أرشيف المقالات

إبداع محتسبة

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
تبقى البيوت عامرة حية ما بقي فيها ذكر الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت» [1]، ومن أهم أبواب الذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ذكر ذلك النووي في كتابه الأذكار [2].
ولهذا تجد البيوت التي تعمر بالاحتساب، وبالنصح والإرشاد منبع خير لكل البيوت التي بجوارها، ومصدر إحسان لمن فيها ولمن يتصل بهم، وفي القصة التي بين يدينا نعلم هذا حق العلم ، ويستقر في أذهاننا أن الخير يبقى في الأمة ما بقي الاحتساب، وما عاش الناس في ظل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه أحد البيوت التي احتسبت فيه البنت على أمها حيث كانت الأم لا تصلي ولا تلبس الحجاب ، فأصلح الله تلك الأم، وليس هذا بالعجيب فالله يهدي من يشاء على يد من يريد، لكن العجب العجاب هو ما اتخذته البنت من أسلوب جذاب في الاحتساب، وطريقة إبداعية في رد أمها إلى رب الأرباب! نبقى مع تفاصيل القصة التي بطلتها فاطمة.
"كانت فاطمة جالسة حين استقبلت والدتها جارتها التي قدمت لزيارتها، كادت الأم تصعق، وهي ترى ابنتها لا تتحرك من مقعدها؛ فلا تقوم للترحيب معها بالجارة الطيبة الفاضلة التي بادرت -برغم- ذلك إلى بسط يدها لمصافحة فاطمة، لكن فاطمة تجاهلتها ولم تبسط يدها للجارة الزائرة، وتركتها لحظات واقفة باسطة يدها أمام ذهول أمها التي لم تملك إلا أن تصرخ فيها: قومي وسلمي على خالتك، ردت فاطمة بنظرات لا مبالية دون أن تتحرك من مقعدها، كأنها لم تسمع كلمات أمها!
أحست الجارة بحرج شديد تجاه ما فعلته فاطمة ورأت فيها مساً مباشراً بكرامتها، وإهانة لها، فطوت يدها الممدودة، والتفتت تريد العودة إلى بيتها وهي تقول: يبدو أنني زرتكم في وقت غير مناسب!
هنا قفزت فاطمة من مقعدها، وأمسكت بيد الجارة وقبلت رأسها وهي تقول: سامحيني يا خالة؛ فوالله لم أكن أقصد الإساءة إليك، وأخذت يدها بلطف ورفق ومودة واحترام، ودعتها لتقعد وهي تقول لها: تعلمين يا خالتي كم أحبك وأحترمك؟!
نجحت فاطمة في تطيب خاطر الجارة ومسح الألم الذي سببته لها بموقفها الغريب، غير المفهوم، بينما أمها تمنع مشاعرها بالغضب من أن تنفجر في وجه ابنتها.
قامت الجارة مودعة، فقامت فاطمة على الفور، وهي تمد يدها إليها، وتمسك بيدها الأخرى يد جارتها اليمنى، لتمنعها من أن تمتد إليها وهي تقول: ينبغي أن تبقى يدي ممدودة دون أن تمدي يدك إلي لأدرك قبح ما فعلته تجاهك.
لكن الجارة ضمت فاطمة إلى صدرها، وقبلت رأسها وهي تقول لها: ما عليك يا ابنتي؛ لقد أقسمت إنك ما قصدت الإساءة.
ما إن غادرت الجارة المنزل حتى قالت الأم لفاطمة في غضب مكتوم: ما الذي دفعك إلى هذا التصرف؟ قالت: أعلم أنني سببت لك الحرج يا أمي فسامحيني.
ردت أمها: تمد إليك يدها، وتبقين في مقعدك فلا تقفين لتمدي يدك وتصافحيها!
قالت فاطمة: أنت يا أمي تفعلين هذا أيضاً! صاحت أمها: أنا أفعل هذا يا فاطمة!
قالت: نعم تفعلينه في الليل والنهار.
