خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [3]
الحلقة مفرغة
من جملة ما حذر منه نبينا صلى الله عليه وسلم الشرك في العبادة، ومن أسبابه اتخاذ القبور مساجد، وهناك كثير من الأدلة في نهيه عليه الصلاة السلام عن الشرك، وذمه للذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، وبيان ما آل إليه أمرهم بعد ذلك، وسيمر بنا -أيضاً- ما يحقق التوحيد، وأن توحيد الربوبية ينتج منه توحيد الإلهية.
قال الشارح رحمه الله: [وكذلك كان حال الأمم السالفة المشركين الذين كذبوا الرسل، كما حكى الله تعالى عنهم في قصة صالح عليه السلام عن التسعة الرهط الذين (تقاسموا بالله ) أي: تحالفوا بالله (لنبيتنه وأهله)، فهؤلاء المفسدون المشركون تحالفوا بالله على قتل نبيهم وأهله، وهذا بين أنهم كانوا مؤمنين بالله إيمان المشركين.
فعُلِم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الإلهية الذي يتضمن توحيد الربوبية، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30] مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم:31] مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم:32-36].
وقال تعالى: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم:10]، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولا يقال: إن معناه: يولد ساذجاً لا يعرف توحيداً ولا شركاً. كما قال بعضهم لما تلونا، ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين .. .) الحديث، وفي الحديث المتقدم ما يدل على ذلك حيث قال: (يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولم يقل: ويسلمانه وفي رواية: (يولد على الملة)، وفي أخرى: (على هذه الملة)].
قصة قوم صالح تدل على أنهم ولو كذبوا صالحاً فإنهم كانوا يعرفون الله ويعترفون بالربوبية، ولهذا تقاسموا بالله وهم كفار مكذبون للنبي، ومع ذلك يتقاسمون بالله، وما تقاسموا بغير الله، فيعرف من هذا أن الكفار المشركين الذين كذبوا الرسل كانوا يعرفون أن الله هو ربهم، وأن الله هو الخالق.
وهكذا الذين كذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم كانوا معترفين بأن الله هو ربهم، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، ونحو ذلك من الآيات، فماذا جحدوا إذا كانوا يقرون بأن الله هو الخالق الرازق؟ جحدوا توحيد العبادة وهو حق الله، إنما عرفوا الله رباً ولكن ما عبدوه وحده، وما عظموه حق تعظيمه، بل أشركوا به وجعلوا معه آلهة أخرى، فكانوا بذلك مشركين، وكذلك كذبوا رسله الذين دعوهم إلى عبادته.
وقوم نوح كانوا يعرفون ربهم، ولكن احتقروا نوحاً وكذبوه، وهكذا قوم هود وقوم صالح وقوم إبراهيم إلى آخر الأمم، وهم مشركو العرب، فقد كذبوا نبينا عليه الصلاة والسلام أول الأمر وقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5].
معرفة الله عز وجل معرفة فطرية فطر الخلق عليها، ودين الإسلام الذي اختاره الله ديناً له وأرسل به الرسل دين فطري، بمعنى أن القلوب مفطورة على استحسانه، وعلى أنه الدين الصحيح، ولو فكر كل عاقل في هذا الدين لعرف أنه أصح الأديان، وأن من دان بغيره فهو خاسر وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، وفي الآية الكريمة في سورة الروم: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] يعني: فطرهم على معرفته وعلى استحقاقه لأن يعبد، ولكن أفسدت عليهم الشياطين تلك الفطرة، وأفسدتها عليهم البيئات والمجتمعات، وأفسدها عليهم الآباء والأجداد والأمهات والجدات، وأفسدها عليهم المربون والمعلمون والمنشئون، ولو تركوا وما تميل إليه فطرتهم لمالوا إلى الإسلام، ولعرفوا أنه الدين الحق، وإن كان لا بد من تنبيههم على تفاصيله، وهذا ما دل عليه الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة) يعني: على معرفة أنه مخلوق وأن له خالقاً، وأن الخالق هو الذي يستحق أن يعبد.
