شرح أخصر المختصرات [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فالفقه في الدين من نعم الله تعالى التي يخص بها من شاء من عباده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) .

والفقه هو: الفهم للنصوص من الآيات والأحاديث، واستنباط الأحكام منها، وهذا الفهم هو هبة من الله تعالى ممن شاء الله تعالى ولمن هداه وميزه بهذا الفهم، والناس يتفاوتون في هذا الفهم، فمن مقل ومن مستكثر، وسبب الفهم فتح من الله تعالى وتوفيق، وقوة إدراك، وقوة حفظ واستنباط، وذلك مما يتفاوت فيه الناس.

وقد انقسم العلماء رحمهم الله بالنسبة إلى العلم والحديث إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: وهبهم الله تعالى الحفظ، فهم حفاظ، يحفظون النصوص، ويحفظون الأحاديث، ويحفظون الأسانيد، حفظ الله تعالى بهم هذه الشريعة من أن يُفقد منها شيء، ويُضرب بحفظ كثير منهم المثل، ولم يكونوا يكتبون، كما روي عن عامر بن شراحيل الشعبي أنه قال: (ما كتبت سوداء في بيضاء) يعني: أن كل ما روي عنه فإنه من حفظه.

القسم الثاني: وهبهم الله الفهم والإدراك، بحيث يستنبطون الأحكام من الأدلة، فيأتيهم الحديث وهم لا يحفظونه ولكن يُكتب لهم الفهم فيه، فيستخرجون منه عشرات المسائل، وأنه يدل على كذا، ويفهم منه كذا، ويستنبط منه كذا.

القسم الثالث: الذين جمعوا بين ذلك، فرزقهم الله الحفظ، ورزقهم الفهم.

القسم الرابع: الذين نقص حظهم من الاثنين: من الحفظ ومن الفهم.

قال الشاعر:

فرب ذي حرص شديد الحب للعلم والفهم بليد القلب

معجّز في الحفظ والرواية ليست له عمن روى حكاية

وآخر يُعطى بلا اجتهاد حفظاً لما قد جاء في الإسناد

والعلم قد يرزقه الصغير في سنه ويحرم الكبير

فإنما المرء بأصغريه ليس برجليه ولا يديه

لسانه وقلبه المركب في صدره وذاك خلق عجب

ذكر العلماء أن الإمام أحمد رحمه الله جمع بين الحفظ والاستنباط، فرزقه الله الحفظ، ورزقه الفهم، فهو كان -كما ذكر أبو حاتم الرازي - يحفظ ألف ألف حديث، وكذلك أيضاً كان يجيب على المسائل المتعلقة بالحديث، وقد مدحه الصرصري في قصيدته اللامية بقوله:

حوى ألف ألف من أحاديث أسندت وأثبتها حفظاً بقلب محصّل

أجاب على ستين ألف قضية بأخبرنا لا عن صحائف نقّل

أي: أنه عرضت عليه ستون ألف مسألة، فأجاب عنها من حفظه بأخبرنا فلان وحدثنا فلان، ولم يرجع إلى الكتب، ولا إلى الصحائف، ولما كان كذلك كان هو إمام أهل السنة، فمذهبه أقرب المذاهب إلى الحق وإلى السنة، والعلماء الآخرون لا نبخسهم حقهم، بل نقول: إنهم على خير.

فـأبو حنيفة رحمه الله كان قليل الحفظ، لم يذكر بالحفظ ولا بالأحاديث، ولكنه كان قوي الفهم وقوي التعليل، ومعرفته بكيفية الاستدلال أمر يفوق غيره، وقد اهتم تلامذته بتسجيل مسائله التي سئل عنها، فممن سجلها من تلامذته أبو يوسف ومحمد بن الحسن ، ثم اشتهر مذهبه بسبب تلك الكتب التي سجلت فيها مذهبه.

وأما الإمام مالك فهو بلا شك محدث وحافظ، ولكنه لم يتوسع في الحديث، إنما كان حديثه ما رواه عن أهل المدينة وما حفظه عنهم، ومع ذلك فإنه أيضاً قد استنبط مسائل، وألف كتابه (الموطأ)، وذكر فيه كثيراً من الآراء التي نقلها عن أهل المدينة، وتتلمذ عليه بعض التلامذة، فألفوا مسائله، وعمدتهم في مذهبه النقل، وقد اشتهر مذهبه واشتهر الذين تمذهبوا به في المغرب.

وأما الشافعي رحمه الله فهو أيضاً تتلمذ على مالك، وأخذ عنه (الموطأ)، وكذلك أيضاً أخذ عن غيره، ولكنه لم يكن من أهل الحفظ ومعرفة الصحاح من الأحاديث؛ ولذلك كان يقول لتلميذه الإمام أحمد : (إذا صح الحديث عندكم فأخبرنا حتى نعمل به)، ولكن رزقه الله تعالى الفهم، فهو يستنبط كثيراً، كما تدل على ذلك كتبه التي كتبها والتي أملاها، فكتبه كتب فقه.

وأما الإمام أحمد فلم يكن يكتب في الفقه، وإنما كان يكتب في الأحاديث أو يكتب في العقيدة، وكره كتابة الفقه والمسائل الفقهية، وأحال تلامذته إلى أن يأخذوا من حيث أخذ؛ ولعل السبب أنه رأى أن كثيراً من الذين كتبوا اختلفوا.

فمثلاً: كتب أبي حنيفة فيها خلاف لمن بعده، وكتب مالك فيها خلاف لمن قبله ولمن بعده، ومسائل الثوري كذلك.. وهكذا.

ومع ذلك فإن تلامذته كتبوا مسائله التي نقلوها عنه شفاهاً، والتي حضروها؛ في أكثر من ثلاثين مجلداً، يوجد بعضٌ منها، كمسائل أبي داود ، ومسائل ابنه صالح ، ومسائل ابنه عبد الله ، ومسائل إسحاق بن إبراهيم بن هانئ وغيرها، ولكن أكثرها لم توجد، إما فقدت أو أخذت؛ وذلك لأن الإمام أبا بكر الخلال تتبع مسائل الإمام أحمد، وجمعها في جامع كبير، ورتبها، وقال: نقل حنبل كذا ونقل ابن منصور كذا، ونقل البرزاطي كذا، ونقل ابن هانئ كذا، إلى أن بلغت نحواً من عشرين مجلداً.

