شرح العقيدة الطحاوية [19]


الحلقة مفرغة

رؤية أهل الجنة لله تعالى حق

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا؛ فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه).

المخالف في الرؤية هم الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية، وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة، وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة.

وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمرون وتنافس المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون وعن بابه مردودون].

الكلام هنا على مسألة رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، والرؤية في الآخرة ثابتة عند أهل السنة، ثابتة في الجنة وفي الموقف أحياناً.

وهذه الرؤية من تمام نعيم أهل الجنة، ومن تمام كرامتهم، ومن تمام إتحافهم والإنعام عليهم، وذلك أن يروا ربهم، وأن يتجلى لهم ربهم كما يشاء، وأن يكشف الحجاب بينه وبينهم، وأن ينظروا إليه كما يشاءون، وإذا نظروا إليه لم يلتفتوا إلى غيره حتى يحتجب عنهم، فيزدادون بهجة وسروراً، وتسفر وجوههم وتزداد نضرة وفرحاً.

وقد أخبر العلماء والعباد والعارفون بأنه لولا يقينهم بأنهم سيرون ربهم تعالى لقتلوا أنفسهم، فلو عرفوا أنهم في الآخرة لا يتنعمون برؤيته لما قر لهم قرار، ولما سروا بذلك الموعد، لكن اطمأنوا إلى خبر ربهم والخبر عن نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام، وصدقوا بأنهم يوم القيامة وفي الجنة يتنعمون غاية التنعم برؤية الله سبحانه وتعالى، وذلك أنه في بعض الأحاديث يقول لهم: (اسألوني. فيقولون: نسألك رضاك. فيقول: رضائي أحلكم دار كرامتي، فيقول: سلوني. فيجتمعون على أن يقولوا: اكشف لنا الحجاب- أو: أرنا وجهك- فإذا تجلى ورأوه لم يلتفتوا إلى غيره).

المعتزلة والجهمية والخوارج ينكرون الرؤية

ولا شك أن ذلك وارد في الأدلة الكثيرة، وفي النصوص الصحيحة الصريحة التي لا تحتاج إلى تقوية، والتي بلغت في كثرتها التواتر، ولكن أنكرها مع كثرتها من حرموا هذا النعيم، ومن صدوا بقلوبهم عن هذا الأمر العظيم، أولئك هم الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الخوارج والإمامية.

والجهمية: أتباع الجهم بن صفوان . وهو أول من أنكر الصفات، ولما أنكر أن يكون الرب سبحانه وتعالى له صفات أنكر أن يرى، وقال: لا يمكن أن يرى إلا إذا كان في مقابلة أو كان في جهة. فادعى أن رؤيته مستحيلة وغير ممكنة.

وتبعت المعتزلة الجهمية، والمعتزلة فرق كثيرة لا يزالون موجودين، ولهم مؤلفات ينكرون فيها الصفات، ومن جملة الصفات الرؤية، فينكرون أكبر نعيم وأكبر لذة لأهل الجنة، بل أهل الدنيا إذا تذكروها حداهم ما تذكروه إلى طلبها، وإلى التشمير في العبادة التي تؤهلهم لها، ولا شك أن الرؤية هي أجلّ نعيم يحصل لأهل الجنة.

وتبعهم على ذلك الخوارج، يعني: من المتأخرين، أما الخوارج المتقدمون فلم يُنقل عنهم إنكار ذلك، وأما الخوارج المتأخرون فإنهم على هذا المعتقد، وهو إنكار الرؤية والقول بأن القرآن مخلوق.

فهذه من عقائد المعتزلة التي وافقهم عليها بعض الخوارج، وقد اطلعت على كتاب لبعض المتأخرين سماه: (الحق الدامغ) أنكر فيه الصفات وركَّز على مسألة الرؤية، وتكلف في صرف الأدلة التي تدل عليها، وركَّز فيه أيضاً على مسألة القرآن وأنه مخلوق، وكذلك مسألة القدر، فأنكر قدرة الله على خلق أفعال العباد.

