شرح عمدة الأحكام [59]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله: [باب الفرائض:

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر)، وفي رواية: (اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر).

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: (يا رسول الله! أتنزل غداً في دارك بمكة؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور، ثم قال: لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم)].

هذان الحديثان في قسمة المواريث بين الورثة، وهو أمر يتعلق بالأموال، ولكن له أهميته؛ وذلك لأن فيه إيصال الحقوق إلى أهلها، والمراد أن الميت إذا مات وخلف مالاً فهذا المال لا شك أن أحق من يأخذه أقارب ذلك الميت الذي جمعه والذي ملكه، فهم أولى بأن يكونوا هم الوارثين له.

لقد أنزل الله تعالى خمس آيات في المواريث.

الآية الأولى مجملة: وهي قول الله تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء:7].

فهذه الآية أجمل الله فيها نصيب الرجال والنساء، إلا أنه عرف أن للرجل نصيباً من مورثه وللمرأة نصيباً.

حتى جاءت الآية الثانية التي بيّن الله فيها ميراث الأولاد ذكوراً وإناثاً، وبيّن فيها ميراث كل من الأبوين، على التفصيل، وذلك في قوله تعالى: يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] يعني: الذكور والإناث، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11].

فهذه الآية ذكر الله فيها أن الميت إذا مات وله أولاد قسم ماله بين أولاده، للذكر سهمان وللأنثى سهم، فإذا لم يكن له إلا بنات، فإنهن لا يزدن على الثلثين ولو كن عشراً فيشتركن في الثلثين، أما إذا كانت واحدة فإنها تستقل بالنصف فتأخذ النصف وحدها.

كذلك ذكر ميراث الأم والأب، فإذا كان للميت أولاد فإن لكل من الأبوين السدس، والبقية للأولاد يقسم بينهم: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].

وإذا كان هناك أبوان فقط وليس للميت ولد، فإن المال يقسم بين الأبوين، الأب له الثلثان والأم لها الثلث، أما إذا وجد للميت إخوة حجبوا الأم ومنعوها من الثلث وأنزلوها إلى السدس، هذه قسمة أنصباء الأبوين وأنصباء الأولاد.

أما الآية الثالثة فبين الله فيها أنصباء الزوجين والإخوة من الأم، وهي قوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ [النساء:12] ثم قال: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [النساء:12] في هذا ذكر نصيب أحد الزوجين من الآخر، فبيّن الله أنه إذا كان له أولاد ذكور أو إناث؛ واحد أو عدد؛ أن زوجته لا تأخذ إلا الثمن، فإذا لم يكن له أولاد ولا أولاد ابن فإنها تأخذ الربع.

أما الزوج فيأخذ النصف إذا لم يكن للزوجة أولاد ولا أولاد ابن، فإذا كان لها ولد أو ولد ابن فإنه لا يأخذ إلا الربع.

ثم بيّن الله في نفس الآية ميراث الإخوة من الأم في قوله: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء:12] أي: ليس له أولاد ولا والدان: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [النساء:12] يعني: أولاد أم، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [النساء:12]، أي: للأخ أو الأخت من الأم السدس، فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ [النساء:12] أي: الإخوة من الأم لا يزيدون عن الثلث ولو كثر عددهم، فهذه الآية ذكر الله فيها ميراث الزوجين وميراث الإخوة من الأم.

أما الآية الرابعة في آخر سورة النساء وهي قوله تعالى: إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ.. [النساء:176] إلى قوله: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ.. [النساء:176] ثم قال: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ.. [النساء:176]، وفي نفس الآية ذكر ميراث الأخ بقوله: وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ [النساء:176].

فبيّن ميراث الأخوات، فإذا كانت واحدة أخذت النصف، أو اثنتين فلهما الثلثان، والجماعة ذكوراً وإناثاً يقتسمون المال كما يقتسمه الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، والأخ الواحد يرث مال أخته كله إذا كان وحده، وكذلك إذا كانوا جماعةً، هذه الآية ذكر الله فيها ميراث الإخوة الأشقاء والإخوة من الأب.

