شرح العقيدة الطحاوية [6]


الحلقة مفرغة

العلم في الأصل أفضل من الجهل، وكل يحب الانتماء والانتساب إلى العلم، ويهرب ويربأ بنفسه أن ينسب إلى الجهل، والعلوم تتفاوت في الأهمية، فأهم العلوم هو العلم الذي يفقه به العبد دينه، فيعرف كيف يعبد ربه؛ بل يعرف ربه ويعرف دينه، فهذا هو أشرف وأفضل العلوم.

وطريق تعلمه وتحصيله سهل ويسير على من يسره الله عليه، وذلك لأن الله سبحانه لما أقام الحجة على عباده ببعثة الرسل وإنزال الكتب، تكفل بحفظ ذلك حتى لا يكون للمتأخر حجة كما لم تكن للمتقدم.

فيسر الله حفظ ذلك العلم الذي هو ميراث الأنبياء، حتى وصل إلى المتأخرين كما هو عند المتقدمين، ولكن حيث كان هناك أعداء لهذا الدين ولهذا العلم، فإن أولئك الأعداء قد حرصوا على أن يشوهوا سمعة هذا العلم الصحيح، وأن يلبسوا على أهله، وأن يرموهم بالعيوب، ولكن الله سبحانه حفظ شريعته وقيض لأولئك من يدفع شبههم، ويبين ضلالهم وخطأهم، فقيض الله أهل السنة الذين ساروا على نهج الرسل، وساروا على نهج الصحابة، وعرفوا -حتى عند الأعداء- بأنهم السائرون على طريقة السلف، أو بأنهم المتمسكون بالسنة، والفضل ما شهدت به الأعداء.

ولا شك أن من جملة العلوم التي حصل فيها شيء من الاشتباه والاختلاف هو علم العقيدة، الذي هو موضوعنا في هذه الدروس، ونأمل -إن شاء الله- أن قد فقهنا في أصل هذا العلم الذي هو علم الاعتقاد.

وبلا شك أن أصله معرفة الله تعالى المعرفة التي ينتج منها عبادته، وأن يترك ويعرض عن عبادة ما سواه، فإذا عرف الإنسان أهمية هذا العلم استطاع بعد ذلك أن يعرف مفرداته، وتفاصيله، حيث إنها موجودة ميسرة في متناول الأيدي، وقد يسر الله لها من اعتنى بها، فما على المسلم الذي يريد العلم الصحيح إلا أن يتناولها بالتعلم والتفقه ليعبد ربه على بصيرة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما آياته العيانية الخلقية: فالنظر فيها والاستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية، والعقل يجمع بين هذه وهذه فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة].

قد عرفنا أن أهم العلوم معرفة الله، ثم عبادته، ولكونها أهم من غيرها جاءت الشريعة ببيانها، فبينها الله عن طريق السمع وعن طريق البصر وعن طريق العقل.

فأما البيان السمعي فهو ما بلغه الرسل من كلام الله، ومن كلام الأنبياء الذين بينوه، فإن بيان هذه العقيدة يأخذه الناس عن طريق السمع، وتسمى الآيات السمعية، فالقرآن والأحاديث أدلة سمعية منقولة عن عالم بعد عالم، إلى أن تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلى الأنبياء قبله.

أما الأدلة النظرية فهي الآيات التي ترى بالعين ويقال لها المخلوقات؛ وذلك لأن النظر فيها يكسب الناظر عبرة وعظة، ويكسب الناظر معرفة وبصيرة، ولأجل ذلك كثيراً ما يرشد الله العباد إلى النظر في الآيات والبراهين، كقوله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6] وكقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [يوسف:109]، وأشباه ذلك من الآيات كثيرة.

النظر في هذه المخلوقات هو الدليل النظري والبصري، وكلما كان العاقل فاهماً ذكياً كان نظره أتم، وأما إذا نقصت العقلية فإن النظر يكون أنقص؛ وذلك لأن مجرد النظر بالعين لا يفيد، حتى يكون نظراً في القلب، فالعين توصل إلى القلب، فإذا لم يكن هناك قلب واع حي لم ينفع النظر بالعين.

