شرح العقيدة الطحاوية [30]


الحلقة مفرغة

قد عرفنا أن من عقيدة المسلمين الإيمان، وأركانه ستة:

الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأن الإيمان تدخل فيه الأعمال، فهي من مسمى الإيمان، ولأجل ذلك يقوى الإيمان ويضعف، ويزيد وينقص، فيزيد بسبب زيادة الأعمال وينقص بسبب نقص الأعمال، أو بسبب ارتكاب الذنوب، وذلك مما يحمل المسلم على أن يتعاهد إيمانه بالزيادة ويحذر من النقصان، لأنه إذا تغافل وصار ينقص إيمانه شيئاً فشيئاً لم يأمن أن يضعف، وإذا ضعف لم يكن زاجراً له عن اقتراف السيئات، ولم يكن دافعاً له إلى التكاثر من الحسنات.

كذلك قد يصير ضعف الإيمان سبباً لأن يقوى ضده، وهو الكفر أو الذنب أو المعصية، فإنه كلما قوي الإيمان ضعفت دوافع الكفر والفسوق والمعاصي، وكلما ضعف الإيمان قويت أضداده، فيحرص المسلم على أن يجدد هذا الإيمان، وأن يكون مجداً مجتهداً في الحرص على تقوية إيمانه، وعلى البعد عن الأسباب التي تضعفه.

وقد بين العلماء مسمى هذه الأشياء، وذلك لأنها مسميات شرعية، فالإيمان وإن كان أصله لغوياً ولكنه أصبح مسمى شرعياً، استعمله الشرع في الانقياد لأوامر الله تعالى واتباع ما جاء عنه، واستعمله في تكميل هذا الاتباع بامتثال الطاعات وترك المحرمات، فأصبح مسمى شرعياً.

كذلك الإسلام مسمى شرعي وإن كان أصله في اللغة: أنه الإذعان والاستسلام، ولكنه أصبح اسماً شرعياً يراد به الدخول في هذا الدين والانتماء إليه والالتزام بتعاليمه، فهو مسمى شرعي بعد أن كان لغوياً.

كذلك الإحسان مسمى شرعي، وقد بينه النبي عليه الصلاة والسلام ووصف أهله وقسمهم، فأصبح هذا الاسم مسمى شرعياً.

فالإسلام والإيمان والإحسان، وكذلك أضدادها؛ مسميات شرعية؛ فالكفر مسمى شرعي وإن كان أصله في اللغة الستر التغطية والشرك مسمىً شرعي وإن كان أصله في اللغة: الاشتراك في شيئين أو التشريك بين اثنين.

والنفاق مسمىً شرعي وإن كان له أصل في اللغة، ولكنه أصبح مستعملاً في هذا الاستعمال الشرعي.

فهذه الأشياء جاءت الشرعية باستعمالها، فمنها ما هو مأمور به: كالإسلام والإيمان والإحسان والدين والاستقامة وما أشبهها، ومنها ما هو منهي عنه ومحذر منه: كالكفر والشرك والنفاق والسيئات والخطايا والذنوب وما أشبهها، فهذه مسميات شرعية، ودخولها في العقيدة من حيث إن على المسلم أن يعتقد تقبل ما جاءت به الشريعة قبولاً كلياً فيقول: هذا الإسلام تضمنته هذه الشريعة فأنا أدين بالإسلام، سواء فيما يتعلق بالعقائد أو ما يتعلق بالأعمال، فيدين لله تعالى به، ويعتقد أنه سفينة النجاة، وأنه سبيل الوصول إلى السلامة، فيعتقد صحته وسلامة من سار عليه، ويعتقد خطأ من ضل عنه وابتعد عنه، أو أخذ منه بعضاً دون بعض، فهذا وجه دخوله في العقيدة.

أما أركان الإسلام فهي مشهورة، ولم يدخلوها في العقيدة ما عدا الركن الأساسي الذي هو الشهادتان، فإنهما أساس العقيدة وأساس التوحيد، بخلاف الأركان العملية كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبهها، فهذه من الأعمال فجعلوها من الفروع، ولكن هي في الحقيقة من العقيدة لأنها أسس للعقيدة، ولأن إنكارها إنكار لشيء معلوم من الدين بالضرورة، فيخرج المنكر له من الملة ويدخل في الكفر والعياذ بالله، وذلك لأنها لما كانت أدلتها واضحة، والمسلمون تلقوها بالقبول؛ لم يكن هناك مجال لإنكارها.

