خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [14]
الحلقة مفرغة
قال رحمه الله تعالى: [قوله :( وإن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله المرتضى ).
الاصطفاء والاجتباء والارتضاء متقارب المعنى، واعلم أن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله تعالى، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه وأن الخروج عنها أكمل فهو أجهل الخلق وأضلهم، قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26]، إلى غير ذلك من الآيات.
وذكر الله نبيه صلى الله عليه وسلم باسم العبد في أشرف المقامات، فقال في ذكر الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]، وقال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19]، وقال تعالى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، وقال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، وبذلك استحق التقديم على الناس في الدنيا والآخرة، ولذلك يقول المسيح عليه السلام يوم القيامة إذا طلبوا منه الشفاعة بعد الأنبياء عليهم السلام: (اذهبوا إلى محمد عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته لله تعالى].
الكلام هنا على الشهادة الثانية، وهي شهادة أن محمداً رسول الله، فبعد أن ذكر بعضاً مما يتعلق بالإيمان بالله تطرق إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الشهادتين قرينتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله لزمته الشهادة بأن محمداً رسول الله، وذلك لأن الله سبحانه شهد له بذلك وسماه رسولاً، فقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29]، وقال تعالى: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، وأمره أن يخبر بأنه أرسله في قوله: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].
فإذا كان الله تعالى أخبر بأنه رسوله فمن كمال تصديق الله تصديق ما أخبر به من هذه الرسالة، وتصديق ما أخبر به من أنه مرسل من الله سبحانه وتعالى.
كذلك إذا شهدنا لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه رسول وصادق واعتقدنا صدقه، لزم من تصديقه الشهادة بأن الله هو الإله الحق؛ لأن جل دعوته إلى (لا إله الا الله)، فأكثر ما دعا إليه تحقيق (لا إله إلا الله).
فعرف بذلك أن الشهادتين متلازمتان وأن إحداهما مرتبطة بالأخرى، ولأجل ذلك اعتبرتا ركناً واحداً من أركان الإسلام الخمسة، وهو الركن الأساسي الذي تنبني عليه بقية الأركان، وهو شرط لها كلها، فلا يقبل ركن من الأربعة إلا بعد أن يتحقق الركن الأول وهو الشهادتان.
شرف وصف العبودية للنبي صلى الله عليه وسلم
الصفة الأولى: الاجتباء. والثانية: الارتضاء. والثالثة: الاختيار.
وقد وصفه أيضاً بالعبودية، وتكلم الشارح هنا على العبودية، ونحن نتكلم عليها توضيحاً لما قاله، وإن كان فيما ذكره كفاية، فنقول:
وصف الله نبيه بالعبودية في هذه الآيات، كما في قوله في مقام التحدي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، فما قال: على رسولنا.
وفي مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]، وفي مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19]، وفي مقام إنزال الكتاب: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1]، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، والآيات في ذلك كثيرة.
وكذلك ذكر الشارح أيضاً أن عيسى وصفه بذلك، فإذا طلب من عيسى الشفاعة قال: (اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، ولم يقل: (رسول)، وذلك لأن العبودية هي الصفة الأصلية للخلق.
وكذلك وصف بها أيضاً الأنبياء قبله، قال الله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ [ص:17]، وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ [ص:41]، وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [ص:45]، كلهم وصفهم بأنهم عبيد وعباد وواحدهم عبد.
وكذلك حكى عن عيسى العبودية، وأنها أول ما تكلم به وهو في المهد، فقال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30]، وقال عنه في آخر سورة النساء: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ [النساء:172] أي: لا يأنف من العبودية، بل يراها صفة شرف، وكذلك الملائكة: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172]، فالملائكة أيضاً لا يستنكف أحدهم أن يكون عبداً لله، بل هم قد وصفوا بذلك في قوله تعالى: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:26-27]، فأول ما وصفهم به أنهم عباد، يعني أنهم مملوكون لله.
وقد وصف الله جميع الخلق بذلك في قوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93].
