الإنسان بين الفطرة والاختيار
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
الإنسان بين الفطرة والاختيارالإنسان هو مَحِلٌ لخطاب الرب - تعالى - فمِن أجْله أُنزلت الكتب، وشُرعت الشرائع، وسُخِّر ما في السماوات وما في الأرض جميعًا له، فالإنسانية جمعاء مخاطَبة بالإسلام، فهو ليس رسالة خاصة إلى جنس مخصوص أو بلد معين، فهو رسالة للعالمين، وهو دين الله - تعالى - ودين جميع الرسل والأنبياء؛ ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 84]، ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19].
فمن التقوُّل على الله - تعالى -: أنً الإسلام لن يسَع البشرية جمعاء، في حين أن لو اهتدوا إليه أجمعون - وليس بوسع أحد أن يوسوس في ذلك - كيف وقد أمَر نبيَّه أن يدعو الناس إليه: ﴿ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [الأنبياء: 108]، بل قد رتَّب الأجر الجزيل، والنعيمَ المقيم على الإيمان بذلك؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 62].
ولم يقف الإسلام حَجَرَ عَثْرَة أمام أحدٍ، ولم يكن عائقًا وسدًّا منيعًا لمن أراده، أو يكون حِكْرًا على فئةٍ من بني الإنسان يُعطَون الصُّكوك ويُحرَم غيرهم، كلا، "فالإسلام ليس كغيره من مختلف الديانات والتي قد سميت بأسمائها إمَّا إلى رجل أو أمَّة معينة؛ كالمسيحية التي أخذت تسميتها نسبةً إلى المسيح، واليهودية نسبة إلى قبيلة تُعْرَف بيهوذا فسُمِّيَت باليهودية، وكذلك البوذية نسبة إلى مؤسِّسها بوذا، وهَلُمَّ جرًّا، بينما تجد أن الإسلام لم يُنْسَب إلى رجل خاصٍّ أو أمَّةٍ بعينها، وإنما يدلُّ على صفة تضمنها كلمة (الإسلام)، فإذا رجعنا إلى اللغة نجد أن معناه هو: الانقياد والامتثال لأمر الآمر ونهيه بلا اعتراض، فكلُّ مَن اتَّصف بهذه الصفة مِن غابر الناس وحاضرهم ومَن سيتحلى بهذه الصفة هو مسلم.
وعندما ننظر إلى الكون طُرًّا نجده يدين بدين الإسلام، فالشمس، والقمر، والنجوم، وكذلك الماء، والهواء، والنور، والجمادات، والنباتات، والحيوانات، والأرض، والسماء - مذعنة لقانون خاصٍّ وقاعدة مُطَّرِدة مِن سُنن الله الكونية، فلا قِبَل لها بالحركة عنها والخروج ولو قَيْدَ شعرة، حتى الإنسان نفسه مذعن لتلك القوانين المنظِّمة لحياته كغيره من المخلوقات"، بتصرف من كتاب "مبادئ الإسلام".
فالإنسان الذي لا يَعرف ربَّه بل يَجحد وُجودَه، ويُنكر آياته، ويُشرك معه غيره - هو مسلم من حيث فطرته التي فُطر عليها، كما بيَّن ذلك رسولنا الكريم - عليه الصلاة والسلام - في قوله : ((ما مِن مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تنتج البهيمةُ بهيمةً جمعاء هل تحسُّون فيها مِن جدعاء؟))، ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30].
والفطرة التي فطر الله عليها الإنسان هي الإسلام، فإنه - تعالى - لم يخلقه كافرًا ولا مشركًا كما يتوهم البعض، فهو مُنْقَادٌ لقانون الفطرة مجبول على اتِّباعه، وكذلك أُوتِي العقل وقوةَ الفهم والتأمُّلَ والرأيَ، فهو غير مقيَّد، فقد أوتي حريَّة الفكر والاختيار في الرأي والعمل؛ ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]، ولا يخلو أيُّ إنسان من أن يخلقه الله - تعالى - على الفطرة ويمنحه الاختيار؛ حيث يكون في الأولى مسلمًا قد جُبِل على الإسلام الذي فُطِر على الالتزام به، شأنه شأن غيره من المخلوقات في هذا الكون.
وفي الأخرى هو بالخيار كونه مسلمًا أو غير مسلم، وهذه هي الخِيَرة التي مكَّن الله العبد منها؛ ليختار طريقه وسَيْره في الحياة، فالخِيَرَة التي مُكِّن العبد منها يكون الناس فيها على مفتَرَق طُرق، بين إنسان أَعْمَل فكره وعقله، وعرف خالقة وآمن به ربًّا وسيِّدًا لنفسه، واتَّبع قانونه الشرعي في حياته الاختيارية كما هو تابعٌ لقانونه الطبيعي في حياته الجبرية، فهذا هو المسلم الذي قد استسلم رغبةً وطواعيةً، وأصبح طائعًا لربه ومنقادًا لشرعه، وقضى ألا يعبد إلا الله، فهذا هو الذي استكمل إسلامه؛ لأن حياته أصبحت الإسلام بعينه، وأصبح صادقًا مع الله ومع نفسه ظاهرًا وباطنًا.
