خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [15]
الحلقة مفرغة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولذكر دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وبسطها موضع آخر، وقد أفردها الناس بمصنفات كـالبيهقي وغيره.
بل إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى، ونسبته إلى الظلم والسفه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- بل جحد للرب بالكلية وإنكار، وبيان ذلك أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق، بل ملك ظالم، فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم، ويفرض الفرائض، ويشرع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم، ويغنم أموالهم وذراريهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض، وينسب ذلك كله إلى أمر الله له به ومحبته له، والرب تعالى يشاهده وهو يفعل بأهل الحق، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة، ومع ذلك كله يؤيده وينصره، ويعلي أمره، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر.
وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته، ويهلك أعداءه، ويرفع له ذكره، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والافتراء والظلم؛ فإنه لا أظلم ممن كذب على الله، وأبطل شرائع أنبيائه، وبدلها وقتل أولياءه، واستمرت نصرته عليهم دائماً، والله تعالى يقره على ذلك، ولا يأخذ منه باليمين، ولا يقطع من الوتين.
فيلزمهم أن يقولوا: لا صانع للعالم ولا مدبر، ولو كان له مدبر قدير حكيم لأخذ على يديه، ولقابله أعظم مقابلة، وجعله نكالاً للصالحين؛ إذ لا يليق بالملوك غير ذلك، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟
ولا ريب أن الله تعالى قد رفع له ذكره، وأظهر دعوته والشهادة له بالنبوة على رءوس الأشهاد في سائر البلاد، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذابين قام في الوجود وظهرت له شوكة، ولكن لم يتم أمره ولم تطل مدته، بل سلط الله عليه رسله وأتباعهم فقطعوا دابره واستأصلوه، فهذه سنة الله التي قد خلت من قبل، حتى إن الكفار يعلمون ذلك، قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور:30-31]، أفلا تراه يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقوَّل عليه بعض الأقاويل، فلابد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه، وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24]، وهنا انتهى جواب الشرط، ثم أخبر خبراً جازماً غير معلق أنه يمحو الباطل ويحق الحق، وقال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء [الأنعام:91]، فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره].
بدأ الشارح أولاً ببيان أن دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة، وقد أفردت بالتآليف، وذكر منها ابن كثير في تاريخه في آخر السيرة الشيء الكثير، وتتبعها الكثيرون، ومن أوسع من توسع فيها البيهقي في (دلائل النبوة) الذي هو مطبوع، وكذلك أبو نعيم له أيضاً كتاب (دلائل النبوة)، وهكذا غيرهم، وبمجموعها وبأكثرها يعلم ويتيقن أنه صلى الله عليه وسلم صادق فيما جاء به، فكيف بمجموعها مع كثرتها.
ثم إن الشارح ضرب مثلاً في أن المكذبين لنبينا صلى الله عليه وسلم كاليهود والنصارى، وكذلك سائر المكذبين، لا شك أنهم قد سبوا الله وتنقصوه غاية التنقص من حيث لا يشعرون، وذلك بأن منهم من يقول بأنه كذاب -قاتلهم الله- فكثير من اليهود يدعون أنه كذاب وأنه مفترٍ، وكذلك أيضاً كثير من النصارى ومن الوثنيين وغيرهم، وآخرون يقولون: إنه رسول إلى العرب فقط وليس برسول إلى غيرهم، فرسالته خاصة.
فيقال لهؤلاء -كما قال الشارح رحمه الله-: أنتم قد تنقصتم الله غاية التنقص، وذلك لأنكم ادعيتم أنه كذاب، والله تعالى ينصره وهو مع ذلك يتصرف هذه التصرفات وهو كذاب في زعمكم، ومع ذلك يدعي أنه مرسل من الله فيحلل أشياء ويحرم أشياء، ويبطش بالناس، ويقتل ويأسر ويوثق وينتقم، ويسبي الذراري، ويقتل الآباء، ويحبس، ويفتح البلاد، ويدوخ العباد، ويجول في الأرض كما هو الواقع، وهو مع ذلك كذاب مفترٍ بزعمكم، والله يؤيده ويقويه وينصره ويمده بالمعجزات ويمده بالملائكة التي تقويه، ويجيب دعواته، وينتصر له وهو يعلم أنه كذاب وأنه مفترٍ، فهذا بلا شك تنقص لله تعالى، وحكمة الله تأبى إلا أن ينتقم ممن كفر كما انتقم من الذين كذبوا الرسل فيما سبق وأحل بهم أنواع العقوبات، وأنزل بهم أنواع المثلات.
