خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/129"> الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/129?sub=66145"> شرح العقيدة الطحاوية
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
شرح العقيدة الطحاوية [9]
الحلقة مفرغة
يعتقد المسلمون أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، ويعتقدون أن توحيد الصفات متلقىً عن الشرع، مأخوذ عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره الله لحمل الرسالة لما فيه من الأهلية، فهو عليه الصلاة والسلام من أفصفح الخلق، وأنصحهم، يحب الخير لأمته، قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ يعني: من جنسكم عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] فإذا كان حريصاً على هداية الأمة، وإذا كان يحب لهم النجاة، وإذا رزقه الله وأعطاه الفصاحة، والقدرة على البلاغ والبيان، فلا بد أنه قد بلغ، ولا بد أنه قد بين، ومن اعتقد أنه كتم ما أنزل إليه كفر، ومن اعتقد أنه لبس على الأمة وأوقعهم في الحيرة كفر، بل نعتقد أنه بلغ ولم يكتم، وأوضح وبين.
وإذا رجعنا إلى بيانه وإلى ما بلغه وجدناه واضحاً.
ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام ظهر في أناس يتكلمون باللغة العربية ويفهمون كلامه، وإذا كان كذلك فلا بد أنه خاطبهم بما يفهمون، فنرجع إلى لغتهم.
ومعلوم أنه جاء بشيء لم يكونوا يعرفونه، فسماه بأسماء يفهمونها، فما كانوا يعرفون كلمة الإسلام، ولا كلمة الإيمان على مسماها الشرعي، ولا كانوا يعرفون الصلاة ولا الوضوء ولا الصوم على مسماها الشرعي، وكذلك لم يكونوا يعرفون مسمى النفاق، ولا مسمى الكفر، ولا الشرك، ولا الفسوق بمسماها الشرعي، لكن يعرفون الكلمات على معان أخرى، فاستعمل هذه المعاني التي تقارب ما يعرفونه.
وإذا كان هذا في هذه الأمور المعتادة فإنه أيضاً تكلم معهم في الصفات، فإنهم يعرفون السمع وما يطلق عليه، وكذلك البصر، والقدرة، والقوة، والعلم، والكلام، فلابد أنه خاطبهم بالأشياء التي يفهمونها، وأنهم فهموا ما بلغهم به.
على هذا: فإن الذين يتكلفون في صرف اللفظ عن ظاهره لا شك أنهم وقعوا في ضلال، ووقعوا في تخطئة النبي عليه الصلاة والسلام من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون.
بيان أن الشرع خاطب العرب بصفات الله وهم يفهمون معانيها
فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وعنايته في قلبه، فلا يعرف باللفظ ابتداء ولكن لا يعرف المعنى بغير اللفظ، حتى يعلم أولاً أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعنى به، فإذا عرف ذلك ثم سمع اللفظ مرة ثانية، عرف المعنى المراد بلا إشارة إليه.
وإن كانت الإشارة إلى ما يحس بالباطن مثل الجوع، والشبع، والري، والعطش، والحزن، والفرح، فإنه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه، فإذا وجده أشير له إليه، وعرف أن اسمه كذا، والإشارة تارة تكون إلى جوع نفسه أو عطش نفسه، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له: جعت، أو: أنت جائع، فيسمع اللفظ ويعلم ما عينه بالإشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد، مثل نظر أمه إليه في حال جوعه، وإدراكه بنظرها أو نحوه أنها تعني جوعه، أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره].
أورد الشارح هذا الكلام ليبين أن الرسول عليه الصلاة والسلام خاطبهم بكلمات يفهمونها، وإلا لما سكتوا حتى يستفهموا، فإن الإنسان الذي لا يفهم الكلمة لابد أن يسأل عنها، فأنت مثلاً لو لقيت رجلاً أعجمياً، ثم إنك خاطبته بمثل هذه الكلمات ولم يفهم، فإنه يضيق صدره حتى تفهمه، فتقول له: هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، هذه -تشير إليها- اسمها شاة، وهذه اسمها بقرة، وهذا اسمها ناقة، وهذا جمل، وهذا حصان، فحينئذ يفهم.