ميراث العصبات

أما الآية الخامسة في آخر سورة الأنفال وهي قول الله تعالى: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأنفال:75] فذكر الله أولي الأرحام، وأن بعضهم أحق ببعض، فإذا كان بعضهم أولى ببعض فإن من أحقيتهم أن يأخذوا ما بقي من المال، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الأخذ يسمى: تعصيباً، والتعصيب: هو أن يرث المال بدون أن يحدد له جزءاً معيناً، وذلك ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر)، وتأكيد وصف الرجل بقوله: (ذكر) من باب التأكيد، وإلا فمعلوم بأن الرجل اسم للذكر، فكلمة: (أولى) يراد بها الأقرب يعني: فلأقرب العصبة وأولاهم بذلك الميت، فإنه هو الذي يأخذ ما بقي، ويسمى أخذه: عصبة.

وبيّن العلماء أن العصبة هم أقارب الميت من الأصول ومن الفروع ومن الحواشي، فالأصول: هم أبوه وجده وجد أبيه، أما فروعه: فهم أبناؤه وأبناء أبنائه وأبناء أبناء أبنائه وإن بعدوا؛ لأنهم تفرعوا منه.

أما أقاربه الآخرون: فهم إخوته وبنو إخوته وبنو بنيهم، وكذلك إخوة أبيه الذين هم أعمامه، وبنو أعمامه وبنو بنيهم، ثم أعمام أبيه، ثم بنوهم، ثم أعمام جده وهكذا، ويسمون عصبة؛ لأنهم في الغالب يتعصبون لقريبهم ويحمونه ويجتمعون معه؛ فلأجل ذلك كانوا هم ذوي أرحامه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعطوا حقهم مما بقي بعد أهل الفروض، فمعنى قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) يعني: أعطوا أهلها حقهم من الفرائض وما بقي فأعطوه الأقارب من ذوي الأرحام أو من العصبة، هذا معنى الإلحاق أي: سلموها وأعطوها لهم، والباقي أعطوه من يستحقه من ذوي العصبات ونحوهم.

ميراث أهل الفروض مع العصبات

وقوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) يعني: أعطوهم فروضهم على ما في كتاب الله تعالى، فإذا كان أهل الفرائض إناثاً كما لو لم يكن له إلا بنتان أو ثلاث بنات أعطيناهن الثلثين والباقي نعطيه أقرب العصبة من الورثة كالابن أو ابن الابن مثلاً، أو الأخ أو ابن الأخ أو نحوهم؛ لأنه أولى رجل وأقرب رجل بعد البنات.

وهكذا لو كان أهل الفروض زوجاً، فإن كان الزوج يأخذ النصف فالبقية للأخ أو ابن الأخ أو العم أو ابن العم إذا كان أقرب من غيره، وهكذا إذا كان صاحب الفرض أخاً لأم فإنا نعطيه السدس والبقية نعطيه لأقرب العصبة كأخ شقيق، أو أخ لأبٍ، أو ابن أخ، أو عم، فننظر أقرب الأقارب من ذوي الأرحام فيأخذ بقية المال الذي تركته الفرائض.

كذلك لو كان الميت لم يخلف إلا أمّاً من أهل الفروض أخذت نصيبها وهو الثلث، والبقية يأخذه العاصب كالعم أو ابن العم أو ابن الأخ أو نحوهم، ننظر من هو أقربهم.

التقديم بين العصبات في الإرث

معلوم أن الأب له قرابة والابن له قرابة، لكن قرابة الابن أقوى؛ وذلك لأن الغالب أن الجامع الذي يجمع المال يحرص على أن يورثه لأولاده، وقد ورد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) فإذا كان للميت ابن وأب، فالأب يعتبر صاحب فرض وهو السدس، والبقية نعطيها للابن فهو أولى رجل ذكر، يعني: أقرب الورثة، ولا يقال: إن الأب أحق منه؛ لأن الله جعل للأب فرضاً ولم يجعل للابن فرضاً، بل جعل الابن يأخذ المال كله، أو يأخذ ما بقي من المال بعد أهل الفروض، أما إذا لم يكن هناك ابن فإن الأب يكون أقوى وأولى من غيره، فإذا كان هناك مثلاً زوجة وأب، فإن الزوجة تأخذ الربع فرضاً والأب يأخذ الباقي فهو أولى رجل ذكر.