أقسام العبودية
فالعبودية العامة يدخل فيها جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وهي المذكورة في هذه الآية: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، والعبودية هنا معناها أن كلهم خاضع لتصرف الرب سبحانه وكلهم مملوكون له، فإذاً هم عبيد لله سبحانه، وهو الذي يحكم فيهم ويعدل: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29] يقوله الله يوم القيامة.
فالخلق عبيد لله بمعنى أنهم مملوكون، والله هو المالك لهم، فهم عبيده يتصرف فيهم، فهو الذي يميت من يشاء ويحيي من يشاء، ويمرض من يشاء ويشفي من يشاء، ويفقر هذا ويغني هذا، ويعز هذا ويذل هذا، ويمنع هذا ويعطي هذا، ويتصرف فيهم تصرف المالك في ملكه لا معقب له، فإذاً كلهم تحت تصرفه وتحت تقديره وفي قبضته، لا يخرج أحد منهم عن قبضته ولا يستقل بنفسه ولا بملكيته، بل إذا شاء الله انتزع ملكه من يده أو انتزع ما أعطاه له، فهذه عبودية عامة.
وأما العبودية الخاصة فهي التي ذكرت في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حق الملائكة، وفي حق الأنبياء وغيرهم، وكذلك ذكرت في مواضع أخرى في حق أولياء الله كقوله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63] هؤلاء عبوديتهم خاصة.
وذكروا في قول الله تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:6] أن هذه عبودية خاصة، وهذه العبودية مقتضاها ومدارها الذل لله تعالى والخضوع، وذلك أن العبد العابد متى شعر بأنه عبد لله مملوك له، وأن ربه المالك له يتصرف فيه كما يشاء، وأنه لا يملك التصرف لنفسه، ومتى شعر بأنه مخلوق مربوب ليس هو الذي خلق نفسه، ومتى شعر بأن خالقه على كل شيء قدير، ومتى شعر بأن ربه صادق الوعد فيما وعده به، ومتى شعر بأن ربه سبحانه قد وعده على الطاعة بالجزاء الأوفر وتوعده على المعصية بالعقاب الأكبر، إذا شعر بذلك ونحوه خضع لربه وخشع له، إذ التعبد التذلل الخضوع.
فأصل العبودية الذل، ومنه سمي العبد المملوك عبداً؛ لأنه ذليل لمالكه وسيده، فالخلق كلهم يجب أن يظهروا هذا التذلل طوعاً واختياراً، أن يظهروا الذل لربهم، والخضوع له، والتواضع بين يديه، والاستكانة له، وأن يعترفوا بذلك لربهم، وأنه هو المستحق لذلك وحده.
وقد فسرت العبادة التي أمر بها العبد بأنها غاية الذل مع غاية الحب، وذكر ذلك ابن القيم في النونية بقوله:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان
فإذاً: العبد الحقيقي هو الذي يذل لربه ويخضع، وهو الذي يحب ربه غاية المحبة، وهو الذي يتعبد له غاية التعبد، والأنبياء كذلك، لاشك أنهم قاموا بهذا الوصف، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قام بهذا الوصف، واعتبر في حقه شرفاً، فإذاً ليس في كونه عبداً لله شيء من التنقص، بل العبودية لله غاية الشرف، والعبودية لله غاية العلم، والعبودية لله غاية الرفعة، والعبودية لله والرق له والذل له هي الأصل في الفضل وفي التمكين، فكذلك الأنبياء يعتزون بذلك؛ لأنهم يتعبدون لمالكهم، بل المالك الحقيقي التذلل له والرق له والانتماء إليه يعتبر شرفاً وفضلاً، كما قال ابن القيم على لسان العابد الذي يفتخر بالعبودية:
إذا قيل هذا عبدهم ومحبهم تهلل بشراً ضاحكاً يتبسم
يعني: يفتخر إذا نسب إلى أنه عبد للرب سبحانه وتعالى، وقد يفتخر أيضاً بعض المماليك بانتمائه إلى الرق لبعض الملوك، فيقول: أنا لي الفخر أن أكون عبداً للملك الفلاني أو مملوكاً له، فإذا كانوا يفتخرون بالرق وبالملكية لبعض من الخلق، فكيف لا تفتخر أيها الإنسان بالرق وبالملكية وبالعبودية لرب الأرباب ومسبب الأسباب، وخالق الكون سبحانه وتعالى.
وهنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث صفات:
الصفة الأولى: الاجتباء. والثانية: الارتضاء. والثالثة: الاختيار.
وقد وصفه أيضاً بالعبودية، وتكلم الشارح هنا على العبودية، ونحن نتكلم عليها توضيحاً لما قاله، وإن كان فيما ذكره كفاية، فنقول:
وصف الله نبيه بالعبودية في هذه الآيات، كما في قوله في مقام التحدي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، فما قال: على رسولنا.
وفي مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1]، وفي مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19]، وفي مقام إنزال الكتاب: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1]، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1]، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، والآيات في ذلك كثيرة.
وكذلك ذكر الشارح أيضاً أن عيسى وصفه بذلك، فإذا طلب من عيسى الشفاعة قال: (اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)، ولم يقل: (رسول)، وذلك لأن العبودية هي الصفة الأصلية للخلق.
وكذلك وصف بها أيضاً الأنبياء قبله، قال الله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ [ص:17]، وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ [ص:41]، وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [ص:45]، كلهم وصفهم بأنهم عبيد وعباد وواحدهم عبد.
وكذلك حكى عن عيسى العبودية، وأنها أول ما تكلم به وهو في المهد، فقال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30]، وقال عنه في آخر سورة النساء: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ [النساء:172] أي: لا يأنف من العبودية، بل يراها صفة شرف، وكذلك الملائكة: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172]، فالملائكة أيضاً لا يستنكف أحدهم أن يكون عبداً لله، بل هم قد وصفوا بذلك في قوله تعالى: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:26-27]، فأول ما وصفهم به أنهم عباد، يعني أنهم مملوكون لله.
وقد وصف الله جميع الخلق بذلك في قوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93].
وقد ذكر العلماء أن العبودية لله تنقسم قسمين: عبودية عامة وعبودية خاصة.
فالعبودية العامة يدخل فيها جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وهي المذكورة في هذه الآية: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، والعبودية هنا معناها أن كلهم خاضع لتصرف الرب سبحانه وكلهم مملوكون له، فإذاً هم عبيد لله سبحانه، وهو الذي يحكم فيهم ويعدل: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29] يقوله الله يوم القيامة.
فالخلق عبيد لله بمعنى أنهم مملوكون، والله هو المالك لهم، فهم عبيده يتصرف فيهم، فهو الذي يميت من يشاء ويحيي من يشاء، ويمرض من يشاء ويشفي من يشاء، ويفقر هذا ويغني هذا، ويعز هذا ويذل هذا، ويمنع هذا ويعطي هذا، ويتصرف فيهم تصرف المالك في ملكه لا معقب له، فإذاً كلهم تحت تصرفه وتحت تقديره وفي قبضته، لا يخرج أحد منهم عن قبضته ولا يستقل بنفسه ولا بملكيته، بل إذا شاء الله انتزع ملكه من يده أو انتزع ما أعطاه له، فهذه عبودية عامة.
وأما العبودية الخاصة فهي التي ذكرت في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حق الملائكة، وفي حق الأنبياء وغيرهم، وكذلك ذكرت في مواضع أخرى في حق أولياء الله كقوله تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63] هؤلاء عبوديتهم خاصة.
وذكروا في قول الله تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:6] أن هذه عبودية خاصة، وهذه العبودية مقتضاها ومدارها الذل لله تعالى والخضوع، وذلك أن العبد العابد متى شعر بأنه عبد لله مملوك له، وأن ربه المالك له يتصرف فيه كما يشاء، وأنه لا يملك التصرف لنفسه، ومتى شعر بأنه مخلوق مربوب ليس هو الذي خلق نفسه، ومتى شعر بأن خالقه على كل شيء قدير، ومتى شعر بأن ربه صادق الوعد فيما وعده به، ومتى شعر بأن ربه سبحانه قد وعده على الطاعة بالجزاء الأوفر وتوعده على المعصية بالعقاب الأكبر، إذا شعر بذلك ونحوه خضع لربه وخشع له، إذ التعبد التذلل الخضوع.