وهكذا أيضاً إذا عبرت له عن الأشياء العلوية، قلت مثلاً: هذه هي السماء، وهذه هي الأرض، وهذا اسمه جبل، وهذا اسمه واد، وهذه شجرة، وهذه نخلة، إلى أن يفهم.
وهكذا أيضاً تعبر له عن المعاني التي قد لا يكون مشاراً إليها، ولا يكون لها أشخاص؛ مثل الجوع، والعطش، والخوف، والفرح، والحزن، والضحك، والبكاء، فإنه لا يفهمها إلا إذا أحس بها.
فإذا كان الأمر كذلك فلاشك أنه عليه الصلاة والسلام عندما تكلم بالكلمات كانوا يفهمون معناها، فكانوا يفهمون أنه إذا أخبر بأن الله سميع بصير؛ أن معناه أنه يدرك الأصوات ويبصر المرئيات، وكذلك إذا أخبر بأنه متكلم، يفهمون أن الكلام هو ما يسمع وما يعبر به عن المعاني، ويفهمون أن العلم ضد الجهل، ويفهمون أن المحبة ضد الكراهية أو ضد البغض .. وهكذا.
فإذا كانوا يفهمون ذلك وهي لغتهم فكيف يقال: إنها غير معلومة، وإن هذه الكلمات بمنزلة الكلمات الأعجمية التي يسمعها الإنسان ولا يدري ما معناها؟! فأنت لو سمعت كلاماً أعجمياً أو كلاماً لم تفهمه، قلت: كلمني فلان بكلام غير معروف، فلا تشهد له بالبيان، ونحن نشهد بأن الرسول عليه الصلاة والسلام بين، وأن القرآن بيان، قال تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران:138]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ [النحل:44] فنشهد بأنه بين للناس، وأن الناس فهموا عنه، ولو كان ما يقوله النفاة والمبتدعة من التكلف في طرح تلك الكلمات لما كان قد بين، هم لا يقولون إنه بين، بل يعتقدون أنه لبس، وحاشاه عليه الصلاة والسلام من التلبيس.
بيان انقسام المخاطبين في فهم الخطاب للتوصل إلى أن الصفات خطاب له معنى مفهوم
فإن كانت من القسمين الأولين لم يحتج إلى معرفة اللغة، بأن يكون قد عرف معاني الألفاظ المفردة، ومعنى التركيب، فإذا قيل له بعد ذلك: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ [البلد:8-9]، أو قيل له: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78] ونحو ذلك، فهم المخاطب بما أدركه بحسه.
وإن كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الألفاظ، بل هي مما لا يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة، فلابد في تعريفه من طريق القياس، والتمثيل، والاعتبار بما بينه وبين معقولات الأمور التي شاهدها من التشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل أقوى كان البيان أحسن، والفهم أكمل] .
الرسل عليهم السلام بينوا للناس أشياء يشاهدونها، وبينوا أشياء لم يشاهدوها ولكن شاهدوا ما يشهد لها، فمثلاً: العبادات وضحوها، فقالوا: هذا اسمه وضوء، وهذه كيفيته، وهذه الصلاة، وهذه كيفيتها، هذا من جملة البيان.
كذلك بلغوا أشياء لم نشاهدها، وعبروا عنها بعبارة نفهمها، فمثلاً: اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة، ما شاهدناه، حيث إنه لم يقع بعد، ولكن ذكرت لنا أوصافه بكلمات مفردة وجمل نفهم المعنى منها، فأخبر بأن الناس يبعثون، وتعاد أرواحهم في أجسادهم، وهذا مفهوم معناه، وكذلك جمع الناس في يوم القيامة مفهوم معناه: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] وكذلك نصب الموازين والوزن للأعمال: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47] فالوزن معروف.
وكذلك الإخبار بنشر الكتب: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً [الإسراء:13]، فنحن ما رأيناه ولكن نفهم معناه، وهذه الأمور التي أخبرنا بها ونحن لم نرها فهمنا معناها، حيث إن جنس هذه الكلمات معروف، فالوزن في الدنيا معروف، ولكن ليس الوزن في الدنيا كالوزن في الآخرة، بل بينهما فرق، إلا أن كلاً منهما فيه ميزان يرجح وينقص.
