مقدمة في الفقه - الفقه فضله ورتبته [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فقد ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام أحاديث كثيرة تبين أن منزلة التفقه في الدين أعلى درجات العبادة، وفوق التفرغ للجد والاجتهاد في العبادة؛ من أذكار وأوراد ونوافل وعبادات يقوم بها الإنسان بينه وبين ربه، التفقه في الدين أعظم من ذلك بكثير، فاستمعوا لبعض الأحاديث التي تقرر هذا ضمن الدلالة الثالثة كما قلت.‏

قوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع)

روى الإمام الطبراني في معاجمه الثلاثة في الصغير والأوسط والكبير، والحديث رواه الإمام الخطيب في الفقيه والمتفقه، في الجزء الأول صفحة إحدى وعشرين، ورواه الإمام القضاعي في مسند الشهاب، قال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء الأول صفحة عشرين ومائة: وفي إسناده محمد بن أبي ليلى ، ضعفوه لسوء حفظه، وحديثه إن شاء الله في درجة الحسن، وقد قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق سيئ الحفظ جداً، وهو من رجال السنن الأربعة، توفي سنة ثمان وأربعين ومائة للهجرة. صدوق سيئ الحفظ جداً، وسيأتينا أن الحديث لا ينزل عن درجة الصحة للاستفاضة إن لم يكن متواتراً، فهذا الطريق حوله كلام، لكن الطريق الذي بعده صحيح، وله طرق كثيرة سأذكرها على طريق الإيجاز، له اثنا عشر طريقاً متصلاً، وأربع طرق مرسلة، فعندنا ستة عشر طريقاً تدل على هذا المعنى، وهذا الأمر في الدلالة كما قلت، فالحديث في أعلى درجات الصحة، وإن كان في هذا الإسناد الأول ضعف لوجود محمد بن أبي ليلى.

ولفظ الحديث: عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع)، الفقه أفضل العبادة، وأفضل الدين الورع.

الرواية الثانية: من طريق سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه رواها الحاكم في المستدرك وقال: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي، ومن طريقه روى الحافظ البيهقي الحديث في المدخل إلى السنن صفحة ثلاث وثلاثمائة، ورواه في كتاب الزهد أيضاً، وفي كتاب الآداب، ورواه في كتاب الأربعون الصغرى في أحوال عباد الله دون إسناد، هذا في الكتاب الأخير فقال: رُوي عن النبي عليه الصلاة والسلام، والحديث -إخوتي الكرام- صحيح، لكن في قول الإمام الحاكم وإقرار الذهبي له: أنه على شرط الشيخين، شيء من التساهل فقط، لكن الحديث صحيح، في إسناده حمزة بن حبيب الزيات رضي الله عنه وأرضاه، وهو إمام ثقة مبارك صدوق زاهد عابد، لكن لم يخرج له البخاري، ومن رجال مسلم والسنن الأربعة، حمزة بن حبيب الزيات أحد القراء السبعة، توفي سنة ست وخمسين أو ثمان وخمسين بعد المائة، فقول الحاكم: على شرط الشيخين، كما قلت في ذلك شيء من التساهل والمسامحة، ولو قال: صحيح، أو على شرط مسلم ، لكان أولى؛ لأن الحديث ليس على شرط البخاري؛ لأن البخاري لم يخرج لسيدنا حمزة بن حبيب الزيات، وهو إمام ثقة، والحديث صحيح بلا شك.

ولفظ حديث سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة)، يعني: الزيادة في العلم أحب إلى النبي عليه الصلاة والسلام من الزيادة في العبادة، (فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)، في الرواية الأولى: (أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع)، وهنا: (فضل العلم أحب إلى من فضل العبادة، وخير دينكم الورع).

حقيقة الورع في الدين

إخوتي الكرام! تعريف الورع باختصار كما عرفه نبينا عليه الصلاة والسلام إمام الأبرار: أن يترك الإنسان ما يشك فيه ليستبرئ لدينه. شيء تشك فيه: هل هو حلال أو حرام؟ تنزه عنه، شيء حاك في نفسك حاله، ابتعد عنه وتنزه عنه، هذا هو تعريف الورع، أن تترك ما لا بأس به، أن تترك ما ليس بحرام خشية أن تقع في الحرام.

