شرح العقيدة الطحاوية [33]


الحلقة مفرغة

يجب على المسلم أن يدين بعظمة ربه، وأن يستحضر جلاله وكبرياءه، وأن يكون ذلك حاملاً له على تعظيمه، وعلى خوفه وإجلاله، وعلى الرغبة في ثوابه، والرهبة من عقابه، ويكون ذلك بمعرفة الأدلة على ذلك، فالأدلة على عظمة الله سبحانه تعظيم الله لنفسه، فقد ورد في الحديث: (لا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه) ، وورد أيضاً وصف الله بالكبرياء والعظمة، واختصاصه بذلك، كما في قوله في الحديث القدسي: (العظمة إزاري، والكبرياء ردائي) يعني: أن ذلك من خصائصه التي لا يجوز أن ينازعه فيها أحد، فإذا كان ذلك من خصائصه سبحانه فمنازعته ومشاقته في شيء مما هو خاص به يعتبر اعتراضاً على الله.

ومعلوم أن الإنسان إذا وجب عليه أمر تعين أن يعرف الدليل عليه، فالله تعالى قد أقام الأدلة على عظمته وجلاله، وعلى استحقاقه للتبجيل والإعظام، ووصف نفسه بقوله: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] .. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً [النساء:34] فيجب أن نعتقد أن أنواع العظمة لله، فهو المستحق للتعظيم وأنواع الكبرياء، وأنواع العلو لله وحده.

قد يقول قائل: ما الفائدة التي أحصل عليها إذا وصلت إلى هذه العقيدة؟

والجواب: أن نقول: لا شك أنك متى قمت بهذا واعتقدته عقيدة صحيحة عظم قدر ربك في قلبك، فصعب عليك أن تعصيه، وعظم عليك أن تدين لغيره بالعظمة، وكذلك كبر عليك أن تترك طاعته، وعرفت أن له عليك حقوقاً كثيرة لابد أن تدين بها، ولابد أن تحرص على أدائها، وهذه من فوائد هذه المعرفة.

وقد مر بنا أن من صفات الله تعالى الغنى، فهو غني ومستغنٍ عن العرش وما دونه، فهو الذي خلق الخلق وليس بحاجة إلى عبادة الخلق، وليس بحاجة إلى شيء من المخلوقات، بل هو الغني عنهم: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ [محمد:38].. (وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن:6]فإذا دان العبد لله بالغنى، علم أن هذا الغنى عام، وأن الله مستغنٍ عن العرش، ومستغنٍ عن السماوات، ومستغن عن الأرض، ومستغنٍ عن المخلوقات كلها، ومستغنٍ عن جميع ما في الكون، فهو الخالق وحده، وقد وصف الله نفسه بأنه استوى على العرش، وبأنه علا على خلقه، ولا يدل ذلك على حاجته إلى أي مخلوق.

إحاطة الله بكل شيء لا تنافي فوقيته وعلوه

من صفات الله أنه محيط بكل شيء وفوقه، والإحاطة بها هو الاستيلاء عليها، بمعنى: أنه محيط بالأشياء، وكلها تحت سيطرته وتصرفه، فلا شيء يتحرك إلا بإرادته، ولا يتصرف إلا بعلمه، وهو المتصرف فيها وحده، وهذا يدل على كماله وعظمته، فالذي يعتقد ذلك لا شك أنه يعظم قدر ربه في قلبه، ويصعب عليه أن يتخلف عن طاعته، أو يرتكب معصيته، أو يفعل إثماً أو جرماً، أو يبارز ربه بالعصيان؛ لأنه يستحضر عظمته وكبرياءه وجلاله وغناه عن خلقه، ثم يستحضر ضعف الخلق كلهم، وفقرهم وفاقتهم، وحاجتهم الشديدة إلى ربهم، فبعد ذلك يقول: ما أنا وما قدري حتى أظهر الغنى عن الله، وحتى أبارزه بالذنوب، وأعصي أمره وأرتكب نهيه؟! وهل أتحمل شيئاً من سخطه أو أصبر على شيء من عذابه؟

فيكون استحضاره ذلك زاجراً له عن اقتراف المآثم.

