خطب ومحاضرات
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [3]
الحلقة مفرغة
تقدم لنا شيء من أحكام الآنية، وذكرنا ما يتعلق بالآنية, وما يتعلق بالأكل والشرب في آنية الذهب والفضة.
وأيضاً: استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب.
وأيضاً: ما يتعلق باتخاذ آنية الذهب والفضة, هل هو جائز أو ليس جائزاً؟
وأيضاً: ما هو الأصل في الآنية؟ وذكرنا الدليل على ذلك.
وأيضاً حكم المضبب بالفضة, ومتى يجوز الأكل فيه إناء مضبب بالفضة ومتى لا يجوز؟ وذكرنا شروط ذلك.
ثم بعد ذلك تكلمنا في آخر شيء عن جلد الميتة، هل يطهر بالدبغ أو لا يطهر بالدبغ, وذكرنا آراء العلماء رحمهم الله في هذه المسألة.
وظهر لنا ما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ), أو: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ), وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا في صحيح مسلم .
فهذا يدل على أن كل جلد يدبغ فإنه يطهر بالدبغ، لكن يبقى معنا أن في حديث أبي المليح بن أسامة رضي الله تعالى عنه ( أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن جلوع السباع ). وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن الجارود وغيرهم, وإسناده صحيح ثابت.
وأيضاً: حديث معاوية رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى ركوب النمور )، النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود النمور أن تركب, فكونه يطهر جلد السبع بالدبغ هذا لا يدل على أن الإنسان له أن يستعمله، لكن لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن جلود النمور كما تقدم؛ كما في حديث أبي المليح بن أسامة , وأيضاً في حديث معاوية رضي الله تعالى عنه: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن جلود النمور أن تركب ), وهذان الحديثان ثابتان، فلا يلزم من الطهارة جواز الاستعمال؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عنها.
قال المؤلف رحمه الله: [وكل ميتة نجسة إلا الآدمي وحيوان الماء الذي لا يعيش إلا فيه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر (هو الطهور ماؤه, الحل ميتته)].
هنا شرع المؤلف رحمه الله في ذكر أشياء من النجاسات، وسنذكر ضوابط لهذه النجاسات وما عداها فإنه يكون طاهراً؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة، كما تقدم في قول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29]، وأيضاً قوله: وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ [الرحمن:10]، فعندنا ضوابط للأشياء النجسة، بدأ المؤلف رحمه الله في ذكر شيء منها، وسنكملها إن شاء الله، وما عدا ذلك يتبين لنا طهارته.
الخمر
ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل مسكر خمر، وكل خمر حرام )، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل مسكر خمر.
فنقول: الخمر تعريفه هو كل مسكر من أي شيء كان؛ ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ).
هذا الخمر اختلف فيه العلماء رحمهم الله هل هو طاهر أو نجس على رأيين:
فالرأي الأول: أن الخمر نجس؛ وهذا قال به جمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة؛ واستدلوا على ذلك بأدلة، من أدلتهم أن الله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90]، والرجس هو النجس.
وكذلك أيضاً استدلوا بأن الله عز وجل قال في خمر أهل الجنة: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، فكون الله عز وجل يصف خمر الجنة بأنه طهور يدل على أن خمر أهل الدنيا نجس.
والرأي الثاني: قالوا بأن الخمر طاهرة؛ والدليل على ذلك: أن الخمر كانت مباحة في أول الإسلام، ثم بعد ذلك حرمت، لما حرمت لم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن يغسلوا أوانيهم، أو أن يغسلوا ثيابهم؛ لأن شارب الخمر سيصيب هذا الخمر شيئاً من أوانيه وثيابه.. إلخ.
وكذلك أيضاً استدلوا على ذلك قالوا: بأن الخمرة لما حرمت خرج بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأراقوها في طرق المدينة وأزقتها، فلو كانت نجسة لم يفعلوا ذلك؛ لأن الشارع نهى عن البول في الطرقات كما سيأتينا إن شاء الله في آداب قضاء الحاجة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟! قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم ) رواه مسلم .