فينبغي أن نأخذ حذرنا، وهذا المؤلف موجود في دولة عمان، وقد ضل بسببه خلق كثير، ولكن الحق واضح، ويبشرنا كثير من الذين ذهبوا إلى تلك الدولة أن كثيراً من الشباب الذين تفتحت معارفهم قد أنكروا معتقدات أسلافهم وآبائهم في مثل هذا، وأنهم رجعوا إلى عقيدة أهل السنة وإن لم يتمكنوا من الإصلاح.

والذين هناك هم الإباضية -فرقة من الخوارج- لهم الدولة ولهم الصولة ولهم القوة، فهم من بقية الخوارج يعتقدون هذه العقيدة، وأكبر ما يعتقدونه وأشهره إنكارهم لهذه اللذة التي هي رؤية الله تعالى في الدار الآخرة.

وعلى كل حال فإن مسألة الرؤية هي من أجل المسائل ومن أفضلها، اعتقدها أهل السنة وآمنوا بها، ولا عبرة بمن أنكرها من هؤلاء؛ فقد أخبر الله تعالى بأن من خلقه من يُحجب عنه في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، وهؤلاء منهم بغير شك، فإذا كانوا ينكرون أن يكون الله تعالى يُرى في الآخرة، فمعناه أنهم لا يريدون رؤية الله، وأنهم سيحجبون عن الله تعالى، ولا يحجب عنه إلَّا الكافرون، فقد حرموا أنفسهم هذه اللذة وأنكروها، فيكونون معاقبين بمثل ما اعتقدوه والعياذ بالله.

بيان دلالة آية سورة القيامة على ثبوت الرؤية

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [.. وقد ذكر الشيخ رحمه الله من الأدلة قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وهي من أظهر الأدلة، وأما من أبى إلا تحريفها بما يسميه تأويلاً فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب أسهل من تأويلها على أرباب التأويل، ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلَّا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص، وهذا الذي أفسد الدنيا والدين.

وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية! فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد! وكذا ما جرى في يوم الجمل، وصفِّين، ومقتل الحسين ، والحَرَّة! وهل خرجت الخوارج واعتزلت المعتزلة ورفضت الروافض وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلا بالتأويل الفاسد.

وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية وتعديته بأداة (إلى) الصريحة في نظر العين وإخلاء الكلام من قرينةٍ تدل على خلاف حقيقته وموضوعه، صريح في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جلَّ جلاله].

أوضح ما استدل به أهل السنة هذه الآية التي في سورة لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1] قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، فالكلمة الأولى رُسمت بـ(الضاد)، والمراد أنها وجوه مشرقة من النضارة التي هي البهاء والإشراق والسرور والابتهاج، يعني أنها منيرة.

وقد ذكر الله تعالى أن وجوه أهل الخير هكذا، فقال تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، فتبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل الفرقة والابتداع.

وقال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس:38-39]، وهذه وجوه أهل السعادة أيضاً.

فهكذا ذكر الله في هذه الآية أن هذه الوجوه ناضرة، يعني: بهية مشرقة مستنيرة مضيئة تغشاها الفرحة والسرور لأنها شعرت بالسعادة، ولأنها أيقنت بحسن العاقبة، ولأنها عرفت الفوز والظفر بالمطلوب، وعرفت أنها ستلقى الجزاء الذي وُعدت به، وهو الجزاء الأوفى الذي هو جزاء الحسنات بأضعافها.

والقول الثاني: إن المعنى: لما نظرت إلى الله سبحانه أشرقت من آثار ذلك النظر، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] أي: مشرقة مضيئة بسبب رؤيتها لله سبحانه وتعالى.