ثم جاء بعده ابن حامد فجمع ما فات الخلال، واجتمعت له مسائل كثيرة، ثم كاد مذهب أحمد أن ينطمس وينمحي؛ وذلك لأن أهل القرن الرابع تركوا العقيدة السلفية، واعتنقوا مذهب الأشعري ، ومذهب الكرامية ومذهب الكلابية، واشتهر أيضاً مذهب الاعتزال، وأصبح كلام أحمد ومذهب أحمد غريباً، وأصبح من تمذهب بمذهبه يُتهم بأنه مشبه، وبأنه ممثل، وبأنه حشوي، وبأنه وبأنه، فقل أصحاب أحمد ، وقل الذين اعتنقوا مذهبه، وصاروا لا يخرجون ولا يصرحون بمذهبهم إلا خفية.

وفي ذلك الزمان ألف الخرقي مختصره، وهو من أهل العراق، ثم انتشر مذهب الاعتزال ومذهب الرفض هناك، فهرب إلى الشام، وبقي في الشام حتى مات. وكان مذهب أحمد في الشام أكثر؛ بسبب توارث أهل الشام لمذهب الإمام أحمد ، وكان يوجد المذهب أيضاً في العراق وفي مصر ولكنه قليل، وما زال كذلك إلى هذه الأزمنة؛ فإن الحنابلة أكثر ما يوجدون في الشام في حلب، وفي دمشق، وفي بعلبك، ونحوها.

وكان أهل نجد جهلة، وبعضهم يذهبون ليتعلمون، فمن ذهب إلى مصر تعلم مذهب الشافعي ، ومن ذهب إلى الشام تعلم مذهب الحنابلة، ومن ذهب إلى تركيا ونحوها تعلم مذهب الأحناف، وكان أئمة الدعوة حنابلة؛ لأنهم كانوا يتعلمون هذا المذهب من علماء الشام، وكان في الشام حنابلة إلى العهد القريب، ومن آخرهم الحنبلي المشهور بـابن بدران الذي خدم المذهب الحنبلي، ومنهم أبو عبد الله محمد بن بدر الدين البلباني من علماء الحنابلة في القرن الحادي عشر، ألف كتاباً سماه (كافي المبتدي)، واشتهر هذا الكتاب، ورأى أن فيه زيادة، وأن فيه ترتيباً أحسن مما قبله كزاد المستقنع ونحوه، ثم اختصره وسماه (أخصر المختصرات)، وكلاهما للبلباني ، و(كافي المبتدي) شرحه أيضاً معاصر المؤلف وهو أحمد بن عبد الله بن أحمد البعلي الحلبي وسمى شرحه (الروض الندي بشرح كافي المبتدي)، وهو مطبوع في مجلد كبير.

ثم إن أخاه عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد البعلي الحنبلي شرح (أخصر المختصرات) وسماه (كشف المخدرات)، فهذان أخوان شرحا هذين الكتابين اللذين ألفهما للبلباني ، وكلاهما في القرن الحادي عشر، وكانا في دمشق أو في حلب.

ولا شك أن هذا دليل على عناية الحنابلة بمسائل الفقه، وسبب ذلك: أنهم تميزوا بالفقه الحنبلي واختصوا به، فلذلك الحنابلة المتقدمون والمتأخرون ما تجد مؤلفاتهم غالباً إلا فيما يتعلق بالفقه، وقليل منهم من يؤلف في غيره، إلا العلماء الفطاحلة الكبار كالإمام أحمد رحمه الله، وكذلك بعض تلامذته كابنه عبد الله، والخلال وابن بطة ونحوهم ممن كتبوا في المسائل الأخرى.

وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم ، فهما من الحنابلة، ولكن لهم اختيارات قد يخالفون فيها المشهور عن الحنابلة في الفقه.

هذا الكتاب يقول فيه مؤلفه: إنه لن يجد ما هو أخصر منه، يعني: في زمانه لم يجد أخصر منه، فهو مؤلف على أبواب الفقه، ومسائله قريبة من مسائل كتب الفقه في (زاد المستقنع)، والغالب أنه لا يخرج عن مسائل الزاد، وإنما يغير صيغتها، وقد يحذف منها بعض الأشياء، وبعض الجمل التي ليست مشهورة.

ولعلنا نقتصر في شرح هذا الكتاب على تحليل المسألة والتمثيل لها إذا احتاجت إلى ذلك، والإشارة إلى الحكم، والإشارة إلى الخلاف إذا كان قوياً.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الطهارة.

المياة ثلاثة:

الأول: طهور وهو: الباقي على خلقته، ومنه مكروه كمتغير بغير ممازج، ومحرم لا يرفع الحدث، ويزيل الخبث وهو: المغصوب، وغير بئر الناقة من ثمود.

الثاني: طاهر لا يرفع الحدث، ولا يزيل الخبث، وهو المتغير بممازج طاهر، ومنه يسير مستعمل في رفع حدث.

الثالث: نجس يحرم استعماله مطلقاً، وهو ما تغير بنجاسة في غير محل تطهير، أو لاقاها في غيره وهو يسير، والجاري كالراكد، والكثير قلتان، وهما مائة رطل وسبعة أرطال وسبع رطل بالدمشقي، واليسير ما دونهما.

فصل:

كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله إلا أن يكون ذهباً أو فضة، أو مضبباً بأحدهما، لكن تباح ضبة يسيرة من فضة لحاجة، وما لم تعلم نجاسته من آنية كفار، وثيابهم طاهرة، ولا يطهر جلد ميتة بدباغ، وكل أجزائها نجسة إلا شعراً ونحوه، والمنفصل من حي كميتته.

فصل:

الاستنجاء واجب من كل خارج إلا الريح والطاهر وغير الملوث، وسن عند دخول خلاء قول: (باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) وبعد خروجه منه: (غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) وتغطية رأس وانتعال وتقديم رجله اليسرى دخولاً، واعتماده عليها جالساً، واليمنى خروجاً عكس مسجد ونعل ونحوهما، وبعد في فضاء، وطلب مكان رخو لبول، ومسح الذكر باليد اليسرى إذا انقطع البول من أصله إلى رأسه ثلاثاً، ونثره ثلاثاً.

وكره دخول خلاء بما فيه ذكر الله تعالى، وكلام فيه بلا حاجة، ورفع ثوب قبل دنو من الأرض، وبول في شق ونحوه، ومس فرج بيمين بلا حاجة، واستقبال النيرين.

وحرم استقبال قبلة واستدبارها في غير بنيان، ولبث فوق الحاجة، وبول في طريق مسلوك ونحوه، وتحت شجرة مثمرة ثمراً مقصوداً.

