مقدمة في الفقه - الفقه فضله ورتبته [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين! سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:

إخوتي الكرام! شرعنا في مدارسة الأدلة التي تبين منزلة علم الفقه ومكانته، وذكرت دليلاً واحداً من كتاب الله جل وعلا يقرر هذا الأمر، وهو قول الله جل وعلا في سورة التوبة: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].

وقد تقدم معنا بيان معنى هذه الآية الكريمة، وتقدم معنا أن النفْر معناه: الانزعاج من الشيء وإلى الشيء، والخروج، عندما يخرج الإنسان يحصل له شيء من الانزعاج والمشقة والتعب والكلفة، وقلت إخوتي الكرام: إن معنى الآية يتحدد بناء على صلتها بما قبلها، فإن كانت الآية لا زالت مرتبطة بأحكام الجهاد، فتحتمل معنيين اثنين:

إما أن التفقه يحصل للفرقة المقيمة، والفرقة التي نفرت وخرجت في سبيل ربنا المعبود، فيصبح تقدير الآية: فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة، ليقاتلوا في سبيل الله، وقعدت طائفة، ليتفقهوا في الدين، ويتعلموا من نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، فإذا عاد إليهم إخوانهم المجاهدون علموهم ما تعلموه من نبينا الميمون على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

والمعنى الثاني: أنها لا زالت مرتبطة أيضاً بأحكام الجهاد، فيكون معنى الآية: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة لتجاهد ولتتفقه، فيحصل لها صفتان متلازمتان: الجهاد والتفقه، وقلت: إن الفقه الذي سيحصل لهم -كما تقدم معنا كلام سيدنا الحسن البصري رضي الله عنه وعن المسلمين أجمعين- أنهم سيرون عظيم آيات الله، حيث سينزل السكينة على عباده المجاهدين، وسيخذل أعداءه المجرمين، وفي ذلك تقوية لإيمان المؤمنين، وهذا فقه عظيم في الدين.

ويمكن أن يكون هناك معنى ثالث على أن الآية لا ارتباط لها بأحكام الجهاد، ولا تتحدث عن أحكام الجهاد، إنما جاءت الآية لتتكلم عن عبادة ثالثة بعد أن ذُكر عبادتان عظيمتان لا تحصل واحدة منهما إلا بالسفر، عبادة الهجرة وعبادة الجهاد، وذكر الله عبادة ثالثة وهي طلب العلم، فلا يحصل العلم النافع إلا بشد الرحل من أجل أن يتلقى العلم من أرجاء الأرض، من الشيوخ الصالحين، وعليه فيكون معنى الآية: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، هذا النفر والانزعاج والخروج من أجل طلب العلم فقط، فَلَوْلا نَفَرَ أي: خرج مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.

إخوتي الكرام! مر معنا بيان الآية، وهنا أمران أحب أن أنبه عليهما قبل أن أسرد الأحاديث الأربعة التي تدل على منزلة التفقه في الدين، ومكانة علم الفقه بين علوم الدين.

إنذار الفقيه للناس إبلغ من تفقيهه إياهم

الأمر الأول: قوله تعالى في نهاية هذه الآية: وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، هم خرجوا ليتفقهوا، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة:122]، فالأصل أن يقول: وليفقهوا قومهم إذا رجعوا إليهم بعد أن تعلموا، يعني نفروا للتفقه، فبعد أن حصلوا الفقه ينبغي أن يفقهوا الجاهلين، هذا هو الأصل، لكن الله تعالى بدل هذا قال: (ولينذروا قومهم)؛ وهذا فيه إشارة إلى كمال شفقة الفقيه والعالم وطالب العلم، وأن مقصوده من تفقيه الناس في دين الله هو الحذر عليهم من غضب الله، ومن سخط الله؛ (لينذروا قومهم) إذاً هو منذر، وتقدم معنا أن الإنذار: هو إعلام مقترن بتخويف وزجر، ويكون من أمر مخيف، فهو إذن مشفق عليهم، كما قال العبد الصالح مالك بن دينار عليه رحمة العزيز الغفار: لو كان لي أعوان لأرسلتهم في الأمصار ينادون: النار النار.