وفي مقابله إنسانٌ آخر، وُلِد مسلمًا وعاش الإسلام الكونيَّ، إلَّا أنَّه لم يشعر بإسلامه، ولم يُعمِل قوَّته العلمية والعقلية ليعرف مَن خلَقه ورزَقه وشقَّ سمعه وبصره، فأنكر وجوده، واستكبر عن عبادته، وأبى أن ينقاد لقانونه الشرعي فيما أُوتِي مِن حق التصرُّف والاختيار في أمور حياته، وأبى أن يؤمن بآياته الدالَّة على وحدانيته، وهذا هو الكافر.
والكفر هو: الستر والتغطية والمواراة، فيقال لمثل هذا الرجل: كافر؛ لأنه ستر فطرته وغطَّاها بغطاءٍ من الجهل والسَّفَه؛ حيث إنه ما وُلِد إلا على فطرة الإسلام، فهو لا يستخدم قواه العقلية والعلمية إلا فيما يخالف فطرته، ولا يرى إلَّا ما يناقضها، ولا يسعى إلا فيما يبطلها.
بهذا يتبيَّن سبب وقوع الكافر في الضلال والغيِّ المبينين، وتتَّضح معالم الإنسان بين الفطرة والاختيار، ومدى قدرة العبد على السعي لجلب منافعه ودفع مضارِّه.
ومع تفريط الإنسان في استخدام حواسِّه وإعمالها في التفكير، وما أعطاه الربُّ مِن الاختيار وحرية الفكر لا يعفيه هذا مِن المطالبة بالنظر وتصحيح تصوُّراته وخواطره المُجَانِبَة للصواب، والتطلُّع إلى معرفة التصوُّر الصحيح عن الإله والكون.
بَيْدَ أن هناك طوائف تُعْفِي الإنسان مِن السعي والبحث للوصول إلى الحقيقة، وأنه ليس بوسعه أن يختار أسباب الهداية، ويتجنَّب أسباب الغَواية، وأنه قد قُضي من ذلك في اللوح المحفوظ، وهؤلاء قد أفرطوا في تحكيم عقولهم حتى ضلُّوا سواء السبيل، فمع أن إعمال العقل البشري مطلَبٌ لتسيير حياة صاحبه، إلا أن له حدودًا ليس بوسعه تجاوزها، إذ الإقدام على ذلك يَعْتَوِرُه كثيرٌ مِن الشبهات تحُول دون الوصول إلى معرفة الحق.
إن العقل عاجزٌ عن إدراك مصالحه ومضارِّه، فكيف إذا كان العبد قد غطَّى فطرته بالجهل والسَّفَهِ؟! فأنَّى له الاطلاع إلى ما حُظِر عنه عِلمه وقصر به فهمه مِن أن الله قد أعدَّه مِن الأشقياء؟! فإن هذا مخالف لما اتَّفقتْ عليه جميع الرسل، وتواطأتْ عليه جميع الكتب الإلهية، ولم تَقبَل به الفِطَرُ والعقولُ السليمةُ مِن أن الله له في قضائه وقَدَرِه العِلم بالأشياء قبْل وقوعها وكتابته لها ومشيئته بها وخلقه لها، ليس لمخلوق - سواء كان ملَكًا مقرَّبًا أم نبيًّا مرسلًا - أن يكشف عن حقيقة قضائه وقدره.
إنه مِن الرجم بالغيب والضلال البعيد أن يدَّعي الإنسان الاطلاع على ما قدَّره - سبحانه - بل هو مُطالب بالعمل، والكلُّ ميسَّر لِما خُلِق له، وحُجَّة أن الله قد كَتَبَهُ مِن أهل الشقاوة وليس بوسعه العمل - شبهةٌ داحضة أبطَلَها رسولُ ربِّ العالمين - عليه الصلاة والسلام - بقوله: ((اعملوا، فكلٌّ ميسَّر لِما خُلِق له))؛ متفق عليه.
إن الذين يُقْحِمُون أنفسَهم ويَفترضون أنهم مِن أهل الشقاوة وأهل النار، وأن الله - تعالى - ليس له تغيير ما كتب، ليس هذا إلا تَنَصُّلًا مِن العمل وهروبًا من التكاليف، وتبريرًا للوقوع فيما حرَّم الرب - تعالى - والتمادي في الضلال والكفر، وإلا فليجعلوا أنفسهم أنهم مِن أهل السعادة وأهل الجَنَّة، ويعلمون أنهم مُطالَبون بعمل أهل الجَنَّة فيعملون بعملهم، وعليهم أن يَعْرِضوا قولهم هذا على دعاء عمر - رضي الله عنه - حيث كان يقول في دعائه: "اللهم إن كنتَ كتبتني شقيًّا فامحني واكتبني سعيدًا، فإنك تمحو ما تشاء وتُثْبِت"، فالرب - تعالى - فعَّال لما يريد لا حجر عليه.