ودليل إحاطته بكل شيء قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق:12] ونفى ذلك عن المخلوقين بقوله: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، وقال: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20]، وقال: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً [النساء:126] فالإحاطة: هي السيطرة والاستيلاء التام، والولاية الكاملة التي لا ينقصها شيء، وهي لله وحده، فهو محيط بالأشياء كلها علويها وسفليها، وعالم بها ومتصرف فيها، ولا يخفى عليه شيء من أمرها، وذلك لأنها مخلوقة، وهو الخالق وحده.

قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه:

[ومن المعلوم -ولله المثل الأعلى- أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاطت قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها، فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف؟! فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد له إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته أو يدني إليه من يشاء من خلقه؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره.

وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى، فقال له أبو رزين : (كيف يسعنا -يا رسول الله - وهو واحد ونحن جميع؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله: هذا القمر آية من آيات الله، كلكم يراه مخلياً به، والله أكبر من ذلك)، وإذا قد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء، فهذا يزيل كل إشكال، ويبطل كل خيال.

وأما كونه فوق المخلوقات، فقال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) [الأنعام:18]يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال المتقدم: (والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله).

وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على ما قال وضحك منه. وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله:

شهدت بإذن الله أن محمداً رسول الذي فوق السماوات من عَلُ

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما لـه عمل من ربـه مـتقبل

وأن الذي عادى اليهود ابن مريم رسول أتى من عند ذي العرش مرسل

وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم يجاهد في ذات الإله ويعدل

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أشهد).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وفي رواية: تغلب غضبي) رواه البخاري وغيره. وروى ابن ماجة عن جابر يرفعه قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا إليه رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه).

وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ) [الحديد:3]بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)].

الكلام الأول يتعلق بإحاطة الله بالمخلوقات، وقد تقدم الاستدلال على عظمة العرش والكرسي، وصغر المخلوقات بالنسبة إليهما، وأن السماوات السبع والأرضين السبع للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس، وما الكرسي بالنسبة إلى العرش إلا كحلقة ألقيت في أرض فلاة، فماذا تشغل الحلقة من هذه الفلاة؟!

وذكر ابن كثير أحاديث عند قوله تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وأن هذه السماوات والأرضين صغيرة بالنسبة إلى قبضة الرب عز وجل، فهي مطويات بيمينه، والأحاديث التي فسرت ذلك فيها الدلالة على أن الله يقبض المخلوقات كما يشاء، وقد ورد في الأحاديث أنه يقبض السماوات والأرض، وأنه يهزهن ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ذكر ذلك ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16].

وكذلك نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما -وهو من أجل علماء الصحابة- أنه قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم) كمثل حبة خردل في يد العبد، وماذا تشغل حبة الخردل من اليد؟!

معلوم أن الحبة صغيرة وحقيرة في القبضة، فقد يقبض ألفاً أو أكثر من ألف في كفه ولا يمتلئ الكف بذلك، فكيف بحبة واحدة؟

فهذه المخلوقات التي نشاهد عظمتها، ولا يعلم سعتها إلا الله تعالى، قد أخبرنا الله ورسوله بأنها سبع شداد، وأنها سبع طباق، وأن المسافات التي بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة سنة، ومتى تقطع هذه المسافة؟ وكل ذلك صغير بالنسبة إلى عظمة الرب تعالى!!

فهذا ونحوه دليل على عظمته، ودليل على إحاطته بكل شيء.

ذكر الأدلة على إثبات صفة الفوقية لله تعالى

قول صاحب المتن: (محيط بكل شيء وفوقه) المراد: أننا نعتقد أن الله فوق كل شيء، قد ذكر الشارح أن في بعض النسخ: (محيط بكل شيء فوقه)، بدون واو، والواو لا معنى لها هنا؛ لأن الله إحاطته ليست بما فوق العرش، بل بكل شيء، بالعرش وبما فوقه وبما تحته، ومعلوم أن العرش هو سقف المخلوقات، وهو أعلاها، وفوقه الرب سبحانه، وهو قريب من عباده.

والأدلة على الفوقية كثيرة، فمنها ما هو صريح لا يحتمل التأويل، فالآية التي سمعنا في سورة النحل لا تحتمل التأويل: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] قيدت بـ(من) حتى لا يتأولها المتأول، وأما الآية الثانية في سورة الأنعام وهي قوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18] في موضعين، فهذه الآية قد يقال: إن المراد بالفوقية: فوقية الغلبة، وفوقية القهر، كما قال فرعون: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127] يعني: فوقية القهر، ولكن يؤخذ منها فوقية الذات، وفوقية الغلبة، فهي دالة على المعنيين؛ فتكون من الآيات الدالة على وصف الله تعالى بالفوقية، وهو العلو الذي يقتضي العظمة.