فأصل العبودية الذل، ومنه سمي العبد المملوك عبداً؛ لأنه ذليل لمالكه وسيده، فالخلق كلهم يجب أن يظهروا هذا التذلل طوعاً واختياراً، أن يظهروا الذل لربهم، والخضوع له، والتواضع بين يديه، والاستكانة له، وأن يعترفوا بذلك لربهم، وأنه هو المستحق لذلك وحده.
وقد فسرت العبادة التي أمر بها العبد بأنها غاية الذل مع غاية الحب، وذكر ذلك ابن القيم في النونية بقوله:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان
فإذاً: العبد الحقيقي هو الذي يذل لربه ويخضع، وهو الذي يحب ربه غاية المحبة، وهو الذي يتعبد له غاية التعبد، والأنبياء كذلك، لاشك أنهم قاموا بهذا الوصف، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قام بهذا الوصف، واعتبر في حقه شرفاً، فإذاً ليس في كونه عبداً لله شيء من التنقص، بل العبودية لله غاية الشرف، والعبودية لله غاية العلم، والعبودية لله غاية الرفعة، والعبودية لله والرق له والذل له هي الأصل في الفضل وفي التمكين، فكذلك الأنبياء يعتزون بذلك؛ لأنهم يتعبدون لمالكهم، بل المالك الحقيقي التذلل له والرق له والانتماء إليه يعتبر شرفاً وفضلاً، كما قال ابن القيم على لسان العابد الذي يفتخر بالعبودية:
إذا قيل هذا عبدهم ومحبهم تهلل بشراً ضاحكاً يتبسم
يعني: يفتخر إذا نسب إلى أنه عبد للرب سبحانه وتعالى، وقد يفتخر أيضاً بعض المماليك بانتمائه إلى الرق لبعض الملوك، فيقول: أنا لي الفخر أن أكون عبداً للملك الفلاني أو مملوكاً له، فإذا كانوا يفتخرون بالرق وبالملكية لبعض من الخلق، فكيف لا تفتخر أيها الإنسان بالرق وبالملكية وبالعبودية لرب الأرباب ومسبب الأسباب، وخالق الكون سبحانه وتعالى.
أحوال الأنبياء الدالة على صدقهم
والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات، لكن كثيراً منهم لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات، وقرروا ذلك بطرق مضطربة، والتزم كثير منهم إنكار خرق العادات لغير الأنبياء، حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر ونحو ذلك.
ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح، لكن الدليل غير محصور في المعجزات؛ فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما وتعرّف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ وما أحسن ما قال حسان رضي الله عنه:
لو لم يكن فيه آيات مبيِّنة كانت بديهته تأتيك بالخبر
وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز؛ فإن الرسول لابد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور، ولابد أن يفعل أموراً، والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به وما يخبر عنه، وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة، والصادق ضده، بل كل شخصين ادعيا أمراً أحدهما صادق والآخر كاذب، لابد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة؛ إذ الصدق مستلزم للبر، والكذب مستلزم للفجور، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)].
المعجزات والخوارق
ومعروف أنه بشر، وأنه واحد من الناس، ولكن معلوم أن الله سبحانه يصطفي رسلاً من خلقه فينزل عليهم الآيات البينات بواسطة الملك، ويوحي إليهم من شرعه ما يشاء.
فإذاً الرسل الذين يرسلهم إلى خلقه ويؤيدهم بهذه المعجزات يعرف صدقهم لعدة أسباب: منها ما يأتون به من الآيات والمعجزات، كما حصل لكثير من الأنبياء، فإن كلاً من الأنبياء أتى بمعجزات دلت على صدقه.