وقد ذكر الله تعالى أنه ينتقم منه لو كذب، قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46] يعني: أنه لو كان متقولاً وكاذباً لانتقمنا منه وبطشنا به بطشاً شديداً، وأمتناه وقطعنا دابره كما فعلنا ذلك بمن كذب وافترى، فإنه ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بعض المفترين والكذابين ولكن ما متعوا، ومنهم رجل تسمى بـالأسود العنسي الذي تنبأ في اليمن، ولكن ما لبث إلا ثلاثة أشهر حتى قتل، ومنهم مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في آخر العهد النبوي وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وبايعه أكثر من مائة ألف، ولما غزاهم الصحابة في نحو عشرة آلاف أو أقل لم يقفوا دونهم، بل سلط عليه من قتله، فقتله عبد أسود، ثم بعد ذلك اضمحلت دعوته ولم يبق لها أثر، فهذه سنة الله فيمن كذب وافترى عليه.
لكن رسالة هذا النبي الكريم باقية مستمرة، وهي الآن في القرن الخامس عشر، وهي مع ذلك -والحمد لله- تزداد قوة وعلواً وظهوراً، وأتباعه الذين ينتمون وينتسبون إلى رسالته لهم التمكن ولهم القوة، فكلما حققوا السير على طريقته والتمسك بسنته يتحقق فيهم قول الله تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، وقوله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا [غافر:51] وقوله تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7] وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139] وقوله تعالى: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات:173] وقوله تعالى: أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22].
وتحقق ذلك كله في أتباع هذا النبي الكريم، فدل ذلك يقيناً على أنه صادق مصدق شهدت برسالته العقول، وشهدت بصدقه القلوب، وعرف ذلك الخاص والعام، وأظهر الله دينه كما وعد بذلك في قوله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، فصدق الله هذا الوعد وأظهره على الدين كله حتى دخل دين الإسلام في أكثر المعمورة وفي أكثر بقاع الأرض، وبقي ظاهراً جلياً كلما تمسك أهله به أظهرهم الله تعالى وقواهم، ولا شك أن هذا دليل على أن هذه الشريعة من الله، وأن الذي جاء بها هو الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
الفرق بين النبوة والرسالة
وإرسال الرسل من أعظم نعم الله على خلقه، وخصوصاً محمداً صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]].
ذكر أن هناك فرقاً بين الرسول والنبي، وقد عطف الله بعضهم على بعض في قوله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج:52]، وأكثرهم على أن الرسول هو الذي يكلف بالتبليغ، فإذا لم يكلف بالتبليغ ولم يلزم بذلك فهو نبي وليس برسول.
فإذاً الرسالة أخص، والأنبياء أكثر من الرسل، ولذلك ورد في عددهم أنهم أكثر من مائة ألف نبي، وأن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً، وقد ذكر الله في القرآن عدداً منهم، قال تعالى: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر:78]، ولا شك أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء ورسالته هي خاتمة الرسالات وشريعته هي آخر الشرائع.
ولا شك أن إرسال الرسل إلى أهل الأرض نعمة من الله؛ وذلك ليبلغوهم شرع الله عندما يعظم الجهل ويتراكم على القلوب، وتطول الغفلة، ويطول زمن الفترة، ويقع الناس في المعاصي والكفر، ويحق عليهم العذاب، عند ذلك يرسل الله إليهم رسلاً، فيرسل إليهم ذلك الرسول يبين لهم ما وقعوا فيه من الجهالات، وما أخطئوا فيه من الأعمال، ويدعوهم إلى الرجوع إلى ربهم وإلى ترك البدع والضلالات والشركيات، وإلى اتباع الشريعة والطاعة لله ولرسله، فإذا أصروا وعاندوا أهلكهم، وإذا آمنوا نصرهم وأيدهم وقواهم.
وقد ذكر الله أن رسالة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام من أعظم المنن على هذه الأمة وأكبر النعم في موضعين في القرآن: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ [آل عمران:164]، وفي الموضع الآخر: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، فذكر أن ذلك منة من الله عليهم حيث أصبح سبباً في انتشالهم من الجهالات وإخراجهم من الظلمات إلى النور، كما في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحديد:9].