كذلك إذا لم يكن عندنا ابن ولا أب، فأقرب الأقارب هم إخوة الميت، فننظر أقواهم فنعلم أن الأخ من الأبوين أقوى من الأخ من الأب، فإذا كان عندنا جدة وأخ شقيق وأخ من الأب أعطينا الجدة سدسها والباقي أعطيناه الشقيق؛ لأنه أقوى حيث يدلي جهتين: جهة الأبوة وجهة الأمومة، ونسقط الأخ من الأب لقوة الأخ الشقيق، فإذا لم يكن عندنا أخ شقيق فالأخ من الأب أقوى من العمومة وأقوى من بني الإخوة ونحوهم، فإذا لم يكن عندنا إخوة ولا بنوهم فلا شك أن العم الذي هو أخو الأب ينزل منزلة الأخ أو ينزل منزلة الأقرب فيعطى بقية المال، أو يعطى المال كله إذا لم يكن هناك ذوو فرض.

وهكذا فيقدم الابن ثم يقدم الأب ثم يقدم الأخ الشقيق ثم الأخ من الأب ثم ابن الأخ الشقيق ثم الأخ من الأب ثم بعد ذلك ابن العم الشقيق ثم ابن العم من الأب، ثم ينقل إلى عم الأب ثم عم الجد وما تفرع عنهما، هذا معنى قوله: (فلأولى رجل ذكر).

وهذا العلم الذي هو علم الفرائض هو من أهم العلوم، ويحتاج في تعلمه إلى معرفة قواعد ومعرفة تطبيقات ومعرفة أمثلة، ولأجل ذلك اهتم به العلماء المتقدمون والمتأخرون، وألفوا فيه مؤلفات خاصة لا يمكن أن تذكر في مثل هذه الحلقات العامة.

لا بد أن تبدأ من أوائله وقواعده وشروطه ونحوها، تبدأ من أوله، فالذي يريد معرفته عليه أن يأخذ فكرة عن كيفية ابتدائه وكيفية تطبيقه، والشروط التي تشترط له، ولكن كتب الفقه والأحكام اقتصرت في علم الفرائض على مهمات المسائل.

أما الآية الخامسة في آخر سورة الأنفال وهي قول الله تعالى: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأنفال:75] فذكر الله أولي الأرحام، وأن بعضهم أحق ببعض، فإذا كان بعضهم أولى ببعض فإن من أحقيتهم أن يأخذوا ما بقي من المال، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الأخذ يسمى: تعصيباً، والتعصيب: هو أن يرث المال بدون أن يحدد له جزءاً معيناً، وذلك ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر)، وتأكيد وصف الرجل بقوله: (ذكر) من باب التأكيد، وإلا فمعلوم بأن الرجل اسم للذكر، فكلمة: (أولى) يراد بها الأقرب يعني: فلأقرب العصبة وأولاهم بذلك الميت، فإنه هو الذي يأخذ ما بقي، ويسمى أخذه: عصبة.

وبيّن العلماء أن العصبة هم أقارب الميت من الأصول ومن الفروع ومن الحواشي، فالأصول: هم أبوه وجده وجد أبيه، أما فروعه: فهم أبناؤه وأبناء أبنائه وأبناء أبناء أبنائه وإن بعدوا؛ لأنهم تفرعوا منه.