وكذلك الصراط الذي أخبر بأن الناس يمشون عليه، فالصراط في الدنيا معروف؛ وهو الطريق الواسع، ولكن أخبر في الآخرة بأن هذا الصراط منصوب وأخبر بصفته، فنؤمن بذلك، ولكن نعتقد أنه ليس كالذي نعرفه في الدنيا.
وهكذا أيضاً الكتب التي تنشر في الآخرة: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ [الإسراء:13-14] كل يقرأ كتابه؛ الأمي وغير الأمي، معلوم أن هذا ليس ككتاب الدنيا الذي لا يقرؤه إلا القارئ، فعرف بذلك أنهم أخبروا بأشياء من الغيب مفهوم معناها، وإن لم تفهم كيفيتها.
لذلك يعرف أن الإيمان بالأمور الغيبية لابد من فهم معناه، فلو أن الناس ما فهموا كلمة النار، وجهنم، وسقر، والسعير، ونار تلظى، ونار موقدة، ونار حامية، لما خافوا ولا بكوا، ولا حذروا ولا ابتعدوا عن المعاصي التي تدخلهم في هذه النار، ولكن فهموا أنها نار عذاب، وأنها عذاب وبيل، واعتقدوا صحة ما جاء فيها من الحميم والزقوم، والغساق، وما أشبهه.
ولو أن الناس ما فهموا معنى (جنات النعيم) و(دار السلام) وما أشبهها، وما فيها من الحبور، وما فيها من القصور والأنهار والأشجار والثمار، لما عملوا لأجلها، فلابد أنهم فهموها.
فإذاً: الذين آمنوا بالآخرة وآمنوا بالغيب، فهموا معنى ذلك، فيقاس على ذلك فهمهم لمدلول الصفات وإن لم يكن هناك تماثل حقيقي، ولهذا يقول ابن عباس : ( ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ) يعني: أنها تتشابه في الأسماء، وتتشابه في المعنى العام، الله تعالى أخبر بأن في الجنة أنهاراً، ومع ذلك تجري في غير أخدود، هل يتصور أنها تجري في الدنيا على الأرض بغير أخدود؟! يعني: في غير حفر وسواق، هذا من آيات الله!
وكذلك المنازل التي في الآخرة، أخبر في الحديث (بأنه يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها) فهذا دليل على أننا نعرف أنها قصور، وأنها مبنية، وأنها من لؤلؤ ومن زبرجد، ولكن ليست مثلما ندركه، فهذا دليل على أن أمور الآخرة نفهم معناها، ولكن كيفيتها لا ندركها، فيقال مثل ذلك أيضاً في الصفات.
طريقة إطلاق الألفاظ الشرعية على مسمياتها الحادثة المشاهدة
وكذلك لما أخبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها، أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها، وقرن بذلك من الإشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد، كتعليم الصبي، كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم] .
فهمنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام استعمل معاني لم تكن معروفة عند العرب، ولكن عبر عنها بما يقاربها من كلمات يفهمون معناها، فما كانوا يعرفون أن الشرك هو عبادة غير الله معه، ولكن يعرفون أن الشرك اشتراك اثنين في شيء، فتسمية عبادة غير الله مع الله مثل اشتراك اثنين في شيء، فسماه شركاً لما فيه من الاشتراك.
وكانوا يعرفون أن الكفر هو الستر والتغطية، فلما كان الكافر قد أنكر الإيمان وأنكر التوحيد وجحده وستره صدق عليه أنه كفر، فسماه الرسول بأمر الله كفراً.
وما كانوا يعرفون أن الإيمان هو الدخول في هذه الشريعة وتقبلها، بل يعرفون أن الإيمان هو تصديق الإنسان بقلبه بشيء، فلما جاء بهذه الكلمة جعلها اسماً للتصديق الكلي بما جاء في هذا الشرع، فهذا تصديق وذاك تصديق، ولكن هذا بشيء وذاك بشيء.