ثبت في سنن الترمذي وسنن ابن ماجه، والحديث رواه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه عليه الذهبي، ورواه الإمام البيهقي وعبد بن حميد والإمام القضاعي في مسند الشهاب والإمام ابن عساكر والطبراني في معجمه الكبير، والحديث حسنه الإمام الترمذي، وأقره الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء الأول صفحة ثمان وأربعين، وهو حسن بعون رب العالمين، ورواه الإمام الدولابي في الكُنى أيضاً، انظروه في جامع الأصول في الجزء الرابع صفحة اثنتين وثمانين وستمائة، وفي الترغيب والرهيب في الجزء الثاني صفحة تسع وخمسين وخمسمائة، وانظروه في جمع الجوامع في الجزء الأول في صفحة تسع عشرة وتسعمائة.

ولفظ الحديث من رواية سيدنا عطية السعدي رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس)، يعني: أن تترك ما تشك فيه، وتتردد فيه، لئلا تقع في الحرام، شيء ليس بحرام، لكن قد يفضي إلى الحرام، فتركته، هذا هو الورع.

إخوتي الكرام! الإنسان ما له مصلحة في خروجه من بيته، فمن الورع أن يجلس في البيت، هذا معتكف اعتكف فيه، أما تريد أن تتمشى يميناً وشمالاً، التمشي مباح، لكن قد يجر إلى رزايا ومنكرات، لا سيما في هذه الأوقات، فعندما يخرج الإنسان قد تقع عيناه على منكرات، وما أكثرها في جميع الجهات! فلو جلست في بيتك لصنت عينك عن ذلك، هذا ورع حقيقي، يتورع الإنسان عنه، ولا داعي أن يخرج إلا لمصلحة شرعية، وما عدا هذا الناس تتجول يميناً وشمالاً لغير مصلحة، فلا بد إذاً من أن يترك الإنسان ما لا بأس به حذراً مما به بأس، إذا خرج يجره هذا بعد ذلك إلى شوائب.

روى الإمام ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه موقوفاً عليه من قوله، قال: (تمام التقوى أن تتقي الله حتى تترك ما ترى أنه حلال خشية أن يكون حراماً). وقد علق البخاري في صحيحه في أول كتاب الإيمان، فقال: وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر)، ما ترددت فيه: هل يجر إلى محذور أو هو مسموح به؟ اتركه واسترح، قال الإمام البخاري في صحيحه: وقال ابن عمر: (لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر). وهذا المعنى الذي ذكره سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في هذا الأثر قال عنه الحافظ: لم أجده موصولاً بعد البحث والتفتيش، فهو أثر معلق، لكن ما وجدت من وصله، وما رأيت من خرَّجه، يقول هذا الحافظ رضي الله عنه وأرضاه، فماذا يقول من بعده؟! إنما يكفي أنه في صحيح البخاري -كما قلت- معلق بصيغة الجزم عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو مقطوع بصحته؛ لأنه مضاف إليه، فهو في صحيح البخاري في كتاب التزم صاحبه الصحة، لكن هذا الأثر قال عنه الحافظ: معناه ثبت في أحاديث صحيحة.

منها: حديث النواس بن سمعان في صحيح مسلم أن قال نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، هذا حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، والحديث أيضاً ورد معناه من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه وأرضاه في المسند وسنن الإمام الدارمي، عندما جاء وابصة يسأل نبينا عليه الصلاة والسلام عن البر، قال: (جئت تسأل عن البر؟ البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس، وإن أفتاك الناس وأفتوك).

قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، صفحة سبع وثلاثين ومائتين: وقد ورد هذا المعنى: أن الإثم ما حاك في الصدر، ما تردد في الصدر فهو إثم، من رواية أبي أمامة الباهلي في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان، ومن رواية أبي ثعلبة الخشني في مسند الإمام أحمد، كلاهما بسند جيد، ومن رواية واثلة بن الأسقع في معجم الطبراني الكبير، لكن إسناد الحديث ضعيف، ويشهد له ما تقدم، ومن رواية أبي هريرة، ومن رواية عبد الرحمن بن معاوية، وهو تابعي، فحديثه مرسل، كلها فيها: أن الإثم ما حاك في الصدر، ما تردد في الصدر فهو إثم، فاتركه من باب الورع لتكون من المتقين.