وسن استجمار ثم استنجاء بماء، ويجوز الاقتصار على أحدهما، لكن الماء أفضل حينئذٍ، ولا يصح استجمار إلا بطاهر مباح يابس منقٍ، وحرم بروث وعظم وطعام وذي حرمة ومتصل بحيوان. وشرط له عدم تعدي خارج موضع العادة، وثلاث مسحات منقية فأكثر.

فصل:

يسن السواك بالعود كل وقت إلا لصائم بعد الزوال فيكره، ويتأكد عند صلاة ونحوها، وتغير فم ونحوه، وسن بداءة باليمين فيه، وفي طهر وشأنه كله، وادهان غباً، واكتحالٍ في كل عين ثلاثاً، ونظر في مرآة، وتطيب، واستحداد، وحف شارب، وتقليم ظفر، ونتف إبط.

وكره قزع، ونتف شيب، وثقب أذن صبي.

ويجب ختان ذكر وأنثى بعيد بلوغ مع أمن الضرر، ويسن قبله، ويكره سابع ولادته، ومنها إليه]

جعل المؤلف المياه ثلاثة أقسام، وهذا اختيار أكثر الفقهاء، وذهب كثير من المحققين إلى أن الماء قسمان: طهور، ونجس، وأن الحد الفاصل بينهما هو التغير بالنجاسة، والذين قسموها إلى ثلاثة، عرفوا الأول: بأنه الباقي على خلقته، كمياه الآبار والأنهار والأمطار والبحار، هذا هو الباقي على خلقته.

يقولون: ومنه مكروه، كالذي تغير بغير ممازج، الممازج هو: الذي يخالط الشيء؛ لأنه يختلط بالماء، ولا يمكن تصفيته منه، فإذا كان غير ممازج له فإنه مكروه مع كونه طهوراً، فإذا صب عليه لبن فإنه يمازجه، ولا يمكن تخليصه منه، وإذا صب عليه دهن فإنه لا يمازجه، بل يطفو فوقه ويمكن تصفيته، فيريد بغير الممازج مثل الدهن، والزيت، والكافور ونحوها، فيقول: إذا تغير بمثل هذه الأشياء فإنه طهور، ولكنه مكروه؛ لأنها قد تظهر رائحتها.

وقد يكون محرماً يزيل الخبث، أو يزيل الخبث ولا يرفع الحدث، وهو المغصوب.

والمغصوب اختلف فيه، هل يرفع الحدث أم لا؟

والصحيح: أنه يرفع الحدث، ويزيل الخبث؛ وذلك لأنه يستعمل لهذه الأعضاء فينظفها، لكن نقول: إن الغاصب آثم، ومذنب، ولا نقول: بطل وضوءه إذا توضأ بهذا الماء المغصوب، بل وضوءه صحيح، وإذا صلى في أرضٍ مغصوبة فصلاته صحيحة، ولا يؤمر بالإعادة، ولكنه آثم بسبب الغصب، فينبغي التنبه إلى أن المغصوب يرفع الحدث مع كون صاحبه آثماً باستعماله، ونقول له: إن شربته، وإن أرقته، وإن توضأت به، وإن غسلت به إناءً، وإن غسلت به نجاسة؛ فأنت آثم، ولكن لا تبطل طهارتك، والإثم هاهنا متعلق بوصف، إلا إذا كان مضطراً، ومنعه صاحبه بغير حق، فإن له أن يغصبه لينقذ نفسه إذا كان مضطراً إلى شرب ويخشى الموت عطشاً، فله أن يغصبه بقيمته.

قوله: (وغير بئر الناقة من ديار ثمود) وديار ثمود هي التي تعرف الآن بمدائن صالح، ذهب كثير من العلماء إلى أن الآبار كلها لا يتوضأ منها إلا بئر الناقة، واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم لما وردوها نهاهم أن يشربوا منها، والذين عجنوا من تلك الآبار علفوا نواضحهم وداوبهم بذلك العجين، والذين ارتووا أراقوا ما ارتووا به.

ثم إن بعض العلماء قال: إن هذا من باب الزجر، ولذلك قال: (أن يحل بكم ما حل بهم) والصحيح: أن الحدث يرتفع بها، أصغر أو أكبر، سواء بئر الناقة أو غيرها، وإنما النهي هنا من باب الزجر.

الماء الطاهر الذي هو طاهر غير مطهر لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس، وهو المتغير بممازج، والممازج هو: المخالط، فإذا صب عليه لبن، أو صب عليه مرق، أو صب عليه حبر، فإنه ممازج، فمثل هذا لا يرفع الحدث، لكن إذا قيل: إن المياه قسمان فهذا لا نسميه ماءً؛ لأنه تغير اسمه، فنقول: هذا مرق، أو نقول: هذا لبن إذا رأيناه أبيض، أو نقول: هذا (شاي) أو قهوة، ونقول: هو طاهر في نفسه، ولكن لا يسمى ماءً، والوضوء إنما يكون بالماء، قال تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43]، وقال: وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً [الفرقان:48]، فعلى هذا لا يدخل في مسمى الماء؛ لأنه تغير بما مازجه.

وقد اختلف في المستعمل، فإذا توضأت، وجمعت الماء الذي مر على جسدك في طست، فهل هذا الماء الذي تصاب من أعضائك طهور أو طاهر؟ يقولون: إنه طاهر غير طهور، والصحيح: أنه طهور، ولكن لا يشرع أن يتوضأ به، ولا أن يغتسل به؛ لأنه قد رفع به حدثاً فلا يرفع به حدثاً آخر، ولأنه لو كان يستعمل مرة ثانية ما فرط النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بإتلافه، ولما كانوا يتوضئون ويتركون ماء الأعضاء ينصب على الأرض لتشربه، فلو كان ينتفع به مرة ثانية لكانوا تلقوه وتلقفوه.

وبكل حال الماء المستعمل لا يُرفع به حدث آخر ولو كان طهوراً.

الثالث: النجس الذي يحرم استعماله، وتعريفه هو: ما تغير بنجاسة في غير محل تطهير، أو لاقاها في غيره وهو يسير.