وكذلك ما كانوا يعرفون كلمة الإسلام إلا أنها الإذعان للشيء والاستسلام له، فاستعمل الإسلام في الإذعان للشرع والانقياد له، وما كانوا يعرفون أن الصلاة هي الركوع والسجود، فاستعملها في هذا؛ لأنهم كانوا يعرفون أن الصلاة هي الدعاء، وهذه فيها دعاء.
وهكذا علمهم عليه السلام أسماء هذه الأشياء، ثم علمهم كيفيتها، فلما سئل عن الإسلام فسره بالأركان الخمسة، ولما سئل عن الإيمان وعن الإحسان فسرها.
فإذا كان هذا تعليمه لأمته هذه الكلمات فيما يقاربها من اللغة التي يفهمونها، فهو بمنزلة المعلم، الذي يعلم تلاميذه ويبدأ معهم بصغار العلم قبل كباره، ويربيهم بذلك، والله تعالى قد أرشد إلى هذه الطريقة بقوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] فهكذا ينبغي أن يعرف ويعتقد أن الرسل بلغوا وبينوا للناس الأمور الغيبية والأمور الاصطلاحية الشرعية على حسب ما يفهمون، وأن أممهم فهموا منهم ذلك فهماً كاملاً.
إخبار الرسول بالأمور الغيبية وطريقة التعليم فيها ترد على نفاة الصفات
ولهذا كان الإخبار بذلك فيه عبرة لنا، كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111].
وقد يكون الذي يخبر به الرسول مما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه، لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه، كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلابد أن يعلموا معنًى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ، وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم.
فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب، أشهدهم إياه، وأشار لهم إليه، وفعل فعلاً يكون حكاية له وشبهاً به، يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة] .
سمعنا أن هذا من جملة ما بينه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم عن أمور لم يشاهدوها، فمن ذلك أمور قد سبقت ولكن يفهم معناها، فأخبر الله بأنه أغرق قوم نوح وأنجى نوحاً في السفينة، فنعرف أن قوم نوح بشر مثلنا، وأن السفينة مركب من المراكب يسبح في البحر، فأخبر بأنه نجى نوحاً ومن معه في السفينة، في قوله تعالى: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت:15] وفي قوله: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [المؤمنون:27] هذا شيء مفهوم، سمعناه وفهمنا معناه.
وكذلك إخباره بأنه أهلك عاداً بالريح، فعاد بشر مثلنا إلا أنهم أشد خلقاً، كما في قولهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15] والريح من جنس الريح التي نعرفها إلا أنها أشد، وهكذا يقال في الأخبار عن الأمم السابقة، فمعناها مفهوم.
وأما الأمور الغيبية التي هي من الأمور الأخروية فقد أخبر الله تعالى على لسان رسوله عن أمور غيبية من الأمور المستقبلة، ولكن نصدق بها ونفهم مدلولها الإجمالي وإن لم نفهم الكيفية.
قد ضربنا مثلاً بالصراط وبالميزان، وكذلك الحوض في الآخرة، وهكذا حساب الله تعالى للخلق، وهكذا خلقتهم وكيفيتهم، وكذا ذكر الجنة والنار وما فيهما، فمعانيها مفهومة وإن لم يكن الذي نشاهده في الدنيا كالذي يحصل في الآخرة، بل بينهما تفاوت، فعرف بذلك أن الرسل بينوا للناس، وأن الناس فهموا المعنى العمومي الذي يحصل به إدراكهم وانتفاعهم.
تقدير انتفاء المماثلة بين الخالق والمخلوق تغني عن إثبات الفارق عند ذكر الصفات
أولها: إدراك الإنسان المعاني الحسية المشاهدة.
وثانيها: عقله لمعانيها الكلية.
وثالثها: تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية.
فهذه المراتب الثلاث لابد منها في كل خطاب؛ فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة فلابد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة والاشتباه الذي بينهما، وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة، ثم إن كانت مثلها لم يحتج إلى ذكر الفارق، كما تقدم في قصص الأمم، وإن لم يكن مثلها بين ذلك بذكر الفارق، بأن يقال: ليس ذلك مثل هذا، ونحو ذلك.