نعم إخوتي الكرام! ما اشتبه عليك دعه، وهذا كما ثبت في المسند والصحيحين والسنن الأربعة من رواية سيدنا النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتَبِهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يُواقِعه، ألا لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).

كنت تكلمت -إخوتي الكرام- في مواعظ سابقة وقلت: هذا الحديث هو أحد أحاديث ثلاثة تدور عليها أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، بل دين الرحمن على التمام، وهي: حديث سيدنا عمر رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات)، وهو في الصحيحين، وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (الحلال بين والحرام بين)، وحديث أمنا عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أيضاً، وغير ذلك من دواوين السنة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

وقلت: وجه دوران الإسلام وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام على هذه الأحاديث الثلاثة: أن حديث النعمان بن بشير بيَّن لنا أن الحلال واضح، والحرام واضح، وما اشتبه عليك فدعه؛ لتستبرئ لدينك وعرضك وكرامتك، فالحلال والحرام الواضحان فينبغي أن نفعل الحلال وأن نترك الحرام، مريدين بذلك وجه الرحمن؛ لأن الأعمال بالنيات، فمن فسدت نيته وإن التزم بالحلال فعلاً في الظاهر، وترك الحرام في الظاهر، لكن لا لله؛ لا يثاب عند الله؛ لأن الأعمال بالنيات، وهذا ينبغي أن يكون على الكيفية الثابتة عن نبينا خير البريات عليه الصلاة والسلام، فالحلال الواضح كما ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فعلينا ألا نزيد في دين الله ولا ننقص منه، فمن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، حلال واضح، وحرام واضح، حسبما بين نبينا عليه الصلاة والسلام، نلتزم بذلك مريدين وجه ذي الجلال والإكرام.

إذاً: الورع كما سبق: أن يترك الإنسان ما لا بأس به حذراً مما به بأس.

ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي، والحديث في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، وإسناد الحديث صحيح، من رواية سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: (حفظت من رسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه: دع ما يَريبُك إلى ما لا يريبك -هذا هو الورع- فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)، وفي رواية ابن حبان: (فإن الخير طُمأنينة)، تفعله وأنت مطئمن، ما حوله تردد في الصدر، ولا بحث في النفس، حلال قطعاً (فإن الخير طمأنينة، وإن الشر ريبة)، وفي الرواية الأولى: (فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)، يعني: ترتاب وتشك فيه، وهكذا ما يؤدي إليه تشك فيه، فما شككت فيه، وتردد في صدرك، دعه وانتهي الأمر.

إذاً: إخوتي الكرام! أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع، كما في الحديث السابق: (فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وأفضل الدين الورع)، هذا الحديث إخوتي الكرام! الذي رُوي من طريق سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وسيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين، ورُوي -كما قلت- عن صحابة آخرين، وعن رواة آخرين رضي الله عنهم أجمعين، سأسرد الروايات سرداً، وأما تخريجها فقد تقدم بيانها في مواعظ الجمعة.

ورد الحديث من رواية السادة الكرام سيدنا حذيفة ، وسيدنا عبد الله بن عباس ، وسيدنا عبد الله بن عمرو ، وسيدنا أنس بن مالك ، وسيدنا ثوبان ، وسيدنا عبادة بن الصامت ، وأمنا الصديقة المباركة سيدتنا المباركة عائشة ، وسيدنا عبد الرحمن بن عوف ، وسيدنا أبي هريرة، ورُوي في شعب الإيمان عن بعض الصحابة لم يسم رضي الله عنهم أجمعين، هذه عشر روايات مع رواية ابن عمر وسعد اثنتا عشرة رواية، هذه كلها متصلة، وفيها هذا المعنى: أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع، (فضل العلم أحب ألي من فضل العبادة، وخير الدين الورع)، كلها فيها هذا المعنى.