فإذاً هذه الرسالة نعمة من الله، وقبله كان الناس في جهالة لا يعرفون لماذا ولا بماذا أمروا، ولا بماذا كلفوا، فيعبدون الأوثان، ويشركون بالله، ويستحلون المحرمات، وليس عندهم إيمان بالبعث والجزاء والنشور، ولا معرفة لحلال ولا حرام، فهم جهلة في غاية الجهل، فلما جاءت هذه الشريعة أصبحوا عارفين حق المعرفة فيهم، وزالت عنهم تلك الأمور الجاهلية، وأصبحوا ذوي معرفة وذوي إيمان، وتلك منة الله على عباده، فما عليهم إلا أن يشكروا ربهم على ما أعطاهم الله ووهبهم.
قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، فبعدما أخبر بأنه أرسل هذا الرسول ليبين لهم ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة أمرهم بذكره وبشكره، ولا شك أن مظهره أن يطيعوا هذا الرسول وأن يتبعوه وأن يعملوا بشريعته، وفائدته ونتيجته هي أن ينصرهم الله تعالى ويؤيدهم ويقويهم، ويعزهم ويظهر دينهم على الدين كله ولو كره المشركون.
ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، وقال صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أُحسن بنيانه، وتُرك منه موضع لبنة، فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنائه إلا موضع تلك اللبنة، لا يعيبون سواها، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل) أخرجاه في الصحيحين.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لي أسماءً : أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي).
وفي صحيح مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي.) الحديث.
ولـمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون)].
فمن صفاته عليه الصلاة والسلام أنه خاتم الأنبياء، ولأجل ذلك صارت شريعته خاتمة الشرائع، وكذلك حكم ببقائها إلى أن تقوم الساعة لا تنسخها شريعة، ولا يأتي بعده نبي.
فهذه الأدلة تدل على أنه آخر الأنبياء، والأنبياء قبله كثير، قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24]، وقال تعالى: قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ [الملك:9] والنذر هم الأنبياء أو الرسل أو المنذرون لهم.
صلاحية التشريع وعمومه دليل على ختم الرسالة
كذب مدعي النبوة بعده صلى الله عليه وسلم
وقد ذكر بعض العلماء أنه خرج من هؤلاء الثلاثين عدد كثير، فقيل: إنه خرج منهم سبعة وعشرون أو ثمانية وعشرون. يعني: ما بقي إلا واحد أو اثنان، أي أن آخرهم المسيح الدجال الكذاب.
ومراده أن من هؤلاء الثلاثين من يأتي بشبهات ويصدقه بعض العوام، ويقع بسببه فتنة، ويغتر وينخدع به أناس، ويكون له أتباع ومن يؤيده وينتصر له، ومن آخر من خرج أو تنبأ في هذه القرون غلام أحمد القادياني الذي ادعى أنه نبي، وادعى أنه يأتيه الوحي في البلاد الشرقية في الهند، وقد عظمت الفتنة به وانتشر أتباعه وسموا بالقاديانية، ولا يزالون متمكنين إلى هذا اليوم، ولا يزال العلماء يضللونهم ويردون عليهم ويبدعونهم ويبينون ضلالاتهم وأكاذيبهم، ومع ذلك لا يزالون منتشرين، مع أن دعوى ذلك الذي ادعى لنفسه أنه يأتيه الوحي لا شك أنها دعوى باطلة يكذبها أدنى من يتأمل بعقل وبأدنى معرفة.
وقبله وقبله ولكن قد يجد من يتتبع التاريخ عدداً كثيراً قد يزيدون على المئات يدعون أنهم يأتيهم الوحي وأنهم أنبياء، حتى في زماننا هذا في الوقت القريب قد جاء أكثر من عشرة كلهم يدعون ذلك، ولكن غالب ذلك عن نقص في العقل، وعن وسواس يجعل في الرأس يخلف فكرة الإنسان، وعن وساوس شيطانية يخيل بها إلى ذلك الإنسان المدعي هذه الدعوى ويزين له الشيطان، ولا ينخدع الناس به ولا يعملون بقوله.
وقد وقع هذا في القرون المتقدمة كثيراً، فإخباره أنه يخرج في أمته ثلاثون كذاباً يدعون أنهم أنبياء المراد به من لهم شبهات، ومن لهم قوة يتمكنون بها ويتبعهم فئام من الناس، وليس المراد كل من ادعى أنه نبي، ولكن من انخدع به ومن اغتر بمقالته.