وفي الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) (حنفاء) يعني: مستقيمين على الدين. ولكن سلطت عليهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وأخرجتهم عن الحنيفية، وحرمت عليهم الحلال وأحلت لهم الحرام، وأوقعتهم في الشرك والضلال.
ومعلوم أن الإنسان بفطرته يفضل الدين الصحيح، وأن أصح الأديان هو هذا الدين، ولكن كثرة المنحرفين وكثرة النصارى وكثرة اليهود وكثرة المشركين وكثرة المبتدعين إنما هي بسبب الدعايات التي تصد عن الإسلام، ومعلوم أن الله سبحانه أوضح الحق، وأرسل به الرسل، وأنزل به الكتب، ولكن هناك أعداء للحق، وهؤلاء الأعداء يحرصون على أن يميلوا بالناس إلى ما هم عليه، فالمشركون يحبون أن يكثر أمثالهم، وكذلك المبتدعون، كل أهل بدعة يحبون أن الناس يكونون معهم على بدعتهم، والأصل الذي يدفعهم إلى ذلك هو الشيطان، فالشيطان لما كان عدو الإنسان زين له البدع، وزين له الشرك، وزين له الكفر، ثم أمره بأن يدعو الناس إلى ما ينتحله.
الأدلة العقلية على معرفة الخالق
هذه أدلة على أن معرفة الخالق سبحانه معرفة فطرية يدركها الإنسان بفطرته، وهذا تقرير من تقارير المتكلمين ولكنه واضح، يقول: إن الإنسان لا بد أن يخطر بقلبه خواطر، وهذه الخواطر وهذه الإرادات قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة، ولا شك أنه متى فسر تلك الخواطر عرف ما يضره وما ينفعه، فمن ذلك أن يفكر في نفسه وفي الوجود الذي حوله، فيعترف حينئذٍ أنه مخلوق، وأن الوجود الذي حوله مخلوق، ويعترف بعد ذلك أن هذا المخلوق لا بد له من خالق متصرف، وأن التصرف للخالق وحده، ثم إذا اعترف بذلك انتفع بهذا الاعتراف، فكل عاقل يقول: إنه إذا خطر في قلبه هذه الخواطر فلا بد أن يفكر في نهايتها، فينظر هل هي حق أو باطل، وإذا كانت حقاً فإنه يؤثرها ولا يترك عليها ما يضادها، فكل عاقل يؤثر ما ينفعه ويترك ما يضره، فلو قيل لك مثلاً: اعترف بالبعث والجزاء في الآخرة ونحن نثيبك ونرفع منزلتك ونعطيك ونمكنك. أو: أظهر الإنكار ونحن نحبسك ونضربك ونؤدبك ونحرمك فالعقل يقول: لماذا لا أعترف، وأنا أعرف ما في الاعتراف؟ ومما يدعوه إلى الاعتراف:
أولاً: أن البعث عليه أدلة.
ثانياً: فيه منفعة.
ثالثاً: التكذيب فيه مضرة.
فكل عاقل يؤثر أن يعترف بالحق حتى يحصل له الانتفاع.
قال رحمه الله: [ومنها: أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسه، وحينئذ لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك].
وهذا أيضاً دليل عقلي، فمعلوم أن الله تعالى فطر العباد على معرفته فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، ولكن هذه الفطرة قد لا تكفي لتفاصيل الحقوق، فالإنسان مثلاً لو نشأ في بادية ولم يسمع بالدين ولم يعرف شيئاً عنه فإنه يعرف أنه مخلوق، وأن هذا الكون مدبر مسخر، لكن يخفى عليه أشياء من تفاصيل العبادة، فيقول -مثلاً-: أنا مخلوق ولي خالق، وخالقي له حقوق علي، ولكن ما هي؟ وكيف أؤدي هذه الحقوق؟ وما الذي يحبه حتى أفعله؟ وما الذي يكرهه حتى أتركه؟ وهذا يرجع فيه إلى ما جاءت به الرسل، فالرسل هم الذين بينوا للناس حقوق الله على العباد فأمروهم أن يفعلوها وما حرمه فأمروهم أن يتركوه، فهذا يُتلقى من الرسل، وإلا فالإنسان لو ترك وفطرته دون أن تغير لمال إلى الحق ولآثره، ولكن تفاصيل الحق تؤخذ عن الرسل.
