شرح العقيدة الطحاوية [32]


الحلقة مفرغة

قال الشارح رحمه الله: [قوله: ( والعرش والكرسي حق ).

كما بين تعالى في كتابه، قال تعالى : ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:15-16]، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ [غافر:15]، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الفرقان:59]، في غير ما آية من القرآن: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116]، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل:26]، الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ [غافر:7]، وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزمر:75].

وفي دعاء الكرب المروي في الصحيح: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم).

وروى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله فوق ذلك، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء)ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.

وروى أبو داود وغيره بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث الأطيط أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن عرشه على سماواته كهكذا، وقال بأصابعه مثل القبة) الحديث، وفي صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن)، يروى: (وفوقه) بالنصب على الظرفية وبالرفع على الابتداء، أي: وسقفه.

وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة وربما سموه: الفلك الأطلس والفلك التاسع!

وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟)].

عظمة العرش

ابتدأ في الإيمان بالغيب، ومن جملة ما أخبر الله به من الأمور الغيبية: العرش والكرسي، فذكر الله العرش في هذه المواضع في القرآن، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث، وذكر الكرسي في قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، وذكر الله تعالى أنه استوى على العرش في سبع آيات من القرآن: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الفرقان:59].

وقد أنكر حقيقة العرش بعض المبتدعة، فقال بعضهم: العرش: هو الملك، فقوله: (استوى على العرش) أي: استوى على الملك. وهذا باطل، بل العرش هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ولهذا ذكر الله عن ملكة سبأ هذا العرش في قوله تعالى: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23]؛ وقوله تعالى: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا [النمل:38]؛ وقوله: أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ [النمل:42]، فدل أن العرش هو السرير الذي يجلس عليه الملك.

أما العرش الذي خصه الله تعالى بالاستواء فهو من الأمور الغيبية لا يحيط بوصفه إلا الله عز وجل، ورد في بعض الآثار في تفسير قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، قال بعض الصحابة: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس)، الترس: هو المجن الذي يقي المقاتل به ضربات السلاح، والدراهم: واحدها درهم، قطعة من الفضة صغيرة كانوا يتعاملون بها، ماذا تشغل سبعة دراهم إذا جعلت في الترس؟ وماذا تغطي منه؟!

لا شك أن هذا دليل على عظمة هذا الكرسي، فالسماوات السبع؟ والأرضون السبع من يحيط بها إلا الله عز وجل!

كذلك ورد أيضاً أن الكرسي صغير بالنسبة إلى العرش، جاء في بعض الأحاديث: (الكرسي في العرش كحلقة ألقيت بأرض فلاة)، الحلقة: هي الحديدة المتلاقية الطرفين، إذا ألقيت بأرض فلاة فماذا تشغل من تلك الأرض؟ هذا الكرسي الذي وسع السماوات والأرض هو بالنسبة إلى العرش كما ذكر، فإذا كانت هذه عظمة العرش فكيف بعظمة الخالق الذي هو رب العرش ورب كل شيء؟!

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كحبة خردل في يد أحدكم)، والخردل حبه صغير في غاية الصغر؟!

فكل هذا دليل على عظمة الله عز وجل، وأن هذه المخلوقات حقيرة بالنسبة لعظمته وجلاله وكبريائه، والعبد إذا استحضر عظمة الله فإنه يمتنع أن يقدم على معصيته، ويمتنع أن يغفل عن ذكره، ويحمله هذا الاستحضار على أن يعظم ربه غاية التعظيم، وأن يخافه غاية الخوف، وأن يجله ويبجله، وأن يصغر كل مخلوق عنده، فكل مخلوق -مهما كان قدره- يكون حقيراً وصغيراً بالنسبة إلى عظمة الخالق وجلاله وكبريائه.

هذا هو السبب في كون الله تعالى وصف نفسه بالعظم، ووصف أيضاً العرش الذي خصه بالاستواء بالعظم في قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15]، وفي قوله: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:129]، وفي قوله: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116].

وذكر الله العرش في عدة آيات مما يدل على أنه عرش حقيقي تطوف به الملائكة، قال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر:7]، وقال تعالى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر:75]، وقال تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ [غافر:15] أي: رب العرش، أي: مالكه وخالقه.