فموسى أيده الله بعصاه التي تنقلب إلى حية، وبيده التي تخرج بيضاء، وبالطوفان، وبما أرسله على آل فرعون في قوله: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ [الأعراف:133]، وبالغمام الذي ينزل ليظللهم، وبالحجر الذي يتفجر منه الأنهار، وبإنزال المنِّ والسلوى، وغير ذلك من المعجزات.
وعيسى كذلك أخبر الله تعالى أنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، وأخبر بأنه ينبئهم بما يأكلونه وما يدخرونه في بيوتهم، فيخبرهم بأشياء يخفونها، وأيد هذا بكتابه الذي هو الإنجيل.
ونبينا عليه الصلاة والسلام أيده الله تعالى بمعجزات، وقد استوفاها العلماء في كتب كثيرة تسمى (دلائل النبوة) من إخباره بمغيبات مما اعتمده من وحي الله سبحانه وتعالى، وكذلك ما يقع منه من بركة طعام وبركة شراب وبركة ماء، وما أشبه ذلك.
وهكذا ما يخبر به من الأمور التي لم تقع فتقع كما أخبر، وذلك كله اعتمادٌ على وحي الله عز وجل.
وهكذا ما وقع من المعجزات له، كحنين الجذع له، وتسبيح الحصى بين يديه، وسكون الجمل لما اضطرب وسكنه، وما أشبه ذلك.
ولو لم يكن إلا تأييده بهذا القرآن الذي أنزله، وجعله معجزاً، وتحداهم أن يأتوا بمثله لكفى، والكلام على هذا يطول.
ومما أيدهم الله تعالى به أيضاً أن جعل وجوههم دالة على صدقهم، كما في البيت:
لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر
فلو لم يؤيده الله بهذه المعجزات لكان وجهه وبشره وطلاقته دليلاً على صدقه، فقد كان مأموناً قبل الإسلام، وكانوا يسمونه بالصادق الأمين، وكان أيضاً حسن الملاطفة، لا يأتي شيئاً من الذي ينكر في الجاهلية وذلك لأن الله حماه واصطفاه واختاره، وكان أيضاً موثوقاً عندهم بكلامه، لا يقول إلا الصدق ولا يتكلم إلا بالصدق، كما شهد له بذلك أعداؤه، فإنه لما سأل هرقل أبا سفيان بقوله: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: لا. قال: إنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله.
الشريعة المحكمة
فإنه لما أمر بهذه العبادات ونهى عن المحرمات، تأملها كل عاقل فعرف بذلك أنها صحيحة ملائمة للواقع؛ ولذلك روي أن بعض الأعراب لما أسلم ولامه بعض صحبه قال: إني تأملت ما جاء به محمد، فرأيته ما أمر بأمر فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به. بل العقل موافق لما جاء به، وكذلك الفطرة السليمة.
فهذا مما ميز الله تعالى به أنبياءه: أنه أيدهم بما يدل على صدقهم، حتى يكون ذلك دليلاً على أنهم جاءوا بالشرع الشريف من الله عز وجل، وأنهم صادقون ليسوا بكاذبين، ولو كان أحد منهم كاذباً على الله تعالى، لفضحه ولأظهر كذبه، فلا يجوز ذلك على الله سبحانه، فالله تعالى يتنزه أن ينصر من يكذب عليه، فلو كان كاذباً فيما جاء به لما قواه الله، بل لخذله كما خذل الكذابين، فقد ظهر في زمانه كذابون، ولكن كانت عاقبتهم المحو والاندحار، ظهر في اليمن كذاب يقال له: الأسود العنسي الذي استولى على أكثر اليمن من نجران إلى صنعاء، ثم لما ظهر أنه كاذب قام عليه بعض حشمه فقتلوه.
وكذلك مسيلمة الكذاب لما ادعى النبوة تبعه من اغتر به، ففضحه الله تعالى وسلط عليه من قتله.
وشريعة الله التي أوحاها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم باقية إلى أن يأتي أمر الله تعالى.