حسن التصور ومعرفة فائدة أمر ما دافع إلى الإقدام عليه
صحيح أن مجرد التحريض لا يدفع الإنسان، فلو كان لك ولد وأنت تحرضه وتقول: يا ولدي! تعلم يا ولدي! اطلب العلم. يا ولدي! احفظ القرآن. وهو مع ذلك ليس له رغبة، بل نفسه مائلة عن هذا التعلم، فلو ضربته ولو أدبته ولو نصحته ولو علمته ما قبل إلا إذا أقبلت نفسه هوي ذلك وعرف فيه فائدة ومنفعة، وهذه المعرفة تتكون من التصور، وذلك لأن الإنسان له عقل، وعقله يهديه إلى تصور الأمر، فيتصور الشاب -مثلاً- أن الجهل مقت، فيقول: لماذا أبقى على الجهل وهو نقص ويتصور أن العلم شرف فيدفعه هذا التصور إلى التعلم، أما مجرد الضرب والترغيب والترهيب والتخويف ونحو ذلك إذا لم يكن هناك تصور وإقبال من النفس فإنه لا يفيد كما هو مشاهد.
فالذي يريد الخير لابد أن يعرف فوائده من قبل؛ حتى تدفعه تلك المعرفة إلى طلبه، فالعبد إذا عرف -مثلاً- أنه مخلوق، وعرف أن المخلوق عليه حقوق، وعرف أن أداء تلك الحقوق سبب للسعادة، فإنه سيحرص على أداء تلك الحقوق حتى تحصل له السعادة والحياة الطيبة في الدنيا، والجنة في الآخرة.
ولكن من أين يأخذ معرفة تلك الحقوق التي عليه؟ يأخذها من الشريعة، فيقول: الحقوق التي علي هي عبادة الله، دعاؤه وخوفه ورجاؤه والرغبة إليه وخشيته والخشوع له وترك التعلق بغيره وترك عبادة غيره بأي نوع من العبادة وطاعته وترك معصيته، وما أشبه ذلك.
فالعاقل عليه أن يعلم أولاً الفائدة، أي: إذا أردت أن ترغّب ولدك في أمر فإن عليك أن تعلمه بفائدته حتى يقبل إليه، فأنت -مثلاً- إذا أخذت تعلمه حرفة من الحرف أو صنعة يتكسب بها كبناء وغراسة أو تجارة أو أي صنعة من الصنائع، فلابد أنك سوف تخبره بفوائدها، وستقول له: تعلم هذه الحرفة فإنها صنعة مفيدة، يحتاج إليها الناس، وتكتسب كذا وكذا، فإذا اقتنع اندفع وطلبها، فكذلك إذا قلت: أنت محتاج إلى العلم، والعلم فائدته كذا وكذا، واقتنع فإنه يندفع إلى العلم، وهكذا إذا قلت للإنسان: أنت محتاج إلى ربك، حتى يثيبك ويعطيك، وربك غني عنك، وحق الله عليك أن تعبده، وعبادته كذا وكذا. فإذا صدق واقتنع فإنه يندفع للعبادة.
فإذاً ننصح كل إنسان أراد إقناع آخر أن يخبره بفائدة ذلك الأمر الذي يدفعه إليه حتى يرغب فيه.