وعلى كل حال فالأدلة واضحة بأن محمداً عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء والرسل، ولا عبرة بمن جاء بعده وادعى ذلك، كما ذكر أن رجلاً سمى نفسه (لا)، وادعى أنه نبي، وقال: إن محمداً يقول: (لا نبي بعدي)، يعني: الشخص الذي اسمه (لا) نبي بعدي، ويرد عليه بالآية الكريمة، وهي قوله تعالى: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40].
وهكذا ذكروا في زمن قريب أن امرأة ادعت أنها نبية، وقالت: إن محمداً يقول: (لا نبي بعدي) ولم يقل: لا نبية بعدي.
ولا شك أن الرسالة جاءت في الرجال، كما في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف:109]، ولم يبعث الله النبوة إلا في الرجال، والصحيح أن مريم ابنة عمران إنما هي صديقة كما قال تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75] لم تصل إلى درجة النبوة ولم ينزل عليها الوحي، والوحي الذي أنزل على أمها إنما هو وحي إلهام، وكذلك الوحي الذي أنزل على أم موسى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى [القصص:7] هذا وحي إلهام.
وعلى كل حال فنبوة محمد هي آخر النبوات، وشريعته هي آخر الشرائع، والمتمسك بها -إن شاء الله- على سبيل النجاة.
إمامته صلى الله عليه وسلم للأتقياء
الإمام الذي يؤتم به أي: يقتدون به. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث للاقتداء به؛ لقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، وكل من اتبعه واقتدى به فهو من الأتقياء].
هذه من صفاته عليه الصلاة والسلام، لا شك أن الإمامة معناها: القدوة، فالإمام هو الذي يقتدى به، وقد وصف الله إبراهيم بالأمة في قوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120] يعني: قدوة يقتدى به. وقد امتدح الله عباده الذين يقولون: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74]، وكذلك قد جعل الله إبراهيم كذلك في قوله: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124].
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إماماً فإنه يقتدى به، والاقتداء به يعم الاقتداء به وبكل ماجاء به، سواء في العادات أو في العبادات، فإن كان من العبادات ومن القربات فالعبد يفعلها على أنها طاعة يحتسب الأجر فيها، فالطاعات والعبادات هي ما جاء بها عن ربه بالحلال والحرام، وجاء بالطاعات والحسنات، فنفعلها على أنها من سنته، فنحافظ على الصلوات فرائضها ونوافلها؛ لأنها جاءت في شريعته، وكذلك على الطهارة سواء بالماء أو بالتراب أو نحو ذلك، فهذه من شريعته نتبعه ونقتدي به فيها، وكذلك سائر العبادات كالصيام والصدقة والحج والجهاد والدعوة إلى الله والذكر والقراءة وما أشبهها، فهذه تفعل على أنها من العبادة يتبع فيها شرع هذا النبي الكريم، وأما العادات فنفعلها إذا نقلت عنه عليه الصلاة والسلام على أنها أولى من غيرها وإن كان غيرها جائزاً، والمراد بالعادات: الأمور التي كانت معمولاً بها قبل الإسلام.
ومعلوم عنه عليه الصلاة والسلام أنه قبل الإسلام كان يأكل ويشرب ويلبس وينام ويتزوج، وكذلك كان يدخل ويخرج، ويركب وينزل، ويسافر ويرحل، ويقيل، فالعادات هي الأمور المعتادة، فهذه العادات إذا فعلها العبد اقتداء واتباعاً ومحبة فقد يثاب عليها وإن كانت مما قد تستدعيه النفس، كما أخبر عليه الصلاة والسلام بأن العبد إذا فعلها اقتداء واتباعاً بنية صادقة أثيب عليها، فيثاب على طلبه الرزق من أجل أن يعف نفسه، ولأجل أن يقوت من تحت يده، ويثاب على إعفافه لزوجته وإن كان ذلك من الأمور الطبيعية، ويثاب على نفقته على أهله؛ لقوله: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي وجه الله إلا أجرت عليها)، وإذا فعل ذلك على أنه عادة فلا ثواب ولا عقاب.
وعلى كل حال فكونه عليه الصلاة والسلام إماماً لأمته وبالأخص المتقين منهم، فهذا يعم كل ما جاء به من الشرع، ويكون أتباعه في ذلك لهم النصيب الأكبر على هذا الاتباع.
سيادته صلى الله عليه وسلم المرسلين وفضله عليهم
قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع)رواه مسلم .
وفي أول حديث الشفاعة: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، وروى مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم).