وقوله: إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]: لا شك أن هذا يراد به الوجوه، فتلك الوجوه إلى ربها ناظرة، وهذه كتبت بـ(الظاء) أخت (الطاء)، يعني أنها تنظر إلى ربها نَظَرَ عيان ونَظَرَ معاينة، ولم يقل: إلى نعمة ربها، ولم يقل: إلى ثواب ربها ناظرة. ولم يقل: إلى النعيم راضية. ولا: إلى الجنة ناظرة. بل قال: إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] أي: تنظر إلى ربها.

وفرق بين من يقرؤها ويُمِرُّها كما جاءت ومن يتكلف في تأويلها.

الرد على تأويل المعتزلة لآيات الرؤية وأحاديثها

والمعتزلة الذين أنكروا الصفات تأولوها تأويلات بعيدة، فبعضهم يقول: إن الـ(إلى) هي النعمة يعني: آلاء ربها أو نعم ربها ناظرة.

و(إلى) معروف أنه حرف جر، ولكن جعلوه اسماً مضافاً فقالوا: إلى ربها. أي: نعمة ربها، أو واهب الآلاء.

ولا شك أن هذا تكلف بعيد.

وهكذا قال بعضهم: (إلى ربها ناظرة) أي: إلى ثواب ربها. أو: إلى نعمة ربها. أو: إلى جزاء ربها. فجعلوا في الكلام مضمراً، وما الذي دلكم على أن في الكلام مضمراً أو كلاماً محذوفاً؟! والجواب: لا دلالة عليه. فلماذا تتركون الظاهر وتأتون بمضمر من قبل أنفسكم؟!

وبعضهم قال: (ناظرة) أي: منتظرة. إلى ربها. أي: منتظرة ما يعطيها أو ما يهبها، مع أن هناك فرقاً بين (ناظرة) و(منتظرة)!

ومن أمثال هذه التأويلات تكلف يسمونه تأويلاً، وهو في الحقيقة تحريف وتغيير وتصحيف لكلام الله وصرف له عن ظاهره.

نقول: إذا تكلفتم هذا النص بالتأويل أمكن غيركم وأمكنكم أن تتأولوا آيات المعاد، فأنتم الآن -يا معتزلة- تكلفتم في التأول في آيات الصفات وحرفتم ما وصلكم، ففتحتم الباب لغيركم، فالفلاسفة أنكروا المعاد الحقيقي الجسماني، وقالوا: ليس هناك رد للأرواح في الأجساد، وليس هناك إحياء للأموات.

فقيل لهم: كيف تردون على هذه النصوص؟

فقالوا: نتأولها، وليس تأويلكم لآيات الصفات أصعب من تأويلنا لآيات المعاد!

ثم جاءت فرقة أخرى من غلاة الفلاسفة وغلاة الصوفية فتأولوا نصوص الأحكام -الحلال والحرام والأوامر والنواهي- وصرفوها أيضاً عن ظاهرها وأبطلوها كل الإبطال، حتى قال بعضهم: المراد بالحج حج القلوب إلى علام الغيوب، أو قالوا مثلاً: الصلاة المراد بها اتصال القلب بالرب، واتصال القلب بالرب ليس معناه أن تجتمعوا في المساجد وتركعوا وتسجدوا، هذا ليس هو المراد منكم، فإذا صغت قلوبكم واتصلت بالملأ الأعلى فهذه هي الصلاة التي أمرتم بها. هكذا يقول الصوفية ونحوهم.

نقول: إذاً بطَلَت بهذا التأويلِ الأحكامُ التي نُقلت بالفعل وبالقول الصريح بسببكم يا أشعرية ويا معتزلة لما تأولتم وفتحتم باب التأويل لآيات الصفات، فدخل من هذا الباب الفلاسفة والصوفية وأهل الوحدة وصاروا يتأولون.