ميل النفس إلى الصلاح بفطرتها عند انعدام العوامل الخارجية من مصلحات ومفسدات
هذا قد يتصور في إنسان نشأ وحده في برية أو في بلدة أو بين أناس لا يعرف كلامهم ولا يعرفون كلامه، فينشأ وليس هناك أحد يعلمه الخير ولا أحد يعلمه الشر، لكن معه الفطرة، وهي أن الله فطره على الإسلام، فلابد من أن يكون معه دافع يدفعه إلى أن يعرف الكون، ويعرف ماذا يراد بهذا الكون، فإذا قدر أنه ليس هناك مفسد ولا مصلح فإن الفطرة ميالة إلى طلب المصلح، فيندفع إلى طلب الخير.
أما إذا ولد المولود ونشأ في بلدة أهلها يعرفون الخير ولقنوه إياه، وقالوا: عبادة الله هي الأصلح، وأنت مخلوق لها -كما قال تعالى-: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فإنه يعرف ذلك، ثم يتلقى العبادة.
وكذلك لو ولد بين أناس مشركين، وقالوا له: التعلق بهؤلاء الصالحين ينفع، وهؤلاء مقربون عند الله، ونحن ندعوهم حتى يكونوا شفعاءنا عند الله، ونحو ذلك، فصدقهم وفعل كفعلهم وذلك لأنه ساذج لا يدري إلا بما علموه.
كذلك إذا ولد ونشأ بين نصارى يقولون: المسيح هو الله أو ابن الله صدقهم واندفع إلى ما يقولونه، وهكذا، بخلاف ما إذا ولد ليس عنده من يعلمه لا بدعة ولا سنة، ولا إسلام ولا كفر، فإنه يبقى متحيراً ولكن فطرته تدفعه إلى معرفة الإسلام أو محبته وتفضيله على غيره.
قال رحمه الله: [وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه، منها: أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقاً، وتارة ما يكون باطلاً، وهو حساس متحرك بالإرادات، ولا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما، ونعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع، وأن يكذب ويتضرر مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع والإيمان به هو الحق أو نقيضه، والثاني فاسد قطعاً، فتعين الأول، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به، وبعد ذلك إما أن يكون في فطرته محبته -وهو أنفع للعبد أولا-، والثاني فاسد قطعا، فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه].
هذه أدلة على أن معرفة الخالق سبحانه معرفة فطرية يدركها الإنسان بفطرته، وهذا تقرير من تقارير المتكلمين ولكنه واضح، يقول: إن الإنسان لا بد أن يخطر بقلبه خواطر، وهذه الخواطر وهذه الإرادات قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة، ولا شك أنه متى فسر تلك الخواطر عرف ما يضره وما ينفعه، فمن ذلك أن يفكر في نفسه وفي الوجود الذي حوله، فيعترف حينئذٍ أنه مخلوق، وأن الوجود الذي حوله مخلوق، ويعترف بعد ذلك أن هذا المخلوق لا بد له من خالق متصرف، وأن التصرف للخالق وحده، ثم إذا اعترف بذلك انتفع بهذا الاعتراف، فكل عاقل يقول: إنه إذا خطر في قلبه هذه الخواطر فلا بد أن يفكر في نهايتها، فينظر هل هي حق أو باطل، وإذا كانت حقاً فإنه يؤثرها ولا يترك عليها ما يضادها، فكل عاقل يؤثر ما ينفعه ويترك ما يضره، فلو قيل لك مثلاً: اعترف بالبعث والجزاء في الآخرة ونحن نثيبك ونرفع منزلتك ونعطيك ونمكنك. أو: أظهر الإنكار ونحن نحبسك ونضربك ونؤدبك ونحرمك فالعقل يقول: لماذا لا أعترف، وأنا أعرف ما في الاعتراف؟ ومما يدعوه إلى الاعتراف:
أولاً: أن البعث عليه أدلة.
ثانياً: فيه منفعة.
ثالثاً: التكذيب فيه مضرة.
فكل عاقل يؤثر أن يعترف بالحق حتى يحصل له الانتفاع.
قال رحمه الله: [ومنها: أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسه، وحينئذ لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك].