ردت أمها في حدة: وماذا أفعل في الليل والنهار؟! قالت فاطمة: يمد إليك يده فلا تمدين يدك إليه! صرخت أمها في غضب: من هذا الذي يمد يده إليّ ولا أمد يدي إليه؟
قالت فاطمة: الله يا أمي، الله سبحانه يبسط يده إليك في النهار لتتوبي، ويبسط يده إليك في الليل لتتوبي، وأنت لا تتوبين، لا تمدين يدك إليه، تعاهدينه على التوبة .
صمتت الأم، وقد أذهلها كلام ابنتها.
واصلت فاطمة حديثها: أما حزنت يا أمي حينما لم أمد يدي لمصافحة جارتنا، وخشيت من أن تهتز الصورة الحسنة التي تحملها عني؟ أنا يا أمي أحزن كل يوم وأنا أجدك لا تمدين يدك بالتوبة إلى الله سبحانه الذي يبسط يده إليك بالليل والنهار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» [3].
فهل رأيت يا أمي؟ ربنا يبسط إليك يده في كل يوم مرتين، وأنت تقبضين يدك عنه، ولا تبسطينها إليه بالتوبة!
اغرورقت عينا الأم بالدموع، واصلت فاطمة حديثها وقد زادت عذوبته: أخاف عليك يا أمي وأنت لا تصلين، وأول ما تحاسبين عليه يوم القيامة الصلاة، وأحزن وأنا أراك تخرجين من البيت دون الخمار الذي أمرك به الله سبحانه، ألم تحرجي من تصرفي تجاه جارتنا؟! أنا يا أمي أحرج أمام صديقاتي حين يسألنني عن سفورك، وتبرجك، بينما أنا محجبة!
سالت دموع التوبة مدراراً على خدي الأم، وشاركتها ابنتها فاندفعت الدموع غزيرة من عينيها، ثم قامت إلى أمها التي احتضنتها في حنو بالغ، وهي تردد: تبت إليك يا رب، تبت إليك يارب..
[4].
كلمات جذابة، ومواقف مؤثرة، واحتساب إبداعي، وأسلوب راقي، وبيان بليغ، وهمُّ صادق..
بكل ذلك أصبح عندنا منجم من الذهب والأحجار الكريمة التي تحتاج إلى استخراج واستنباط، وتفكر وتأمل، حتى تجتمع لدينا أجمل الحلل التي نتحلى بها ونحن نرتع في رياض الاحتساب، ونسير في ركاب الدعاة إلى العزيز الوهاب، وهذه الحلل هي:
1- إن الهم َّ الذي ما زال يؤرق فاطمة وهو كيف تحتسب على أمها في الصلاة والحجاب؟ وكيف تؤثر عليها؟ وكيف تكون النتائج طيبة؟ كل هذه الأسئلة التي ترددت كثيراً في ذهن فاطمة هي التي أورثت هذه الطريقة في الاحتساب، وهي التي وصلت بها إلى هذا الأسلوب في النصيحة، وهكذا كلما تملكت الفكرة صاحبها فإنه كثيراً ما يبدع، وغالباً ما يصل إلى مراده، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، فإذا كان أمر الاحتساب ودعوة الناس إلى الخير هو هم ذلك المحتسب، وهو ما يشغله صبح مساء؛ فإنه بإذن الله يكون قريباً جداً من النجاح، بل يصل إليه إذا أذن الله - تعالى -، خاصة أن المنكرات التي يُحتسب عليها غالباً ما تكون متشابهة في المجتمعات، ومتقاربة في أوساط الناس، فيفكر في الأساليب المؤثرة، والطرق المجدية، والوسائل النافعة، وليس ذلك عيباً أن يرتب المحتسب أوراقه قبل البدء بالاحتساب، سواء قبل الاحتساب بلحظات، أو قبل الاحتساب بوقت طويل، فينتقي أحسن الأقوال، وأحسن الأفعال، يقول تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53]، فإذا كانت عبارة أحسن من أختها فليقل التي هي أحسن، وإذا كان فعل أحسن من أخيه فليأت الذي هو أحسن وهكذا.