ولو وجد من ينكرها، فإن أولئك الذين أنكروها قد خالفوا المعقول والمنقول، وكذلك الذين تأولوها كالفلاسفة وبعض الصوفية الذين قالوا إن الصلاة ليست هي هذه الأفعال، إنما المراد بها اتصال القلب بالرب، وفسروا الحج بأنه حج القلوب إلى علام الغيوب وأسقطوا بذلك هذه الأركان الظاهرة التي تعلمها المسلمون من نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولكن نفرة المسلمين من هذه الأقوال واستبشاعهم لها أوجب أنها لا تذكر في العقائد، فاقتصر أهل العقائد على أركان الإيمان الستة، وأصلها كما تقدم وتكرر أصلان: الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، فإذا اجتمع هذان تبعتهما بقية الأركان، ولكنهم فصلوا في كثير منها وأجملوا في بعض منها لقلة الخلاف، وإذا حققها المسلم أصبح من أهل العقيدة السليمة، وأصبح من أهل الاستقامة الذين هم على سبيل النجاة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: ( وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل، ولا مغير ولا محول، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه ).

هذا بناء على ما تقدم من أن الله تعالى قد سبق علمه بالكائنات وأنه قدر مقاديرها قبل خلقها، كما قال صلى الله عليه وسلم : (قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء)، فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها على ما اقتضته حكمته البالغة فكانت كما علم، فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها، قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالماً في الأزل، وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوا، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: (ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروا كفروا).

فالله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه.

لا منافاة بين قدرة العبد وسبق علم الله بما هو عامل

وإذا قيل : فيلزم أن يكون العبد قادراً على تغيير علم الله، لأن الله علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله؟

قيل: هذه مغلطة، وذلك أن مجرد مقدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه، بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع، ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر، وعلم الله مطابق للواقع، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغير العلم، بل هو قادر على فعل لم يقع، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع لا أنه لا يقع.

وإذا قيل: فما انعدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم.

قيل: ليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه، وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه، وهو فرض محال، وذلك بمنزلة من يقول: افرض وقوعه مع عدم وقوعه وهو جمع بين النقيضين.

فإن قيل: فإذا كان وقوعه مع علم الرب بعدم وقوعه محالاً لم يكن مقدوراً.

قيل: لفظ المحال مجمل، وهذا ليس محالا لعدم استطاعته له ولا لعجزه عنه ولا لامتناعه في نفسه، بل هو ممكن مقدور مستطاع، ولكن إذا وقع كان الله عالماً بأنه سيقع، وإذا لم يقع كان عالماً بأنه لا يقع، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالاً من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه، وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال.

مما يلزم هؤلاء: أن لا يبقى أحد قادراً على شيء لا الرب ولا الخلق، فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه، وكذلك إذا علم من نفسه أنه لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله، فكذلك ما قدره من أفعال عباده، والله تعالى أعلم].

الكلام الأول يتعلق بعلم الله تعالى بالأشياء قبل وقوعها ويسمى هذا: التقدير العام، وهو أن الله تعالى علم أن الخلق عاملون بعلمه القديم الذي سبق كل شيء، علم أعمالهم وعلم عددهم وعلم عدد المخلوقات، وأحصى ذلك قبل أن يوجدوا، وخلق القلم وأمره أن يكتب، وجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، هذا ما يؤمن به المسلمون.

دليل ذلك من القرآن ظاهر مثل قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، ومثل قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، ومثل قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، والآيات في هذا كثيرة تفيد سعة علم الله بالأشياء قبل وجودها.

غلاة المعتزلة ينكرون علم الله في الأزل

ذكر أن غلاة المعتزلة المتقدمين أنكروا هذا النوع وزعموا أن الله لا يعلم الأشياء حتى توجد، وقال بعضهم: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، أي: يعلم عموم الأشياء ولا يعلم تفاصيلها، ومقتضى هذا أنه يعلم عدد الخلق ولكن لا يعلم تفاصيل أعمالهم، فإذا علم أن هذه القبيلة يبلغ عددها كذا وكذا، فلا يعلم أعمال هذا الإنسان حتى يعملها.

وهذا يعتبر تنقصاً لعلم الله: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282]، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [التوبة:78]، فيلزم التنقص إذا وصف بأنه لا يعلم الأشياء إلا بعد حدوثها.