يقول: (إذا تغير بنجاسة) التغير يكون بأحد أوصافه: إما اللون أو الريح أو الطعم، وورد في حديث بئر بضاعة: (الماء طهور لا ينجسه شيء -وفي رواية ضعيفة- إلا ما تغير طعمه أو ريحه أو لونه بنجاسة تحدث فيه) ذكر هذه الرواية في (بلوغ المرام)، وضعفها كثير من العلماء، وهي من حديث أبي أمامة وغيره، ولكن يقول الإمام أحمد : العمل عليها؛ وذلك لأن الميتة نجسة، فإذا ظهر أثر الميتة في الماء فإنه ينجس، وكذلك الدم نجس والبول نجس فإذا ظهر أثر البول أو الدم في هذا الماء لوناً أو ريحاً أو طعماً فإنه ينجس، ولا يجوز استعماله.

وأما إذا لاقاها في محل التطهير فهو طاهر. صورة ذلك: نجاسة الكلب تغسل سبعاً، ومحل التطهير آخر غسلة، فإذا كان في آخر غسلة فإن المكان قد طهر، فالماء الذي ينفصل في آخر غسلة يُعتبر طاهراً، وكذلك الثوب إذا كان فيه نجاسة، فالغسلة الأخيرة التي يكون الثوب طاهراً بعدها يعتبر الماء الذي ينفصل عنها طاهراً.

يقول: (والجاري كالراكد) فإذا كان نجساً عليه أثر النجاسة فلا فرق بين كونه يجري أو كونه راكداً.

ثم إن الفقهاء قسموا الماء إلى يسير وكثير، وحددوا اليسير بأنه قلتان فأقل، وأن ما فوق القلتين أو ما بلغ القلتين هو الكثير، وقالوا: القلتان: هي الحد الأعلى لحمل النجاسة، فإذا كان الماء دون القلتين فوقعت فيه نجاسة يسيرة ولم يتغير فإنه يعتبر نجساً، وإذا كان كثيراً فلا ينجس إلا بالتغير، هذا هو كلامهم، فيقولون: إذا كان الماء دون القلتين -يعني: قربتين أو ثلاث قرب- ووقعت فيه ميتة فإنه ينجس، أو وقع فيه قطرات بول أو دم ولكنها لم تظهر ولم يظهر أثرها فإنه يعتبر نجساً، ويستدلون بحديث القلتين: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، أو (لم ينجس) ومفهومه أنه إذا كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث، ويظهر أثر النجاسة فيه، فلا يتوضأ به، ثم قدروا القلتين بخمس قرب، وقدروهما بمائة رطل وسبعة أرطال وسبع رطل بالدمشقي، والرطل ميزان كان معروفاً عندهم.

والصحيح في هذا هو: أن الماء قليله وكثيره طهور حتى يظهر أثر النجاسة فيه، وأنه لا فرق بين القلتين وما فوق القلتين وما دون القلتين، ولا فرق بين القليل والكثير، وأن الحد الفاصل هو التغير، فإذا ظهر أثر النجاسة طعماً أو لوناً أو ريحاً فإنه ينجس.

بعد ذلك تكلم المؤلف على الآنية؛ وذلك لأن الماء يحتاج إلى آنية تمسكه، والآنية الأصل فيها: الطهارة، سواء كانت من الزجاج أو من الخشب أو الحجارة أو الحديد أو النحاس أو الصفر أياً كان، عكس الأواني التي تتخذ من الجلود مثلاً، فالجلود تدبغ ثم تجعل أواني، وكذلك يصنعونها من الحجارة، ومن الخشب، وفي هذه الأزمنة أيضاً تتخذ من الربل أو ما أشبه ذلك من المعادن الجديدة، فكل الأواني طاهرة يباح اتخاذها واستعمالها إلا آنية الذهب أو الفضة، وهكذا المضبب بهما لا يباح اتخاذه إناءً ولا استعماله، وقد وردت في هذا الباب أحاديث مشهورة كما في (بلوغ المرام)، واختُلف في العلة، ففي بعض الروايات: (إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) وعلل بعضهم أن فيها كسر قلوب الفقراء.

والصحيح: أنها تجمع الأمرين: ففيها إسراف، وفيها كسر قلوب الفقراء، وفيها نقص لحظ العبد من الآخرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من شرب بها في الدنيا لم يشرب بها في الآخرة) وقال: (هي لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة).

ويعم ذلك كل ما يصاغ من الذهب والفضة، يعم الكأس المصنوع من ذهب أو من فضة، والفنجان المصنوع من ذهب أو فضة، ويعم القدح والإناء وما أشبهها، ويعم القدور والصحون ونحوها، فلا يجوز اتخاذها من ذهب ولا من فضة؛ لهذه العلة.

واُختلف فيما إذا توضأ من إناء ذهب أو إناء فضة، هل يرتفع حدثه؟

الصحيح: أنه يرتفع؛ لأنه استعمل الماء على الأعضاء، ولكنه يعتبر آثماً بالاستعمال، وأما الحدث فإنه يرتفع بوجود رافعه.

والمضبب: هو الملحم، فإذا انصدع -مثلاً- طرفه ثم لحم بفضة يسيرة لحاجة فيجوز، وأما إذا لحم بذهب فلا يجوز، وكذلك إذا طعم أو طلي، والمطعم هو: الذي فيه خروق محشوة بذهب أو فضة، والمطلي به كالذي يطلى بماء الذهب أو نحوه، ولا يجوز استعمال المضبب إلا ما كان فيه ضبة يسيرة لحاجة إذا كانت من فضة.

إذاً: تجوز الضبة بهذه الشروط: أن تكون من فضة، وأن تكون يسيرة، وأن تكون لحاجة.

يقول: (آنية الذهب والفضة محرمة مطلقاً) حتى على النساء، ومعلوم أن النساء يجوز لهن التحلي بلباس الذهب ولباس الفضة، كأسورة وقلائد وخواتيم وأقراط؛ ومع ذلك فإن آنية الذهب والفضة شرباً أو استعمالاً أو اقتناءً لا تصح لا للرجال ولا للنساء، وكذلك الأواني ولو كانت صغيرة كسكين أو ملعقة أو قلم أو نحو ذلك، وساعة الذهب للرجال فقط لا تجوز، وإنما تجوز للنساء؛ لأنها حلية.

وتكلم المصنف على آنية الكفار وثيابهم، وذكر أن الأصل فيها أنها طاهرة؛ وذلك لأن الأصل أنهم يتنزهون ويتطهرون، لكن إذا علم أن هذا الثوب صاحبه يتعاطى نجاسة، كالذي يصنع الخمر، ولابد غالباً أن يراق بعضها على ثيابه، فلا تلبس إلا بعد الغسل، وكذلك الطباخون الذين يطبخون في قدورهم لحم الخنازير، أو يشربون في آنيتهم الخمر، فلا تباح هذه الأواني إلا بعد غسلها، فأما إذا لم تعلم نجاستها فإنها طاهرة.