بل حصل بالتأويل أعظم الفتن؛ فإن الفتن التي وقعت في عهد الصحابة إنما هي بسبب التأويلات الباطلة، فقتل عثمان ، وكذلك قتل الحسين ، وكذلك الفتن التي حصلت ووقعت في صفِّين ووقعت في الجمل ووقعت في الحَرَّة بسبب التأويلات البعيدة عن الصواب.

فلا تتأولوا النصوص، بل أجروها على ما يُفهم منها وفوضوا الكيفية، فإذا قصرت أنظاركم ومعرفتكم عن شيء فلتتوقف عن الكيفية، كيفية تلك الرؤية أو كيفية الصفة التي هي صفة ذات، وقولوا: الله أعلم بها، كما يقول مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول. فهكذا نقول: الكلام معلوم والكيف مجهول، الرؤية معلومة وكيفيتها مجهولة لنا، والله أعلم بكيفيتها.

وإذا كان كذلك سلِمنا من أن نقع في هذا التحريف الذي سماه أهله تأويلاً، ترويجاً له حتى يُقبل عند السُّذَّج وقِصار الأفهام.

الرد على المعتزلة في تأويل آية سورة القيامة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعديه بنفسه، فإن عُدِّي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار، كقوله: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، وإن عُدِّي بـ(في) فمعناه التفكر والاعتبار، كقوله: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185]، وإن عُدِّي بـ(إلى) فمعناه المعاينة بالأبصار، كقوله تعالى: انظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [الأنعام:99]، فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر.

وروي ابن مردويه بسنده إلى ابن عمر قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] قال: من البهاء والحسن. إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] قال: في وجه الله عزَّ وجلَّ).

عن الحسن قال: نظرت إلى ربها فنُضِّرت بنوره.

وقال أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] قال: تنظر إلى وجه ربها عزَّ وجلَّ.

وقال عكرمة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] قال: من النعيم إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] قال: تنظر إلى ربها نظراً.

ثم حكى عن ابن عباس مثله.

وهذا قول المفسرين من أهل السنة والحديث.

وقال تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] قال الطبري : قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك : هو النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ.

وقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] فالحسنى: الجنة. والزيادة هي النظر إلى وجهه الكريم. فسرها بذلك رسول الله والصحابة من بعده، كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه. فيقولون: وما هو؟! ألم يثقل موازيننا، ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويُنجِنا من النار؟! فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة).

ورواه غيره بأسانيد متعددة وألفاظ أُخَر معناها أن الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل.

وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم، روى ابن جرير ذلك عن جماعة، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وحذيفة ، وأبو موسى الأشعري ، وابن عباس رضي الله عنهم].

هنا ثلاث آيات من كتاب الله تعالى دالة على الرؤية أو مُفَسَّرة بها.

فالآية الأولى هي آية سورة القيامة قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].

وسبق ذكر تفاسير الصحابة والتابعين أنهم قالوا: إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] أي: إلى وجه ربها. أو: تنظر إلى ربها صرح بذلك عدد من الصحابة كما مر، والمعتزلة حرفوا النظر فجعلوه الانتظار، أو حرفوا كلمة (إلى) فجعلوها النعمة، أو أضمروا مضافاً، أي: إلى نعمة ربها أو إلى ثواب ربها.

إن كلمة النظر تارةً تُعدَّى بنفسها، وتارةً تُعدَّى بحرف (في) وتارةً تُعدَّى بحرف (إلى).

فتعديتها بنفسها في قول الله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] فـ(انظرونا) هنا ليس معناه النظر بالعين، وإنما معناه: انتظروا. أي: أمهلونا حتى نقتبس من نوركم، لأنه عُدِّي بنفسه.

وذكر تعديته بـ(في) في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185] فالنظر هنا بمعنى الاعتبار، أي: ينظروا في الملكوت نَظَرَ اعتبار وتأمل ليستدلوا به على قدرة الخالق.