أما أقاربه الآخرون: فهم إخوته وبنو إخوته وبنو بنيهم، وكذلك إخوة أبيه الذين هم أعمامه، وبنو أعمامه وبنو بنيهم، ثم أعمام أبيه، ثم بنوهم، ثم أعمام جده وهكذا، ويسمون عصبة؛ لأنهم في الغالب يتعصبون لقريبهم ويحمونه ويجتمعون معه؛ فلأجل ذلك كانوا هم ذوي أرحامه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعطوا حقهم مما بقي بعد أهل الفروض، فمعنى قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) يعني: أعطوا أهلها حقهم من الفرائض وما بقي فأعطوه الأقارب من ذوي الأرحام أو من العصبة، هذا معنى الإلحاق أي: سلموها وأعطوها لهم، والباقي أعطوه من يستحقه من ذوي العصبات ونحوهم.

وقوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) يعني: أعطوهم فروضهم على ما في كتاب الله تعالى، فإذا كان أهل الفرائض إناثاً كما لو لم يكن له إلا بنتان أو ثلاث بنات أعطيناهن الثلثين والباقي نعطيه أقرب العصبة من الورثة كالابن أو ابن الابن مثلاً، أو الأخ أو ابن الأخ أو نحوهم؛ لأنه أولى رجل وأقرب رجل بعد البنات.

وهكذا لو كان أهل الفروض زوجاً، فإن كان الزوج يأخذ النصف فالبقية للأخ أو ابن الأخ أو العم أو ابن العم إذا كان أقرب من غيره، وهكذا إذا كان صاحب الفرض أخاً لأم فإنا نعطيه السدس والبقية نعطيه لأقرب العصبة كأخ شقيق، أو أخ لأبٍ، أو ابن أخ، أو عم، فننظر أقرب الأقارب من ذوي الأرحام فيأخذ بقية المال الذي تركته الفرائض.

كذلك لو كان الميت لم يخلف إلا أمّاً من أهل الفروض أخذت نصيبها وهو الثلث، والبقية يأخذه العاصب كالعم أو ابن العم أو ابن الأخ أو نحوهم، ننظر من هو أقربهم.

معلوم أن الأب له قرابة والابن له قرابة، لكن قرابة الابن أقوى؛ وذلك لأن الغالب أن الجامع الذي يجمع المال يحرص على أن يورثه لأولاده، وقد ورد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) فإذا كان للميت ابن وأب، فالأب يعتبر صاحب فرض وهو السدس، والبقية نعطيها للابن فهو أولى رجل ذكر، يعني: أقرب الورثة، ولا يقال: إن الأب أحق منه؛ لأن الله جعل للأب فرضاً ولم يجعل للابن فرضاً، بل جعل الابن يأخذ المال كله، أو يأخذ ما بقي من المال بعد أهل الفروض، أما إذا لم يكن هناك ابن فإن الأب يكون أقوى وأولى من غيره، فإذا كان هناك مثلاً زوجة وأب، فإن الزوجة تأخذ الربع فرضاً والأب يأخذ الباقي فهو أولى رجل ذكر.

كذلك إذا لم يكن عندنا ابن ولا أب، فأقرب الأقارب هم إخوة الميت، فننظر أقواهم فنعلم أن الأخ من الأبوين أقوى من الأخ من الأب، فإذا كان عندنا جدة وأخ شقيق وأخ من الأب أعطينا الجدة سدسها والباقي أعطيناه الشقيق؛ لأنه أقوى حيث يدلي جهتين: جهة الأبوة وجهة الأمومة، ونسقط الأخ من الأب لقوة الأخ الشقيق، فإذا لم يكن عندنا أخ شقيق فالأخ من الأب أقوى من العمومة وأقوى من بني الإخوة ونحوهم، فإذا لم يكن عندنا إخوة ولا بنوهم فلا شك أن العم الذي هو أخو الأب ينزل منزلة الأخ أو ينزل منزلة الأقرب فيعطى بقية المال، أو يعطى المال كله إذا لم يكن هناك ذوو فرض.

وهكذا فيقدم الابن ثم يقدم الأب ثم يقدم الأخ الشقيق ثم الأخ من الأب ثم ابن الأخ الشقيق ثم الأخ من الأب ثم بعد ذلك ابن العم الشقيق ثم ابن العم من الأب، ثم ينقل إلى عم الأب ثم عم الجد وما تفرع عنهما، هذا معنى قوله: (فلأولى رجل ذكر).