إذاً مقصودهم هو الشفقة عليهم، ولذلك أنذروهم ليخلصوهم من عذاب الله جل وعلا، ومقصود من يتعلم من هذا الإنذار أيضاً هو الحذر من غضب الله وسخطه، وحقيقة العلم إذا لم تكن هذه نتيجته فلا خير فيه، نتعلم لنحذر الناس من سخط الله، والناس يتعلمون من أجل أن يحذروا سخط الحي القيوم، لا لمباهاة في الدنيا، ولا لمناصب، ولا لغير ذلك من عروضها الزائلة، هذا هو الأمر الأول الذي أحب أن أنبه عليه.

معاني (لولا) في القرآن الكريم

الأمر الثاني: ذكرته في الموعظة الماضية، وقلت: سأذكره في أول هذه الموعظة بعون الله وتوفيقه، وهو فيما يتعلق بكلمة: (لولا) في قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، كلمة (لولا) تأتي في القرآن الكريم لمعنيين اثنين:

المعنى الأول: تأتي بمعنى حرف شرط غير جازم، حرف امتناع لوجود، ويكون هذا إذا وليها جملة اسمية، إذا ولي (لولا) جملة اسمية فهي حرف امتناع لوجود، أي: امتنع الجواب والجزاء لوجود الشرط، لوجود الاسم المتقدم، كقولك: لولا زيد لعاقبتك، امتنعت العقوبة لوجود زيد.

قال أئمتنا: فإذا كان الفعل مثبتاً دخلت عليه اللام، ومنه قول ذي الجلال والإكرام عن نبي الله يونس على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه في سورة الصافات: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:139-144]، (لبث) فعل مثبت دخلت عليه اللام، وهو واقع في جواب لولا.

وإذا كان الفعل منفياً فلا تدخل عليه اللام، ومنه قول الله جل وعلا في سورة النور: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21]، فاللام حذفت من الجواب فلم يقل: لما زكى منكم من أحد أبداً، كما قال هناك: للبث لما زكى، بل قال: ما زكى منكم من أحد أبداً، وعليه فتقول: لولا زيد لعاقبتك، ولولا زيد ما عاقبتك. وهذا لا علاقة لنا به الآن ضمن هذه الآية؛ لأن (لولا) هنا في سورة التوبة تحضيضية، إنما هذا كما قلت: من باب الفائدة واستكمال معاني لولا.

إذاً: لولا حرف امتناع لوجود، ومعنى التحضيض: طلب الشيء بإلحاح وحث ورغبة، ويقال لها: تحضيضية، هذا إذا وليها الفعل المضارع، ومنه قول الله جل وعلا: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، أي: هلا يحصل منكم هذا، يطلب منا سبحانه وتعالى أن نستغفره وأن نتوب إليه، وهكذا قول الله جل وعلا في آخر سورة المنافقون: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10]، فلولا هنا بمعنى: هلا، يطلب من الله، يعرض عليه، يلح في طلبه أن يؤخره من أجل أن يتدارك ما فاته.

وإذا وليها الفعل الماضي فهي للتحضيض أيضاً، لكنها تفيد اللوم والتوبيخ والمعاتبة، على أنه كان ينبغي أن يفعل وما فعل، هذا إذا وليها الفعل الماضي، ومنه قول الله جل وعلا في سورة الواقعة: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [الواقعة:83-86]، لولا الثانية تأكيد للأولى: فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:86-87]، هل بإمكانكم؟ هلا فعلتم هذا؟ وإذا كنتم غير مقهورين لرب العالمين، وأنكم تتصرفون في أنفسكم كما تريدون، فأعيدوا هذه الروح إن كنتم تستطيعون، وواقع الأمر أنه ليس بوسع أحد أن يمد في حياته لحظة واحدة، قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]. إذاً لولا هنا تفيد اللوم والمعاتبة والتوبيخ.

قال الإمام الألوسي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: وإذا وليها الفعل الماضي تفيد هذا، وإذا كان بالإمكان أن يتدارك الإنسان الأمر في المستقبل، فتفيد أيضاً اللوم على الماضي، وطلب هذا وحصوله وتداركه في المستقبل، أي: الأمر به في المستقبل، كما هو الحال لو وليها الفعل المضارع، ومنه معنى الآية التي في سورة التوبة: (فلولا نفر)، (نفر) فعل ماضٍ، فكأن الله يعاتب الذين لا ينفرون للجهاد في سبيل الحي القيوم، ولطلب العلم، لكن بما أنه عندك فسحة وسعة من الأجل، فبإمكانك أن تتدارك ما فات وأن تجاهد وأن تتعلم، فإذا وليها الفعل الماضي تفيد اللوم والتوبيخ على عدم حصول المطلوب، لكن بما أنه بإمكانك أن تتدارك هذا، فيجب عليك أن تتداركه في المستقبل.