وقد يكون هناك من هو ضرير لا يبصر ولكن يعتبر بما يحسه، فيكون نظره بقلبه أقوى من نظر المبصرين، ويكون من المبصرين من يشاهد هذه الآيات والعجائب، ولكن قلوبهم في غي، وفي غفلة، وفي أغشية وفي أكنة.. قلوبهم غلف مقفل عليها والعياذ بالله، ولذلك قال تعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]

والحاصل أن الله سبحانه بين هذه الآيات والبراهين بياناً واضحاً عن طريق السمع للآيات السمعية، وعن طريق النظر للآيات البصرية ومن رزقه الله حياة قلب انتفع بما يسمع وبما يرى، ومن فقد ذلك فالعمى خير له.

قال المؤلف رحمه الله: [فهو سبحانه لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر وإقامة الحجة، لم يبعث نبياً إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25]

وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل:43-44] وقال تعالى: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمران:183] وقال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران:184] وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ [الشورى:17] حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود، حتى قال له قومه: يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ [هود:53]، ومع هذا فبينته من أوضح البينات لمن وفقه الله لتدبرها، وقد أشار إليها بقوله: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:54-56].

فهذا من أعظم الآيات: أن رجلاً واحداً يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب، غير جزع ولا فزع ولا خوار، بل هو واثق بما قاله، جازم به، فأشهد الله أولاً على براءته من دينهم وما هم عليه إشهاد واثق به معتمد عليه، معلنٍ لقومه أنه وليه وناصره وغيرُ مسلِّط لهم عليه، ثم أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون عليها، ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتهم لها.

ثم أكد ذلك عليهم بالاستهانة لهم واحتقارهم وازدرائهم، ولو يجتمعون كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه، ثم يعاجلونه ولا يمهلونه، لم يقدروا على ذلك إلا ما كتبه الله عليه، ثم قرر دعوتهم أحسن تقرير، وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله القائم بنصره وتأييده، وأنه على صراط مستقيم، فلا يخذل من توكل عليه وأقر به، ولا يشمت به أعداءه.

فأي آية وبرهان أحسن من آيات الأنبياء عليهم السلام وبراهينهم وأدلتهم؟! وهي شهادة من الله سبحانه لهم بينها لعباده غاية البيان].

معجزات كل نبي تناسب أهل زمانه

قطع الله المعذرة ببينات الرسل، قال تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164] إلى قوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] أي: أرسلنا أولئك الرسل لتنقطع الحجة وينقطع العذر، لئلا يقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [المائدة:19]، كما حكى الله ذلك عنهم وقال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [القصص:48] فالله سبحانه أرسل الرسل، وجعل معهم بينات ترجح جانبهم، وجعل لهم معجزات يظهر بها صدقهم.

كل نبي فمعجزاته تناسبه وتعجز أهل زمنه، ومنهم من أخبرنا الله بمعجزاته، كما أخبر عن صالح أن من معجزاته تلك الناقة التي قال لهم عنها: لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء:155].

وعن معجزات موسى أنها تسع آيات، منها: اليد، والعصا، وفلق البحر، والطوفان، والقمل، والضفادع، والدم، وما أشبهها من الآيات المعجزة لأهل زمانه.

وعن معجزات عيسى: أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.

وعن معجزات داود، منها قوله: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:18-19].

ومعجزات سليمان: في قوله: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [ص:36-38].

وكذلك معجزات نبينا ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا القرآن الذي تحدى به فصحاء العرب في زمانه فعجزوا عن معارضته، ومنها ما أجرى الله على يديه من الآيات التي منها إخباره بالأمور المغيبة، ومنها نصره وتأييده على أعدائه، ونحو ذلك من المعجزات.

ولا شك أن هذه المعجزات يراد منها ظهور صدق أولئك الرسل، وذلك أن الله تعالى يحب أن يقطع العذر عن العاصي والمفرط، ويحب العذر إلى العباد، ولذلك ورد في حديث: (لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل)، وقال في الحكمة من إرسالهم: عُذْرًا أَوْ نُذْرًا [المرسلات:6] يعني إعذاراً وإنذارا، فهذا دليل على أنه سبحانه قطع الحجة على الناس بقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

ومن تأمل آيات الرسل عرف صدقهم، ولكن إنما صد عنهم من أعمى الله بصيرته، ولأجل ذلك عاقب الله من كذبهم بأنواع من العقوبات، فأهلك قوم نوح بالغرق، ثم عاداً وهم قوم هود، فأرسل الله عليهم الريح، وقوم صالح وهم ثمود عاقبهم الله بالصيحة، وأشباه ذلك.