وهذا أيضاً دليل عقلي، فمعلوم أن الله تعالى فطر العباد على معرفته فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]، ولكن هذه الفطرة قد لا تكفي لتفاصيل الحقوق، فالإنسان مثلاً لو نشأ في بادية ولم يسمع بالدين ولم يعرف شيئاً عنه فإنه يعرف أنه مخلوق، وأن هذا الكون مدبر مسخر، لكن يخفى عليه أشياء من تفاصيل العبادة، فيقول -مثلاً-: أنا مخلوق ولي خالق، وخالقي له حقوق علي، ولكن ما هي؟ وكيف أؤدي هذه الحقوق؟ وما الذي يحبه حتى أفعله؟ وما الذي يكرهه حتى أتركه؟ وهذا يرجع فيه إلى ما جاءت به الرسل، فالرسل هم الذين بينوا للناس حقوق الله على العباد فأمروهم أن يفعلوها وما حرمه فأمروهم أن يتركوه، فهذا يُتلقى من الرسل، وإلا فالإنسان لو ترك وفطرته دون أن تغير لمال إلى الحق ولآثره، ولكن تفاصيل الحق تؤخذ عن الرسل.
قال الشارح رحمه الله: [ومنها: أن يقال: من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك، وإلا فلو علم الجهال والبهائم وحضِّضا لم يقبلا، ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج، وتكون الذات كافية في ذلك، فإذا كان المقتضي قائماً في النفس وقدر عدم المعارض فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها ما يفسدها كانت مقرة بالصانع عابدة له].
صحيح أن مجرد التحريض لا يدفع الإنسان، فلو كان لك ولد وأنت تحرضه وتقول: يا ولدي! تعلم يا ولدي! اطلب العلم. يا ولدي! احفظ القرآن. وهو مع ذلك ليس له رغبة، بل نفسه مائلة عن هذا التعلم، فلو ضربته ولو أدبته ولو نصحته ولو علمته ما قبل إلا إذا أقبلت نفسه هوي ذلك وعرف فيه فائدة ومنفعة، وهذه المعرفة تتكون من التصور، وذلك لأن الإنسان له عقل، وعقله يهديه إلى تصور الأمر، فيتصور الشاب -مثلاً- أن الجهل مقت، فيقول: لماذا أبقى على الجهل وهو نقص ويتصور أن العلم شرف فيدفعه هذا التصور إلى التعلم، أما مجرد الضرب والترغيب والترهيب والتخويف ونحو ذلك إذا لم يكن هناك تصور وإقبال من النفس فإنه لا يفيد كما هو مشاهد.
فالذي يريد الخير لابد أن يعرف فوائده من قبل؛ حتى تدفعه تلك المعرفة إلى طلبه، فالعبد إذا عرف -مثلاً- أنه مخلوق، وعرف أن المخلوق عليه حقوق، وعرف أن أداء تلك الحقوق سبب للسعادة، فإنه سيحرص على أداء تلك الحقوق حتى تحصل له السعادة والحياة الطيبة في الدنيا، والجنة في الآخرة.
ولكن من أين يأخذ معرفة تلك الحقوق التي عليه؟ يأخذها من الشريعة، فيقول: الحقوق التي علي هي عبادة الله، دعاؤه وخوفه ورجاؤه والرغبة إليه وخشيته والخشوع له وترك التعلق بغيره وترك عبادة غيره بأي نوع من العبادة وطاعته وترك معصيته، وما أشبه ذلك.
فالعاقل عليه أن يعلم أولاً الفائدة، أي: إذا أردت أن ترغّب ولدك في أمر فإن عليك أن تعلمه بفائدته حتى يقبل إليه، فأنت -مثلاً- إذا أخذت تعلمه حرفة من الحرف أو صنعة يتكسب بها كبناء وغراسة أو تجارة أو أي صنعة من الصنائع، فلابد أنك سوف تخبره بفوائدها، وستقول له: تعلم هذه الحرفة فإنها صنعة مفيدة، يحتاج إليها الناس، وتكتسب كذا وكذا، فإذا اقتنع اندفع وطلبها، فكذلك إذا قلت: أنت محتاج إلى العلم، والعلم فائدته كذا وكذا، واقتنع فإنه يندفع إلى العلم، وهكذا إذا قلت للإنسان: أنت محتاج إلى ربك، حتى يثيبك ويعطيك، وربك غني عنك، وحق الله عليك أن تعبده، وعبادته كذا وكذا. فإذا صدق واقتنع فإنه يندفع للعبادة.
