله، وإن كان الثواب والأجر قد يحصل بغير عمل من العبد، بل هدية من الغير، أو فضل من الله من غير سبب، قال تعالى: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40]، فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم.

وكثيراً ما يفهم من الأجر غفران الذنوب، وليس ذلك مدلوله، وإنما يكون من لازمه.

السبب الخامس: عذاب القبر. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

السبب السادس: دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات.

السبب السابع: ما يهدى إليه بعد الموت من ثواب صدقة أو قراءة أو حج، ونحو ذلك، ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.

السبب الثامن: أهوال يوم القيامة وشدائده.

السبب التاسع: ما ثبت في الصحيحين: (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة).

السبب العاشر: شفاعة الشافعين، كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها.

السبب الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، كما قال تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه، فلابد من دخوله إلى الكير، ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه، فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، بل من قال: لا إله إلا الله، كما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه.

وإذا كان الأمر كذلك امتنع القطع لأحد معين من الأمة، غير من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، ولكن نرجو للمحسنين، ونخاف عليهم].

هذه هي أسباب رحمة الله ومغفرته، ومحوه للسيئات، وإزالته لأثرها، تقدم السبب الأول وهو: التوبة النصوح، وأن التوبة تمحو الذنوب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

وتقدم السبب الثاني وهو: الاستغفار، الذي هو طلب محو الذنوب وإزالة أثرها، وورد الأمر به في القرآن وفي الأحاديث.

وابتدأ بالسبب الثالث هنا، وهو: الحسنات والأعمال الصالحة التي تمحو السيئات، يقول الله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] ، وسمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) ، فالحسنات لا شك أنها تزيل أثر السيئات، ولو كثرت السيئات؛ وذلك لأن الحسنات يضاعفها الله أضعافاً كثيرة، وأما السيئات فلا تضاعف، وإن كانت قد تعظم بسبب من الأسباب.

ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الحسنة تضاعف إلى عشر حسنات، يقول في الحديث: (إذا هم الإنسان بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات، وإذا هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإذا هم بها وعملها كتبت سيئة واحدة -زاد في رواية:- أو محاها، ولا يهلك على الله إلا هالك) .

أخبر بأنه إذا هم بحسنة ولكن عاقه عائق فلم يعملها أثابه الله بنيته، وكتب همه حسنة، وإذا هم بسيئة فلم يعملها، بل تركها خوفاً من الله كتبها الله حسنة كاملة، وإذا عمل الحسنة فله عشر حسنات، وإذا عمل السيئة فله سيئة واحدة، فويل لمن غلبت آحاده عشراته، الذي تكثر سيئاته وهي واحدة واحدة، ثم تغلب حسناته التي هي عشرات، هذا هالك، ولا يهلك على الله إلا هالك.

فإذا كان الإنسان قد وقع في ذنوب، فإنه يؤمر بأن يكثر من الحسنات حتى تمحو أثر تلك السيئات، هذا سبب من أسباب تكفير السيئات.

السبب الرابع مما يمحو السيئات: المصائب الواقعة للإنسان

السبب الرابع: المصائب التي تصيب الإنسان في هذه الحياة، والأدلة على ذلك كثيرة، الله تعالى يسلط المصائب على الناس ليختبرهم، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31] يعني: نبتليكم بالمصائب حتى نطهركم، وحتى نختبر من يصبر ومن يجزع.

وردت أدلة كثيرة تدل على أن الحسنات تزداد بالمصائب، والسيئات تمحى بالمصائب، فإذا صبر العبد على المصيبة كتب له بها حسنات، ومحي عنه بها سيئات، المصائب تعم المصائب في النفس وفي المال وفي الأولاد وفي الأقارب ونحو ذلك، فإذا أصاب الإنسان خوف أو مرض أو جوع أو فقد مال أو فقد ولد أو موت قريب، وحزن على ذلك، وأصابته هذه المصيبة، ولكنه علم أنها من الله؛ أثابه الله.

