شرح العقيدة الطحاوية [38]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله: [قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله).

أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين) يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.

واعلم رحمك الله وإيانا أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية. فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين. وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل كافراً مرتداً. والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: (إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء)، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68].

ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب. ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله).

وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب، الذنوب العملية لا العلمية، وفيه إشكال، فإن الشارع لم يكتفِ من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع، إلا أن يُضمّن قوله: (يستحله) بمعنى: يعتقده أو نحو ذلك].

من عقيدة أهل السنة أنهم لا يكفرون مرتكب الكبيرة بالذنب، ولا يصل عندهم إلى حد الكفر، ولكن هناك بدع توصل إلى حد الكفر، بدع محدثات في الدين وكبيرات وعظائم من عظائم المحدثات توصل إلى الكفر، وأما مطلق الذنوب ولو كانت كبائر، ولو كان مصراً عليها، فإنه لا يكفر بها، فلا يكفر ما دام أنه يعترف أنها ذنوب وأنها محرمة، إذا أكل الربا وهو يعتقد أنه محرم، أو فعل الزنا وهو يعترف أنه ذنب وحرام، أو شرب الخمر مع اعترافه بتحريمها، وكذلك غيرها من الذنوب لا يصل إلى حد الكفر، إلا إذا اعتقد حلها فإنه يكفر بذلك، فإنه يكفر مستحل الذنب المحرم ولو لم يفعله.

المخالف في هذا هم الخوارج الذين يجعلون الذنب كفراً، والعفو ذنباً، والمعتزلة الذين يجعلون أصحاب الكبائر غير مسلمين ولا مؤمنين ولا كافرين، يجعلونهم بمنزلة بين الكفر والإيمان، وهم أصحاب المنزلة بين المنزلتين، أما أهل السنة فإنهم لا يكفرون بالذنوب.

الآثار الدالة على خطورة التكفير

وردت أدلة في خطر التكفير منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه) يعني: رجع عليه التكفير، وهذا وعيد شديد.

وكذلك: (ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني إسرائيل مر على صاحب له يعمل ذنباً فقال: والله لا يغفر الله لك، فقال الله تعالى: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك)، يقول الراوي: (قال كلمة أحبطت دنياه وآخرته).

هذه تدل الآثار على خطر التكفير.

إطلاق الكفر على ذنوب لا تخرج من الملة

هناك ذنوب أطلق عليها كفر، ولكن يقول العلماء: إنه كفر دون كفر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) فإن الكفر هنا هو كفر أصغر لا يصل إلى الإخراج من الملة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) المراد هنا: كفران النعمة أو كفر دون كفر، وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة) يقولون: إنه كفر للنعمة لا أنه الكفر المبيح للدم والمال؛ لأن الطعن في النسب إنما هو عيب الإنسان والطعن في نسبه بأنه ليس ابن فلان أو ليس من آل فلان، وهو ذنب لا يصل إلى الكفر الذي يخرج من الملة، وكذلك النياحة على الميت لا توصل صاحبها إلى أن يخرج من الملة ويستباح دمه وماله.

فعرف بذلك أنه كفر دون كفر، هذا محمل هذه الأحاديث.

كفر تارك الصلاة

ما حكم تارك الصلاة؟

بعض العلماء يحمل الأحاديث التي فيه على أنه كفر النعمة، ويوجد فيه حديثان: حديث عن جابر : (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) وحديث بريدة : (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) فهذا فيه إطلاق الكفر على تارك الصلاة.

بعض العلماء يقول: إنه الكفر الأصغر، أي: كفر النعمة مثل الأحاديث الأخرى، والقول الثاني: أنه كفر يخرج من الملة، ودليله: قول عبد الله بن شقيق: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة)، فنقل عن الصحابة أنهم يرون أن ترك الصلاة كفر، ولا يرون ذلك في بقية الشرائع.