فإذاً ننصح كل إنسان أراد إقناع آخر أن يخبره بفائدة ذلك الأمر الذي يدفعه إليه حتى يرغب فيه.
قال الشارح رحمه الله: [ومنها: أن يقال: إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج كانت الفطرة مقتضية للصلاح؛ لأن المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم والمانع منتف].
هذا قد يتصور في إنسان نشأ وحده في برية أو في بلدة أو بين أناس لا يعرف كلامهم ولا يعرفون كلامه، فينشأ وليس هناك أحد يعلمه الخير ولا أحد يعلمه الشر، لكن معه الفطرة، وهي أن الله فطره على الإسلام، فلابد من أن يكون معه دافع يدفعه إلى أن يعرف الكون، ويعرف ماذا يراد بهذا الكون، فإذا قدر أنه ليس هناك مفسد ولا مصلح فإن الفطرة ميالة إلى طلب المصلح، فيندفع إلى طلب الخير.
أما إذا ولد المولود ونشأ في بلدة أهلها يعرفون الخير ولقنوه إياه، وقالوا: عبادة الله هي الأصلح، وأنت مخلوق لها -كما قال تعالى-: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فإنه يعرف ذلك، ثم يتلقى العبادة.
وكذلك لو ولد بين أناس مشركين، وقالوا له: التعلق بهؤلاء الصالحين ينفع، وهؤلاء مقربون عند الله، ونحن ندعوهم حتى يكونوا شفعاءنا عند الله، ونحو ذلك، فصدقهم وفعل كفعلهم وذلك لأنه ساذج لا يدري إلا بما علموه.
كذلك إذا ولد ونشأ بين نصارى يقولون: المسيح هو الله أو ابن الله صدقهم واندفع إلى ما يقولونه، وهكذا، بخلاف ما إذا ولد ليس عنده من يعلمه لا بدعة ولا سنة، ولا إسلام ولا كفر، فإنه يبقى متحيراً ولكن فطرته تدفعه إلى معرفة الإسلام أو محبته وتفضيله على غيره.
قال رحمه الله: [ويحكى عن أبي حنيفة رحمه الله أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها فترسي بنفسها، وتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد!! فقالوا: هذا محال، لا يمكن أبداً! فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟! وتحكى هذه الحكاية أيضاً عن غير أبي حنيفة].
هؤلاء قوم من الملاحدة عندهم شك في توحيد الربوبية وفي وجود الخالق سبحانه، فجاؤوا إلى أبي حنيفة العالم المشهور وأرادوا أن يمتحنوه، ولكنه امتحنهم قبل ذلك بهذا السؤال، ولا شك أنه شيء محسوس واقع، يقول: ما يصدق العاقل أن هناك سفينة تمشي بنفسها تحمّل نفسها من الذخائر وترسي في البلد المعين لا تخطئه، وتنزل حمولتها من نفسها، وترجع من حيث جاءت! فالسفينة خشبة وجماد ليس لها عقل ولا إدراك، فكيف يتصور أنها تسلك الطريق، وأنها ترسو في المكان المعد لها، وأنها تمتد إلى الأثاث والمتاع والأطعمة وتحملها، وأنها ترسي وتنزل المتاع عن ظهرها؟! لا يمكن تصور هذا.
ومثلها أيضاً المراكب الجديدة كالسيارة -مثلاً-؛ فإنها لا تتحرك بنفسها، ولو قيل لك: إن هناك سيارة أو طائرة أو باخرة تتحرك بنفسها، وإنها تذهب إلى البلد الذي تريده ولا تخطئ طريقها، وإنها إذا وقفت في الأسواق حملت نفسها من الأرزاق ومن الأكسية والأمتعة ونحوها وجاءت إلى البلد المحتاج ونزلت من نفسها!! فهل يصدق بهذا عاقل؟ هذا محال.