قال علقمة في قول الله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] : (هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم).

وقال صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء) قوله: (عظم الجزاء) يعني: كثرة الجزاء، وقوله: (مع عظم البلاء) يعني: مع كثرة الابتلاء، ثم قال: (وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) ، وفي الحديث: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة) .

وسمعنا قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب العبد من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب، حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه) وهذا بشرط أن يعلم أنها من الله ويصبر.

أما المصائب التي تصيب بعض الناس فيشتكي إلى الناس ويجزع ويصيح وينوح، فإن هذا يبطل أجره، ولهذا وردت الأدلة الكثيرة في بيان وجوب الصبر، والنهي عن الجزع.

السبب الخامس مما يمحو السيئات: ما يهدى للميت بعد موته

السبب الخامس: ما يهدى إلى الميت بعد موته، بعد موته يهدي إليه المسلمون يدعون له، يتصدق عنه أقاربه أو أحبابه وأصحابه، فيصل إليه ثواب ذلك، فإنهم أولاً يصلون عليه، ويدعون له، ويترحمون عليه، ويهدي له أهله حسنات، ويستغفرون له، ويتصدقون عنه، ويوقفون له أعمالاً جارية، وما أشبه ذلك، فتكون أسباباً في مغفرة الذنب.

السبب السادس مما يمحو السيئات: عذاب القبر

السبب السادس: عذاب القبر، قد يسلط الله عليه العذاب إذا كان عنده بقية ذنوب، فيكون ذلك سبباً في محوها، فتنة القبر، وعذاب القبر، وما فيه من الأهوال.

السبب السابع مما يمحو السيئات: أهوال يوم القيامة

السبب السابع: أهوال يوم القيامة، ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والشدائد والفزع الأكبر، وذلك أيضاً مما يكفر الله به الخطايا، ويمحو به الذنوب ونحوها.

السبب الثامن مما يمحو السيئات: المقاصصة

السبب الثامن: ورد في الحديث: (أن الناس إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص من بعضهم لبعض مظالم كانت بينهم)، فهذا أيضاً مما تكفر به السيئات عن العبد ويزال عنه أثرها.

السبب التاسع مما يمحو السيئات: شفاعة الشافعين

السبب التاسع: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يشفع عباده الصالحين وأنبياءه في أهل السيئات، فيشفعون لهم، ويخرج الله من النار بشفاعتهم من قدر الله أنه تزيل عنه هذه الشفاعة أثر السيئات.

السبب العاشر مما يمحو السيئات: رحمة الله وعفوه بعباده

السبب العاشر: رحمة الله عز وجل، وعفوه عن عبده، فإنه ورد في الحديث أن الله يقول: (شفعت الأنبياء، وشفعت الملائكة، وشفع الصالحون، ولم يبق إلا رب العالمين، فيخرج الله قبضة من النار لم يعملوا خيراً قط -يعني: من أهل التوحيد- فيدخلهم الجنة) .

وعلى كل حال هذه الأسباب وغيرها يغلب العبد فيها جانب الرجاء، بحيث يعلم أن هذه من الأسباب التي يدفع الله بها العذاب، ويكفر بها السيئات.