ورُوي الحديث أيضاً من طرق أربع مرسلة من طريق الحسن البصري وابن سيرين في كتاب الزهد لـهناد بن السري وغير ذلك، ورُوي من طريق مطرف بن عبد الله بن الشخير وعمرو بن قيس الملائي، فهذه أربع طرق ثابتة لكنها مرسلة، وهناك اثنتا عشرة طريقاً متصلة كلها فيها هذا المعنى: أن أفضل العبادة الفقه، وأن أفضل الدين الورع.

روى الإمام الطبراني في معاجمه الثلاثة في الصغير والأوسط والكبير، والحديث رواه الإمام الخطيب في الفقيه والمتفقه، في الجزء الأول صفحة إحدى وعشرين، ورواه الإمام القضاعي في مسند الشهاب، قال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء الأول صفحة عشرين ومائة: وفي إسناده محمد بن أبي ليلى ، ضعفوه لسوء حفظه، وحديثه إن شاء الله في درجة الحسن، وقد قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق سيئ الحفظ جداً، وهو من رجال السنن الأربعة، توفي سنة ثمان وأربعين ومائة للهجرة. صدوق سيئ الحفظ جداً، وسيأتينا أن الحديث لا ينزل عن درجة الصحة للاستفاضة إن لم يكن متواتراً، فهذا الطريق حوله كلام، لكن الطريق الذي بعده صحيح، وله طرق كثيرة سأذكرها على طريق الإيجاز، له اثنا عشر طريقاً متصلاً، وأربع طرق مرسلة، فعندنا ستة عشر طريقاً تدل على هذا المعنى، وهذا الأمر في الدلالة كما قلت، فالحديث في أعلى درجات الصحة، وإن كان في هذا الإسناد الأول ضعف لوجود محمد بن أبي ليلى.

ولفظ الحديث: عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع)، الفقه أفضل العبادة، وأفضل الدين الورع.

الرواية الثانية: من طريق سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه رواها الحاكم في المستدرك وقال: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي، ومن طريقه روى الحافظ البيهقي الحديث في المدخل إلى السنن صفحة ثلاث وثلاثمائة، ورواه في كتاب الزهد أيضاً، وفي كتاب الآداب، ورواه في كتاب الأربعون الصغرى في أحوال عباد الله دون إسناد، هذا في الكتاب الأخير فقال: رُوي عن النبي عليه الصلاة والسلام، والحديث -إخوتي الكرام- صحيح، لكن في قول الإمام الحاكم وإقرار الذهبي له: أنه على شرط الشيخين، شيء من التساهل فقط، لكن الحديث صحيح، في إسناده حمزة بن حبيب الزيات رضي الله عنه وأرضاه، وهو إمام ثقة مبارك صدوق زاهد عابد، لكن لم يخرج له البخاري، ومن رجال مسلم والسنن الأربعة، حمزة بن حبيب الزيات أحد القراء السبعة، توفي سنة ست وخمسين أو ثمان وخمسين بعد المائة، فقول الحاكم: على شرط الشيخين، كما قلت في ذلك شيء من التساهل والمسامحة، ولو قال: صحيح، أو على شرط مسلم ، لكان أولى؛ لأن الحديث ليس على شرط البخاري؛ لأن البخاري لم يخرج لسيدنا حمزة بن حبيب الزيات، وهو إمام ثقة، والحديث صحيح بلا شك.

ولفظ حديث سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة)، يعني: الزيادة في العلم أحب إلى النبي عليه الصلاة والسلام من الزيادة في العبادة، (فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع)، في الرواية الأولى: (أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع)، وهنا: (فضل العلم أحب إلى من فضل العبادة، وخير دينكم الورع).

إخوتي الكرام! تعريف الورع باختصار كما عرفه نبينا عليه الصلاة والسلام إمام الأبرار: أن يترك الإنسان ما يشك فيه ليستبرئ لدينه. شيء تشك فيه: هل هو حلال أو حرام؟ تنزه عنه، شيء حاك في نفسك حاله، ابتعد عنه وتنزه عنه، هذا هو تعريف الورع، أن تترك ما لا بأس به، أن تترك ما ليس بحرام خشية أن تقع في الحرام.