أما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (والعرش فوق ذلك، والله فوق العرش) فالفوقية هنا صريحة، ومن ذلك قوله: (إن الله كتب كتاباً فهو مكتوب عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي) وهذا دليل واضح على أن الرب تعالى فوق العباد، وفوق العرش.

كذلك الحديث الذي فيه تفسير الآية الكريمة من سورة الحديد: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3] وهو الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر) فسر قوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) بأنه العالي الذي ليس فوقه شيء، فهو فوق المخلوقات، ومع ذلك هو قريب منها؛ ولذلك فسر الباطن بالقريب الذي ليس دونه شيء، فعلوه سبحانه وتعالى وفوقيته لا تنافي قربه ومعيته، فيستحضر المؤمن الوصفين معاً القرب والعلو.

وذكر المؤلف شعر أمية وشعر عبد الله بن رواحة وشعر حسان ، وكلها تذكر العلو والفوقية، فيقول ابن رواحة:

شهـدت بأن وعد الله حـق وأن النار مثـوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طـافٍ وفوق العرش رب العـالمينا

فصرح بالفوقية وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا أيضاً في البيت الذي لـحسان :

شهدت بإذن الله أن محمداً رسول الذي فوق السماوات من عَلُ

يعني: فوق السماوات وفوق العرش، ثم وصفه بأنه من علُ، فهذا دليل على أن الصحابة كلهم يدينون بهذه الفوقية، وأنهم قد تلقوها من نبيهم صلى الله عليه وسلم.

الرد على منكري العلو

أدلة الفوقية نوع من أنواع الأدلة على صفة العلو، وقد أوصلها بعضهم إلى واحد وعشرين نوعاً، وقد ذكر ذلك ابن القيم في نونيته، وابتدأها بالآيات التي تدل على الاستواء. وكل نوع تحته مفردات.

ولما كانت مسألة العلو من المسائل الاعتقادية بالغ أئمة السلف في إثباتها، وكتبوا فيها الأدلة التي توضح قول السلف، وقول من سار على طريق السلف، فنجد في كتب المتقدمين من السلف أنهم أوفوها حقها، ككتاب التوحيد لـابن خزيمة الذي هو شجىً في حلوق الأشاعرة والمعتزلة ونحوهم، حتى قرأت لبعضهم أنه يسميه: كتاب الشرك، مع أنه استدل بآيات وأحاديث صحيحة رواها بالأسانيد، ولكن لما خالف معتقدهم أساءوا به وصاروا يحذرون منه.

كذلك كتب السنة التي كتبها أئمة السلف كـالإبانة، وكتاب التوحيد، وكتاب الإيمان، وكتاب السنة وغيرها من كتب السلف، فمنهم من رد على الجهمية، وسمى كل من خالف ذلك جهمياً، ومن السلف الذين كتبوا في ذلك ابن مندة وعثمان بن سعيد الدارمي وابن أبي عاصم ، وكذلك القاضي أبو يعلى ، والإمام الذهبي له كتاب العلو للعلي الغفار، وصفه بهذا الوصف، وكأنه لما رأى كثرة الذين دانوا بعقائد باطلة ممن سموا أنفسهم أشاعرة، أراد أن يفصح بما يعتقده ولو خالف مشايخه، ولو خالف زملاءه، ولو خالف المنتمين إلى مذهبه، لا يبالي بذلك ما دام أنه يعتمد الدليل، ويقول الحق.

مسألة العلو لم ينكرها في المائة المتأخرة إلا أفراد قلة كالأشاعرة والمعتزلة والشيعة والخوارج والجبرية ونحوهم، كلهم ينكرون هذه الصفة، ولا عبرة بإنكار من أنكرها مادامت الأدلة واضحة صريحة في إثباتها، فلا يعتبر بمن أنكر الحق مع وضوحه.