فإن قيل: يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشاً بجانب العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله) أخرجاه في الصحيحين، فكيف يجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)؟
فالجواب أن هذا كان له سبب؛ فإنه كان قد قال يهودي: لا والذي اصطفى موسى على البشر فلطمه مسلم وقال: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموماً، بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان مذموماً؛ فإن الله حرم الفخر.
وقد قال تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ [الإسراء:55] وقال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253] فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر، أو على وجه الانتقاص بالمفضول، وعلى هذا يحمل أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوا بين الأنبياء) إن كان ثابتاً، فإن هذا قد روي في نفس حديث موسى وهو في البخاري وغيره.
ولكن بعض الناس يقول: إن فيه علة؛ بخلاف حديث موسى فإنه صحيح لا علة فيه باتفاقهم، وقد أجاب بعضهم بجواب آخر، وهو أن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى)، وقوله: (لا تفضلوا بين الأنبياء) نهي عن التفضيل الخاص، أي: لا تفضل بعض الرسل على بعض بعينه، بخلاف قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فإنه تفضيل عام فلا يمنع منه، وهذا كما لو قيل: فلان أفضل أهل البلد لا يصعب على أفرادهم، بخلاف ما لو قيل لأحدهم: فلان أفضل منك. ثم إني رأيت الطحاوي رحمه الله قد أجاب بهذا الجواب في شرح معاني الآثار].
وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد ولد آدم، وسيد الناس يوم القيامة وسيد المرسلين، ويطلق السيد على الشريف، وعلى المطاع، وعلى كبير القوم، وعلى أفضلهم أو من له حرمة فيهم الذي إذا أشار عليهم أطاعوه، والذي يحترمونه ويقدرونه، ويعرفون له ميزته وشرفه وفضله، وقد ورد ما يدل على النهي عن هذا الإطراء، ووردت أحاديث تدل على الإباحة.
التوفيق بين إخباره صلى الله عليه وسلم عن فضله والنهي عن تفضيله
وأما دليل النهي فما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قيل له: (أنت سيدنا، قال: السيد الله)، وفي حديث وفد بني عامر عن عبد الله بن الشخير قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا سيدنا وابن سيدنا، فقال: السيد الله، فقالوا: أفضلنا فضلاً، وأعظمنا قولاً. قال: قولوا بقولكم أو ببعض قولكم) إلى آخره.
ولعل الجمع بينهما أن نهيه عن قولهم: (سيد) هو مخافة أن يغلوا فيه؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية، فخاف أنه إذا أقرهم على هذه اللفظة أعطوه من خالص حق الله فمنعهم وقال: (السيد الله)، وأمرهم بأن يقولوا: (عبد الله ورسوله)، ولا يتكلموا بألفاظ فيها من الزيادة والغلو، هكذا أخذ بعض العلماء، وهو جواب مقارب، وهو أنه فيمن يخاف عليهم الغلو، ومع ذلك فإن أفضل ما يوصف به اللفظ الذي اختاره لنفسه، وهو العبودية مع الرسالة والنبوة، وصفه الله بالعبودية وبالرسالة وبالنبوة، فهذه الأوصاف التي وردت له في القرآن، فنقول: نبي الله، وعبد الله، ورسول الله، وهذا ولا يمنع أن نقول: سيدنا وسيد ولد آدم.
وقد مر في كلام الشارح أنه قد يعتذر أحد ويقول: كيف يكون سيد المرسلين وأفضل النبيين، وهو عليه الصلاة والسلام قد اعترف بأن موسى أفضل منه، حيث قال: (لا تفضلوني على موسى)؟ وأجاب الشارح كما سمعنا أن هذا في الرد على من يتعصب لشخص بعينه؛ فإن ذلك الأنصاري رضي الله عنه غار عندما سمع اليهودي يقول: والذي اصطفى موسى على البشر. فغار ولطم اليهودي، وقال: تقول هذا ومحمد بين أظهرنا؟ يعني أنه أشرف، وأنه الذي اصطفاه الله على البشر، فأمر بألا يفاضل بين الأنبياء، وأمر بألا يفضل على موسى من باب الاعتراف بفضل موسى، ومن باب التواضع منه عليه الصلاة والسلام، وإلا فقد عرف بأنه أفضل من غيره، ولو لم يكن من فضله إلا أنه الذي يشفع، والذي يبعثه الله مقاماً محموداً، والذي تقبل شفاعته فيقال له: (ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع).