فإذا عدي بـ(في) فلا تحتمل إلا النظر بالاعتبار، وأما هنا فإن النظر مُعدَّىً بـ(إلى)، فهو مثل قوله تعالى: انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ [الأنعام:99] (انظروا) يعني: بأعينكم. (إلى ثمره)، ولا تحتمل غير المعاينة؟! كذلك قوله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17] يعني أنهم ينظرون إليها معاينةً.

فكذلك قوله: إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] لا يحتمل إلا أن النظر هو المعاينة.

فتبيَّن بذلك صراحة الآية في دلالتها على النظر إلى الله سبحانه وتعالى.

دلالة آيتي المزيد على رؤية الله تعالى

والآية الثانية في سورة (ق) قوله تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، فالله تعالى أخبر بأن لهم فيها ما يشاءون، فكل شيء يشاءونه وتتمناه نفوسهم أو يخطر على بالهم يُحضر إليهم.

ثم يقول بعد ذلك: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)، هذا المزيد زائدٌ عن النعيم الذين بين أيديهم، ولا بد أن يكون هذا الزائد له خصوصية، لذلك فُسِّر المزيد بأنه النظر إلى وجه ربهم، يعني: نعمة زائدة على ما يستحقونه هي النظر إلى ربهم أثابهم الله وأعطاهم ذلك.

هكذا فُسرت من قِبل السلف أن المزيد هو النظر إلى ربهم.

الآية الثالثة في سورة يونس قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ [يونس:25-26]، ودار السلام هي: الجنة، يدعو إليها ويدعو إلى العمل الذي يدخلها، ثم إذا دخلوها فماذا يستحقون؟ قال تعالى:

وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:25-26] والحسنى هي الجنة التي فيها جميع أنواع الحُسن.

وقوله: (وزيادة): لا شك أن هذه الزيادة شيء زائد على الحسنى التي هي الجنة، لذلك فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها نظرهم إلى وجه ربهم في الحديث الذي رواه مسلم عن صهيب، ورواه أيضاً غيره، وكذلك فسرها أبو بكر وغيره من الصحابة، واستدلوا بأنه قال بعدها: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ [يونس:26]، يعني أنهم بنظرهم إلى الله لا يلحقهم ملل ولا يلحق وجوههم كدر ولا يلحقها ذلة ولا مهانة ولا غير ذلك.

وعادة أنك لو نظرتَ -مثلاً- إلى الشمس في شدة وهجها فإن وجهك قد يعبس أو قد يتغير، وعينك قد تكل من قوة شعاعها وقوة نورها، وكذلك بعض الأنوار المشعة شديدة الإضاءة كالبرق ونحوه كما في قوله تعالى: يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43].

والله تعالى قد أخبر بأنه نور فقال تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35].

وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن حجابه النور.

فهذا النظر إليه مع كثرة تلك الأنوار المشعة لا يرهق وجوه المؤمنين منه ذلة، بل تزداد وجوههم إشراقاً وتزداد بهجةً ونضارةً وسروراً، وما ذاك إلا أنهم يعدون ذلك غاية النعيم، ولذلك قال بعض العابدين:

ولو أني استطعتُ غضضتُ طرفي فلا أنظر به حتى أراكا

فمن شدة الشوق إلى الله تعالى يقول: لو استطعت لما نظرتُ إلى أي مخلوق حتى أنظر إليك -يا ربي- شوقاً إليك وارتياحاً إلى رؤيتي لربي. هكذا حالة العارفين المشتاقين إلى ربهم، أما الذين أنكروا هذه الرؤية فإنهم محرومون من هذا النعيم كله، محرومون من هذه الزيادة، أو قد اعتقدوا حرمان أنفسهم والعياد بالله.

ومسألة الرؤية مسالةٌ كبيرة شريفة قد اهتم بها أهل السنة وقدموا الكلام فيها من وقت الإمام الشافعي وهم يجادلون فيها من أنكرها، ولا يزالون على ذلك.