وهذا العلم الذي هو علم الفرائض هو من أهم العلوم، ويحتاج في تعلمه إلى معرفة قواعد ومعرفة تطبيقات ومعرفة أمثلة، ولأجل ذلك اهتم به العلماء المتقدمون والمتأخرون، وألفوا فيه مؤلفات خاصة لا يمكن أن تذكر في مثل هذه الحلقات العامة.

لا بد أن تبدأ من أوائله وقواعده وشروطه ونحوها، تبدأ من أوله، فالذي يريد معرفته عليه أن يأخذ فكرة عن كيفية ابتدائه وكيفية تطبيقه، والشروط التي تشترط له، ولكن كتب الفقه والأحكام اقتصرت في علم الفرائض على مهمات المسائل.

ذكروا أن للتوارث ثلاثة شروط، وأن له ثلاثة أركان، وله ثلاثة أسباب، وله ثلاثة موانع، وقد توسعوا فيها كلها، ولا نحب أن نبحث فيها لطولها، وإنما نذكر الموانع التي ذكر في الحديث بعضها.

فالموانع التي تمنع الإرث: الرق، والقتل، واختلاف الدين.

المانع الأول: الرق

فالرق: هو العبودية، والرقيق: هو المملوك الذي ليس له تصرف في نفسه بل ملكيته لسيده الذي يملكه، فهذا لا يرث ولا يورث؛ لأنه ليس له مال، ولأنه لو ورث من أبيه الحر لأخذ ذلك المال سيده، وسيده ليس بينه وبين عصبة أبيه قرابة.

المانع الثاني: القتل

إذا قتل إنسان قريبه حرم من ميراثه، ولو كان القتل خطأً؛ وذلك سداً للذريعة حتى لا يعمد أحد إلى قتل قريبه لأجل أن يرثه، فيتخذ القتل وسيلة لإرث قريبه حتى يأخذ المال.

ومشهور أن رجلاً من بني إسرائيل كان عمه ثرياً كثير المال، وكان له ابنةً واحدة، وليس يرثه إلا ابن أخيه وابنته، فخطب ابنة عمه فرفض عمه أن يزوجه بها فقال: سأقتل عمي وآخذ ماله وأتزوج ابنته، فعند ذلك قتله، وهو الذي نزل فيه قصة البقرة التي أمرهم الله بذبحها، فقاموا بعد تردد بذبح البقرة، فأخذ موسى عضواً من أعضائها فضرب به ذلك الميت فحيي وقال: قتلني ابن أخي، ثم عاد ميتاً، فمن ثم حرم القاتل من الميراث حتى ولو لم يكن متعمداً.

وكذلك حوادث السيارات إذا كان الذي يقودها له نسبة من الخطأ ولو قليله، ومات معه أحد أقاربه لم يرث منه، أما إذا كانت نسبة الخطأ كلها على الطرف الثاني؛ فإنه يرث ممن مات معه من أقاربه، أما لو كان متسبباً ولو بجزء قليل من الخطأ، مثل أن يكون على هذا ثمانون في المائة من الخطأ وعليه هو عشرون في المائة، فما دام أن عليه عشرين في المائة فإنه محروم من ميراث من مات معه من أقاربه، أما إذا لم يكن له نسبة، بل الخطأ على الطرف الثاني كله فلا يمنع من الإرث.

المانع الثالث: اختلاف الدين

من المعلوم أن من موانع الإرث: اختلاف الدين، وقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة سنة ثمان قال له أسامة بن زيد : (أين تنزل غداً في مكة؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع، ثم قال: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم).

بيان ذلك أن عقيل بن أبي طالب وهو أخو علي بن أبي طالب لما مات أبو طالب لم يرثه إلا عقيل ، ولم يرث منه علي ولم يرث منه جعفر ؛ لأنهما مسلمان، وعقيل باق على كفره فهو الذي ورث أباه أبا طالب.