وكذلك ذكر السبب، وهذا السبب قد يكون مبرراً ولكن لا يقصد الفضل، فكون الناس يصعقون يوم القيامة الصعقة المذكورة في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] فأخبر بأن الناس يصعقون وبأنه أول من يفيق ويرفع رأسه عليه الصلاة والسلام، لكن يجد موسى قد أفاق قبله وقد أخذ بقائمة العرش، فيقول: (لا أدري هل أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله، أم جوزي بصعقة الطور)، وصعقة الطور في قوله تعالى: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً [الأعراف:143] يعني: أن تلك الصعقة صارت حظه من الصعق، فلم يصعق لما صعقوا، أو هو ممن استثنى الله في قوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] يعني: أنه ممن لم يصعق، أو أنه أفاق قبله، وإذا كان ممن أفاق قبله كان له مزية، أما إذا جوزي أو كان ممن استثنى الله فلا يدل ذلك على ميزة أو على فضل على محمد عليه الصلاة والسلام.
وبالجملة فمحمد عليه الصلاة والسلام أفضل الرسل، وأمته أفضل الأمم، بل وأكثرهم دخولاً الجنة، فالذين يدخلون من أمته الجنة أكثر من أمة موسى وغيره من الأنبياء.
الكلام على المفاضلة بين محمد ويونس عليهما السلام
وهذا يدل على جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظاً ومعنى، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها، وإنما اللفظ الذي في الصحيح: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)، وفي رواية: (من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب)، وهذا اللفظ يدل على العموم، أي: لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه على يونس بن متى، وليس فيه نهي المسلمين أن يفضلوا محمداً على يونس؛ وذلك لأن الله تعالى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم، أي: فاعل ما يلام عليه. وقال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].
فقد يقع في نفس بعض الناس أنه أكمل من يونس، فلا يحتاج إلى هذا المقام؛ إذ لا يفعل ما يلام عليه، ومن ظن هذا فقد كذب، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، كما قال أول الأنبياء وآخرهم، فأولهم آدم قد قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
وآخرهم وأفضلهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح حديث الاستفتاح من رواية علي بن أبي طالب وغيره بعد قوله: (وجهت وجهي) إلى آخره قال: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت) إلى آخر الحديث.
وكذا قال موسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16]، وأيضاً فيونس صلى الله عليه وسلم لما قيل فيه: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48] فنُهي نبينا صلى الله عليه وسلم عن التشبه به، وأمره بالتشبه بأولي العزم؛ حيث قيل له: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، فقد يقول من يقول: أنا خير منه، وليس للأفضل أن يفتخر على من دونه، فكيف إذا لم يكن أفضل؛ فإن الله لا يحب كل مختال فخور.
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)، فالله تعالى نهى أن يفخر على عموم المؤمنين، فكيف على نبي كريم؟! فلهذا قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)، فهذا نهي عام لكل أحد أن يتفضل ويفتخر على يونس.
وقوله: (من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب) فإنه لو قدر أنه كان أفضل فهذا الكلام يصير نقصاً، فيكون كاذباً، وهذا لا يقوله نبي كريم، بل هو تقدير مطلق، أي: من قال هذا فهو كاذب.. وإن كان لا يقوله نبي كما قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، وإن كان صلى الله عليه وسلم معصوماً من الشرك، لكن الوعد والوعيد لبيان مقادير الأعمال.
وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد آدم لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك إلا بخبره؛ إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله، كما أخبرنا هو بفضائل الأنبياء قبله صلّى الله عليهم وسلم أجمعين، ولهذا أتبعه بقوله: (ولا فخر) كما جاء في رواية، وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن مقام الذي أسري به إلى ربه وهو مقرب معظم مكرم كمقام الذي ألقي في بطن الحوت وهو مليم؟! وأين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب؟ فهذا في غاية التقريب، وهذا في غاية التأديب، فانظر إلى هذا الاستدلال؛ لأنه بهذا المعنى المحرف اللفظ لم يقله الرسول، وهل يقاوم هذا الدليل على نفي علو الله تعالى عن خلقه الأدلة الصحيحة الصريحة القطعية على علو الله
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [87] | 2714 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [60] | 2630 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [1] | 2590 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [79] | 2564 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [93] | 2472 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [77] | 2408 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [53] | 2386 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [99] | 2373 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [71] | 2336 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2300 استماع |