وقد كتب فيها ابن القيم رحمه الله في كتابه المسمى (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) الذي يتعلق بصفة الجنة، فإنه في باب من أبوابه سرد آيات الرؤية، فجعل باباً خاصاً للرؤية وسرد فيه الآيات، ثم سرد فيه الأحاديث التي رُويت في ذلك، والتي يمكن الاستدلال بها، وإذا كان فيها ضعف فإن بعضها يتقوى ببعض، والأكثر قوي من حيث السند، وأعرضَ عن الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، فمن قرأه عرف بذلك كثرة ما ورد فيها من الأدلة، وهكذا أيضاً أتبعه بالنقولات، ثم رد على من أنكر ذلك من المعتزلة وبيَّن ما أجابوا به وناقشهم فيما استدلوا به.

وتبعه على ذلك حافظ بن أحمد الحكمي في كتابه الذي سماه (معارج القبول في شرح سلم الوصول)، و(سلم الوصول) هذا منظومة نَظَمها من أول ما نظم وشرحها في هذا الكتاب الذي يقع في مجلدين، وأفاض في الشرح وتوسع، ولما أتى على الأدلة التي تدل على صفة الرؤية توسع أيضاً فيها.

ونحيل إلى هذين الشرحين -لمن أراد أن يتوسع- كتاب ابن القيم وكتاب الحكمي ، وغيرهما أيضاً من الكتب الكثيرة التي اعتنت بمسائل التوحيد والعقيدة ومن جملتها مسألة الرؤية ومناقشة ما فيها من الخلافات وبيان الحق لأهله.

آية نفي الإدراك تدل على ثبوت الرؤية

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] احتج الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة.

ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي ، قال الحاكم : حدثنا الأصم : حدثنا الربيع بن سليمان قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عزَّ وجلَّ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]؟

فقال الشافعي : لما أن حُجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا.

وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] وبقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] فالآيتان دليل عليهم.

أما الآية الأولى فالاستدلال منها على ثبوت رؤيته من وجوه:

أحدها: أنه لا يُظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلمِ الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه، بل هو عندهم من أعظم المحال.

الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله وقال: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46].

الثالث: أنه تعالى قال: (لن تراني)، ولم يقل: إني لا أُرى. أو: لا تجوز رؤيتي. أو: لست بمرئي. والفرق بين الجوابين ظاهر، ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجلٌ طعاماً فقال: أطعمنيه فالجواب الصحيح: إنه لا يؤكل. أما إذا كان طعاماً صح أن يقال: إنك لن تأكله.

وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيتَه في هذه الدار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى، يوضحه.

الوجه الرابع: وهو قوله تعالى: وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] ، فأعمله أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خُلِق من ضعف.

الخامس: أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقراً، وذلك ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقال: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، والكل عندهم سواء.

السادس: قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً [الأعراف:143]، فإذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته؟! ولكن الله أعْلَمَ موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار فالبشر أضعف.

السابع: أن الله كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطِبَه كلامَه بغير واسطة فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه، وقد جمعوا بينهما.

وأما دعواهم تأبيد النفي بـ(لن) وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة ففاسد؛ فإنها لو قُيِّدت بالتأبيد لا يدل على دوام النفي في الآخرة فكيف إذا أطلقت؟!

قال تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة:95] مع قوله: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77]، ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها، وقد جاء ذلك، قال تعالى: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي [يوسف:80].

فثبت أن (لن) لا تقتضى المنفي المؤبد.

قال الشيخ جمال الدين ابن مالك رحمه الله:

ومن رأى النفي بـ(لن) مؤبداً فقوله ارددْ وسواه فاعضُدا].