وكذلك أيضاً استدلوا بقصة صاحب الراوية، فإن رجلاً جاء للنبي عليه الصلاة والسلام براوية خمر، كما في الصحيح، فأهداها للنبي عليه الصلاة والسلام فأخبره النبي عليه الصلاة والسلام أن الخمر قد حرمت, وفي هذا الحديث أن صاحب هذه الراوية شقها وأراقها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم, فلو كانت نجسة لما أراقها بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا القول ذهب إليه جماعة من أهل العلم، منهم الليث بن سعد والمزني وغيرهم من أهل العلم، وهذا القول هو الأقرب, فالأقرب في الخمر أنها طاهرة، وأنها ليست نجسة.
وأما بالنسبة لما استدل به الجمهور من قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90] فإن المراد بالنجاسة هنا النجاسة المعنوية؛ بدليل أن الله عز وجل قرن الخمر بالميسر والأزلام.. إلخ؛ فيدل ذلك على أن هذه النجاسة نجاسة معنوية.
وكذلك أيضاً: قول الله عز وجل في شراب أهل الجنة: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21] هذا لا يدل على نجاسة خمر الدنيا، وإنما هذا وصف لخمر أهل الجنة، وأحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا، وكذلك أيضاً أحوال الدنيا لا تقاس بأحوال الآخرة.
الميتة
فنقول: الضابط الثاني من ضوابط النجاسات: كل ميتة نجسة، يستثنى من ذلك ما يلي:
الأول: الآدمي، فالآدمي ميتته طاهرة حتى لو كان كافراً، ودليل ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن المؤمن -وفي لفظ: المسلم- لا ينجس ).
وهذا الحديث في الصحيحين، حديث أبي هريرة : ( إن المؤمن لا ينجس )فهذا يدل على أن المؤمن طاهر، حياً وميتاً، وكذلك أيضاً الكافر طاهر؛ والدليل على ذلك أن الله عز وجل أباح لنا طعام أهل الكتاب ونساءهم، ولا شك أن المسلم إذا تزوج بالنصرانية أو باليهودية سيفعل بزوجته, الله عز وجل يقول: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:5], فهذا يدل على طهارة الآدمي إذا كان كافراً، فنقول: نستثنى من الميتات ميتة الآدمي، فإنها طاهرة.
قال: (وحيوان الماء الذي لا يعيش إلا فيه).
هذا الأمر الثاني: حيوان البحر، حيوان البحر هذا ميتته طاهرة؛ والدليل على ذلك قول الله عز وجل: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة:96]، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: صيد البحر ما أخذ حياً، وطعامه ما أخذ ميتاً، وأيضاً يدل لذلك ما استدل به المؤلف رحمه الله من قول النبي صلى الله عليه وسلم في حيوانات البحر: ( الحل ميتته ) , فهذا دليل على أن حيوان البحر ميتته طاهرة ولا بأس بها.
الثالث مما يستثنى من هذا الضابط: ما لا نفس له سائلة؛ فكل ما لا نفس له سائلة فهو طاهر، ويدخل في هذا أشياء كثيرة، مثل: الذباب، البق، البعوض، يعني: كل شيء إذا قتلته لا يخرج منه الدم فهو طاهر.
وسيأتينا أيضاً أن ما خرج منه فهو طاهر أيضاً، فعندك الذباب، والبعوض، والبق، والعنكبوت، والفراش، والعقرب والخنفساء والجعل.. إلخ، كل هذه الأشياء طاهرة، في حال الحياة وفي حال الممات؛ ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ) , فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بغمسه، هذا مما يدل على طهارته.
ما خرج من محرم الأكل
أيضاً مما يستثنى: ما خرج مما لا نفس له سائلة؛ فنقول: بأن هذا طاهر, فالذي يخرج من الذباب أو العنكبوت أو الجعل.. إلخ، نقول: بأن هذا طاهر.