وأهل السنة يثبتونها على ما يليق بالله تعالى، ويذكرون الأدلة ويعتمدونها، ثم يجمعون بينها وبين آيات القرب وأدلة المعية ونحو ذلك، ولا يفهمون منها تجسيماً ولا تشبيهاً، ولا جهة ولا حصراً، ولا تحيزاً ولا غير ذلك، أما أولئك المنكرون فيقولون: إن هذه الكلمات تدل على حصر الخالق، وأنه متحيز، إلى غير ذلك، ولا عبرة بتلك الأقوال التي يموهون بها، وعلى المسلم أن يعتقد الحق ولو خالفه من خالفه.

ذكر بعض الأدلة على إثبات صفة العلو

قال الشارح رحمه الله: [والمراد بالظهور هنا: العلو، ومنه قوله تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الكهف:97]، أي: يعلوه. فهذه الأسماء الأربعة متقابلة: اسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته، واسمان لعلوه وقربه.

وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس، ونهكت الأموال؛ فاستسق لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته، وقال بأصابعه مثل القبة عليه، وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب).

وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة، لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات) وهو حديث صحيح، أخرجه الأموي في مغازيه، وأصله في الصحيحين.

وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات).

وعن عمر رضي الله عنه: (أنه مر بعجوز فاستوقفته، فوقف معها يحدثها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين! حبست الناس بسبب هذه العجوز؟ فقال: ويلك! أتدري من هذه؟ امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة التي أنزل الله فيها. قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1])أخرجه الدارمي .

وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ [الأعراف:17] قال: (ولم يستطع أن يقول من فوقهم، لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم).

ومن سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر.

ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم، لكان متصفاً بضد ذلك؛ لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية: السفول، وهو مذموم على الإطلاق؛ لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده].

سرد المصنف رحمه الله هذه الأدلة التي تدل على الفوقية، فذكر حديث الأعرابي لما قال: (نستشفع بالله عليك)، ولا شك أن هذا تنقص لله، فكأنه يقول: نجعل الله شافعاً عندك، وهل الله يشفع عند الخلق؟! هذا فيه شيء من التنقص، أما قوله: (نستشفع بك على الله)، فهذا لم يستنكره، لأنه يقول: اشفع لنا إلى ربك، فأنكر عليه الأمر الثاني وهو الاستشفاع بالله؛ فشأن الله أعظم، وذاته أجل، ووصفه وجلاله وكبرياؤه أعظم من أن يكون شفيعاً عند أحد من خلقه، بل هو الذي يشفع إليه، ولا يشفع إلى أحد، بل لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، كما ذكر ذلك في القرآن: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255] وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى [الأنبياء:28] ولما أنكر عليه ذلك بين له عظمة الرب تعالى فقال: (أتدري ما الله؟) يعني: أنك ما عرفت قدر ربك، وما استحضرت عظمته، ولو استحضرت ذلك لما قلت هذه المقالة، شأن الله أعظم، وذكر أن الله تعالى فوق العرش، وأن العرش يئط به أطيط الرحل، وهذا من باب التمثيل يعني: أن الله تعالى فوق العرش، وأن العرش مع كبره وعظمته وإحاطته بهذه المخلوقات، فإنه يسمع له هذا الأطيط، فيقال: إن هذا من ثقل الرب تعالى، وقد ذكر الله أن العرش محمول، وأن حملة العرش ما حملوه بقوتهم وإنما حملوه بقوة ربهم، ومع ذلك فإن الرب تعالى غني عن العرش، وغني عن حملة العرش، ولكن ذلك كله من باب إظهار العظمة والكبرياء ونحو ذلك.

ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم لـسعد بن معاذ : (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات) يعني: وافقت حكم الله، والله فوق سماواته.

وكذلك قول زينب : (زوجني الله من فوق سبع سماوات) تريد قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37] أي: أن الله تعالى هو الذي زوجها، فصرحت بالفوقية، وأن الله تعالى فوق سماواته.

وبالجملة فهذه أمثلة من الأدلة التي تثبت صفة الفوقية لله سبحانه.

فإذا قيل: إن هذه أدلة نقلية، والمخالفون لا يقبلون الأدلة النقلية التي في زعمهم أنها تخالف العقل، ويزعمون أنهم ما عرفوا صدق الرسل إلا بالعقول، فإذا جاء الرسل بما ينافي العقول لم يقبلوه، هكذا عللوا.