تكلم المصنف على جلد الميتة، واختار أنه لا يطهر بالدباغ، واستُدل على ذلك بحديث عبد الله بن عكيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) ولكن الحديث فيه مقال، وقد كثر اضطراب المحدثين فيه، فلما كان فيه ضعف واضطرب عدل الإمام أحمد عن العمل به في الآخر، فالصحيح أنه فإذا دبغ الجلد طهر، وقد وردت فيه أحاديث صحيحة كقوله: (أيما إهاب دبغ فقط طهر)، وقوله: (يطهره الماء والقرظ) يعني: الدباغ، وقوله: (ذكاته دباغه) أي: يعمل الدباغ كما تعمل الذكاة، وغيرها من الأحاديث، وفي فعل الصحابة رضي الله عنهم كـميمونة دليل على أنه يطهر بالدباغ.

وأجزاء الميتة نجسة إلا الشعر ونحوه؛ لأن الشعر يقطع منها في الحياة، ويختار المؤلف أن أجزاءها كالعظام والأظلاف والقرون نجسة، واختار شيخ الإسلام أن العظم إذا جف فهو طاهر، ولو كانت تحل فيه الحياة، وكذلك الظلف والقرن، فيجوز أن يجعل القرن فقبض سكين مثلاً، وكذا الظلف؛ وذلك لأنه لا تحله الحياة؛ ولأنه لا يسري فيه الدم.

قوله: (والمنفصل من حي كميتته)، ورد في حديث: (ما أُبين من حي فهو ميتة) يعني: ما قُطع منه، فإذا قُطع ذنب الشاة وهي حية فإنه نجس، أو كذلك قطعت رجل الظبي -مثلاً- وهو حي فإنها نجسة ميتة، وما قطع من السمكة وهي حية فإنه طاهر وحلال؛ لأن ميتة السمك طاهرة.

ذكر المصنف الاستنجاء الذي هو: إزالة النجاسة بعد التبول والتغوط، فذكر:

أولاً: أن الخارج من أحد السبيلين ناقض للوضوء.

ثانياً: أنه نجاسة تخرج من أحد المخرجين من القبل أو الدبر، فلا بد من تطهيرها، ولما كان كذلك كان لها آداب، وتلك الآداب مأخوذة من السنة، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم علم أمته كل شيء حتى الخراءة، يعني: حتى آداب التخلي، وإن كانت عادية وطبيعية، ومما يستحيا من ذكرها.

الاستنجاء هو: غسل أثر الخارج، أي: غسل أثر البول أو الغائط، ويسمى استنجاءً لأنه يقطع الأثر، مشتق من النجو الذي هو القطع، فمن حكمة الله تعالى أنه خلق هذا البشر محتاجاً إلى الطعام والشراب، ثم إن هذا الطعام والشراب بعدما يُتغذى به يتغير ويفسد، فيخرج متغيراً نجساً، فإذا خرج نجساً فلابد من إزالة أثره، فالاستنجاء -أي: غسله بالماء- واجب من كل خارج إلا الريح؛ لأن الريح تخرج من الدبر وليس لها جرم، فلا يستنجى منها، وأما البول والغائط وكل خارج -كما لو خرج من دبره دم أو خرج من ذكره دم أو قيح أو ما أشبهه- فإنه يعتبر نجساً، فلابد من إزالة أثره بالماء.

وإذا خرج منه طاهر -كما لو خرج منه حجر أو شعر أو نحو ذلك- فإن كان مبتلاً فإنه يُستنجى منه، وإن كان يابساً بدون بلل وغير ملوث وليس فيه أثر الغائط ونحوه -والتلويث هو: التغير، لوثه يعني: غيره، وانطبع عليه- فإنه لا يُستنجى منه.

ومثلوا أيضاً للطاهر بالولد، فإذا ولدت المرأة ولداً فإنه طاهر وغير ملوث، ولكن معلوم أنه يخرج مع النفاس الدم.

بيان ما يقال عند دخول الخلاء

قوله: (سن عند دخول الخلاء قول: (باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)) ورد أن أماكن الخلاء تسكنها الشياطين، فأمر صلى الله عليه وسلم بذكر اسم الله عندها، فإن اسم الله يغلب الشياطين، ثم بعد ذلك يأتي بالاستعاذة.

والاستعاذة هي: التحفظ والتحصن، أي: أتحصن وأستعين وأتحرز وأستجير بالله من الخبث والخبائث، وفسر (الخبث) بذكران الشياطين و(الخبائث) بإناث الشياطين، ورويت بإسكان الباء (الخبْث) أي: الشر، و(الخبائث) أهل الشر، وبعد الخروج يقول: (غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني). فيسن بعد الخروج أن يقول: غفرانك، ومناسبة طلب المغفرة تقصير الإنسان عن شكر نعمة الله تعالى.

روي أن بعض الصحابة كان إذا خرج من الخلاء مسح بطنه وقال: (يا لها من نعمة! وقال: الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فيّ منفعته، وأذهب عني أذاه، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى الذي لو بقي لأهلكني، وعافاني بدون أذى).

وثبت أنه يقال بعد الأكل والشرب: (الحمد لله الذي أطعم وسقى، وسوغه، وجعل له مخرجاً)، وقيل في مناسبة طلب المغفرة: إنه دخل وهو مثقل بهذا الأذى، وخرج وقد أحس بالخفة، فتذكر ثقل الذنوب فقال: أسألك غفرانك.

آداب دخول الخلاء

يسن تغطية الرأس إذا كان في صحراء مثلاً؛ لأنه جالس على شيء مستقذر، وكذلك يلبس نعالاً مخافة أن ينصب عليه البول أو يتطاير إليه.

قوله: (وتقديم رجله اليسرى دخولاً، واليمنى خروجاً) اليمنى تقدم في الأشياء الفاضلة كالمسجد، والبيت، وفي لبس النعل والخف، واليسرى بعكسها، ويقدم الإنسان في دخول الخلاء رجله اليسرى، ويقدم عند الخروج رجله اليمنى، عكس المسجد والنعل، قيل: إن هذا تكريم لليمنى.

وكذلك يعتمد عند جلوسه أكثر ما يعتمد على رجله اليسرى تكريماً لليمنى؛ وقيل: لأنه أسهل للخارج.

ويسن أن يبعد إذا كان في صحراء؛ لأنه على حالة مستقذرة؛ لأنه قد يسمع منه صوت، ولأنه قد يتأذى بما يخرج منه إذا كان قريباً.