دلالة آية المطففين على ثبوت الرؤية للمؤمنين

الآية الأولى وهي قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] أوضح دليل على أن أهل الجنة ليسوا محجوبين عن ربهم، وذلك لأن هذا وعيد لأعداء الله للكفار ووعيد للفجار الذين قال الله في حقهم: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين:7]، فهؤلاء من وعيدهم أنهم عن ربهم يومئذ -أي: يوم القيامة وما بعده- محجوبون، وقد ذكر بعدهم الأبرار في قوله: إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18]، ولو كانوا لا يرون ربهم لكانوا أيضاً عن ربهم محجوبين، فلم يكن هناك فرق بين الأبرار والفجار.

ولا شك أن حجب هؤلاء يعتبر عذاباً، فيعتبرون قد عذبوا بحجبهم عن ربهم والحيلولة بينهم وبين نعمة الرؤية ونعيمها، ولا شك أن رؤية المؤمنين وعدم حجبهم نعمة ومنة وكرامة يزدادون بها نعيماً وبهجة، أما لو كانوا لا يرون ربهم لم يكن هناك فرق بين الأبرار والفجار، بل كلهم عن ربهم محجوبون.

فهذه آية استدل بها الشافعي ومن بعده من الأئمة على إثبات رؤية المؤمنين وحجب الكافرين.

بيان دلالة قوله: (لن تراني) على ثبوت الرؤية والرد على المعتزلة

وأما الآية الثانية التي استدل بها المعتزلة على إنكار الرؤية فهي في قصة موسى، ذكر الله أن موسى سأل الرؤية، قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، فاستدلوا بقوله: (لن تراني) على أنك لا تراني أبداً في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا تأويل خاطئ، وذلك لأن الآية إنما نفت الرؤية في الدنيا، وذلك لأن الإنسان في الدنيا خلقته ضعيفة لا يستطيع أن يمثل أمام عظمة الرب سبحانه وتعالى؛ فإن خلقةً في هذه الدنيا على هذه الهيئة خلقة ضئيلة ضعيفة لا تثبت أمام تجلي ربنا ولا أمام أنواره وجلاله وكبريائه.

وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بشيء من ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه) .. إلى قوله: (حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) يعني أن الحجاب في الدنيا حجاب النور أو النار لو كشفه لأحرق ذلك الضياء وذلك النور ما انتهى إليه من الخلق، فإذا كان كذلك فجميع الخلق في هذه الدنيا مخلوقون من هذا اللحم والدم على هذه الخِلْقة، فخِلْقتهم ضعيفة لا يستطيعون أن يمثلوا أمام هذه العظمة.

فهذا هو السبب في أن الله منع موسى الرؤية في الدنيا، ولكن هل يدل ذلك على أنه ممنوع من الرؤية في الآخرة؟

لا يدل على ذلك؛ لأن في الآخرة يعطي الله أولياءه من قوة الخلقة ومن عظمها ما يثبتون به أمام تلك الرؤية وأمام رؤية ربهم، فقد ورد أن كل من يدخل الجنة يوم القيامة على طول آدم، طوله ستون ذراعاً وعرضه سبعة أذرع، وإذا كانت هذه الزيادة في خِلقتهم في الطول والعرض فكذلك لا بد أنهم سيُزادون في قوة حواسهم وفي قوة أبصارهم وفي قوة أعضائهم حتى يتمكنوا من الثبوت أمام رؤيتهم لربهم، ولا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة، ولا ينالهم شيء من الضعف ولا مما ينالهم في الدنيا.

هذا هو السبب في أن الله منع موسى من الرؤية في الدنيا، وكذلك كل أحد في الدنيا لا يستطيع أن يرى ذلك؛ لقوله في الحديث: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)، هكذا ورد في حديث عنه صلى الله عليه وسلم، أثبت بأن أحداً لا يستطيع أن يمثل أمام عظمة ربه ولا يرى ربه حتى يموت، وذلك في حديث الدجال لما أخبر بأن الدجال يأتي ويقول: (أنا الرب، أنا الله)، فأخبر بأنه كاذب، وأنه لا يمكن في الدنيا أن أحداً يرى ربه، إنما الرؤية في الآخرة.