والجواب: إن العقول التي ردت هذه النقول عقول فاسدة مضطربة، لا تصلح أن تكون ميزاناً لقبول شيء دون شيء، فعقولكم التي رددتم بها هذه النصوص، ورددتم بها هذه الصفات، وزعمتم أن هذا مستنكر ومستبشع على النفوس ولا تقبله العقول، نقول: هذه العقول كثيراً ما يكون فيها الاضطراب، وكثيراً ما تأتي بشبهات لا تثبت عند الحق، وكثيراً ما يبطل بعضهم شبهة الآخر التي يدلي بها، وكثيراً ما يبطل أحدهم دليله بنفسه، فيذكر دليلاً ثم يأتي بما يناقضه، وكذلك يأتي الآخر بدليل يناقض دليل شيخه ونحو ذلك، فكيف يعتمدون ذلك ويقولون: إنها أدلة عقلية؟!

وقد ذكر لهم الشارح دليلاً عقلياً فقال: هب أنه ليس هناك دليل نقلي، أو هب أنكم تأولتم تلك النصوص، وقلتم مثلاً: الفوقية هنا: فوقية العظمة أو فوقية الغلبة، أو فوقية القهر، وأنها لا تدل على أن الله تعالى فوق المخلوقات، بل إنه ليس فوق العرش ولا فوق السماوات، وجميع الأماكن بالنسبة إليه سواء، وليس له مكان، تعالى الله عما يقولون! نقول لكم: العقول السليمة تشهد بإقرار الفوقية؛ لأن من لم يثبت الفوقية لزمه أن يثبت ضدها، فمن لم يوصف بالفوقية لابد أن يوصف بالسفل، وهذه صفة نقص، والله تعالى أحق أن يوصف بالفوقية، وقد ذكر أن السفل والتحتية أماكن الشياطين، وأن إبليس وجنوده هم الذين يوصفون بأنهم في السفل لا في الفوقية، وقد دان أهل السنة والمسلمون عموماً بوصف الله تعالى بالفوقية، وأقروا بذلك في عقولهم، ووافقوا على ذلك الأدلة الصريحة الصحيحة، وعلموا أن من لم يكن موصوفاً بالعلو فهو موصوف بالسفل، ومن لم يكن موصوفاً بالفوق فهو موصوف بالتحت، واستدلوا على ذلك بهذه النصوص، وأقروا على ذلك بعقولهم.

ولا عبرة بمن خالفهم في ذلك ولو كثر عددهم، وقد قرأت لبعض هؤلاء المبتدعة لما نقل أثراً يخالف معتقده في تفسير قوله تعالى في سورة الشورى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ [الشورى:5]فنقل عن ابن عباس أنه قال: (تتفطر السماوات من ثقل الرب) فكبرت هذه الكلمة عند هذا المبتدع، فقال: المراد: من هيبته. انظروا كيف صرف هذا الأثر عن ابن عباس وجعل المراد أنها تتفطر من هيبته؛ لأنه لا يدين بأن الله فوق السماوات، وأن السماوات تتفطر من ثقله، وكذلك العرش، ويكذب ما ذكر في الحديث من أن العرش يئط به ونحو ذلك.

فعلى كل حال: يقال لهم: العقول السليمة تدل على أن من لم يتصف بالعلو اتصف بالسفل، ومن لم يتصف بالفوقية اتصف بالتحتية، فأنتم يلزمكم إذا نفيتم الفوق أن تثبتوا التحت، وذلك وصف نقص، وهذا لا يجوز. فأصبح العقل والنقل كلاهما متفقان على وصف الله تعالى بالفوقية وهي وصف كمال، وأصبحت عقلياتهم متهافتة كما وصفها شيخ الإسلام بالبيت الذي استشهد به:

ججج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكلٌ كاسر مكسور

شبهها بالزجاجتان إذا ضربت إحداهما بالأخرى تكسرت الزجاجتان، فهكذا شبه هؤلاء وشبه هؤلاء.

الرد بالأدلة العقلية على نفاة صفة الفوقية

قال الشارح رحمه الله: [فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها. قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه، غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو: إما داخل العالم، وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب، فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه، وأوضح وأبين.

وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال، لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصاً، ولا يوجب محذوراً، ولا يخالف كتاباً، ولا سنة، ولا إجماعاً، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً. فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله إلا بذلك؟ فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً؟!].

هذه مجادلة مع أصحاب البدع بالعقليات، ويستحسن عدم التوسع فيها؛ وذلك لأن التوسع فيها قد يؤدي إلى عدة مفاسد، منها:

أولاً: فيه مضيعة للوقت.

