شرح عمدة الأحكام - كتاب القضاء [2]


الحلقة مفرغة

تقدم لنا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها, وذكرنا أنه اشتمل على مسائل، وبقينا من هذه المسائل: قضاء القاضي على الغائب, ففي الحديث دليل على أنه يصح القضاء على الغائب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على أبي سفيان وهو غائب.

وهذا على القول بأن هذا من قبيل القضاء, وإن قلنا بأنه من قبيل الفتيا فلا يكون فيه دليل, والحكم على الغائب موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله, فأكثر العلماء أن هذا جائز ولا بأس به, يعني: لو جاء شخص وادعى بدعوى على رجل غائب, فإن الحاكم القاضي يقضي لهذا الرجل المدعي على الغائب, وإذا جاء الغائب فإنه على حجته, يقيم حجته... إلخ, واستدلوا على ذلك بهذا الحديث, وبعمومات ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد ) ... إلخ.

والرأي الثاني: رأي الحنفية أنه لا يقضى على الغائب, واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ [النور:48]. والصحيح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه أكثر أهل العلم, وأنه يصح القضاء على الغائب.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أم سلمة رضي الله عنها ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته, فخرج إليهم, فقال: ألا إنما أنا بشر مثلكم, وإنما يأتيني الخصم, فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض, فأحسب أنه صادق فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار, فليحملها أو يذرها ).

وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما قال: ( كتب أبي -أو كتبت له- إلى ابنه عبد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان: أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان ) ].

وفي رواية: ( لا يقضين أحدكم بين اثنين وهو غضبان ) ].

الشرح:

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ عن أم سلمة رضي الله عنها ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته ) الجلبة: هي اختلاط الأصوات ( فخرج إليهم, فقال: ألا إنما أنا بشر مثلكم, وإنما يأتيني الخصم, فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض, فأحسب أنه صادق فأقضي له. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار, فليحملها أو يذرها )].

قوله: (يذرها) يعني: يتركها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليحملها أو يذرها) (أو) هنا ليست للتنويع أو للتخيير, بل هي للوعيد والتهديد, وهذا الحديث اشتمل على مسائل منها:

أن الصحابة بشر كسائر البشر, وليسوا معصومين، وأنه يحصل بينهم ما يحصل بين سائر البشر من الخصومة...إلخ, لقوله: (سمع جلبة خصم بباب حجرته).

وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (ألا إنما أنا بشر مثلكم) فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر, والفرق بيننا وبينه أنه يوحى إليه.

وفيه رد على الذين يغلون في النبي عليه الصلاة والسلام كالصوفية وسائر الخرافيين الذين يغلون في النبي صلى الله عليه وسلم, وينزلونه فوق منزلته.

وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بما ظهر له من الحجة، وأنه لا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله عليه, وإنما يقضي بما يظهر له من الحجة.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أقضي على نحو ما أسمع) فيه أن القاضي لا يحكم بعلمه, وإنما يحكم بما يسمع من البينات والشهود والإقرارات .. ونحو ذلك, وهذه مسألة خلافية بين أهل العلم رحمهم الله: هل القاضي يحكم بعلمه أو لا يحكم بعلمه؟ وأوسع الناس في ذلك الشافعية, فإن الشافعية يرون أن القاضي يحكم بعلمه.

وعند الحنابلة والمالكية أن القاضي لا يحكم بعلمه.

والحنفية يقولون: القاضي يحكم بعلمه فيما علمه في مكان ولايته وزمان ولايته دون ما علمه قبل ذلك.

وهذا الحديث دليل لما ذهب إليه الحنابلة والمالكية أن القاضي لا يحكم بعلمه, لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض..) وظاهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بما يسمعه من الشهادات والإقرارات والبينات، لكن استثنى العلماء رحمهم الله من ذلك مسألتان:

المسألة الأولى: ما يتعلق بالجرح والتعديل، فالقاضي يقضي بعلمه بما يتعلق بالجرح والتعديل, بالنسبة للشهود.. إلخ.

ثانياً: ما أقر به الخصم في مجلس الحكم.

وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فأحسب أنه صادق فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم, فإنما هي قطعة من النار) فيه أن حكم الحاكم لا يبرئ الخصم إذا كان كاذباً, وإن أتى بشهادة زور, أو بحجج باطله...إلخ, وحكم الحاكم ينهي النزاع، في الظاهر القاضي يحكم لهذا الشخص وإن كان ظالماً لكي ينهي النزاع, لكن في الباطن من له الحق فالحق لا يزال له, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها).

وفي هذا أيضاً تسلية للقضاة؛ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بالظاهر وربما قضى لغير صاحب الحق, فغيره من باب أولى.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن قضيت له بحق مسلم), هذا القيد ليس له مفهوم وإنما هو قيد أغلبي, والقيد الأغلبي لا مفهوم له عند الأصوليين, فسواء قضى النبي صلى الله عليه وسلم بحق مسلم أو بحق شخص معصوم ما, يدخل في ذلك الذمي ويدخل في ذلك المعاهد.

وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليحملها أو يذر, فإنما هي قطعة من النار), فيه عظم حقوق الخلق, وحرمة أموالهم، وأنه لا يجوز للإنسان أن يتعدى على الآخرين وعلى أموال الناس, لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فإنما هي قطعة من النار), نسأل الله السلامة.

المؤلف قال: (عن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما قال: (كتب أبي أو كتبت له إلى ابنه عبد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان: أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان).

وفي رواية: ( لا يقضين أحدكم بين اثنين وهو غضبان ) ).

في هذا الحديث أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي وهو غضبان, وقد ذكر العلماء أن الغضب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: غضب شديد, لا يتمكن معه القاضي من تصور المسألة وترتيب الحكم الشرعي عليها, فهذا القضاء في هذه الحالة محرم ولا يجوز, فإذا كان لا يستطيع القاضي من شدة الغضب أن يتصور المسألة وأن يرتب الحكم الشرعي عليها, فهذا لا يجوز.

القسم الثاني: أن يكون الغضب يسيراً يستطيع القاضي أن يتصور المسألة وأن يرتب الحكم الشرعي عليها لكون هذا الغضب يسيراً, فإن هذا لا يضر, وله أن يقضي.

القسم الثالث: أن يكون الغضب متوسطاً, بحيث أنه لم يزل شعوره, لكن الغضب اشتد به, فهذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله, إذا حكم هل ينفذ حكمه أو حكمه غير نافذ؟

المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن حكمه نافذ.

وذهب بعض العلماء إلى أن حكمه ليس نافذاً, والذين قالوا بأنه نافذ قالوا: لأن النهي هنا يعود إلى أمر خارج, والذين قالوا بأنه غير نافذ قالوا: النهي يعود إلى ذات المنهي عنه .

المهم أن هذا يترتب على المسألة المشهورة, النهي هل هو عائد إلى ذات المنهي عنه, أو أنه عائد إلى أمر خارج عنه.

وأيضاً العلة في النهي عن حكم القاضي وهو غضبان لما يحصل من تشويش الذهن, فيقاس على ذلك كل ما فيه تشويش للذهن، فإنه لا يقضى حال تشويش الذهن, فمثلاً: شدة الحر أو شدة البرد، وكذلك إذا كان الإنسان حاقناً أو حازقاً أو عنده جوع شديد .. إلخ.

وفي هذا الحديث المناصحة بين المسلمين, فـأبو بكرة رضي الله تعالى عنه كتب إلى ابنه عبد الله ، ففيه مناصحة القضاة, ومناصحة الولد.. إلخ.