وإذا تقدر انتفاء المماثلة كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق، وانتفاء التساوي لا يمنع وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك، وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة، ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط] .
يقول: لابد في معرفة المعاني من معرفة الألفاظ، فلو كنا لا نعرف كلمة (سمع) ما فهمنا قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58]، ولو كنا لا نعرف المعنى الذي تفسر به الكلمة، وهو أن السمع إدراك الأصوات، ما فهمنا أيضاً المعنى الذي دلت عليه الجملة، ولو كنا نسمع كلمة (سمع) ونفسرها ولكن لا ندري ما مدلولها، ما فهمناها ولا انتفعنا بالكلام.
فيقال: أولاً: علينا أن نعرف أن المعاني واضحة تفهم بمجرد فهم اللغة، فيفهم المسلمون إذا قيل في أوصاف الله عز وجل إنه المهيمن، أنه رقيب على عباده، ويفهمون أنه يراهم إذ قال: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:218-219]، وإذا قرءوا قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق:15-16] فهموا أن ذلك تخويف، وأنه لا يخفى عليه من أمورهم خافية، ولو كانوا لم يتصوروا هذا القرب وذلك لأنه من الأمور الغيبية، إنما القصد منه التخويف حتى يحذر الإنسان إذا عرف أنه عليه رقيب.
فإذا عرفنا مدلول الكلمة وعرفنا كيف تفسر، فإننا ندرك ثبوت الصفة، ولكن لا نفهم التشبيه، فلا نفهم أن صفة المخلوق كصفة الخالق، فلا نقول: إن الله يسمع كسمعنا، ويبصر كبصرنا، وله يد كأيدينا، ما الذي سبب معرفتنا لهذا الفرق؟
والجواب: أن صفات المخلوق إذا أضيفت إليه تناسبه، وصفات الخالق إذا أضيفت إليه تناسبه، فالإضافة كافية في إثبات الفرق، فيكتفى بها ويقال: إذا كانت ذات الرب تعالى ليست كذوات المخلوقين، فكذلك صفاته ليست كصفاتهم، سواء الصفات الفعلية أو الصفات الذاتية، فيعتقد المسلمون أن هذا كاف في إثبات الفرق بين صفة وصفة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها، أو ما يناسب عينها، ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفردة، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له باللفظ المفرد ويشار له إلى معناه إن كان مشهوداً بالإحساس الظاهر أو الباطن، فيقال له: لبن، خبز، أم، أب، سماء، أرض، شمس، قمر، ماء، ويشار له مع العبارة إلى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر، وأول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل.
فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وعنايته في قلبه، فلا يعرف باللفظ ابتداء ولكن لا يعرف المعنى بغير اللفظ، حتى يعلم أولاً أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعنى به، فإذا عرف ذلك ثم سمع اللفظ مرة ثانية، عرف المعنى المراد بلا إشارة إليه.
وإن كانت الإشارة إلى ما يحس بالباطن مثل الجوع، والشبع، والري، والعطش، والحزن، والفرح، فإنه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه، فإذا وجده أشير له إليه، وعرف أن اسمه كذا، والإشارة تارة تكون إلى جوع نفسه أو عطش نفسه، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له: جعت، أو: أنت جائع، فيسمع اللفظ ويعلم ما عينه بالإشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد، مثل نظر أمه إليه في حال جوعه، وإدراكه بنظرها أو نحوه أنها تعني جوعه، أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره].
أورد الشارح هذا الكلام ليبين أن الرسول عليه الصلاة والسلام خاطبهم بكلمات يفهمونها، وإلا لما سكتوا حتى يستفهموا، فإن الإنسان الذي لا يفهم الكلمة لابد أن يسأل عنها، فأنت مثلاً لو لقيت رجلاً أعجمياً، ثم إنك خاطبته بمثل هذه الكلمات ولم يفهم، فإنه يضيق صدره حتى تفهمه، فتقول له: هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، هذه -تشير إليها- اسمها شاة، وهذه اسمها بقرة، وهذا اسمها ناقة، وهذا جمل، وهذا حصان، فحينئذ يفهم.