كذلك أيضاً بالنسبة لما يشق التحرز عنه؛ مثل الفأرة, مثل الهرة, مثل الحمار .. إلخ، نقول: ريق الهرة طاهر، ريق الفأرة طاهر، عرق الهرة طاهر، عرق الفأرة طاهر، أيضاً عرق الحمار والبغل طاهر، ريق البغل والحمار وما يخرج من أنفه هذه الأشياء نقول: بأنها طاهرة.
فنقول: الضابط الثالث: ما خرج من محرم أكله هو نجس إلا ما ذكرنا أنه طاهر، ما استثنيناه بالنسبة للآدمي, وما استثنيناه أيضاً بالنسبة لما لا نفس له سائلة، وما استثنيناه أيضاً بالنسبة لما يشق التحرز عنه.
كل حيوان محرم الأكل
وبينا معنى طهارة هذه الأشياء، يعني أن عرقها طاهر كما تقدم، أن ريقها طاهر، أن ما يخرج من أنفها طاهر، أما بالنسبة لما يخرج منها من البول .. إلخ فهذا نجس كما سبق فيما خرج من محرم الأكل.
كل جزء انفصل من حيوان طاهر حال الحياة
الأمر الأول: مأكول اللحم، إذا كان الحيوان مأكول اللحم مثل: الضأن, مثل البقر, مثل الإبل, مثل الدجاج .. إلخ، هذا حيوان طاهر في حال الحياة.
الثاني: ما يشق التحرز عنه؛ مثل الفأرة مثل الهرة .. إلخ، هذا حيوان طاهر في حال الحياة, بحيث إن هذه الأشياء لو ماتت فهي نجسة، لكن في حال الحياة هي طاهرة، فالحيوان الطاهر بحال الحياة يشمل هذين الأمرين.
فالأجزاء التي تنفصل من هذا الأشياء نقول: بأنها نجس؛ فمثلاً: إذا قطعت من الشاة يدها، نقول: بأن هذه اليد نجسة؛ لأنا ذكرنا الضابط: كل جزء انفصل من حيوان طاهر في حال الحياة فهو نجس.
فإذا قطعت يد شاة مثلاً أو يد بقرة .. إلخ فنقول: بأن هذه الأشياء نجسة, يستثنى من ذلك: الشعر، والوبر، والريش، والصوف, والأظلاف، والقرون، هذه كلها طاهرة.
يعني: إذا أخذنا الشعر من المعز, أو الصوف من الضأن أو الأظلاف أو القرون ونحو ذلك من هذه الحيوانات في حال الحياة، فنقول: بأنها طاهرة.
الدم
القسم الأول: الدم المسفوح الذي يخرج عند التذكية؛ فنقول: الدم الخارج عند التذكية نجس؛ ويدل لذلك قول الله عز وجل: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145].
القسم الثاني: الدم الخارج من فرج الإنسان، فهذا أيضاً نقول بأنه نجس؛ ويدل لذلك حديث أسماء رضي الله تعالى عنها لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم يصيب الثوب، هل تصلي فيه؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيها ).
القسم الثالث: الدم الذي يبقى في الحيوان بعد تذكيته؛ فمثلاً إذا ذبح الإنسان شاة شاة أو بعيراً أو بقرة، وبقي شيء من هذا الدم في هذا الحيوان، نقول: بأنه طاهر.
القسم الرابع: الدم الخارج من الحيوان غير المأكول، أو من المأكول حال الحياة، نقول: هذا نجس؛ فلو مثلاً شاة، وخرج منها دم نقول: هذا الدم نجس؛ ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أبين من حي فهو كميتته )، فهذا الخارج كميتة هذه الشاة، أي: إذا خرج منها هذا الدم فنقول بأن هذا الدم نجس، كما أن ميتة هذا الحيوان نجسة، فكذلك أيضاً ما خرج منه فهو نجس.