يقول: إذا كان هذا محالاً فإننا نشاهد هذا الكون مدبراً أتم تدبير، فهل يصدق عاقل أنه وجد بالصدفة من غير موجد؟ هذه الكواكب التي تطلع وتغرب في سير منتظم، لا يتقدم هذا عن وقته، ولا هذا عن وقته، وهذه الشمس وهذا القمر اللذان سيرهما في الشتاء له حد، وفي الصيف له حد، وهذه الرياح التي تثور أحياناً وتسكن أحياناً، وهذه البحار، وهذه الأنهار، وهذه الأشجار، وهذه المخلوقات المنبثة في البر وفي البحر، والحيوانات والجماد، هل يعقل أنها وجدت بالصدفة؟! لا يمكن، فإذا كان هذا لا يمكن فلابد لها من موجد، وكما أن السيارة لابد لها من محرك، فكذلك هذه الموجودات لابد لها من مسير وهو الخالق وحده الذي يقول: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:15-16]، هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [يونس:22]، هو الذي سخر ذلك، وهذه حجة عقلية تدمغ كل منكر وكل ملحد.
قال رحمه الله: [فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين، كما ذكره صاحب (منازل السائرين) وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه ، كان مشركاً من جنس أمثاله من المشركين].
توحيد الربوبية هو الغاية عند أهل الكلام، وهو الذي يفنى فيه المتصوفون، أي: يجعلون أكبر مقصد وأكبر مطلب عندهم هو الاعتراف بأن الله موجود وبأنه خالق ورازق، وبأنه مدبر، هذا هو الغاية عندهم، ولكن ليس هو الغاية عند أهل الحق، بل الغاية والمطلب هو توحيد العبادة، الذي هو عبادة الله والقيام بحقه.
فالمتصوفة يفنون في توحيد الربوبية، ومعنى كونهم يفنون فيه: أنهم يبالغون في تعلمه إلى أن يأتي عليهم شيء يسمونه الفناء، وهذا هو الغاية عندهم.
والمتكلمون أيضاً كذلك، يجعلونه هو الغاية، حتى إنهم يقولون: معنى (لا إله إلا الله): لا خالق إلا الله. وهذا ليس بصحيح؛ فإن المشركين يعرفون أنه لا خالق إلا الله، ولكن لم ينفعهم حين عبدوا غيره معه، فلابد أن يكون الاعتراف بأنه لا إله يعني: (لا معبود بحق إلا الله)، وهذا هو توحيد العبادة الذي يعتبر الغاية عند أهل الحق.
والمتكلمون يراد بهم أهل الكلام من المعتزلة ونحوهم، والمتصوفون يراد بهم الصوفية، والصوفية هم أهل العبادات السرية، فهم يبالغون في العبادات القلبية، ولكنهم يقعون في البدع، ومن جملة بدعهم أنهم ينعزلون عن المسلمين وعن العبادات ونحو ذلك، وأن أحدهم يبقى معتزلاً مدة طويلة حتى يحصل له حضور قلبه ومشاهداته، فيترك لذلك شهود الصلوات، ويقول: إني إذا ذهبت أصلي تفرق علي قلبي، فأنا الآن أفكر وأجمع همومي، وإذا قمت تفرقت هذه الهموم التي جمعتها.
والصوفية موجودون بكثرة في كثير من البلاد، ولهم تمكن، وقد انخدع بهم خلق كثير، ومع ذلك فإن متقدميهم في القرن الثالث كانوا على علم وعلى عبادة إلا أنهم زهاد، وأما المحدثون فإنهم وقعوا في عقائد سيئة وبدع عملية.