ثانياً: فيه إثارة لشبهات لا ينبغي الخوض فيها.

ثالثاً: لا شك أنه يسبب التشويش على الإنسان والتفكر في أشياء لا يحتاج إلى التفكر فيها، وقد ورد في بعض الآثار: (تفكروا في المخلوق، ولا تفكروا في الخالق) يعني: انظروا في مخلوقات الله عز وجل فإنكم تأخذون منها عبرة على عظمة خالقها، وأما ذات الخالق وكيفية ذاته وصفاته فاصرفوا عنها الأفكار، واستحضروا بأذهانكم عظمته وكبرياءه، وجلاله وعلوه على خلقه، وتفرده بالملك، وتفرده بالتصرف، واستحقاقه للعبادة على خلقه، فإذا اعتقدتم ذلك كفيتم عن الخوض في الأشياء الباطلة.

ومعلوم أن كلامهم في وصف الله تعالى يفيد أنه ليس له حقيقة ولا وجود إلا في الأذهان، فهم يقسمون الوجود إلى وجودين: وجود في الأذهان، ووجود في الأعيان، وهو الذي يمكن للعيان أن يصل إليه، وإذا تأملنا ما يقوله المعتزلة وما يقوله سلفهم -وهم الفلاسفة- من ذلك المحض الذي لا أتجرأ أن آتي به، إذا تأملناه وجدناه يقود إلى النفي المحض، وعدم الاعتراف بخالق مدبر متصرف في الخلق، فيقال لهم: إما أن تعترفوا بوجود رب خارج الأذهان -ليس مجرد وجود في الأذهان- أو لا تعترفوا، فإذا كنتم معترفين لزمكم لزوماً لا محيد لكم عنه أن تعترفوا بأنه ولابد فوق العباد أو تحت أو عن يمين أو عن يسار، وجهة الفوقية أشرف الجهات فاعتمدوها واعتقدوها، ولا يلزم منها محذور، ولا يقال: إنها تدل على حصر أو إنها تدل على تحيز أو على تجسيم، أو على غير ذلك من المحذورات التي يلتزمون بها.

فالواجب أن ندين بذلك، ونترك الخوض فيما يقولونه مما هو في الحقيقة نفي محض، ولا فرق بين ما يقولونه ويعتقدونه وبين العدم المحض، الذي هو حقيقة المعدوم الذي لا مدح له ولا وجود له أصلاً فيمدح.

هذا هو معتقد أهل السنة، وتلك هي أقوال الفلاسفة التي أخذها عنهم المعتزلة.

ومن أقوالهم أن الله إنما يتصف بالسفل لو كان قابلاً للعلو، فإذا لم يكن قابلاً للعلو لم يلزم اتصافه بالسفل، ويقولون: إنه لا يقبل السمع ولا البصر، فلا يوصف بها، فهم يلتزمون نفي صفة السمع والبصر، وإذا قيل لهم: إذا نفيتم عنه السمع والبصر فقد لزمكم أن تشبهوه بفاقد السمع وهو الأصم، وفاقد البصر وهو الأعمى، فيقولون: هذا لو كان قابلاً، أما إذا لم يكن قابلاً فلا، ثم يقولون: الجدار مثلاً لا يقبل الاتصاف بهما، فلا يقال للجدار: حي ولا ميت؛ لأنه لا يقبلهما، ولا يقال للجدار: إنه أصم ولا سميع ولا أعمى ولا بصير؛ لأنه ليس بقابل لواحد منهما، وهذا ليس بصحيح بل هو قابل لهما، فيوصف بأنه جماد، ويوصف بأنه ميت لا حركة فيه، فهو يقبل ذلك، فهم يتمسكون بهذه الشبهة التي تلقوها من الفلاسفة، وهي شبهة باطلة ضالة.