القسم الخامس: ما خرج مما لا نفس له سائلة؛ فهذا طاهر.
القسم السادس: ما خرج من حيوان البحر؛ هذا أيضاً نقول بأنه طاهر.
القسم السابع: ما خرج من بدن الإنسان, فإذا جرح الإنسان ثم خرج منه دم، هل هذا الدم طاهر أو نجس؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم، فأكثر العلماء على أنه نجس، وحكي الإجماع على ذلك.
والرأي الثاني: أنه طاهر؛ وهذا يشير إليه قول الحسن البصري رحمه الله: كانوا يصلون في جراحاتهم, وأيضاً اختيار الشوكاني رحمه الله.
فالدم الخارج من بقية جسد الإنسان غير الفرج هل هو طاهر أو نجس؟
نقول: الرأي الثاني: أنه طاهر, وهذا القول هو الأقرب.
ويدل لذلك أن أجزاء الآدمي طاهرة، لو قطعت يد من الآدمي, النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( ما أبين من حي فهو كميتته ) فيد الآدمي لو قطعت هل هي طاهرة أو نجسة؟ طاهرة، يد الآدمي هذه طاهرة لأنها كميتته: ( ما أبين من حي فهو كميتته ) , وميتة الآدمي تقدم لنا أنها طاهرة، فإذا كانت هذه اليد طاهرة، فكذلك أيضاً هذا الدم أيضاً طاهر.
ومما يدل لذلك أيضاً: أن سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه جرح في غزوة الخندق، وضرب له النبي عليه الصلاة والسلام قبة في المسجد لكي يعوده من قريب، فانطلق دمه ذات يوم وسال في أرض المسجد.
وأيضاً مما يدل على ذلك: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يغزون الغزوات مع النبي عليه الصلاة والسلام، وأيضاً مع غير النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعهد عنهم أنهم كانوا ينظفون أسلحتهم أو أبدانهم أو ثيابهم مما يصيبهم من الدماء.
فالأقرب في الدماء الخارجة من بقية بدن الإنسان أنها طاهرة.
وأيضاً مما يدل لذلك ما تقدم لنا أن المني طاهر؛ لأنه أصل الإنسان، أصل الشهداء والرسل والأنبياء، هذه النطفة تتحول إلى علقة، تتحول إلى قطعة دم. فالأقرب في ذلك هو القول بطهارة هذه الدماء.
ما لا نفس له سائلة مما كان متولداً من النجاسات
والصواب أن كل ما لا نفس له سائلة طاهر حتى ولو كان متولداً من النجاسة؛ لأن عندنا مسألة وهي: هل النجاسة تطهر بالاستحالة أو لا تطهر بالاستحالة؟ يعني: إذا كان عندنا نجاسة عينية، يعني: ذات هذا الشيء، هذا الشيء عينه وذاته نجسة، هل تطهر بالاستحالة -يعني إذا انقلبت من عين إلى عين أخرى- أو لا؟
في ذلك رأيان للعلماء رحمهم الله, والصواب في هذه المسألة أن النجاسة العينية تطهر بالاستحالة، فإذا كان عندنا عذرة، وهذه العذرة احترقت وأصبحت رماداً فإنها تطهر بالاستحالة.
كذلك أيضاً ما لا نفس له سائلة: نقول: بأنه طاهر حتى ولو كان متولداً من النجاسة، مثل: صراصير الكنف، صراصير الكنف هذه متولدة من النجاسات، متولدة من العذرة، يقول المؤلف رحمه الله: هذه الصراصير إذا كان أصلها النجاسة فإنها ليست طاهرة, والصواب: أنها طاهرة؛ لأن النجاسة هنا استحالت وانقلبت من عين إلى عين أخرى.