وضوح كذب الكهان ونحوهم
فالكهان ونحوهم - وإن كانوا أحياناً يخبرون بشيء من الغيبيّات ويكون صدقاً - فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن مَلَك، وليسوا بأنبياء، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن صياد : (قد خبأت لك خبيئاً، وقال: هو الدُّخ. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك) يعني: إنما أنت كاهن. وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يأتيني صادق وكاذب). وقال: (أرى عرشاً على الماء)، وذلك هو عرش الشيطان. وبين أن الشعراء يتبعهم الغاوون، والغاوي: الذي يتبع هواه وشهوته، وإن كان ذلك مضراً له في العاقبة.
فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله، علم علماً يقيناً أنه ليس بشاعر ولا كاهن، والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة، حتى في المدعي للصناعات والمقالات، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابة، أو علم النحو والطب والفقه وغير ذلك، والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لابد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب؟!
ولا ريب أن المحققين على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري، كما يعرف الرجل رضا الرجل وحبه وبغضه وفرحه وحزنه، وغير ذلك مما في نفسه بأمور تظهر على وجهه، قد لا يمكن التعبير عنها، كما قال تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [محمد:30]، ثم قال: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]].
هذا الكلام يتعلق برسالة نبينا عليه الصلاة والسلام، وكيف عرف أنه صادق، وذلك لأن المشركين رموه بالكذب، فمنهم من قال: ساحر كذاب، ومنهم من قال: كاهن، ومنهم من قال: شاعر.
ورد الله عليهم، قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا [الطور:29-30] يعني: انتظروا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور:30]، وأخبر بأنه ليس بشاعر فقال: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69].
وذم الشعراء في هذه الآية فقال: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:224-227]، فإن هذا تنزيه لنبيه أن يكون شاعراً أو يعلمه الشعر، وتنزيه لهذا القرآن أن يكون شعراً، ولهذا قال في آية أخرى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة:41-42]، وذلك لأنهم يقولون عنه: إنه من الكهنة.
لما رأوا الكهنة وسجعهم وإخبارهم بأشياء من المغيبات، ادعوا بأنه كاهن، والكاهن في الأصل هو الذي يدعي علم الغيب، أو يخبر عن المغيبات، أو يخبر عمَّا في الضمير، أو يدل على مكان المسروق ومكان الضالة واللقطة، وذلك بتنزل الشياطين عليه؛ فإن الشياطين تختطف السمع وتسترقه من السماء وتوحيه إلى أوليائها الذين هم السحرة والكهنة، كما أخبرالله تعالى بذلك في قوله: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِف الْخَطْفَة [الصافات:8-10] يعني: الكلمة يخطفها الشيطان من الملائكة فيستمعها، ثم يلقيها في أذن وليه الساحر أو الكاهن.
أخبر الله تعالى في هذه الآية أن الشياطين تنزل؛ على أولئك الجهلة: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221-222] يعني: الكاهن، فـ(أفاك) أي: كذاب. و(أثيم): أي: آثم. أي أنه من أهل الإثم الذي هو الزور والذنب العظيم.
قال تعالى: يُلْقُونَ السَّمْعَ ، والسمع: ما يختطفونه من الملائكة ويلقونه إليهم، وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:223] وقد وردفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في صفة أخذ الكاهن الكلمة من السماء: (فيلقيها إلى من تحته -يعني: الذي يخطفها- ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فيكذب معها مائة كذبة)، فالكاهن يستمع الكلمة التي سمعت من السماء،ويضيف إليها كذباً، وهذا معنى قوله تعالى: يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:223]، فعرف بذلك أن الله تعالى نزه نبيه عن أن يكون بمتهم كالذين تتنزل عليهم الشياطين، وإنما أنزل عليه الملك بهذا الوحي المتتابع المشتمل على الحكم والأحكام مما يدل على أنه من حكيم حميد، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42].