من صفات الله أنه محيط بكل شيء وفوقه، والإحاطة بها هو الاستيلاء عليها، بمعنى: أنه محيط بالأشياء، وكلها تحت سيطرته وتصرفه، فلا شيء يتحرك إلا بإرادته، ولا يتصرف إلا بعلمه، وهو المتصرف فيها وحده، وهذا يدل على كماله وعظمته، فالذي يعتقد ذلك لا شك أنه يعظم قدر ربه في قلبه، ويصعب عليه أن يتخلف عن طاعته، أو يرتكب معصيته، أو يفعل إثماً أو جرماً، أو يبارز ربه بالعصيان؛ لأنه يستحضر عظمته وكبرياءه وجلاله وغناه عن خلقه، ثم يستحضر ضعف الخلق كلهم، وفقرهم وفاقتهم، وحاجتهم الشديدة إلى ربهم، فبعد ذلك يقول: ما أنا وما قدري حتى أظهر الغنى عن الله، وحتى أبارزه بالذنوب، وأعصي أمره وأرتكب نهيه؟! وهل أتحمل شيئاً من سخطه أو أصبر على شيء من عذابه؟

فيكون استحضاره ذلك زاجراً له عن اقتراف المآثم.

ودليل إحاطته بكل شيء قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [الطلاق:12] ونفى ذلك عن المخلوقين بقوله: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، وقال: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20]، وقال: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً [النساء:126] فالإحاطة: هي السيطرة والاستيلاء التام، والولاية الكاملة التي لا ينقصها شيء، وهي لله وحده، فهو محيط بالأشياء كلها علويها وسفليها، وعالم بها ومتصرف فيها، ولا يخفى عليه شيء من أمرها، وذلك لأنها مخلوقة، وهو الخالق وحده.

قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه:

[ومن المعلوم -ولله المثل الأعلى- أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاطت قبضته بها، وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها، فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف؟! فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد له إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته أو يدني إليه من يشاء من خلقه؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره.

وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى، فقال له أبو رزين : (كيف يسعنا -يا رسول الله - وهو واحد ونحن جميع؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله: هذا القمر آية من آيات الله، كلكم يراه مخلياً به، والله أكبر من ذلك)، وإذا قد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء، فهذا يزيل كل إشكال، ويبطل كل خيال.

وأما كونه فوق المخلوقات، فقال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) [الأنعام:18]يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال المتقدم: (والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله).

وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأقره على ما قال وضحك منه. وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله:

شهدت بإذن الله أن محمداً رسول الذي فوق السماوات من عَلُ

وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما لـه عمل من ربـه مـتقبل

وأن الذي عادى اليهود ابن مريم رسول أتى من عند ذي العرش مرسل

وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم يجاهد في ذات الإله ويعدل

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أشهد).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وفي رواية: تغلب غضبي) رواه البخاري وغيره. وروى ابن ماجة عن جابر يرفعه قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا إليه رءوسهم، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، ثم قرأ قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه).

وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ) [الحديد:3]بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)].

الكلام الأول يتعلق بإحاطة الله بالمخلوقات، وقد تقدم الاستدلال على عظمة العرش والكرسي، وصغر المخلوقات بالنسبة إليهما، وأن السماوات السبع والأرضين السبع للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس، وما الكرسي بالنسبة إلى العرش إلا كحلقة ألقيت في أرض فلاة، فماذا تشغل الحلقة من هذه الفلاة؟!

وذكر ابن كثير أحاديث عند قوله تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وأن هذه السماوات والأرضين صغيرة بالنسبة إلى قبضة الرب عز وجل، فهي مطويات بيمينه، والأحاديث التي فسرت ذلك فيها الدلالة على أن الله يقبض المخلوقات كما يشاء، وقد ورد في الأحاديث أنه يقبض السماوات والأرض، وأنه يهزهن ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ذكر ذلك ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16].

وكذلك نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما -وهو من أجل علماء الصحابة- أنه قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم) كمثل حبة خردل في يد العبد، وماذا تشغل حبة الخردل من اليد؟!

معلوم أن الحبة صغيرة وحقيرة في القبضة، فقد يقبض ألفاً أو أكثر من ألف في كفه ولا يمتلئ الكف بذلك، فكيف بحبة واحدة؟

فهذه المخلوقات التي نشاهد عظمتها، ولا يعلم سعتها إلا الله تعالى، قد أخبرنا الله ورسوله بأنها سبع شداد، وأنها سبع طباق، وأن المسافات التي بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة سنة، ومتى تقطع هذه المسافة؟ وكل ذلك صغير بالنسبة إلى عظمة الرب تعالى!!

فهذا ونحوه دليل على عظمته، ودليل على إحاطته بكل شيء.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2715 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2631 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2591 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2565 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2472 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2408 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2387 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2373 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2336 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2301 استماع