ثبت في سنن الترمذي وسنن ابن ماجه، والحديث رواه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه عليه الذهبي، ورواه الإمام البيهقي وعبد بن حميد والإمام القضاعي في مسند الشهاب والإمام ابن عساكر والطبراني في معجمه الكبير، والحديث حسنه الإمام الترمذي، وأقره الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء الأول صفحة ثمان وأربعين، وهو حسن بعون رب العالمين، ورواه الإمام الدولابي في الكُنى أيضاً، انظروه في جامع الأصول في الجزء الرابع صفحة اثنتين وثمانين وستمائة، وفي الترغيب والرهيب في الجزء الثاني صفحة تسع وخمسين وخمسمائة، وانظروه في جمع الجوامع في الجزء الأول في صفحة تسع عشرة وتسعمائة.

ولفظ الحديث من رواية سيدنا عطية السعدي رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس)، يعني: أن تترك ما تشك فيه، وتتردد فيه، لئلا تقع في الحرام، شيء ليس بحرام، لكن قد يفضي إلى الحرام، فتركته، هذا هو الورع.

إخوتي الكرام! الإنسان ما له مصلحة في خروجه من بيته، فمن الورع أن يجلس في البيت، هذا معتكف اعتكف فيه، أما تريد أن تتمشى يميناً وشمالاً، التمشي مباح، لكن قد يجر إلى رزايا ومنكرات، لا سيما في هذه الأوقات، فعندما يخرج الإنسان قد تقع عيناه على منكرات، وما أكثرها في جميع الجهات! فلو جلست في بيتك لصنت عينك عن ذلك، هذا ورع حقيقي، يتورع الإنسان عنه، ولا داعي أن يخرج إلا لمصلحة شرعية، وما عدا هذا الناس تتجول يميناً وشمالاً لغير مصلحة، فلا بد إذاً من أن يترك الإنسان ما لا بأس به حذراً مما به بأس، إذا خرج يجره هذا بعد ذلك إلى شوائب.

روى الإمام ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه موقوفاً عليه من قوله، قال: (تمام التقوى أن تتقي الله حتى تترك ما ترى أنه حلال خشية أن يكون حراماً). وقد علق البخاري في صحيحه في أول كتاب الإيمان، فقال: وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر)، ما ترددت فيه: هل يجر إلى محذور أو هو مسموح به؟ اتركه واسترح، قال الإمام البخاري في صحيحه: وقال ابن عمر: (لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر). وهذا المعنى الذي ذكره سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في هذا الأثر قال عنه الحافظ: لم أجده موصولاً بعد البحث والتفتيش، فهو أثر معلق، لكن ما وجدت من وصله، وما رأيت من خرَّجه، يقول هذا الحافظ رضي الله عنه وأرضاه، فماذا يقول من بعده؟! إنما يكفي أنه في صحيح البخاري -كما قلت- معلق بصيغة الجزم عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو مقطوع بصحته؛ لأنه مضاف إليه، فهو في صحيح البخاري في كتاب التزم صاحبه الصحة، لكن هذا الأثر قال عنه الحافظ: معناه ثبت في أحاديث صحيحة.

منها: حديث النواس بن سمعان في صحيح مسلم أن قال نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، هذا حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، والحديث أيضاً ورد معناه من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه وأرضاه في المسند وسنن الإمام الدارمي، عندما جاء وابصة يسأل نبينا عليه الصلاة والسلام عن البر، قال: (جئت تسأل عن البر؟ البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس، وإن أفتاك الناس وأفتوك).

قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، صفحة سبع وثلاثين ومائتين: وقد ورد هذا المعنى: أن الإثم ما حاك في الصدر، ما تردد في الصدر فهو إثم، من رواية أبي أمامة الباهلي في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان، ومن رواية أبي ثعلبة الخشني في مسند الإمام أحمد، كلاهما بسند جيد، ومن رواية واثلة بن الأسقع في معجم الطبراني الكبير، لكن إسناد الحديث ضعيف، ويشهد له ما تقدم، ومن رواية أبي هريرة، ومن رواية عبد الرحمن بن معاوية، وهو تابعي، فحديثه مرسل، كلها فيها: أن الإثم ما حاك في الصدر، ما تردد في الصدر فهو إثم، فاتركه من باب الورع لتكون من المتقين.

نعم إخوتي الكرام! ما اشتبه عليك دعه، وهذا كما ثبت في المسند والصحيحين والسنن الأربعة من رواية سيدنا النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتَبِهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يُواقِعه، ألا لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).