هؤلاء الذين أنكروا العلم السابق الأزلي هم الذين عناهم الإمام الشافعي في هذه الكلمة: (ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروا كفروا)، يعني: هل تقرون بأن الله بكل شيء عليم؟ هل تقرون بأن الله عالم بكل شيء؛ لأن الله علام الغيوب، وأن الله يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون؟ هل تقرون بسعة علم الله تعالى؟

فإن أقروا خُصموا، فإن العلم بالتفاصيل داخل في ذلك، وإن جحدوا كفروا، وذلك لأنهم إذا جحدوا علم الله تعالى لزمهم أن يصفوه بالعجز وبالجهل، وبأنه يكون في الوجود ما لا يريد، فيلزم من ذلك التنقص، ولا شك أنه إنكار للأدلة، فيكونون بذلك كفاراً جاحدين لصفات الله تعالى.

وقد أقر الأشعرية بوصف الله تعالى بأنه بكل شيء عليم، ولكنهم أنكروا بعض الصفات الفعلية، أما المعتزلة فأنكروا صفة العلم لله سبحانه وتعالى، ووصفوه بأنه لا يجهل؛ هكذا في معتقداتهم!

شبهات القدرية حول علم الله السابق

بعد ذلك أخذوا يوردون شبهات ويقولون: إذا علم الله أن هذا الإنسان يعمل كذا وأنه يعمل كذا، فلا بد أن يكون قادراً على أن يرده أو غير قادر على أن يرده.

فإذا كان قادراً على أن يرده فلم يرده، أصبح قد رضي بأفعاله التي هي المعاصي.

وإذا لم يكن قادراً، أصبح موصوفاً بالعجز، وما أشبه ذلك من هذه التشكيكات التي يوردونها على أهل السنة الذين يصفون الله تعالى بالعلم القديم.

وقد ذكر المؤلف جواب أهل السنة عن ذلك، فإن أهل السنة يقولون: إن كل ما وقع فإنه مراد، ولكن من ذلك ما هو مراد ومحبوب كالطاعات، ومنه ما هو مراد ومقدر كالمعاصي، فمن المراد المقدر ما علمه الله وقدره وقضاه على العبد، ولكنه كرهه شرعاً ولم يحبه، وتوعد عليه، والعبد عندما زاوله يوصف بأنه كافر أو عاص أو مجرم أو فاسق أو خاطئ أو مذنب، حيث ارتكب هذا وفعله بقدرة واختيار مستطاع له، فهو الذي يعاتب ويعاقب عليه، هذا هو معتقد أهل السنة في هذا، ولا يلزم من إرادته كوناً أن يحبه وأن يقدره وأن يريده شرعاً.

والله تعالى كما تقدم قد أعطى العبد قدرة يستطيع بها مزاولة أعماله، فالعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أفعالهم ولهم إرادة، ولكن الله تعالى هو الذي خلقهم وخلق قدرتهم وإرادتهم ولو شاء لهداهم، ولكنه لحكمته البالغة أضل قوماً بعدله، وهدى قوماً بفضله، فله النعمة على من هداه، وله الحكمة على من أضله.

وأعطى كلاً منهم من الاستطاعة ما يزاول به أعماله، وهذا قد تكرر معنا في الرد على هؤلاء الذين يطيلون الجدل في مثل علم الله تعالى وإرادته، فنحن إذا قلنا: إن جميع ما في الوجود مراد قدراً، وكل ما هو حادث فهو معلوم لله قبل أن توجد المخلوقات ومراد كوناً وقدراً؛ بحيث إن الله قدره وإنه لو شاء ما حصلت هذه الأشياء، فإنه سبحانه لقدرته لا يمكن أن توجد معصية قسراً عليه بدون رضاه أو بدون تقديره، ولكنه لحكمته جعل هؤلاء من أهل الذنوب وهؤلاء من أهل الحسنات لحكمة منه، ولا شك أن الذين اختاروا هذا والذين اختاروا هذا لهم نوع من هذا الاختيار ليستحقوا ثواباً أو عقاباً، وحكمة الله تعالى خفية لا يطلع عليها العباد.

فهذه الدرجة التي ذكرنا وهذه المنزلة التي هي العلم السابق هو الذي لا يتغير، يعني يقال: ما كتبه الله في اللوح المحفوظ لا يمكن تغييره، يقول الله تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، هذا في المصائب، ويقول: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23].

ويقول علقمة في قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، يعني: يستسلم لما أصابه بقضاء الله تعالى وبقدره، فيكون بذلك قد اتقى الله حق تقاته، وقد علم أن ما حدث فهو بأمر الله تعالى وبتقديره، وفعل ما يقدر عليه وما هو مأمور به، واستسلم لأمر الله تعالى.