فهذه الأدلة تدل على أنه ليس كما تقول المعتزلة: إن العرش هو الملك، بل العرش مخلوق قد خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات، ولكنه عظيم لا يحيط به إلا الله عز وجل، ولا يعلم قدره إلا الله، والمخلوقات كلها صغيرة وحقيرة بالنسبة إليه، والله تعالى أعلم بحقيقته، وإنما على المؤمن أن يؤمن بما أخبر الله به، وأن يفوض علم الغيب إلى الله.

معنى العرش في اللغة

قال الشارح رحمه الله تعالى: [والعرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس : وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23]، وليس هو فلكاً، ولا تفهم منه العرب كذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب؛ فهو: سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات، فمن شعر أمية بن أبي الصلت :

مجدوا الله فهو للمجد أهـل ربنا في السماء أمسى كبيـرا

بالبناء العالي الذي بهر النا س وسوى فوق السماء سريـرا

شرجعاً لا يناله بصر العـين ترى حوله المـلائك صـورا

الصور هنا: جمع أصور، وهو: المائل العنق لنظره إلى العلو، والشرجع: هو العالي المنيف، والسرير: هو العرش في اللغة.

ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي عرض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته :

شهـدت بأن وعد الله حـق وأن النار مثـوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طـافٍ وفوق العرش رب العـالمينا

وتحمـله ملائكـة شـداد ملائكـة الإله مسـومينـا

ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة.

وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش: إن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)ورواه ابن أبي حاتم ولفظه: (مخفق الطير سبعمائة عام).

وأما من حرف كلام الله وجعل العرش عبارة عن الملك، كيف يصنع بقوله تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، وقوله: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7]، أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟! وكان ملكه على الماء! ويكون موسى عليه السلام آخذاً بقائمة من قوائم الملك؟! هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟ !].

الله تعالى قد أخبر بأنه خلق العرش وأنه رب العرش في قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15]، وفي قوله: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116]، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:129].

والعرش في اللغة: هو سرير الملك، وقال الله عن بلقيس -وهي امرأة كانت ملكة في بلاد سبأ-: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23].

كذلك أخبر تعالى عن عرشه العظيم بأخبار واضحة تدل على أنه مخلوق، وأنه محمول، وأن حوله الملائكة، فقال تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر:7]، فالذين يحملونه بعض من الملائكة، وقال تعالى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر:75]، والحفوف بمعنى: الاستدارة حول العرش، وذلك دليل على أنه مخلوق وأنه محمول.

وأخبر أنه: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ [غافر:15] أي: صاحب العرش، وأخبر بأنه في يوم القيامة يحمل، في قوله: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17].

وأخبر أيضاً بأنه استوى على العرش في سبعة مواضع من القرآن، في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، في سورة الأعراف وفي سورة يونس، وفي سورة طه، وفي سورة الفرقان، وفي سورة السجدة، وفي سورة الحديد، وأخبر في سورة هود بأن العرش على الماء بقوله تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] أي: قبل أن يخلق السماوات كان عرشه على الماء.

وسئل ابن عباس فقيل: (على أي شيء الماء؟ فقال: على متن الريح)، فالله قادر على أن يجعل الماء على الريح، أو يجعله في هواء، فهو قادر على كل شيء: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]).

ولما ذكر الله تعالى أنه استوى على العرش في آيات كثيرة، صعب تصديق ذلك على النفاة الذين ينفون علو الله تعالى واستواءه على عرشه، فقالوا: العرش: الملك، وقالوا في قوله: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] أي: على الملك استوى! وهذا خطأ بعيد، كيف يكون للملك هذه الأوصاف؟ فإن الله ذكر أن العرش تحمله الملائكة؛ فهل الملائكة تحمل الملك؟! والله ذكر أن العرش على الماء: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] فكيف يكون الملك على الماء؟ لا شك أن هذا قول تنكره الطباع.

العرب تعرف مسمى العرش، العرش في اللغة هو: السرير الذي يكون للملك، ذكر ذلك العرب في شعرهم، كما ذكر المؤلف الأبيات التي نقلت عن أمية بن أبي الصلت ، وكان من شعراء العرب، فهو يقول:

مجدوا الله فهو للمجد أهـل ربنا في السماء أمسى كبيـرا

بالبناء العالي الذي بهر النا س وسوى فوق السماء سريـرا

شرجعاً لا يناله بصر العـين ترى حوله المـلائك صـورا

فوصفه بأنه سرير بالبناء الأعلى الذي بهر الناس، وسوى فوق السماء سريراً، فأطلق عليه أنه سرير كما هو في لغة العرب، وجعله في البناء الأعلى الذي هو السموات العلى، وأخبر بأنه فوق السموات.