كنت تكلمت -إخوتي الكرام- في مواعظ سابقة وقلت: هذا الحديث هو أحد أحاديث ثلاثة تدور عليها أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، بل دين الرحمن على التمام، وهي: حديث سيدنا عمر رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات)، وهو في الصحيحين، وحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (الحلال بين والحرام بين)، وحديث أمنا عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أيضاً، وغير ذلك من دواوين السنة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).

وقلت: وجه دوران الإسلام وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام على هذه الأحاديث الثلاثة: أن حديث النعمان بن بشير بيَّن لنا أن الحلال واضح، والحرام واضح، وما اشتبه عليك فدعه؛ لتستبرئ لدينك وعرضك وكرامتك، فالحلال والحرام الواضحان فينبغي أن نفعل الحلال وأن نترك الحرام، مريدين بذلك وجه الرحمن؛ لأن الأعمال بالنيات، فمن فسدت نيته وإن التزم بالحلال فعلاً في الظاهر، وترك الحرام في الظاهر، لكن لا لله؛ لا يثاب عند الله؛ لأن الأعمال بالنيات، وهذا ينبغي أن يكون على الكيفية الثابتة عن نبينا خير البريات عليه الصلاة والسلام، فالحلال الواضح كما ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فعلينا ألا نزيد في دين الله ولا ننقص منه، فمن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، حلال واضح، وحرام واضح، حسبما بين نبينا عليه الصلاة والسلام، نلتزم بذلك مريدين وجه ذي الجلال والإكرام.

إذاً: الورع كما سبق: أن يترك الإنسان ما لا بأس به حذراً مما به بأس.

ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي، والحديث في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، وإسناد الحديث صحيح، من رواية سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: (حفظت من رسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه: دع ما يَريبُك إلى ما لا يريبك -هذا هو الورع- فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)، وفي رواية ابن حبان: (فإن الخير طُمأنينة)، تفعله وأنت مطئمن، ما حوله تردد في الصدر، ولا بحث في النفس، حلال قطعاً (فإن الخير طمأنينة، وإن الشر ريبة)، وفي الرواية الأولى: (فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)، يعني: ترتاب وتشك فيه، وهكذا ما يؤدي إليه تشك فيه، فما شككت فيه، وتردد في صدرك، دعه وانتهي الأمر.

إذاً: إخوتي الكرام! أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع، كما في الحديث السابق: (فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وأفضل الدين الورع)، هذا الحديث إخوتي الكرام! الذي رُوي من طريق سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وسيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين، ورُوي -كما قلت- عن صحابة آخرين، وعن رواة آخرين رضي الله عنهم أجمعين، سأسرد الروايات سرداً، وأما تخريجها فقد تقدم بيانها في مواعظ الجمعة.

ورد الحديث من رواية السادة الكرام سيدنا حذيفة ، وسيدنا عبد الله بن عباس ، وسيدنا عبد الله بن عمرو ، وسيدنا أنس بن مالك ، وسيدنا ثوبان ، وسيدنا عبادة بن الصامت ، وأمنا الصديقة المباركة سيدتنا المباركة عائشة ، وسيدنا عبد الرحمن بن عوف ، وسيدنا أبي هريرة، ورُوي في شعب الإيمان عن بعض الصحابة لم يسم رضي الله عنهم أجمعين، هذه عشر روايات مع رواية ابن عمر وسعد اثنتا عشرة رواية، هذه كلها متصلة، وفيها هذا المعنى: أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع، (فضل العلم أحب ألي من فضل العبادة، وخير الدين الورع)، كلها فيها هذا المعنى.

ورُوي الحديث أيضاً من طرق أربع مرسلة من طريق الحسن البصري وابن سيرين في كتاب الزهد لـهناد بن السري وغير ذلك، ورُوي من طريق مطرف بن عبد الله بن الشخير وعمرو بن قيس الملائي، فهذه أربع طرق ثابتة لكنها مرسلة، وهناك اثنتا عشرة طريقاً متصلة كلها فيها هذا المعنى: أن أفضل العبادة الفقه، وأن أفضل الدين الورع.