عظم معجزة هود مع أنها أخفى معجزات الأنبياء

ذكر الشارح أن قوم هود كأنهم أنكروا رسالته لما لم يأتهم بآية ومعجزة بينة، ولكن قرر الشارح آية هود ومعجزته التي أخذت من هذه الآيات في سورة هود، وهي قول الله تعالى حكاية عنهم: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ [هود:53] يعني بآية معجزة، ثم ظنوا أنه إنما به جنون! فقالوا: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54] يعني: أن آلهتنا تسلطت عليك فأصبتك بجنون.

ولكنه رد عليهم هذا الرد المتزن الذي يدل على ثباته، فقرر أنه لا يخافهم ولو حصل اجتماعهم كلهم، حيث قال: فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:55-56] وتقدم تفصيل الشارح وتفسيره لهذا، وأخذه من كونه فرداً يتحدى أمة من أقوى الأمم حتى إنهم قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15] وقد وصفهم الله بالجبروت في قوله: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130].

فهذا شخص واحد يتحداهم ويقول لهم: ائتوا بكل كيد، ائتوا بكل حيلة إن كنتم تستطيعون! ولكنكم لا تستطيعون؛ لأني معتمد على الله، متوكل على الله ربي وربكم، والذي يأخذ بنواصي جميع الدواب، فكل الدواب مسخرة مذللة بأمره، فهذا ونحوه دليل على أن الله قوى قلبه وثبته وذلك أعظم من بقية المعجزات.

وبلا شك أن الله أيده بمعجزات أخرى لا ندري ما هي، لكن بهذا تقوم الحجة على العباد.

إذاً: ما بقي لأحد على الله تعالى حجة بعد الرسل.

تصديق الله لعباده وأنبيائه حجة على من خالفهم

قال رحمه الله: [ومن أسمائه تعالى (المؤمن) وهو في أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم، فإنه لا بد أن يري العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغه رسله حق، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] أي: القرآن، فإنه هو المتقدم في قوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [فصلت:52] ثم قال: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53]

فشهد سبحانه لرسوله بقوله إن ما جاء به حق، ووعد أنه يري العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا، ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك كله وأجل، وهو شهادته سبحانه بأنه على كل شيء شهيد، فإن من أسمائه الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه، بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له، عليم بتفاصيله.

وهذا استدلال بأسمائه وصفاته، والأول استدلال بقوله وكلماته، واستدلاله بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته].

كل هذا تفصيل لبيان أنه سبحانه أقام الحجة وقطع المعذرة.

وقوله: (ومن أسمائه المؤمن) قال تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:23]، فهو الذي يصدق عباده، أي: رسله وعباده المؤمنين، فيصدق الرسل بما يظهر على أيديهم من المعجزات والبراهين، ويصدق المؤمنين بما يذكرهم به ويؤيدهم عند خصوماتهم للأعداء، أو عند قتالهم للكفار، فالنصر الذي يجريه على أيديهم هذا من التوفيق لهم، وكذلك الحجة التي يجريها على ألسنتهم من التوفيق لهم، يصدقهم حتى يعرف صدقهم، ويعرف ذلك من قصده الحق والصواب.

وأما من زاغ عقله فإنه لا تغني عنه النذر: وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:101].

كذلك من أسمائه تعالى (الشهيد)، قال تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سبأ:47]، والشهيد: الشاهد، والشاهد مأخوذ من المشاهدة، وذلك لأنه تعالى شاهد على عباده ومن جملتهم رسله، وشهادته على رسله سبحانه أنه شهد بصدق ما جاءوا به، وذلك بما أجرى على أيديهم من الآيات والبراهين، وبذلك كله يعرف أنه ما بقي لأحد حجة بعد الرسل وبعد الكتب، فما بقي إلا المعاندون الذين يخالفون الحق عناداً.