هذا الشعر قاله هذا الإنسان الذي هو عارف وعالم ببعض الأحكام، وقد أنشد بعض العرب شعره للنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمرو بن الشريد أنه قال: (ردفت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم، فقال، هيه! فأنشدته بيتاً، فقال: هيه! ثم أنشدته بيتاً، فقال: هيه! حتى أنشدته مائة بيت، فقال: آمن شعره وكفر قلبه) أي: كما في أوصافه هذه حيث وصف الله تعالى بأنه الأعلى، وبأنه فوق السماء، وبأنه فوق العرش، وبأن العرش سرير كما في هذه الأبيات.

كذلك أيضاً الأبيات التي نظمها عبد الله بن رواحة أحد شعراء الصحابة من الأنصار، لما وطئ أمة له بملك اليمين، فرأته زوجته فأنكرت عليه، فأنكر وقال: ما فعلت؟

وهي تعرف أن الذي عليه جنابة لا يقرأ القرآن، فقالت: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن، فأنشد هذه الأبيات واعتقدت أنها من القرآن، يقول فيها:

شهـدت بأن وعد الله حـق وأن النار مثـوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طـافٍ وفوق العرش رب العـالمينا

وتحمـله ملائكـة شـداد ملائكـة الإله مسومينا

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك، والشاهد منه ذكر العرش في قوله: وأن العرش فوق الماء طاف، والطافي: هو السابح الراكد فوق الماء.

وقوله: وفوق العرش رب العالمينا، وقد أخذ ذلك من قوله تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7]، والمراد أنه فوق الماء وفوق المخلوقات.

وبكل حال فالعرش هو هذا السرير الذي لا يعلم قدره إلا الله.

وقد ذكر العلماء: أن الكرسي غير العرش، وهو الذي قال الله: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، فالكرسي قيل: إنه كالمرقاة بين يدي العرش، هذا الكرسي وسع السماوات والأرض، أي: اتسع للسماوات السبع وللأرضين السبع، وقد ذكرنا فيما مضى الحديث الذي فيه: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) الترس: هو المجن، والدراهم: هي قطع من الفضة صغيرة، ماذا تشغل السبعة الدراهم من هذا الترس؟!

الترس قد يتسع لسبعمائة أو لألف أو أكثر من ألف، ثم هذا الكرسي صغير بين يدي العرش!

ورد أيضاً في بعض الآثار: (الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة)، الحلقة: هي القطعة من الحديد المتلاقية الطرفين، إذا ألقيت في أرض فلاة ماذا تشغل منها؟! هل تشغل ربعها أو عشرها أو عشر عشرها أو ربع عشر من أعشار عشرها؟! ما تشغل منها إلا جزءاً يسيراً، فهكذا نسبه الكرسي إلى العرش، وإذا كانت هذه عظمة العرش فكيف بعظمة رب العرش، الذي خلقه والذي خلق جميع الخلق؟!

إذا عرف العباد عظمة هذه المخلوقات فإنهم يعظمون رب العرش.

الملائكة الذين يحملون العرش ذكر الله عددهم في قوله: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17].

ولكن ماذا نقول في أولئك الملائكة الذين لا يعلم قدر وصفهم إلا الله؟

في هذا الحديث أخبر أن منهم ملكاً: (ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)، وفي رواية: (مخفق الطير سبعمائة عام) متى تقدر هذه المسافة القليلة منه؟ فكيف ببقية جسده؟

هذا من حملة العرش، ومع ذلك لا يحملون العرش بقوتهم إنما يحملونه بذكر الله، جاء في الأثر أنهم يقولون: (كيف نحمل العرش وأنت رب العرش، وهذه عظمة العرش؟ فقال: (احملوه بالتسبيح) أو كما ورد، فلولا أن الله أعان الملائكة بالتسبيح لما حملوه، مع أن هذه عظمتهم وهذه صورهم وعظم خلقهم.

وقد تقدم أن العرش سقف المخلوقات، وأنه سقف الفردوس، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن)، فهذا دليل على أنه سقف المخلوقات وأنه محيط بالمخلوقات ولا يعلم قدره إلا الله، ومع ذلك فإن الرب تعالى مستغن عن العرش وما دونه، وهو تعالى محيط بخلقه وقريب منهم وعالم بأعمالهم لا تخفى عليه منهم خافية، ومع ذلك فإنه مطلع على الأعمال، وقادر على أن يثيب هذا ويعاقب هذا، وقادر على أن يسع خلقه رحمة وعلماً وحكمة وعزة وتصرفاً. ومعنى هذا أنه إذا كانت هذه عظمة المخلوقات فعظموا رب المخلوقات.