وهكذا أيضاً إذا عبرت له عن الأشياء العلوية، قلت مثلاً: هذه هي السماء، وهذه هي الأرض، وهذا اسمه جبل، وهذا اسمه واد، وهذه شجرة، وهذه نخلة، إلى أن يفهم.
وهكذا أيضاً تعبر له عن المعاني التي قد لا يكون مشاراً إليها، ولا يكون لها أشخاص؛ مثل الجوع، والعطش، والخوف، والفرح، والحزن، والضحك، والبكاء، فإنه لا يفهمها إلا إذا أحس بها.
فإذا كان الأمر كذلك فلاشك أنه عليه الصلاة والسلام عندما تكلم بالكلمات كانوا يفهمون معناها، فكانوا يفهمون أنه إذا أخبر بأن الله سميع بصير؛ أن معناه أنه يدرك الأصوات ويبصر المرئيات، وكذلك إذا أخبر بأنه متكلم، يفهمون أن الكلام هو ما يسمع وما يعبر به عن المعاني، ويفهمون أن العلم ضد الجهل، ويفهمون أن المحبة ضد الكراهية أو ضد البغض .. وهكذا.
فإذا كانوا يفهمون ذلك وهي لغتهم فكيف يقال: إنها غير معلومة، وإن هذه الكلمات بمنزلة الكلمات الأعجمية التي يسمعها الإنسان ولا يدري ما معناها؟! فأنت لو سمعت كلاماً أعجمياً أو كلاماً لم تفهمه، قلت: كلمني فلان بكلام غير معروف، فلا تشهد له بالبيان، ونحن نشهد بأن الرسول عليه الصلاة والسلام بين، وأن القرآن بيان، قال تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران:138]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ [النحل:44] فنشهد بأنه بين للناس، وأن الناس فهموا عنه، ولو كان ما يقوله النفاة والمبتدعة من التكلف في طرح تلك الكلمات لما كان قد بين، هم لا يقولون إنه بين، بل يعتقدون أنه لبس، وحاشاه عليه الصلاة والسلام من التلبيس.
قال رحمه الله: [إذا عرف ذلك، فالمخاطب المتكلم إذا أراد بيان معان، فلا يخلو: إما أن تكون مما أدركها المخاطب المستمع بإحساسه وشهوده، أو بمعقوله، وإما أن لا تكون كذلك.
فإن كانت من القسمين الأولين لم يحتج إلى معرفة اللغة، بأن يكون قد عرف معاني الألفاظ المفردة، ومعنى التركيب، فإذا قيل له بعد ذلك: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ [البلد:8-9]، أو قيل له: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78] ونحو ذلك، فهم المخاطب بما أدركه بحسه.
وإن كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الألفاظ، بل هي مما لا يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة، فلابد في تعريفه من طريق القياس، والتمثيل، والاعتبار بما بينه وبين معقولات الأمور التي شاهدها من التشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل أقوى كان البيان أحسن، والفهم أكمل] .
الرسل عليهم السلام بينوا للناس أشياء يشاهدونها، وبينوا أشياء لم يشاهدوها ولكن شاهدوا ما يشهد لها، فمثلاً: العبادات وضحوها، فقالوا: هذا اسمه وضوء، وهذه كيفيته، وهذه الصلاة، وهذه كيفيتها، هذا من جملة البيان.
كذلك بلغوا أشياء لم نشاهدها، وعبروا عنها بعبارة نفهمها، فمثلاً: اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة، ما شاهدناه، حيث إنه لم يقع بعد، ولكن ذكرت لنا أوصافه بكلمات مفردة وجمل نفهم المعنى منها، فأخبر بأن الناس يبعثون، وتعاد أرواحهم في أجسادهم، وهذا مفهوم معناه، وكذلك جمع الناس في يوم القيامة مفهوم معناه: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] وكذلك نصب الموازين والوزن للأعمال: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47] فالوزن معروف.