والصحيح أنه إذا تركها تهاوناً بها، وتمادى على هذا الترك واستمر عليه؛ فإنه يعتبر كفراً؛ وذلك لأنه وردت أحاديث تدل على ذلك منها حديث في البخاري : (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، وأحاديث كثيرة تدل على أن من ترك الصلاة فقد برئت منه الذمة، ومعنى ذلك: أنه لا يكون مسلماً.

وفيه أحاديث كثيرة مذكورة في الكتب المطولة، وهو يدل على خطر ترك الصلاة، وأنه حتى ولو كان الأعمال الأخرى لا توصل صاحبها إلى الكفر إلا إذا استحلها، لكن ترك الصلاة له أهميته وله منزلته، حيث ذهب الجماهير إلى أنه يكفر، وتوسع ابن القيم رحمه الله في هذه المسألة في كتابه الذي اسمه: كتاب الصلاة،

فتكلم على أن تارك الصلاة يقتل، ثم تكلم على الخلاف: هل يقتل حداً أم يقتل كفراً؟

وذكر حجج الفريقين، حجج من يقول هذا وحجج من يقول هذا،ورجح أنه إذا أصر وعاند وتمادى وامتنع أنه يصير جاحداً فيحكم بكفره وردته.

هذا نوع من التكفير.

البدع المكفرة وغير المكفرة

أكثر البدع لا يكفر بها كبدعة المرجئة وبدعة الخوارج وبدعة الجبرية والقدرية والأشعرية ونحوهم، فهذه البدع لا توصل إلى الكفر والبراءة من أصحابها، والأحاديث التي وردت في الخوارج: (أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) أحاديث وعيد، فقد تنطبق على بعضهم وقد لا تنطبق، والدليل على عدم التكفير: أن علياً رضي الله عنه سئل عنهم لما قاتلهم، فقالوا: أكفار هم؟فقال: من الكفر فروا،قالوا: أمنافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً؛ فدل على أنه لم يكفرهم مع أنه قاتلهم؛ وذلك لأنهم يكفرون بالكبائر، فإذا كفرناهم صرنا مثلهم.

هناك بدعتان مكفرتان: بدعة غلاة الجهمية، وبدعة غلاة الروافض.

غلاة الجهمية: هم الذين غلوا في إنكار الصفات حتى صار حقيقة قولهم التعطيل.

وأما غلاة الرافضة: فهم الذين طعنوا في القرآن وطعنوا في السنة، وطعنوا في حملة الشريعة -وهم الصحابة -وكفروهم، فهؤلاء لم يكن عندهم دين يعتقدونه، فأصبحوا بذلك قد أبطلوا الشريعة وكفروا أهلها؛ فيكونون هم أولى بالكفر، مادام أنهم طعنوا في القرآن وادعوا أنه محرف قد زيد فيه ونقص منه النقص الكثير، وكذلك لم يقبلوا السنة ولو ثبتت، ولو رواها الخلفاء الثلاثة وغيرهم لا يقبلونها، ويرمون الخلفاء بأنهم كفرة وخونة ونحو ذلك،فهؤلاء ليس عندهم شرع يتمسكون به، فيكونون بذلك على غير شريعة، هذا يقال في غلاتهم الذين وصلوا إلى هذا الحد، أما الذين لم يكفروا الصحابة ولم يكفروا الخلفاء فلا يوصل في حقهم إلى التكفير.

عقيدة المرجئة في مرتكب الذنوب

قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ...) إلى آخر كلامه، رد على المرجئة، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف، فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان. لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين، وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار!

وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال، لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطىء وغيره، أو يقولون: يكفر كل مبتدع!

وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك].