العرش غير الكرسي

قال الشارح رحمه الله: [وأما الكرسي فقال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، وقد قيل: هو العرش، والصحيح أنه غيره، نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، روى ابن أبي شيبة في كتابه صفة العرش والحاكم في مستدركه وقال: إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] أنه قال: (الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى)، وقد روي مرفوعاً، والصواب أنه موقوف على ابن عباس.

وقال السدي: السماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش.

وقال ابن جرير : قال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض).

وقيل: كرسيه علمه، وينسب إلى ابن عباس ، والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة كما تقدم، ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن، والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم، كما قيل في العرش وإنما هو كما قال غير واحد من السلف: بين يدي العرش كالمرقاة إليه].

هذا الكلام على الكرسي الذي ذكر الله أنه وسع السماوات والأرض، وهو كالمرقاة بين يدي العرش أو أن الكرسي موضع القدمين، وبكل حال فهو مخلوق، وقد ذكر الله أنه وسع السماوات بأكملها: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، فإذا كان الكرسي قد وسع السماوات والأرض فكيف بالعرش؟

هذا هو القول الصحيح: وهو أن الكرسي مخلوق، وأنه غير العرش، وهناك قول بأن الكرسي هو العرش، والصحيح أنه غيره؛ هذا هو المشهور، فالكرسي مقدمة العرش أو مرقاة بين يديه.

وهناك قول ثالث ولكنه ضعيف: وهو أن الكرسي هو العلم، (وسع كرسيه) أي: علمه، وهذا القول -وإن روي عن ابن عباس- فإنه لا يثبت عنه، والصحيح القول الأول عنه، ولعل هذا من أقوال بعض المبتدعة الذين يريدون أن يئولوا الأشياء بغير ظواهرها، فلما أولوا العرش بأنه الملك أولوا الكرسي بأنه العلم؛ حتى يبطلوا الصفات التي وردت في النصوص، والتي تتعلق بالعرش والكرسي، والتي الإيمان بها من الإيمان بالغيب.

استغناء الله عن العرش وما دونه

قال الشارح رحمه الله: [قوله: ( وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقة ).

أما قوله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه) فقال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، وقال تعالى: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، وإنما قال الشيخ رحمه الله هذا الكلام هنا؛ لأنه لما ذكر العرش والكرسي ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش؛ ليبين أن خلقه العرش لاستوائه عليه ليس لحاجته إليه، بل له في ذلك حكمة اقتضته، وكون العالي فوق السافل لا يلزم أن يكون السافل حاوياً للعالي محيطاً به حاملاً له، ولا أن يكون الأعلى مفتقراً إليه، فانظر إلى السماء كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها؟

فالرب تعالى أعظم شأناً وأجل من أن يلزم من علوه ذلك، بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله بقدرته للسافل، وفقر السافل، وغناه هو سبحانه عن السافل، وإحاطته عز وجل به، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته، وغناه عن العرش، وفقر العرش إليه، وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به، وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له، وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق.

ونفاة العلو أهل التعطيل لو فصلوا بهذا التفصيل لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل فضلوا عن سواء السبيل، والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم].

قوله: (إن الله مستغن عن العرش ومستغن عما دون العرش) يفيد أن العرش هو سقف المخلوقات، وأنه أعظمها فيما أخبرنا الله به، وأن هذه المخلوقات كلها حقيرة بالنسبة إلى هذا العرش، ومع ذلك فإن الرب الذي خلقه وخلق غيره مستغن عن العرش ومستغن عن غيره، ولا يحتاج إليه ليحمله، ولا إلى الملائكة لتحمله، بل هو بقدرته الذي يمسك المخلوقات، يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ [الحج:65] .. وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج:65]، وأخبر بأنه: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ [لقمان:10]، خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا [الملك:3]، سبعاً شداداً بناها فوق الأرض، ومع ذلك ثبتها فهي مستغنية عن عمد تعتمد عليه.