وكذلك الإخبار بنشر الكتب: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً [الإسراء:13]، فنحن ما رأيناه ولكن نفهم معناه، وهذه الأمور التي أخبرنا بها ونحن لم نرها فهمنا معناها، حيث إن جنس هذه الكلمات معروف، فالوزن في الدنيا معروف، ولكن ليس الوزن في الدنيا كالوزن في الآخرة، بل بينهما فرق، إلا أن كلاً منهما فيه ميزان يرجح وينقص.
وكذلك الصراط الذي أخبر بأن الناس يمشون عليه، فالصراط في الدنيا معروف؛ وهو الطريق الواسع، ولكن أخبر في الآخرة بأن هذا الصراط منصوب وأخبر بصفته، فنؤمن بذلك، ولكن نعتقد أنه ليس كالذي نعرفه في الدنيا.
وهكذا أيضاً الكتب التي تنشر في الآخرة: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ [الإسراء:13-14] كل يقرأ كتابه؛ الأمي وغير الأمي، معلوم أن هذا ليس ككتاب الدنيا الذي لا يقرؤه إلا القارئ، فعرف بذلك أنهم أخبروا بأشياء من الغيب مفهوم معناها، وإن لم تفهم كيفيتها.
لذلك يعرف أن الإيمان بالأمور الغيبية لابد من فهم معناه، فلو أن الناس ما فهموا كلمة النار، وجهنم، وسقر، والسعير، ونار تلظى، ونار موقدة، ونار حامية، لما خافوا ولا بكوا، ولا حذروا ولا ابتعدوا عن المعاصي التي تدخلهم في هذه النار، ولكن فهموا أنها نار عذاب، وأنها عذاب وبيل، واعتقدوا صحة ما جاء فيها من الحميم والزقوم، والغساق، وما أشبهه.
ولو أن الناس ما فهموا معنى (جنات النعيم) و(دار السلام) وما أشبهها، وما فيها من الحبور، وما فيها من القصور والأنهار والأشجار والثمار، لما عملوا لأجلها، فلابد أنهم فهموها.
فإذاً: الذين آمنوا بالآخرة وآمنوا بالغيب، فهموا معنى ذلك، فيقاس على ذلك فهمهم لمدلول الصفات وإن لم يكن هناك تماثل حقيقي، ولهذا يقول ابن عباس : ( ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ) يعني: أنها تتشابه في الأسماء، وتتشابه في المعنى العام، الله تعالى أخبر بأن في الجنة أنهاراً، ومع ذلك تجري في غير أخدود، هل يتصور أنها تجري في الدنيا على الأرض بغير أخدود؟! يعني: في غير حفر وسواق، هذا من آيات الله!
وكذلك المنازل التي في الآخرة، أخبر في الحديث (بأنه يرى باطنها من ظاهرها، وظاهرها من باطنها) فهذا دليل على أننا نعرف أنها قصور، وأنها مبنية، وأنها من لؤلؤ ومن زبرجد، ولكن ليست مثلما ندركه، فهذا دليل على أن أمور الآخرة نفهم معناها، ولكن كيفيتها لا ندركها، فيقال مثل ذلك أيضاً في الصفات.
قال رحمه الله: [فالرسول صلوات الله وسلامه عليه لما بين لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها، أتى بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني، وجعلها أسماءً لها، فيكون بينها قدر مشترك، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والإيمان، والكفر.
وكذلك لما أخبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها، أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها، وقرن بذلك من الإشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد، كتعليم الصبي، كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم] .
فهمنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام استعمل معاني لم تكن معروفة عند العرب، ولكن عبر عنها بما يقاربها من كلمات يفهمون معناها، فما كانوا يعرفون أن الشرك هو عبادة غير الله معه، ولكن يعرفون أن الشرك اشتراك اثنين في شيء، فتسمية عبادة غير الله مع الله مثل اشتراك اثنين في شيء، فسماه شركاً لما فيه من الاشتراك.
وكانوا يعرفون أن الكفر هو الستر والتغطية، فلما كان الكافر قد أنكر الإيمان وأنكر التوحيد وجحده وستره صدق عليه أنه كفر، فسماه الرسول بأمر الله كفراً.