ذكر الشارح أن هناك طائفتين متقابلتين: المرجئة، والوعيدية، فالمرجئة يبيحون إكثار الإنسان من الذنوب، ويقولون: إن الذنوب لا تضر ولو أكثر صاحبها، ويتعلقون بنصوص الوعد التي فيها أن أهل التوحيد ناجون، وأنهم من أهل الجنة، وأنهم يخرجون من النار، وأنهم يشفع فيهم ولو لم يفعلوا خيراً ونحو ذلك، هؤلاء هم المرجئة، يقولون: لا تضر الذنوب، حتى قال قائلهم:

فكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم

يقولون: نتعلق بكرمه، وقد روي عن بعض الزهاد أنه قرأ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] فقال: إذا قال لي ربي: ما غرك بربك الكريم؟ أقول: غرني كرمك! وهذا خطأ، والصواب أن يقال: إن الكريم لا ينبغي أن يقابل بالمعصية، إذا كان ربنا كريماً لا يجوز لنا أن نتجرأ على معصيته، ولا أن نتهاون بحقه، بل علينا أن نطيعه ونحذر من أسباب سخطه.

فعلى كل حال المرجئة هم الذين يقولون: لا تضر الذنوب وأصحابها يدخلون الجنة ولا يعذب أحد من أهل الذنوب ولو كانت كبيرة.

معلوم أنه قد وردت أحاديث فيها أنهم يعذبون وأنهم يحترقون، وأنهم يشفع فيهم، وأن الشافعين يعرفونهم بآثار السجود، وهذا دليل على أنهم يصلون ومع ذلك دخلوا النار، إلا أن النار لم تأكل آثار السجود، يعني: أعضاء السجود لا تأكلها النار، أما بقيتها فإنهم يحترقون كما ورد.

فدخلوا النار وهم مسلمون؛ بسبب ذنوب اقترفوها.

من عقيدة أهل السنة أن المعاصي التي دون الشرك قد يغفرها الله، وقد يعاقب عليها، وأما الشرك فإنه لابد أن يعاقب عليه، من عمل ما دون الشرك فقد يعفى عنه، ويغفر له ذنبه مهما كبر بمشيئة الله، وقد يدخله الله النار بسبب ما اقترفه من السيئات، ويكون ذلك تمحيصاً له من تلك السيئات، ودخوله في النار لأجل تمحيصه وإزالة ما فيه من الدرن، كالحديد الذي يدخل النار حتى يُصفى، حتى لا يبقى عليه شيء من الخبث، فهكذا هؤلاء الذين يدخلون النار من أهل الكبائر.

هذه عقيدة المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل.

وقياسهم ليس بصحيح، نحن نوافقهم على أن الشرك يحبط الأعمال، فالمشرك لو عمل أي عمل فأعماله حابطة؛ لقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] ، وقال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] ونحو ذلك من الآيات.

فقولهم: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، قياس خاطئ، نحن نقول: صحيح أنه لا تنفع الأعمال والحسنات مع الشرك؛ لقوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] لأن الشرك أحبطها، وقد قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18] ، وفي آية أخرى: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39] ، وفي آية أخرى: كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ [البقرة:264] صفاة صلبة عليها تراب وجاءها مطر شديد، لا يبقى على الصفاة شيء من التراب فهكذا أعمالهم ونفقاتهم لا تبقى، حيث إنه لا أساس لها ولا أصل.

عقيدة الخوارج والمعتزلة في مرتكب الذنوب

الطرف الثاني المقابل للمرجئة: الوعيدية، الوعيدية من المعتزلة ومن الخوارج، كلهم يقولون: إن من دخل النار فهو مخلد فيها، وإن أصحاب الكبائر يدخلونها ولا يخرجون منها، ويستدلون ببعض الآيات التي فيها عدم الخروج، مثل قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا [المائدة:37] نقول: الآية في الذين يدخلونها من الكفار الذين حكم عليهم بالخلود، وكذلك قوله: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] إنما هي في الكفار، أما المؤمنون الذين معهم أصل الإيمان وأصل التوحيد فقد دلت الأدلة على أنهم يخرجون بشفاعة الشافعين أو برحمة الله تعالى.

عقيدة أهل السنة في مرتكب الذنوب

قول أهل السنة وسط بين طرفين:

طرف شددوا، وهم الخوارج والمعتزلة، وجعلوا المذنبين كفاراً ومخلدين في النار، سواء كفروه في الدنيا أو أخرجوه من الإيمان ولم يكفروه.