وذكر أيضاً من الكهنة الذين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم شاب من اليهود اسمه ابن صياد ، ورد في شأنه أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرها، حتى ظن بعض الصحابة أنه المسيح الدجال، واستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم في أن يقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يكن هو فلن تسلط عليه، وإن لا يكن هو فلا خير لك في قتله) فإن كان الدجال فلا تستطيع أن تقتله؛ لأنه قد قدر الله أنه يخرج، وأنه يحصل منه ما سوف يحصل، فلن تسلط عليه.
أما إذا لم يكن هو فلا خير لك في قتله، ولكن القرائن دلت على أنه ليس هو الدجال، وإنما هو كاهن من الكهنة الذين تنزل عليهم الشياطين، وأخبر بأنه يرى عرشاً في الماء، وذلك هو عرش الشيطان، وأخبر بأنه يأتيه صادق وكاذب، يعني: يأتيه وسوسة من الشيطان أو وحي من الشيطان، فتارة يصدق وتارة يكذب.
وذلك وحي الشيطان، والشياطين يوحون كما في قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [الأنعام:121]، فهناك وحي شياطين تنزل به إلى أوليائها.
ومما يدل على تكهنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله فقال: قد خبأت لك خبيئاًً. قال: هو الدخ. وكان قد خبأ له سورة الدخان، وفيها قوله تعالى: فَارتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:10-11] إلى آخره، فقال: (اخسأ فلن تعدو قدرك).
فالحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزهه الله تعالى عن صفات هؤلاء وهؤلاء، وقد وصفه الله بصفات تدل على صدقه وصحة كلامه، وذلك لما يشتمل عليه كلامه من الانتظام ومن الإحكام، وكذلك موقع كلامه في القلوب؛ حيث إنه متى سمعه السامع أصغى إليه والتذ به، سواء كان من القرآن أو مما علمه الله تعالى.
القرائن الدالة على التمييز بين الصادق والكاذب
كذلك الكاذب في كل نحلة يعرف كذبه، فكل من انتحل شيئاً ليس له فإنه يظهر أمره ولا يخفى على فطناء الناس، وإذا عمل أي عمل وهو ليس من أهله وجرب ذلك وعرف منه، ابتعد عنه الناس وحذروا منه.
ومثَّل الشارح بالأعمال التي في زمنه، كالخياطة والكتابة والخرازة وما أشبهها، فهذه حرف يدوية قد يتعلمها الإنسان في زمن يسير، ولكن قد يتسمى الإنسان بأنه من أهلها، ويظهر بالتجربة أنه ليس من أهلها، حتى قال بعضهم:
فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت ثوبك بالمداد
يعني: إنك لست من أهل هذه الصنعة ولو فعلت ما فعلت.
وعرف بذلك أن كل من تعاطى شيئاً وهو ليس من أهله، فإن الناس يعرفون أنه كاذب ويظهر كذبه.
وهذه الدعوى التي جاء بها الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى إلى خلقه لاشك أنها دعوى كبيرة، فلو كانوا كاذبين لما أيدهم الله بما يدل على صدقهم، ولظهر كذبهم وفضحهم الله تعالى على رءوس الأشهاد ونكَّل بهم.
وساق الشارح هذه الآية، وهي قوله تعالى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30]، وقد أخبر الله تعالى بأن نبيه يعرف بعض المتسترين بأوصافهم الظاهرة، كما في قوله: فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [محمد:30] يعني: بأمارات تظهر على وجوههم يعرف بها من هو صادق ممن هو كاذب.
فإذا كانت هذه الأعمال تعرف بالسيما أو بالأمارات الظاهرة، فلا شك أن أمارات النبوة تعرف لمن تأملها.
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (وإن محمداً) بكسر الهمزة عطفاً على قوله: (إن الله واحد لا شريك له)؛ لأن الكل معمول القول، أعني قوله: (نقول في توحيد الله).
والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات، لكن كثيراً منهم لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات، وقرروا ذلك بطرق مضطربة، والتزم كثير منهم إنكار خرق العادات لغير الأنبياء، حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر ونحو ذلك.
ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح، لكن الدليل غير محصور في المعجزات؛ فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما وتعرّف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ وما أحسن ما قال حسان رضي الله عنه:
لو لم يكن فيه آيات مبيِّنة كانت بديهته تأتيك بالخبر
وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز؛ فإن الرسول لابد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور، ولابد أن يفعل أموراً، والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به وما يخبر عنه، وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة، والصادق ضده، بل كل شخصين ادعيا أمراً أحدهما صادق والآخر كاذب، لابد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة؛ إذ الصدق مستلزم للبر، والكذب مستلزم للفجور، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)].
عرف المسلمون نبوة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وشهدوا له بالرسالة، والطريق إلى معرفته والتصديق له ما أيده الله تعالى به من المعجزات التي دلت على صدقه.
ومعروف أنه بشر، وأنه واحد من الناس، ولكن معلوم أن الله سبحانه يصطفي رسلاً من خلقه فينزل عليهم الآيات البينات بواسطة الملك، ويوحي إليهم من شرعه ما يشاء.
فإذاً الرسل الذين يرسلهم إلى خلقه ويؤيدهم بهذه المعجزات يعرف صدقهم لعدة أسباب: منها ما يأتون به من الآيات والمعجزات، كما حصل لكثير من الأنبياء، فإن كلاً من الأنبياء أتى بمعجزات دلت على صدقه.
فموسى أيده الله بعصاه التي تنقلب إلى حية، وبيده التي تخرج بيضاء، وبالطوفان، وبما أرسله على آل فرعون في قوله: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ [الأعراف:133]، وبالغمام الذي ينزل ليظللهم، وبالحجر الذي يتفجر منه الأنهار، وبإنزال المنِّ والسلوى، وغير ذلك من المعجزات.
وعيسى كذلك أخبر الله تعالى أنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، وأخبر بأنه ينبئهم بما يأكلونه وما يدخرونه في بيوتهم، فيخبرهم بأشياء يخفونها، وأيد هذا بكتابه الذي هو الإنجيل.
ونبينا عليه الصلاة والسلام أيده الله تعالى بمعجزات، وقد استوفاها العلماء في كتب كثيرة تسمى (دلائل النبوة) من إخباره بمغيبات مما اعتمده من وحي الله سبحانه وتعالى، وكذلك ما يقع منه من بركة طعام وبركة شراب وبركة ماء، وما أشبه ذلك.
وهكذا ما يخبر به من الأمور التي لم تقع فتقع كما أخبر، وذلك كله اعتمادٌ على وحي الله عز وجل.
وهكذا ما وقع من المعجزات له، كحنين الجذع له، وتسبيح الحصى بين يديه، وسكون الجمل لما اضطرب وسكنه، وما أشبه ذلك.
ولو لم يكن إلا تأييده بهذا القرآن الذي أنزله، وجعله معجزاً، وتحداهم أن يأتوا بمثله لكفى، والكلام على هذا يطول.
ومما أيدهم الله تعالى به أيضاً أن جعل وجوههم دالة على صدقهم، كما في البيت:
لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر
فلو لم يؤيده الله بهذه المعجزات لكان وجهه وبشره وطلاقته دليلاً على صدقه، فقد كان مأموناً قبل الإسلام، وكانوا يسمونه بالصادق الأمين، وكان أيضاً حسن الملاطفة، لا يأتي شيئاً من الذي ينكر في الجاهلية وذلك لأن الله حماه واصطفاه واختاره، وكان أيضاً موثوقاً عندهم بكلامه، لا يقول إلا الصدق ولا يتكلم إلا بالصدق، كما شهد له بذلك أعداؤه، فإنه لما سأل هرقل أبا سفيان بقوله: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: لا. قال: إنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [87] | 2715 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [60] | 2631 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [1] | 2591 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [79] | 2565 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [93] | 2472 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [77] | 2408 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [53] | 2387 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [99] | 2373 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [71] | 2336 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2301 استماع |