السبب الحادي عشر مما يمحو السيئات: دخول النار بقدر الذنوب

إذا لم تنفع هذه الأسباب، وبقي على العبد سيئات لم تكفر بهذه المكفرات كلها، فحينئذٍ لابد أن يدخل الكير حتى ينقى، فإن النار بمنزلة كير الحداد، الحداد إذا كان عنده حديدة فيها صدى، أو فيها مزيج تراب ونحوه ماذا يفعل بها؟ يدخلها النار حتى تذوب، فإذا ذابت تلك الحديدة طفا منها الحديد الخالص، أما التراب والصدى والخبث فإنه يرسب، ويتبين ما هو صالح وما ليس بصالح، قال الله تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ [الرعد:17] يوقدون النار على الذهب حتى يذوب، ويخلص ما هو ذهب وما هو نحاس، يتميز هذا من هذا في كير الحداد، ويوقد على هذا الحديد حتى يتميز ما هو حديد خالص وما ليس بخالص من التراب ونحوه، فكذلك النار التي أعدها الله للعذاب، يدخلها هذا الذي بقيت عليه سيئات وبقيت عليه ذنوب لم تكفرها هذه المكفرات، فإذا هذب ونقي، ولم يبق فيه إلا ما هو خالص، عند ذلك أذن الله بإخراجه، بعدما يمحص؛ لأن دار النعيم وهي الجنة دار طيبة، لا يدخلها إلا الطيب، لا يجاور الله فيها إلا من هو طيب، فالذي عنده شيء من الخبث لابد أن ينقى.

وعلى كل حال فعقيدة أهل السنة أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد وأهل الإيمان، وأما من ليسوا بمؤمنين فإنهم يلحقون بالكفار، ومعلوم أن الإيمان هو تحقيق الإيمان بالأركان الستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. الإيمان بهذه الأركان الستة هو الذي يحمل على الأعمال الصالحة، ولكن هذا الإيمان قد يكون ضعيفاً فيقع معه شيء من المعاصي والمخالفات، ويقع صاحبه في شيء من التقصير وترك بعض الطاعات، فتتراكم عليه الذنوب، فيحتاج إلى ما يمحوها وما يكفرها، وقد يكون ضعفه كثيراً فيكثر تناوله للسيئات، وقد يكون ضعف الإيمان قليلاً فلا تكثر منه السيئات، فيمحوها ربه بالمكفرات، وقد يكون الإيمان قوياً راسخاً أرسخ من الجبال، فلا يقدم العبد على شيء من السيئات ولا من المخالفات، ولا يترك شيئاً من الواجبات، فهذا هو السبب.

أما من فقد الإيمان بهذه الأمور، وضعف إيمانه بالله، أو لم يؤمن بالله إلهاً ورباً، وإنما أنكر أن يكون الله إلهه وربه، أو عبد إلهاً غيره أو نحو ذلك، أو لم يؤمن باليوم الآخر، ولم يصدق بالبعث، بل أنكر الدار الآخرة، وأنكر الجزاء والجنة والنار، وجعل الدنيا هي الدار التي ليس بعدها دار، وما أشبه ذلك، وكذلك إذا أنكر الشرع الشريف، وأنكر كتاب الله أو كتبه المنزلة، أو أنكر رسالة الرسل وما جاءوا به، أو لم يؤمن برسالتهم وبما جاءوا به، أو رد شيئاً من شرعهم ولم يقبله؛ فمثل هذا لا يكون مؤمناً؛ وذلك لأنه لم يثبت الإيمان في قلبه، فلا تنفع طاعات فعلها، ولا قربات تقرب بها، حيث إنها لم تكن على أصل، ولم تكن على أساس.

إذاً: فهذه المكفرات التي هي أحد عشر أو اثنا عشر في حق أهل الإيمان وأهل العقيدة وأهل التوحيد، الذين قد يضعف توحيدهم بسبب من الأسباب، فأما من ليسوا من أهل العقيدة ولا من أهل الإيمان، بل من أهل الكفر والنفاق والشرك والمخالفات والإنكار للدار الآخرة، أو الإنكار للجزاء والحساب، أو الإنكار للشرائع أو ما أشبه ذلك، فهؤلاء كفار لا تنفعهم أعمالهم، بل أعمالهم يحبطها الله كما قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] ، ولو أكثروا من الصدقات، ولو أكثروا من الحسنات وما أشبه ذلك، ما دام أنها ليست على أساس وأصل أصيل، وهو العقيدة الراسخة التي هي أركان الإيمان كما ذكرنا.