2- إن ضرب الأمثال لمن أعظم وسائل الاحتساب، فقد ضرب الله الأمثال في القرآن لتقريب الأفهام، ولتوضيح المقصود، كما قال تعالى: {وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:25]، وفي السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم نرى أروع الأمثال، كما قال وهو يضرب المثل لحفظ سفينة الأمة من الغرق من المحتسبين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» [5]، وهكذا فعلت فاطمة في هذه القصة حيث ضربت لأمها مثالاً عملياً وصلت بواسطته إلى مرادها، وأوصلت أمها إلى بر الأمان من خلاله.
3- لابد أن يراعي المحتسب الأولويات في الاحتساب؛ فهذه البنت بدأت تحتسب على أمها في أمر الصلاة التي يُعد تاركها كافراً، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة ، ثم ذكرت لها الحجاب كشيء عظيم لابد أن تلتزم به المرأة المسلمة، مع أن الأم قد تكون مرتكبة للكثير من المنكرات، لكن ابنتها بدأت بما هو أولى وأهم، فقبل أن يبدأ أحدنا في نصح شارب الدخان -مثلاً- وقد حان وقت الصلاة، فالأصل أن يحتسب عليه بأمره بالصلاة، ثم يأتي ما بعده مما هو دون ترك الصلاة من المنكرات، وقد يكون الوقت لا يسمع لمعرفة ما إذا كان المحتسب عليه واقع في منكر أكبر من الذي أظهره أم لا، فإن المحتسب بحكمته وبأسلوبه يستطيع معرفة ذلك، ثم يحتسب بما يناسب المقام.
4- تهيئة النفوس لقبول الحق أمر مهم، فكل هذه المقدمة التي أتت بها البنت فاطمة من ضرب المثل، وذكر التوبة، ورحمة الله ومغفرته لمن تاب، كان سبباً عظيماً -بإذن الله تعالى- لقبول الأم للنصيحة، ولتركها لما كانت عليه من منكرات، قد جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر النار فتعوذ منها، وأشاح بوجهه ثلاث مرار، ثم قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة» [6]، وكما قال عليه الصلاة والسلام: «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات؛ هل يبقى من درنه شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنه شيء! قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا» [7]، فقد يقدم المحتسب بين يدي احتسابه شيئاً من العبارات الطيبة، كالتذكير بعظمة الله تعالى، أو التخويف من عقابه، أو ذكر الجنة والنار، أو غير ذلك بما يناسب الحال، أو قد يقدم بعمل يعمله كأن يقوم بالابتسامة في وجه المحتسب عليه، أو إعطائه شيئاً من المرطبات، أو الضيافة السريعة، أو التصرف أمامه بفعل ملفت ظاهره الاستنكار وفيه العظة والاعتبار -كما فعلت بطلة قصتنا فاطمة- لكن مع الحذر من الوقوع في منكر آخر في ذلك الفعل، فلعل ما قامت به فاطمة في القصة فعل جميل لكن الأجمل أن يكون مثل ذلك بدون جرح مشاعر الآخرين، أو إلحاق الضرر بهم، أو الوقوع في محظور شرعي.
اللهم أصلحنا وأصلح بنا، واهدنا واهد بنا، اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا من أنصار دينك، ومن أتباع نبيك محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] رواه مسلم برقم (779).
[2] الأذكار للنووي ص (261).
[3] رواه مسلم برقم (2759).
[4] موسوعة القصص الواقعية، الرابط: "http://www.gesah.net/mag/show.php?id=1292".
[5] رواه البخاري برقم (2493).
[6] رواه البخاري برقم (6023)، ومسلم برقم (1016)، واللفظ له.
[7] رواه البخاري برقم (528)، ومسلم برقم (667)، واللفظ له.


عادل محمد هزاع الشميري

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١