ويسن طلب مكان رخو للبول، فإذا كان في أرض صلبة يحرص على أن يجد أرضاً لينة ليأمن رشاش البول، أو يأخذ حجراً فينكت به الأرض إلى أن تلين، حتى إذا انصب البول عليها لم يرتد عليه الرشاش الذي قد يقع على ثوبه أو يقع على قدمه أو على ساقه، فيتنجس وهو لا يدري؛ لأن البول ورشاشه نجس.

أما مسح الذكر باليد اليسرى إذا انقطع البول من أصله إلى رأسه ثلاثاً، وكذلك نثره ثلاثاً، فهذا ليس بصحيح، ولا حاجة إليه، وقد ذكرها الفقهاء وقالوا: إنه من باب الاحتياط؛ حتى يخرج ما بقي في الذكر، ولكن الصحيح أنه لا حاجة إليه؛ وذلك لأن البول -كما ذكر شيخ الإسلام- في المثانة كاللبن في الضرع، إن حُلب در، وإن تُرك قر، فلا حاجة إلى هذا التمسح والنتر، ثم ذكروا أنه يحدث السلس، وهذا واقع، وقد ذكر لي كثير من الشباب أن معهم هذا السلس، بحيث يخيل إلى أحدهم إذا قام وإذا خرج بقطرتين أو بقطرات، وسبب ذلك أنه يستعمل السلت والنتر، فكان من أثر ذلك أن حدث معه هذه الوسوسة، فصار دائماً يوسوس في الطهارة، والصواب: أنه إذا توقف البول وانقضى تقاطره فإنه يستنجي بعده، ويغسله بالماء، والعادة أن الماء يوقفه؛ ولذلك يسن الغسل بالماء استنجاءً من النجو الذي هو القطع، تقول: نجوت الشجرة، أي: قطعتها، فالأصل أنه إذا تبول فإنه يستنجي بعد ذلك، ولا يلتفت إلى ما يوسوس به الشيطان.

ثم ذكر المصنف الأشياء المكروهة، والمحرمة، والمسنونة، فمن المكروهات أن يدخل الحمام أو بيت الخلاء بما فيه ذكر الله، وذكروا أنه صلى الله عليه وسلم كان مكتوباً على خاتمه (محمد رسول الله) فكان إذا ذهب إلى الخلاء نزع خاتمه، وإذا لم يستطع أو لم يجد قبض عليه بيده اليمنى، يعني: يجعل فصه مما يلي الكف ويقبض عليه، فإذا كان مع الإنسان أوراق فيها ذكر اسم الله فالأولى أن يخرجها، فإن لم يستطع أو نسي فإنه يخفيها في جيبه.

ويعم ذلك كل ما فيه ذكر الله حتى ما فيه البسملة ونحوها.

ويكره تكلمه وهو جالس على حاجته؛ لأنه على حالة مستقذرة إلا لضرورة كإجابة داع، أو إنقاذ هالك أو نحو ذلك.

ويكره رفع ثوبه قبل دنوه من الأرض، فإذا كان في الصحراء فلا يرفع ثوبه حتى يقرب من الجلوس؛ لأنه إذا رفع ثوبه انكشفت عورته للناظرين.

ويكره أن يبول في شق ونحوه، أي: جحر الدابة؛ لأنه قد يخرج عليه من الشق شيء من الدواب أو نحوها، وقد يكون ذلك الشق مسكوناً فيه بعض الجن أو نحوهم، ومما يذكر في هذا الباب أن سعد بن عبادة بال في شق فصرع ميتاً، فسمعوا قائلاً يقول:

نحن قتلنا سعد بن عبادة ورميناه بسهم فلم نخطئ فؤاده

والله أعلم بذلك.

قوله: (ويكره مس فرج بيمين بلا حاجة) يعني: اليمين تنزه عن أن يمس بها فرجه في الاستنجاء أو الاستجمار، أو أن يمسك ذكره بيمينه تكريماً لليمين، لكن إذا كان أقطع أو مشلولاً أو نحو ذلك جاز له ذلك للضرورة.

أما استقبال النيرين فجعلوها من المكروهات، ولعل الصواب أنه لا مانع من ذلك، والنيران هما: الشمس والقمر، ولا دليل على الكراهة إلا لما فيهما من نور الله، واستنبط بعض العلماء جواز الاستقبال والاستدبار من قوله صلى الله عليه وسلم: (ولكن شرقوا أو غربوا) وقالوا: إنه أمر أهل المدينة إذا جلسوا لقضاء الحاجة أن يشرقوا، ولم يقل: إلا أن تكون الشمس طالعة، وأن يغربوا، ولم يقل: إلا أن تكون الشمس غاربة، وكذلك القمر، والغالب أنهما يكونان في المشرق والمغرب.

المحرمات عند قضاء الحاجة

ثم ذكر المصنف المحرمات فقال: (وحرم استقبال القبلة واستدبارها في غير بنيان).

وردت أحاديث كثيرة في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة، واختلف في قضاء الحاجة إذا كان في البنيان، فأكثر الفقهاء استثنوا البنيان، وحملوا عليه حديث عبد الله بن عمر الذي في الصحيحين وهو مذكور في العمدة: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبلاً الشام مستدبراً الكعبة) ، وحملوا عليه بعض الأحاديث الواردة في ذلك.

ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية والشوكاني في النيل والمباركفوري في (تحفة الأحوذي) أنه لا يجوز لا في صحراء ولا في بنيان لعموم الأحاديث، وحملوا الأحاديث التي فيها الاستقبال أو الاستدبار أنها من الأفعال، وهي تحتمل أنها للخصوصية، والحكمة في ذلك تنزيه القبلة التي يستقبلها المصلي، سواء في صحراء أو في بنيان، فتنزه عن أن يستقبلها الذي يقضي حاجته بفرجه أو يستدبرها بدبره، فيكون في ذلك استهانة بهذه القبلة.

فالراجح: أنه لا يستقبلها لا في بنيان ولا في صحراء، لكن إذا كان هناك ضرورة عفي عن ذلك، كما في حديث أبي أيوب يقول: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها، ونستغفر الله عز وجل).

قوله: (ويحرم لبثه فوق حاجته)، يعني: إطالة جلوسه وهو على نجاسته بغير حاجة كما هو فعل الموسوسين، بل عليه إذا قضى حاجته واستنجى أن يخرج.