قول أسامة : (أين تنزل غداً؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع) الرباع: البيوت والرحبات التي حولها، والأماكن التي كان يملكها أبو طالب ، فورثها بعده عقيل بن أبي طالب واستبد بها، وأسلم وهي له ولم يرث غيره أحد من إخوته.

فدل هذا على أن الكافر لا يرث المسلم ولا المسلم يرث الكافر، فإذا مات ميت كافر فإن ميراثه لقرابته الكفار، فإذا لم يكن له قرابة من الكفار فميراثه لبيت المال ويعتبر فيئاً، وكذلك لو مات رجل مسلم وأقاربه كلهم كفار فماله لبيت المال، لا يعطى أقاربه الذي ليسوا على دينه من ماله شيئاً؛ وذلك لأن الإسلام فرق بين المسلم والكافر، وجعل كلاً منهما بعيد الصلة عن الآخر، قال الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] فجعل الولاية للمؤمن على المؤمن، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73] أي: لا توالوا الكفار بل اجعلوا ولايتهم فيما بينهم، لا تجعلوا ولاية لكم عليهم؛ لأنه لا ولاية ولا قرابة بين مسلم وكافر، فمن آثار قطع الولاية أنهم لا يتوارثون حتى ولو كانوا مجتمعين في بيت واحد أو في بلد واحد.

والكفر هنا هو كل عمل يخرج صاحبه من الإسلام، ولو لم يكن على ملة، فالنصراني الذي أبواه مسلمان لا يرث منهما؛ وذلك لاختلاف الدين، وكذلك لو كان بوذياً وأبواه مسلمان؛ فإنه لا يرثه أبواه ولا يرث هو من أبويه.

وهكذا الديانات أو العقائد الفاسدة مثل: النصيرية الموجودة في سوريا وغيرها، لا شك أنهم كفار فلا يتوارثون مع المسلمين ولو كانوا أقارب لهم.

والقاديانية: وهم يوجدون بكثرة في الهند وفي باكستان ونحوها، لا شك أنهم كفار، فلا يتوارثون مع أقاربهم المسلمين.

الدروز: وهم يوجدون في لبنان وسوريا، لا شك أنهم كفار، فلا يتوارثون مع أقاربهم المسلمين.

وكذلك الباطنية: والباطنية يقول فيهم العلماء: ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، فلا يتوارثون مع أقاربهم المسلمين.

وإذا حكمنا بكفر أهل ملة فإننا نقطع الصلة بينهم وبين أقاربهم، فإذا حكمنا مثلاً بكفر تارك الصلاة المصر على تركها المعاند فيها، الذي لا يصلي أصلاً لا وحده ولا مع جماعة قلنا: لا يرثه أقاربه ولا يرث من أقاربه بل يكون ماله لبيت المال، وإن كنا نحكم بأنه إذا كان كذلك يصير مرتداً، والمرتد لا يقر على ردته، بل يستتاب فإن رجع وإلا قتل.

وكذلك العقائد السيئة التي يكفر بها، وقد ذكر العلماء من العقائد التي يكفر بها: عقيدة الجهمية الذين يبالغون في تحريف القرآن في باب الصفات، وكذلك الذين يقولون بالجبر والإرجاء ونحوها، هؤلاء كثير من العلماء يكفرونهم ويخرجوهم من الإسلام، وعلى هذا فلا يتوارثون مع المسلمين.

وكذلك أيضاً غلاة الرافضة لا شك أنهم كفار، الذين يطعنون في القرآن، أو يطعنون في أجلاء الصحابة الذين نقلوا لنا الدين ويكفرونهم، أو كذلك الذين يشركون ويدعون غير الله تعالى في الشدائد والملمات ونحوها يكفرون، وعلى هذا فلا يتوارثون مع أقاربهم من المسلمين.

فعرفنا بذلك أن الإسلام حث أهله على أن يوالوا كل مسلم ولو كان بعيداً في النسب، ويقاطعوا كل كافر ولو كان قريباً في النسب.