قال رحمه الله: [والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه، وضرب الأمثال له، ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية، ويبين أنه لا خالق إلا الله، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد إلا الله، فيجعل الأول دليلاً على الثاني؛ إذ كانوا يسلمون في الأول وينازعون في الثاني، فيبين لهم سبحانه أنكم إذا كنتم تعلمون أنه لا خالق إلا الله وحده، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم ويدفع عنهم ما يضرهم لا شريك له في ذلك فلم تعبدون غيره وتجعلون معه آلهة أخرى ؟
كقوله تعالى : قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل:59-60] يقول الله تعالى في آخر كل آية : أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ أي: أإله مع الله فعل هذا ؟ وهذا استفهام إنكار يتضمن نفي ذلك، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله، فاحتج عليهم بذلك، وليس المعنى أنه استفهام: هل مع الله إله؟ كما ظنه بعضهم؛ لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام، والقوم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى، كما قال تعالى: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ [الأنعام:19]، وكانوا يقولون : أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، لكنهم ما كانوا يقولون: إن معه إلها جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً [النمل:61]، بل هم مقرون بأن الله وحده فعل هذا، وهكذا سائر الآيات، وكذلك قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، وكذلك قوله في سورة الأنعام : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [الأنعام:46]، وأمثال ذلك].
تقرير توحيد الربوبية في القرآن كثير، والقصد منه الإلزام لتوحيد الإلهية، فإن آية البقرة -وهي قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ [البقرة:21]- ذكر الله بها تقرير توحيد الربوبية بستة أدلة، وهي قوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ [البقرة:22] خَلْقهم، وخَلْق آبائهم، وخَلْق الأرض، وخَلْق السماء، وإنزال المطر، وإنبات النبات، يقول: اعبدوا الله الذي فعل هذه الأشياء، فأنتم تعترفون بأنه الذي خلقكم، وأنه الذي خلق من قبلكم؛ لأنه خالق السماوات والأرض وأنه مرسل السحاب ومنزل المطر ومنبت النبات، فلماذا تعبدون غيره؟
فيحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على التوحيد الثاني، فما دام أنهم يقرون بتوحيد الربوبية فيلزمهم توحيد العبادة، وكذلك الآيات الأخرى في سورة النمل، قال تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ [النمل:60]، أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً [النمل:61]، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل:62]، أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [النمل:63]، أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [النمل:64] فيقول: بعد كل آية: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:64] يعني: هل هناك أحد شارك الله في هذه الأشياء؟
فإذا كنتم تقرون بأن الله هو الذي أنشأها وحده فلماذا تعبدون غيره؟ لماذا تصرفون العبادة لغيره؟ ومعنى قوله: أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ يعني: هل هناك أحد شريك لله في خلق هذه المخلوقات وهذه التصرفات؟ إذا كنتم تقرون بأنه ليس له شريك فلماذا جعلتم معه آلهة تعبدونها؟
فهم جعلوا معبودات وسموها آلهة وصرفوا لها العبادة، ولما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليقولوا: (لا إله إلا الله)؛ أنكروا ذلك، وقد جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (أريد منكم كلمة تدين لكم بها العرب، وتؤدي لكم الجزية العجم، قولوا: لا إله إلا الله)، فقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً [ص:5]، وقالوا: امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [ص:6]
والإله عندهم هو المألوه المعبود، أي: تألهه القلوب. فيحتج الله عليهم بالشيء الذي يعرفونه على الذي ينكرونه، إذ الذي ينكرونه هو العبادة، فيقولون: إن العبادة ليست لله وحده. بل يجعلونها لغيره أو له ولغيره، وأما الخلق والتدبير فإنه لله وحده، يقول تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس:31]، فإذا كانوا يعترفون بهذا فإنه حجة عليهم في أن التوحيد المطلوب لا يستحقه إلا الله.
استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [87] | 2712 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [60] | 2629 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [1] | 2589 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [79] | 2560 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [93] | 2471 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [77] | 2407 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [53] | 2385 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [99] | 2372 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [71] | 2335 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2299 استماع |