قوله: (ويحرم بوله في طريق مسلوك ونحوه، وتحت شجرة مثمرة ثمراً مقصوداً)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟! قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم) الطريق المسلوك، والظل الذي يستظل فيه الناس؛ لأنهم ربما وقعوا في النجاسة، وكذلك الثمرة المقصودة، كثمر العنب والنخل ونحو ذلك؛ لأنه قد يتساقط فيتلوث بالنجس.

مسنونات قضاء الحاجة

ذكر المصنف بعد ذلك المسنونات فقال: (يسن أن يستجمر ثم يستنجي بالماء).

يعني: يجمع بينهما، فيبدأ بالاستجمار الذي هو التمسح بأحجار أو نحوها، ثم يستنجي بالماء، ويجوز أن يقتصر على أحدهما، فإن اقتصر على أحدهما فالاقتصار على الماء أفضل، وإن جمعهما بدأ بالاستجمار ثم الاستنجاء.

والاستجمار يسن فيه أن يمسح ثلاث مسحات، إما بالمناديل المعروفة، وإما بالأحجار أو نحوها، يمسح ثلاث مسحات منقية للمخرجين: لمخرج البول ومخرج الغائط.

ولا يجوز الاستجمار إلا بطاهر مباح يابس منقٍ، فلا يستجمر بالنجس، يعني: بالأشياء النجسة، سواء كانت مائعة أوسائلة، فلا يستجمر ولا يتمسح بعظام الميتة أو لحمها ولو يابساً، أو دم متجمد، أو روث حمار أو نحوه، وكذلك لا يغتصب شيئاً يستجمر به، ولا يستجمر إلا بالشيء اليابس؛ لأنه إذا استجمر بالرطب لن يحصل به النقاوة، والعادة أن الاستجمار لا يكون إلا بالأحجار اليابسة أو بالمناديل والخرق والأعواد ونحوها، ولابد أن يكون منقياً، والذي لا ينقي مثل الشيء اللزج ونحوه.

ويحرم الاستجمار بالروث والعظم لما جاء في الحديث: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستجمار بالروث والعظم وقال: إنهما لا يطهران) ، وفي حديث آخر علل بأنهما طعام الجن، وأن الروث علف لدوابهم، وإذا كان يحترم طعام الجن من العظام فإن طعام الإنس أولى كالخبز اليابس ونحوه، وكذلك كل محترم، فلا يتمسح بأوراق كتب علم أو بغلاف كتاب أو ما أشبه ذلك.

وكذلك كل متصل بحيوان، فلا يتمسح بذنب بقرة أو برجلها ونحو ذلك.

ويجزئ الاستجمار وحده بشرط: ألا يتجاوز الخارج موضع العادة، فإذا انتشر الغائط على صفحات الإليتين فلا ينقى إلا الماء، وكذلك البول إذا ترطب به رأس الذكر والحشفة ونحو ذلك فلابد من الماء.

والاستجمار يكون بثلاث مسحات منقية فأكثر، ويسن قطعه على وتر، كما ورد في حديث: (ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج)، فإذا استنجى باثنتين جعل ثالثة حتى تكون وتراً، فإذا لم ينق إلا بأربع زاد خامسة، فإذا لم ينق إلا بست زاد سابعة، هذا معنى فليوتر.

قوله: (سن عند دخول الخلاء قول: (باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)) ورد أن أماكن الخلاء تسكنها الشياطين، فأمر صلى الله عليه وسلم بذكر اسم الله عندها، فإن اسم الله يغلب الشياطين، ثم بعد ذلك يأتي بالاستعاذة.

والاستعاذة هي: التحفظ والتحصن، أي: أتحصن وأستعين وأتحرز وأستجير بالله من الخبث والخبائث، وفسر (الخبث) بذكران الشياطين و(الخبائث) بإناث الشياطين، ورويت بإسكان الباء (الخبْث) أي: الشر، و(الخبائث) أهل الشر، وبعد الخروج يقول: (غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني). فيسن بعد الخروج أن يقول: غفرانك، ومناسبة طلب المغفرة تقصير الإنسان عن شكر نعمة الله تعالى.

روي أن بعض الصحابة كان إذا خرج من الخلاء مسح بطنه وقال: (يا لها من نعمة! وقال: الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فيّ منفعته، وأذهب عني أذاه، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى الذي لو بقي لأهلكني، وعافاني بدون أذى).

وثبت أنه يقال بعد الأكل والشرب: (الحمد لله الذي أطعم وسقى، وسوغه، وجعل له مخرجاً)، وقيل في مناسبة طلب المغفرة: إنه دخل وهو مثقل بهذا الأذى، وخرج وقد أحس بالخفة، فتذكر ثقل الذنوب فقال: أسألك غفرانك.

يسن تغطية الرأس إذا كان في صحراء مثلاً؛ لأنه جالس على شيء مستقذر، وكذلك يلبس نعالاً مخافة أن ينصب عليه البول أو يتطاير إليه.

قوله: (وتقديم رجله اليسرى دخولاً، واليمنى خروجاً) اليمنى تقدم في الأشياء الفاضلة كالمسجد، والبيت، وفي لبس النعل والخف، واليسرى بعكسها، ويقدم الإنسان في دخول الخلاء رجله اليسرى، ويقدم عند الخروج رجله اليمنى، عكس المسجد والنعل، قيل: إن هذا تكريم لليمنى.

وكذلك يعتمد عند جلوسه أكثر ما يعتمد على رجله اليسرى تكريماً لليمنى؛ وقيل: لأنه أسهل للخارج.

ويسن أن يبعد إذا كان في صحراء؛ لأنه على حالة مستقذرة؛ لأنه قد يسمع منه صوت، ولأنه قد يتأذى بما يخرج منه إذا كان قريباً.

ويسن طلب مكان رخو للبول، فإذا كان في أرض صلبة يحرص على أن يجد أرضاً لينة ليأمن رشاش البول، أو يأخذ حجراً فينكت به الأرض إلى أن تلين، حتى إذا انصب البول عليها لم يرتد عليه الرشاش الذي قد يقع على ثوبه أو يقع على قدمه أو على ساقه، فيتنجس وهو لا يدري؛ لأن البول ورشاشه نجس.