واستدل الشارح -كما سبق- بأن هذه الآية دليل على إثبات الرؤية على أهلها.

ونقول: معلوم أن موسى نبي الله وكليمه الذي كلمه تكليماً، ومعلوم أنه اصطفاه، قال تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، فاصطفاه واختاره وأخبر بأنه كلمه تكلمياً، فهو من خيار أولياء الله، ومن خيار أنبياء الله ورسله، وقد أرسله إلى فرعون، وأرسله إلى بني إسرائيل وقد كلمه تكليماً، وأنزل عليه التوراة وقربه نجياً، فهو أعرف بربه، وهو أعلم بما يستحيل على ربه، فكيف تكونون -يا معتزلة- أعلم من موسى؟!

هل يقال: إنك -يا فلان ويا فلان المعتزلي أو الجهمي- أعلم من موسى؟! حاشا وكلا، فهل الذي هو أحد أولي العزم، والذي هو أحد رسل الله، والذي ذكره الله وأكثر من ذكره في كلامه يكون أجهل منك، وتكون أنت أعلم منه بما يستحيل على الله وبما يجوز على الله؟! هذا مما تحيله العقول، وهذا مما لا يجوز في شرع الله.

كذلك ما أنكر أيضاً الله تعالى عليه حين قال: أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] لم ينكر عليه ولم يوبخه، وقد أنكر على نوح لما سأل نجاة ولده لما قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45] أنكر عليه وقال: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46]، أنكر على نوح هذا السؤال، ولكن موسى لما سأل فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] ما أنكر عليه، بل قال: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ [الأعراف:143]، فهل هذا دليل على أن هذا السؤال مستحيل؟ إنه ليس سؤال شيءٍ مستحيل.

وقال تعالى: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، ولم يقل: إني لا أُرَى. أو: إني لا تجوز رؤيتي. أو: إني لستُ بمرئي بل قال: لَنْ تَر

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والرؤية حق لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا؛ فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه).

المخالف في الرؤية هم الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية، وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة، وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة.

وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمَّر إليها المشمرون وتنافس المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون وعن بابه مردودون].

الكلام هنا على مسألة رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، والرؤية في الآخرة ثابتة عند أهل السنة، ثابتة في الجنة وفي الموقف أحياناً.

وهذه الرؤية من تمام نعيم أهل الجنة، ومن تمام كرامتهم، ومن تمام إتحافهم والإنعام عليهم، وذلك أن يروا ربهم، وأن يتجلى لهم ربهم كما يشاء، وأن يكشف الحجاب بينه وبينهم، وأن ينظروا إليه كما يشاءون، وإذا نظروا إليه لم يلتفتوا إلى غيره حتى يحتجب عنهم، فيزدادون بهجة وسروراً، وتسفر وجوههم وتزداد نضرة وفرحاً.

وقد أخبر العلماء والعباد والعارفون بأنه لولا يقينهم بأنهم سيرون ربهم تعالى لقتلوا أنفسهم، فلو عرفوا أنهم في الآخرة لا يتنعمون برؤيته لما قر لهم قرار، ولما سروا بذلك الموعد، لكن اطمأنوا إلى خبر ربهم والخبر عن نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام، وصدقوا بأنهم يوم القيامة وفي الجنة يتنعمون غاية التنعم برؤية الله سبحانه وتعالى، وذلك أنه في بعض الأحاديث يقول لهم: (اسألوني. فيقولون: نسألك رضاك. فيقول: رضائي أحلكم دار كرامتي، فيقول: سلوني. فيجتمعون على أن يقولوا: اكشف لنا الحجاب- أو: أرنا وجهك- فإذا تجلى ورأوه لم يلتفتوا إلى غيره).


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2711 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2629 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2589 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2559 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2471 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2407 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2385 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2372 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2335 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2299 استماع