ولم يكن للإنسان يومًا منأًى عن الأوامر والنواهي؛ فالكافر مع كفره هو مطالبٌ بالإيمان، والطلب داخلٌ تحت قدرته واستطاعته ولم يُتْرَك سُدًى، قال ابن القيم: "وقد فهمنا بضرورات المعقول مِن الشرع المنقول أنه - عزَّت قدرته - طالَب عباده بما أخبر أنهم ممكَّنون مِن الوفاء به، فلم يكلِّفهم إلا على مبلغ الطاقة والوسع في موارد الشرع"، "شفاء العليل" ص 123.
ثم إنَّ جَعْلَ اللهِ - تعالى - بعد ذلك الناسَ الكافر منهم والمؤمن، وأهل الجَنَّة وأهل النار - ليس عبثًا؛ فهو منزَّه عن ذلك، وليس ظلمًا؛ فالله - تبارك وتعالى - قد حرَّم الظلمَ على نفسه، وجعله بين العباد محرَّمًا، وجعل حُكمه بين الفضل والعدل لا يُسْأَل عما يفعل - سبحانه - وهو - سبحانه - يهدي مَن يشاء بفضله، ويضلُّ مَن يشاء بعدله، وله الحكمةُ البالغةُ، وله في خلقه شؤون، ليس للعقول غير التسليم.
قال الإمام الطحاوي: "فمَن رامَ عِلْمَ ما حظر عنه عِلْمُهُ، ولم يَقْنَع بالتسليم فهْمُه - حَجَبَه مرامُه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان"، "الطحاوية" ص 460.
فالله - تبارك وتعالى - علي كل شيءٍ قدير، إلَّا أن قدرته - تعالى - مقرونة بحكمةٍ متناهية، والحكمة معناها: وضْع الشيء في موضعه، فالله قبَض مَن يستحقُّ السعادة بيمينه مِنَّةً وفضلًا، وقبَض مَن يستحق الشقاوة بشماله عدلًا وقسطًا، وبهذا يزول همُّ المُسَائلة التي قد تعتري البعض، التي لا تكون إلَّا في حقِّ المخلوق لا في حق الخالق؛ قال - سبحانه -: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23].
قال ابن أبي العز: "اعلَمْ أن مبنَى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع"، "شرح الطحاوية" ص 143.
فالكون وما أَوْدَع اللهُ فيه مِن مخلوقات متنوِّعة ومتضادَّة تتجلَّى فيها قدرته - سبحانه - وعفوُه وحكمتُه وعدلُه وفضلُه وإحساُنه وآثارُ أسمائه - جل في عُلاه - تكون للعبد محلًّا للتفكُّر وزيادة للإيمان، والتخلُّصِ مِن التنكُّرِ وضَرْبِ آياتِ اللهِ بعضها ببعض.
قال ابن القيم : "وقد اقتضَت حكمة أحكَمِ الحاكمين أن أقام في هذا العالَم لكل حقٍّ جاحدًا، ولكل صواب معاندًا، كما أقام لكل نعمة حاسدًا، ولكل شرٍّ رائدًا، وهذا مِن تمام حِكمته الباهرة، وقدرته القاهرة؛ ليُتِمَّ عليهم كلمته، ويُنْفِذ فيهم مشيئته، ويُظْهِر فيهم حكمته، ويقضي بينهم بحكمه، ويُفَاضِل بينهم بعِلمه، ويُظْهِر فيهم آثارَ صفاته العُليا وأسمائه الحُسْنَى، ويتبيَّن لأوليائه وأعدائه يوم القيامة أنَّه لم يَخلق إلا لِحكمة، ولم يَخلق خلْقه عبثًا، ولا يَتركهم سُدًى، وأنه لم يَخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلًا، وأن له الحمدَ التامَّ الكامل على جميع ما خَلَقه وقدَّره وقضاه، وعلى ما أمر به ونهى عنه، وعلى ثوابه وعقابه، وأنه لم يَضع من ذلك شيئًا إلا في محلِّه الذي لا يَليق به سواه؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 109]، "شفاء العليل" ص 217.
فكلَّما تمعَّن الإنسانُ في هذا الكون، ونظر إلى النواميس الإلهية والقوانين الربانية في تسيير هذا الكون، ونظر إلى نفسه بجميع مراحلها مُذْ تكوينه، مرورًا بحياته الدنيوية، وانتهاءً بحياته الأخروية – عرف دون شك أن العقيدة الإسلامية هي أقربُ عقيدة إلى العقل مِن بين جميع العقائد التي تُوجد اليوم، فليس فيها شيءٌ يُخالف العقل أو يكُون مِن المستحيل وجوده.