أما مسح الذكر باليد اليسرى إذا انقطع البول من أصله إلى رأسه ثلاثاً، وكذلك نثره ثلاثاً، فهذا ليس بصحيح، ولا حاجة إليه، وقد ذكرها الفقهاء وقالوا: إنه من باب الاحتياط؛ حتى يخرج ما بقي في الذكر، ولكن الصحيح أنه لا حاجة إليه؛ وذلك لأن البول -كما ذكر شيخ الإسلام- في المثانة كاللبن في الضرع، إن حُلب در، وإن تُرك قر، فلا حاجة إلى هذا التمسح والنتر، ثم ذكروا أنه يحدث السلس، وهذا واقع، وقد ذكر لي كثير من الشباب أن معهم هذا السلس، بحيث يخيل إلى أحدهم إذا قام وإذا خرج بقطرتين أو بقطرات، وسبب ذلك أنه يستعمل السلت والنتر، فكان من أثر ذلك أن حدث معه هذه الوسوسة، فصار دائماً يوسوس في الطهارة، والصواب: أنه إذا توقف البول وانقضى تقاطره فإنه يستنجي بعده، ويغسله بالماء، والعادة أن الماء يوقفه؛ ولذلك يسن الغسل بالماء استنجاءً من النجو الذي هو القطع، تقول: نجوت الشجرة، أي: قطعتها، فالأصل أنه إذا تبول فإنه يستنجي بعد ذلك، ولا يلتفت إلى ما يوسوس به الشيطان.

ثم ذكر المصنف الأشياء المكروهة، والمحرمة، والمسنونة، فمن المكروهات أن يدخل الحمام أو بيت الخلاء بما فيه ذكر الله، وذكروا أنه صلى الله عليه وسلم كان مكتوباً على خاتمه (محمد رسول الله) فكان إذا ذهب إلى الخلاء نزع خاتمه، وإذا لم يستطع أو لم يجد قبض عليه بيده اليمنى، يعني: يجعل فصه مما يلي الكف ويقبض عليه، فإذا كان مع الإنسان أوراق فيها ذكر اسم الله فالأولى أن يخرجها، فإن لم يستطع أو نسي فإنه يخفيها في جيبه.

ويعم ذلك كل ما فيه ذكر الله حتى ما فيه البسملة ونحوها.

ويكره تكلمه وهو جالس على حاجته؛ لأنه على حالة مستقذرة إلا لضرورة كإجابة داع، أو إنقاذ هالك أو نحو ذلك.

ويكره رفع ثوبه قبل دنوه من الأرض، فإذا كان في الصحراء فلا يرفع ثوبه حتى يقرب من الجلوس؛ لأنه إذا رفع ثوبه انكشفت عورته للناظرين.

ويكره أن يبول في شق ونحوه، أي: جحر الدابة؛ لأنه قد يخرج عليه من الشق شيء من الدواب أو نحوها، وقد يكون ذلك الشق مسكوناً فيه بعض الجن أو نحوهم، ومما يذكر في هذا الباب أن سعد بن عبادة بال في شق فصرع ميتاً، فسمعوا قائلاً يقول:

نحن قتلنا سعد بن عبادة ورميناه بسهم فلم نخطئ فؤاده

والله أعلم بذلك.

قوله: (ويكره مس فرج بيمين بلا حاجة) يعني: اليمين تنزه عن أن يمس بها فرجه في الاستنجاء أو الاستجمار، أو أن يمسك ذكره بيمينه تكريماً لليمين، لكن إذا كان أقطع أو مشلولاً أو نحو ذلك جاز له ذلك للضرورة.

أما استقبال النيرين فجعلوها من المكروهات، ولعل الصواب أنه لا مانع من ذلك، والنيران هما: الشمس والقمر، ولا دليل على الكراهة إلا لما فيهما من نور الله، واستنبط بعض العلماء جواز الاستقبال والاستدبار من قوله صلى الله عليه وسلم: (ولكن شرقوا أو غربوا) وقالوا: إنه أمر أهل المدينة إذا جلسوا لقضاء الحاجة أن يشرقوا، ولم يقل: إلا أن تكون الشمس طالعة، وأن يغربوا، ولم يقل: إلا أن تكون الشمس غاربة، وكذلك القمر، والغالب أنهما يكونان في المشرق والمغرب.

ثم ذكر المصنف المحرمات فقال: (وحرم استقبال القبلة واستدبارها في غير بنيان).

وردت أحاديث كثيرة في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها حال قضاء الحاجة، واختلف في قضاء الحاجة إذا كان في البنيان، فأكثر الفقهاء استثنوا البنيان، وحملوا عليه حديث عبد الله بن عمر الذي في الصحيحين وهو مذكور في العمدة: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم على لبنتين مستقبلاً الشام مستدبراً الكعبة) ، وحملوا عليه بعض الأحاديث الواردة في ذلك.

ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية والشوكاني في النيل والمباركفوري في (تحفة الأحوذي) أنه لا يجوز لا في صحراء ولا في بنيان لعموم الأحاديث، وحملوا الأحاديث التي فيها الاستقبال أو الاستدبار أنها من الأفعال، وهي تحتمل أنها للخصوصية، والحكمة في ذلك تنزيه القبلة التي يستقبلها المصلي، سواء في صحراء أو في بنيان، فتنزه عن أن يستقبلها الذي يقضي حاجته بفرجه أو يستدبرها بدبره، فيكون في ذلك استهانة بهذه القبلة.

فالراجح: أنه لا يستقبلها لا في بنيان ولا في صحراء، لكن إذا كان هناك ضرورة عفي عن ذلك، كما في حديث أبي أيوب يقول: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها، ونستغفر الله عز وجل).

قوله: (ويحرم لبثه فوق حاجته)، يعني: إطالة جلوسه وهو على نجاسته بغير حاجة كما هو فعل الموسوسين، بل عليه إذا قضى حاجته واستنجى أن يخرج.

قوله: (ويحرم بوله في طريق مسلوك ونحوه، وتحت شجرة مثمرة ثمراً مقصوداً)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟! قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم) الطريق المسلوك، والظل الذي يستظل فيه الناس؛ لأنهم ربما وقعوا في النجاسة، وكذلك الثمرة المقصودة، كثمر العنب والنخل ونحو ذلك؛ لأنه قد يتساقط فيتلوث بالنجس.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح أخصر المختصرات [21] 2741 استماع
شرح أخصر المختصرات [28] 2718 استماع
شرح أخصر المختصرات [72] 2609 استماع
شرح أخصر المختصرات [87] 2572 استماع
شرح أخصر المختصرات [37] 2486 استماع
شرح أخصر المختصرات [68] 2350 استماع
شرح أخصر المختصرات [81] 2342 استماع
شرح أخصر المختصرات [58] 2334 استماع
شرح أخصر المختصرات [9] 2321 استماع
شرح أخصر المختصرات [22] 2271 استماع