وقد تقدم لنا وتكرر أن إيماننا بالقضاء والقدر لا يستلزم أن نترك الأسباب والأفعال والأعمال التي نعملها، كما أننا لا نترك الأسباب الحسية في طلب المعاش؛ فكذلك في طلب الأجر الأخروي والحسنات الأخروية، فالعبد مأمور بأن يفعلها مع إيمانه بأنها مقدرة وأنها ستأتيه، ويؤمن بأن المصائب التي وقعت عليه لا بد منها، لقوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154]، ولقوله: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78]، وهذا في الذين قالوا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء:77]، فتبين أن التحصن لا يدفع قدر الله تعالى الذي قدره.

فعلى كل حال فإن الإيمان بسعة علم الله تعالى وواسع علمه بتفاصيل المخلوقات، لا ينافي فعل الأسباب وحدوث المسببات بعد أسبابها.

وإذا قيل : فيلزم أن يكون العبد قادراً على تغيير علم الله، لأن الله علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله؟

قيل: هذه مغلطة، وذلك أن مجرد مقدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه، بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع، ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر، وعلم الله مطابق للواقع، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغير العلم، بل هو قادر على فعل لم يقع، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع لا أنه لا يقع.

وإذا قيل: فما انعدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم.

قيل: ليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه، وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه، وهو فرض محال، وذلك بمنزلة من يقول: افرض وقوعه مع عدم وقوعه وهو جمع بين النقيضين.

فإن قيل: فإذا كان وقوعه مع علم الرب بعدم وقوعه محالاً لم يكن مقدوراً.

قيل: لفظ المحال مجمل، وهذا ليس محالا لعدم استطاعته له ولا لعجزه عنه ولا لامتناعه في نفسه، بل هو ممكن مقدور مستطاع، ولكن إذا وقع كان الله عالماً بأنه سيقع، وإذا لم يقع كان عالماً بأنه لا يقع، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالاً من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه، وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال.

مما يلزم هؤلاء: أن لا يبقى أحد قادراً على شيء لا الرب ولا الخلق، فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه، وكذلك إذا علم من نفسه أنه لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله، فكذلك ما قدره من أفعال عباده، والله تعالى أعلم].

الكلام الأول يتعلق بعلم الله تعالى بالأشياء قبل وقوعها ويسمى هذا: التقدير العام، وهو أن الله تعالى علم أن الخلق عاملون بعلمه القديم الذي سبق كل شيء، علم أعمالهم وعلم عددهم وعلم عدد المخلوقات، وأحصى ذلك قبل أن يوجدوا، وخلق القلم وأمره أن يكتب، وجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، هذا ما يؤمن به المسلمون.

دليل ذلك من القرآن ظاهر مثل قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، ومثل قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، ومثل قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، والآيات في هذا كثيرة تفيد سعة علم الله بالأشياء قبل وجودها.

ذكر أن غلاة المعتزلة المتقدمين أنكروا هذا النوع وزعموا أن الله لا يعلم الأشياء حتى توجد، وقال بعضهم: إنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، أي: يعلم عموم الأشياء ولا يعلم تفاصيلها، ومقتضى هذا أنه يعلم عدد الخلق ولكن لا يعلم تفاصيل أعمالهم، فإذا علم أن هذه القبيلة يبلغ عددها كذا وكذا، فلا يعلم أعمال هذا الإنسان حتى يعملها.

وهذا يعتبر تنقصاً لعلم الله: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282]، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [التوبة:78]، فيلزم التنقص إذا وصف بأنه لا يعلم الأشياء إلا بعد حدوثها.

هؤلاء الذين أنكروا العلم السابق الأزلي هم الذين عناهم الإمام الشافعي في هذه الكلمة: (ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خُصموا، وإن أنكروا كفروا)، يعني: هل تقرون بأن الله بكل شيء عليم؟ هل تقرون بأن الله عالم بكل شيء؛ لأن الله علام الغيوب، وأن الله يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون؟ هل تقرون بسعة علم الله تعالى؟

فإن أقروا خُصموا، فإن العلم بالتفاصيل داخل في ذلك، وإن جحدوا كفروا، وذلك لأنهم إذا جحدوا علم الله تعالى لزمهم أن يصفوه بالعجز وبالجهل، وبأنه يكون في الوجود ما لا يريد، فيلزم من ذلك التنقص، ولا شك أنه إنكار للأدلة، فيكونون بذلك كفاراً جاحدين لصفات الله تعالى.

وقد أقر الأشعرية بوصف الله تعالى بأنه بكل شيء عليم، ولكنهم أنكروا بعض الصفات الفعلية، أما المعتزلة فأنكروا صفة العلم لله سبحانه وتعالى، ووصفوه بأنه لا يجهل؛ هكذا في معتقداتهم!


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2711 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2629 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2589 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2559 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2470 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2407 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2384 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2372 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2335 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2299 استماع