وما كانوا يعرفون أن الإيمان هو الدخول في هذه الشريعة وتقبلها، بل يعرفون أن الإيمان هو تصديق الإنسان بقلبه بشيء، فلما جاء بهذه الكلمة جعلها اسماً للتصديق الكلي بما جاء في هذا الشرع، فهذا تصديق وذاك تصديق، ولكن هذا بشيء وذاك بشيء.
وكذلك ما كانوا يعرفون كلمة الإسلام إلا أنها الإذعان للشيء والاستسلام له، فاستعمل الإسلام في الإذعان للشرع والانقياد له، وما كانوا يعرفون أن الصلاة هي الركوع والسجود، فاستعملها في هذا؛ لأنهم كانوا يعرفون أن الصلاة هي الدعاء، وهذه فيها دعاء.
وهكذا علمهم عليه السلام أسماء هذه الأشياء، ثم علمهم كيفيتها، فلما سئل عن الإسلام فسره بالأركان الخمسة، ولما سئل عن الإيمان وعن الإحسان فسرها.
فإذا كان هذا تعليمه لأمته هذه الكلمات فيما يقاربها من اللغة التي يفهمونها، فهو بمنزلة المعلم، الذي يعلم تلاميذه ويبدأ معهم بصغار العلم قبل كباره، ويربيهم بذلك، والله تعالى قد أرشد إلى هذه الطريقة بقوله تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] فهكذا ينبغي أن يعرف ويعتقد أن الرسل بلغوا وبينوا للناس الأمور الغيبية والأمور الاصطلاحية الشرعية على حسب ما يفهمون، وأن أممهم فهموا منهم ذلك فهماً كاملاً.
قال رحمه الله: [وأما ما يخبر به الرسول من الأمور الغائبة، فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم، كإخبارهم بأن الريح أهلكت عاداً، فإن عاداً من جنسهم والريح من جنس ريحهم وإن كانت أشد، وكذلك غرق فرعون في البحر، وكذا بقية الأخبار عن الأمم الماضية.
ولهذا كان الإخبار بذلك فيه عبرة لنا، كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111].
وقد يكون الذي يخبر به الرسول مما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه، لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه، كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلابد أن يعلموا معنًى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ، وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم.
فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب، أشهدهم إياه، وأشار لهم إليه، وفعل فعلاً يكون حكاية له وشبهاً به، يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة] .
سمعنا أن هذا من جملة ما بينه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم عن أمور لم يشاهدوها، فمن ذلك أمور قد سبقت ولكن يفهم معناها، فأخبر الله بأنه أغرق قوم نوح وأنجى نوحاً في السفينة، فنعرف أن قوم نوح بشر مثلنا، وأن السفينة مركب من المراكب يسبح في البحر، فأخبر بأنه نجى نوحاً ومن معه في السفينة، في قوله تعالى: فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت:15] وفي قوله: فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [المؤمنون:27] هذا شيء مفهوم، سمعناه وفهمنا معناه.
وكذلك إخباره بأنه أهلك عاداً بالريح، فعاد بشر مثلنا إلا أنهم أشد خلقاً، كما في قولهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15] والريح من جنس الريح التي نعرفها إلا أنها أشد، وهكذا يقال في الأخبار عن الأمم السابقة، فمعناها مفهوم.
وأما الأمور الغيبية التي هي من الأمور الأخروية فقد أخبر الله تعالى على لسان رسوله عن أمور غيبية من الأمور المستقبلة، ولكن نصدق بها ونفهم مدلولها الإجمالي وإن لم نفهم الكيفية.
قد ضربنا مثلاً بالصراط وبالميزان، وكذلك الحوض في الآخرة، وهكذا حساب الله تعالى للخلق، وهكذا خلقتهم وكيفيتهم، وكذا ذكر الجنة والنار وما فيهما، فمعانيها مفهومة وإن لم يكن الذي نشاهده في الدنيا كالذي يحصل في الآخرة، بل بينهما تفاوت، فعرف بذلك أن الرسل بينوا للناس، وأن الناس فهموا المعنى العمومي الذي يحصل به إدراكهم وانتفاعهم.