وتقدم لنا أن النجاسة عين مستقذرة شرعاً إذا تغيرت بأي مغير فإن الحكم يتغير معه؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا زالت النجاسة بأي مزيل، سواء كان ذلك بالاستحالة, سواء كان ذلك بالماء, سواء كان ذلك بغير الماء .. إلخ، فإن الحكم يزول معه، وينتفي الخبث, ونقول: بأن المحل قد طهر.
كذلك أيضاً: هذه الصراصير الآن وإن كان أصلها العذرة، لكنها انقلبت من عين إلى عين أخرى.
فالصواب أن ما لا نفس له سائلة طاهر, وعلى هذا نقول: بأن هذه الصراصير التي توجد في الكنف تكون متحولة من العذرة, نقول بأنها طاهرة.
الضابط الأول: الخمر؛ وهو كل مسكر من أي شيء كان، سواء كان من نبيذ العنب، أو من نبيذ التمر أو الشعير أو غير ذلك. هذا هو الصواب في هذه المسألة.
ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل مسكر خمر، وكل خمر حرام )، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل مسكر خمر.
فنقول: الخمر تعريفه هو كل مسكر من أي شيء كان؛ ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ).
هذا الخمر اختلف فيه العلماء رحمهم الله هل هو طاهر أو نجس على رأيين:
فالرأي الأول: أن الخمر نجس؛ وهذا قال به جمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة؛ واستدلوا على ذلك بأدلة، من أدلتهم أن الله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90]، والرجس هو النجس.
وكذلك أيضاً استدلوا بأن الله عز وجل قال في خمر أهل الجنة: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، فكون الله عز وجل يصف خمر الجنة بأنه طهور يدل على أن خمر أهل الدنيا نجس.
والرأي الثاني: قالوا بأن الخمر طاهرة؛ والدليل على ذلك: أن الخمر كانت مباحة في أول الإسلام، ثم بعد ذلك حرمت، لما حرمت لم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن يغسلوا أوانيهم، أو أن يغسلوا ثيابهم؛ لأن شارب الخمر سيصيب هذا الخمر شيئاً من أوانيه وثيابه.. إلخ.
وكذلك أيضاً استدلوا على ذلك قالوا: بأن الخمرة لما حرمت خرج بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأراقوها في طرق المدينة وأزقتها، فلو كانت نجسة لم يفعلوا ذلك؛ لأن الشارع نهى عن البول في الطرقات كما سيأتينا إن شاء الله في آداب قضاء الحاجة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟! قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم ) رواه مسلم .
وكذلك أيضاً استدلوا بقصة صاحب الراوية، فإن رجلاً جاء للنبي عليه الصلاة والسلام براوية خمر، كما في الصحيح، فأهداها للنبي عليه الصلاة والسلام فأخبره النبي عليه الصلاة والسلام أن الخمر قد حرمت, وفي هذا الحديث أن صاحب هذه الراوية شقها وأراقها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم, فلو كانت نجسة لما أراقها بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا القول ذهب إليه جماعة من أهل العلم، منهم الليث بن سعد والمزني وغيرهم من أهل العلم، وهذا القول هو الأقرب, فالأقرب في الخمر أنها طاهرة، وأنها ليست نجسة.
وأما بالنسبة لما استدل به الجمهور من قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90] فإن المراد بالنجاسة هنا النجاسة المعنوية؛ بدليل أن الله عز وجل قرن الخمر بالميسر والأزلام.. إلخ؛ فيدل ذلك على أن هذه النجاسة نجاسة معنوية.
وكذلك أيضاً: قول الله عز وجل في شراب أهل الجنة: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21] هذا لا يدل على نجاسة خمر الدنيا، وإنما هذا وصف لخمر أهل الجنة، وأحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا، وكذلك أيضاً أحوال الدنيا لا تقاس بأحوال الآخرة.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [22] | 2514 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [1] | 2463 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [4] | 2442 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [12] | 2422 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [2] | 2395 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [14] | 2350 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [2] | 2350 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب النكاح [1] | 2311 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [23] | 2306 استماع |
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [6] | 2300 استماع |