إذاً: (لولا) إذا وليها فعل فهي للتحضيض، فإن كان الفعل مضارعاً فهي للتحضيض والطلب بحث وإلحاح في المستقبل، وإن كان الفعل ماضياً ولا يمكن تداركه فهي للوم والتوبيخ، أي: هلا جرى منكم ذلك في الزمن الماضي، وإذا كان يمكن تداركه فتفيد الأمر به في المستقبل، والعلم عند الله جل وعلا.

قال الإمام الرازي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: وإنما كان معنى (لولا) هلا التي معناها التحضيض؛ لأنها مركبة -يقول- من أمرين اثنين: فأصلها: هل لا، أي: هل فعلت؟ فهي سؤال، تستفسر تسأل تستخبر: هل فعلت؟ وبما أنه لم يفعل، ولم يجر هذا منه فتنفى الفعل بـ(لا)، فتقول: لا، لم تفعل، إذاً (هلا) أصلها: هل فعلت؟ لا لم تفعل، وكان ينبغي عليك أن تفعل، فأفادت التحضيض، وهذا من لطافة العرب وظرافتهم في أساليبهم، فلاختصار الكلام قالوا: هلا، لولا، لوما، وأصلها: هل فعلت؟ لا، لم تفعل، وهذا مطلوب، قال تعالى: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، أي: هل استغفرتم؟ ما جرى منكم هذا للآن، فأتى ربنا جل وعلا بلولا بهلا بلوما، التي تفيد التحضيض، والتي أصلها: هل لا، أي: هل فعلت؟ لم تفعل للآن، ما ينبغي أن تفعله فتداركه في المستقبل، والعلم عند الله جل وعلا. هذا -إخوتي الكرام- فيما يتعلق بالآية التي تدل على منزلة التفقه في الدين.

الأمر الأول: قوله تعالى في نهاية هذه الآية: وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، هم خرجوا ليتفقهوا، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [التوبة:122]، فالأصل أن يقول: وليفقهوا قومهم إذا رجعوا إليهم بعد أن تعلموا، يعني نفروا للتفقه، فبعد أن حصلوا الفقه ينبغي أن يفقهوا الجاهلين، هذا هو الأصل، لكن الله تعالى بدل هذا قال: (ولينذروا قومهم)؛ وهذا فيه إشارة إلى كمال شفقة الفقيه والعالم وطالب العلم، وأن مقصوده من تفقيه الناس في دين الله هو الحذر عليهم من غضب الله، ومن سخط الله؛ (لينذروا قومهم) إذاً هو منذر، وتقدم معنا أن الإنذار: هو إعلام مقترن بتخويف وزجر، ويكون من أمر مخيف، فهو إذن مشفق عليهم، كما قال العبد الصالح مالك بن دينار عليه رحمة العزيز الغفار: لو كان لي أعوان لأرسلتهم في الأمصار ينادون: النار النار.

إذاً مقصودهم هو الشفقة عليهم، ولذلك أنذروهم ليخلصوهم من عذاب الله جل وعلا، ومقصود من يتعلم من هذا الإنذار أيضاً هو الحذر من غضب الله وسخطه، وحقيقة العلم إذا لم تكن هذه نتيجته فلا خير فيه، نتعلم لنحذر الناس من سخط الله، والناس يتعلمون من أجل أن يحذروا سخط الحي القيوم، لا لمباهاة في الدنيا، ولا لمناصب، ولا لغير ذلك من عروضها الزائلة، هذا هو الأمر الأول الذي أحب أن أنبه عليه.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمة في الفقه - المكفرات من المخالفات [1] 4383 استماع
مقدمة في الفقه - تقوية اليقين بأخبار الصالحين [2] 3678 استماع
مقدمة في الفقه - فضل العلم [2] 3661 استماع
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [2] 3541 استماع
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [1] 3309 استماع
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [1] 3293 استماع
مقدمة في الفقه - لم يتبدل موضوع الفقه 3260 استماع
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [2] 3260 استماع
مقدمة في الفقه - فقه الإمام الشافعي [2] 3214 استماع
مقدمة في الفقه - فقه الإمام أبي حنيفة [3] 3166 استماع