وطرف غلا في فعل الذنوب، فأباح للمسلم أن يفعل الذنوب، وأن يفعل الفواحش، وقال: إنها لا تضر.

وتوسط أهل السنة، وقالوا: لا نوصل العاصي إلى الكفر، ولا نخلده في النار، ولكن نخشى عليه من العذاب، ومن يطيق العذاب ولو ساعة! ومن يطيق دخول النار ولو قليلاً.

وإذا كنا نخاف عليه أن يدخل النار حتى ولو ساعة، فعليه أن يهرب من هذا السجن ومن هذا العذاب، فإن ذلك يوجب عليه أن يخشى من أسباب دخول النار ويحذرها.

وردت أدلة في خطر التكفير منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه) يعني: رجع عليه التكفير، وهذا وعيد شديد.

وكذلك: (ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني إسرائيل مر على صاحب له يعمل ذنباً فقال: والله لا يغفر الله لك، فقال الله تعالى: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك)، يقول الراوي: (قال كلمة أحبطت دنياه وآخرته).

هذه تدل الآثار على خطر التكفير.

هناك ذنوب أطلق عليها كفر، ولكن يقول العلماء: إنه كفر دون كفر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) فإن الكفر هنا هو كفر أصغر لا يصل إلى الإخراج من الملة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) المراد هنا: كفران النعمة أو كفر دون كفر، وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة) يقولون: إنه كفر للنعمة لا أنه الكفر المبيح للدم والمال؛ لأن الطعن في النسب إنما هو عيب الإنسان والطعن في نسبه بأنه ليس ابن فلان أو ليس من آل فلان، وهو ذنب لا يصل إلى الكفر الذي يخرج من الملة، وكذلك النياحة على الميت لا توصل صاحبها إلى أن يخرج من الملة ويستباح دمه وماله.

فعرف بذلك أنه كفر دون كفر، هذا محمل هذه الأحاديث.

ما حكم تارك الصلاة؟

بعض العلماء يحمل الأحاديث التي فيه على أنه كفر النعمة، ويوجد فيه حديثان: حديث عن جابر : (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) وحديث بريدة : (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) فهذا فيه إطلاق الكفر على تارك الصلاة.

بعض العلماء يقول: إنه الكفر الأصغر، أي: كفر النعمة مثل الأحاديث الأخرى، والقول الثاني: أنه كفر يخرج من الملة، ودليله: قول عبد الله بن شقيق: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة)، فنقل عن الصحابة أنهم يرون أن ترك الصلاة كفر، ولا يرون ذلك في بقية الشرائع.

والصحيح أنه إذا تركها تهاوناً بها، وتمادى على هذا الترك واستمر عليه؛ فإنه يعتبر كفراً؛ وذلك لأنه وردت أحاديث تدل على ذلك منها حديث في البخاري : (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، وأحاديث كثيرة تدل على أن من ترك الصلاة فقد برئت منه الذمة، ومعنى ذلك: أنه لا يكون مسلماً.

وفيه أحاديث كثيرة مذكورة في الكتب المطولة، وهو يدل على خطر ترك الصلاة، وأنه حتى ولو كان الأعمال الأخرى لا توصل صاحبها إلى الكفر إلا إذا استحلها، لكن ترك الصلاة له أهميته وله منزلته، حيث ذهب الجماهير إلى أنه يكفر، وتوسع ابن القيم رحمه الله في هذه المسألة في كتابه الذي اسمه: كتاب الصلاة،

فتكلم على أن تارك الصلاة يقتل، ثم تكلم على الخلاف: هل يقتل حداً أم يقتل كفراً؟

وذكر حجج الفريقين، حجج من يقول هذا وحجج من يقول هذا،ورجح أنه إذا أصر وعاند وتمادى وامتنع أنه يصير جاحداً فيحكم بكفره وردته.

هذا نوع من التكفير.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2715 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2631 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2591 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2565 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2472 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2408 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2387 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2373 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2336 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2301 استماع