المخلوق إذا رفع سقفاً فلا بد أن يثبته بعمد يعتمد عليها ذلك السقف، والله تعالى ذكر أن السماء سقف في قوله: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا [الأنبياء:32]، ومع ذلك ليس لها عمد، يقول تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [لقمان:10] أي: تشاهدونها، فهي مستغنية عن ذلك لكون الله تعالى هو الذي أمسكها بقوته، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:41]، فمع كونه فوق العالم وفوق الخلق وعال على عباده، فإن جميع المخلوقات بحاجة إليه، وهو مستغن عنها، وعن العباد وطاعاتهم، وعن الملائكة وعبادتهم، وكذلك مستغن عن السماوات وعن العرش وعن الكرسي، هو غني عن ذلك، وكل شيء فقير إليه، بل هو الذي يمسكها وهو الذي يحملها وهو الذي يثبتها كما يشاء.

فالنفاة توهموا في هذه المخلوقات أنه إذا كان الله فوقها فيلزم أن تكون هناك حاجة وضرورة إليها!

والجواب: أن هذا خطأ، بل الله أخبر بأنه عال على هذه المخلوقات، ومع ذلك فإنه الغني عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، فلا يحتاج إلى خلقه في شيء من خصائصهم، بل هو الغني وهم الفقراء إليه سبحانه وتعالى.

فلا يغتر بما يقوله الذين يردون بعض النصوص، فيعتقدون أن في إثباتها لزوم حاجة أو نحو ذلك، أو يقولون -كما يذكر عن النفاة-: إن هذا يلزم منه حلول الحوادث في ذات الله تعالى، ونحو ذلك من الكلمات التي هي من توليدات المتكلمين.

العرش فوق المخلوقات، والله مستو عليه محيط بكل شيء

قال الشارح رحمه الله: [وأما قوله: (محيط بكل شيء وفوقه) وفي بعض النسخ: (محيط بكل شيء فوقه) بغير واو من قوله: (فوقه)، والنسخة الأولى هي الصحيحة، ومعناها: أنه تعالى محيط بكل شيء وفوق كل شيء، ومعنى الثانية: أنه محيط بكل شيء فوق العرش، وهذا -والله أعلم- إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهواً ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة، أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصداً للفساد، وإنكاراً لصفة الفوقية! وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات، وليس فوقه شيء من المخلوقات، فلا يبقى لقوله: محيط بكل شيء فوق العرش -والحالة هذه- معنى، إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحاط به، فتعين ثبوت الواو. ويكون المعنى: أنه سبحانه محيط بكل شيء، وفوق كل شيء.

أما كونه محيطاً بكل شيء، فقال تعالى: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20]، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ [فصلت:54]، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:126]، وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وإنما المراد: إحاطة عظمة وسعة وعلم وقدرة، وأنها بالنسبة إلى عظمته كالخردلة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما السماوات السبع، والأرضون السبع وما فيهن، وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم)].

كل هذا يؤخذ منه عظمة الرب سبحانه وتعالى، وأنه محيط بكل شيء، والإحاطة هي العلم بها والاستيلاء عليها والتصرف فيها، فالله قد أحاط علماً بها كما في قوله: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20] وقوله: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً [النساء:126] بمعنى: أنه أحصاها وعلمها، واستولى عليها، وعلى جميع المخلوقات، فالله محيط بكل شيء، ومن جملة ذلك العباد، فالله محيط بهم، فهو محيط بعلومهم التي يعلمونها، فهو الذي فتحها عليهم، ومحيط بأعمالهم التي يعملونها لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، قال سبحانه: وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16] ، وكذلك الله محيط بالمخلوقات كلها سواء الجماد منها والمتحرك، والحيوان والنبات وغير ذلك، كله قد أحاط به، واستولى عليه، وتصرف فيه، فهو المستولي على خلقه.

والفائدة من معرفة ذلك التعظيم، فإن العبد إذا تصور أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علماً عظّمه حق التعظيم، وعبده حق العبادة، وابتعد عما يسخطه، وعما نهى عنه، واستفاد من ذلك تعظيم شرعه والتصديق بخبره، وطلب الثواب الذي رتبه على العبادة، فكل ذلك من فوائد معرفة إحاطته بكل شيء من المخلوقات، وهذه عقيدة المسلمين؛ فلذلك أصبح أهل العقيدة السليمة هم الذين يعظمون حرمات الله وشرائعه، وأما الذين أنكروا علم الله أو أنكروا عظمته أو نحو ذلك فهم الذين وقعوا فيما وقعوا فيه من المخالفات والمعاصي والعقائد المنحرفة.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2715 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2631 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2591 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2565 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2472 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2408 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2387 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2373 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2336 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2301 استماع