قطع الله المعذرة ببينات الرسل، قال تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164] إلى قوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] أي: أرسلنا أولئك الرسل لتنقطع الحجة وينقطع العذر، لئلا يقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [المائدة:19]، كما حكى الله ذلك عنهم وقال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [القصص:48] فالله سبحانه أرسل الرسل، وجعل معهم بينات ترجح جانبهم، وجعل لهم معجزات يظهر بها صدقهم.

كل نبي فمعجزاته تناسبه وتعجز أهل زمنه، ومنهم من أخبرنا الله بمعجزاته، كما أخبر عن صالح أن من معجزاته تلك الناقة التي قال لهم عنها: لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء:155].

وعن معجزات موسى أنها تسع آيات، منها: اليد، والعصا، وفلق البحر، والطوفان، والقمل، والضفادع، والدم، وما أشبهها من الآيات المعجزة لأهل زمانه.

وعن معجزات عيسى: أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.

وعن معجزات داود، منها قوله: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:18-19].

ومعجزات سليمان: في قوله: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [ص:36-38].

وكذلك معجزات نبينا ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا القرآن الذي تحدى به فصحاء العرب في زمانه فعجزوا عن معارضته، ومنها ما أجرى الله على يديه من الآيات التي منها إخباره بالأمور المغيبة، ومنها نصره وتأييده على أعدائه، ونحو ذلك من المعجزات.

ولا شك أن هذه المعجزات يراد منها ظهور صدق أولئك الرسل، وذلك أن الله تعالى يحب أن يقطع العذر عن العاصي والمفرط، ويحب العذر إلى العباد، ولذلك ورد في حديث: (لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل)، وقال في الحكمة من إرسالهم: عُذْرًا أَوْ نُذْرًا [المرسلات:6] يعني إعذاراً وإنذارا، فهذا دليل على أنه سبحانه قطع الحجة على الناس بقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165].

ومن تأمل آيات الرسل عرف صدقهم، ولكن إنما صد عنهم من أعمى الله بصيرته، ولأجل ذلك عاقب الله من كذبهم بأنواع من العقوبات، فأهلك قوم نوح بالغرق، ثم عاداً وهم قوم هود، فأرسل الله عليهم الريح، وقوم صالح وهم ثمود عاقبهم الله بالصيحة، وأشباه ذلك.

ذكر الشارح أن قوم هود كأنهم أنكروا رسالته لما لم يأتهم بآية ومعجزة بينة، ولكن قرر الشارح آية هود ومعجزته التي أخذت من هذه الآيات في سورة هود، وهي قول الله تعالى حكاية عنهم: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ [هود:53] يعني بآية معجزة، ثم ظنوا أنه إنما به جنون! فقالوا: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54] يعني: أن آلهتنا تسلطت عليك فأصبتك بجنون.

ولكنه رد عليهم هذا الرد المتزن الذي يدل على ثباته، فقرر أنه لا يخافهم ولو حصل اجتماعهم كلهم، حيث قال: فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:55-56] وتقدم تفصيل الشارح وتفسيره لهذا، وأخذه من كونه فرداً يتحدى أمة من أقوى الأمم حتى إنهم قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15] وقد وصفهم الله بالجبروت في قوله: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:130].

فهذا شخص واحد يتحداهم ويقول لهم: ائتوا بكل كيد، ائتوا بكل حيلة إن كنتم تستطيعون! ولكنكم لا تستطيعون؛ لأني معتمد على الله، متوكل على الله ربي وربكم، والذي يأخذ بنواصي جميع الدواب، فكل الدواب مسخرة مذللة بأمره، فهذا ونحوه دليل على أن الله قوى قلبه وثبته وذلك أعظم من بقية المعجزات.

وبلا شك أن الله أيده بمعجزات أخرى لا ندري ما هي، لكن بهذا تقوم الحجة على العباد.

إذاً: ما بقي لأحد على الله تعالى حجة بعد الرسل.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [87] 2712 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [60] 2629 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [1] 2589 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [79] 2560 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [93] 2471 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [77] 2407 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [53] 2385 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [99] 2372 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [71] 2335 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2299 استماع