شرح عمدة الأحكام - كتاب البيع [1]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا تبايع الرجلان, فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً, أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع)].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الشرح:

قال المؤلف رحمه الله تعالى: كتاب البيوع، البيع في اللغة: مطلق المبادلة، وسمي بيعاً لأن كل واحد من المتبايعين يمد باعه، فالمشتري يمد باعه لإعطاء الثمن وأخذ السلعة، والبائع يمد باعه لإعطاء السلعة وأخذ الثمن.

وأما في الاصطلاح فعرف بعدة تعاريف، ومن أخصر هذه التعاريف: أنه مبادلة مال بمال بقصد التملك بما يدل عليه، والمال الذي يصح العقد عليه ضابطه: كل ما أبيح نفعه أبيح بيعه إلا ما استثناه الشارع، فقولنا: (كل ما أبيح نفعه) يخرج ما حرم نفعه، فإنه لا يصح بيعه، فمثلاً: الخمر نفعه محرم، والدخان نفعه محرم، وآلات اللهو نفعها محرم، نقول: لا يصح بيعها.

يعني: هناك أشياء أباح الشارع أن تنتفع بها، لكن لم يجز لك أن تعقد البيع عليها، مثال ذلك: كلب الصيد، لك أن تنتفع به، لكن ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب )، كلب الصيد، كلب الحرث، كلب الماشية، الميتة، النجاسات كالدهن النجس، شحم الميتة إلى آخره.. هذه لك أن تنتفع بها، لكن ليس لك أن تعقد عليها عقد معاوضة.

وهذه يسميها العلماء رحمهم الله بالمختصات، والمختص: هو ما أباح الشارع أن تنتفع به، لكن لم يجز لك أن تعقد عليه عقد معاوضة، أما عقد التبرع فيجوز، وعقود التبرعات أوسع من عقود المعاوضات، فمثلاً: يجوز لك أن تهب هذا الكلب وأن توصي به، وأيضاً الصحيح أن توقف هذا الكلب؛ لأن ضابط ما يصح وقفه كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه كل ما صحت عاريته صح وقفه.

المهم أن نفهم ما الذي يصح أن يباع، وما الذي لا يصح أن يباع، وفي كتب الفقهاء المطولات يذكرون أنه يصح أن يباع كذا وكذا، البغل.. السرجين.. الحشرات؟ هل يصح بيعها أو لا؟ أشياء كثيرة يعددها العلماء رحمهم الله في المطولات، لكن الضابط في ذلك أن نقول: ما أبيح نفعه أبيح بيعه إلا ما استثناه الشارع، فهناك أشياء أباح الشارع لك أن تنتفع بها لكن لم يجز لك أن تعقد عليها عقد معاوضة، وهي ما يسمى بالمختصات، والمختص: هو ما أبيح نفعه ولم يجز أن تعقد عليه عقد معاوضة.

وقولنا: (بقصد التملك) يخرج المبادلة، فقد تقع المبادلة لكن لا يقصد بذلك التملك، كما لو أعرته كتاباً ثم رد لك هذا الكتاب الذي هو عارية، أو مثلاً أجرته السيارة ثم ردها هنا حصلت المبادلة، وإن كانت المبادلة في نفس المال الذي أعرته له إلى آخره، لكن قد تحصل المبادلة فيما إذا أتلفه، يعني: أعرته هذا الكتاب ثم بعد ذلك تلف، فالعارية مضمونة، أو تلف بالتعدي أو التفريط فإنه يضمنه، حصلت الآن المبادلة لكن هذه المبادلة لم يكن المقصود بها التملك في أول الأمر، فلا تسمى بيعاً.

(ولما يدل عليه) هذه صيغة البيع، وصيغة البيع راجعة إلى العرف.

العلماء رحمهم الله يقسمون صيغة البيع أو صيغة العقد إلى قسمين: صيغة قولية، وصيغة فعلية.

الصيغة القولية: هي الإيجاب والقبول، والإيجاب: هو اللفظ الصادر من البائع أو من يقوم مقامه، والقبول: هو اللفظ الصادر من المشتري أو من يقوم مقامه، والقبول والإيجاب لهما شروطٌ في الصيغة القولية إلى آخره.

وهذا الكلام اختصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال: ينعقد البيع بكل ما دل عليه العرف من قول أو فعل متعاقد أو متراخٍ.

بقينا أيضاً في قاعدة في المعاملات وهي أن الأصل في الشروط في العقود هو الصحة، ويدل لهذا قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، فالله عز وجل أمر بالإيفاء بالعقد، وهذا يشمل كل عقد.

وأيضاً الأمر بالإيفاء بالعقد يتضمن الأمر بإيفاء أصله ووصفه، والشرط فيه من وصفه، وأيضاً يدل لذلك حديث عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)، وحديث أبي هريرة في البخاري معلقاً: ( المسلمون على شروطهم )، فنقول: الأصل في الشروط في العقود، يعني: ما يشترطه أحد المتعاقدين مما له به منفعة ومصلحة، الأصل في ذلك الصحة.

وهذا باتفاق الأئمة، خلافاً لما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله أن الأصل في العقود البطلان وعدم الصحة، يعني فلا يصحح من العقود إلا عقداً جاء في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يصحح من الشروط في العقود إلا شرطاً نص عليه في القرآن أو في السنة إلى آخره، وهذا جمود على النص، والشريعة لا تفرق بين المتماثلان.

قال المؤلف رحمه الله: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا تبايع الرجلان, فكل واحد منهما بالخيار )، الخيار: اسم مصدر اختار، وهو طلب خير الأمرين.

وأما في الاصطلاح: فهو طلب خير الأمرين من إمضاء العقد أو فسخه.

(البيعان بالخيار ما لم يتفرقا )، والمقصود بالتفرق هنا هو التفرق بالأبدان العرفي، ( وكانا جميعاً أو يخير أحدهما الآخر )، أي: يقول له: اختر إمضاء البيع، ( أو يخير أحدهما الآخر )، أي: يقول له: اختر إمضاء البيع.

الخلاف في إثبات خيار المجلس

قوله: ( فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ) أي: لزم البيع.

وهذا الحديث فيه دليل لما ذهب إليه الشافعي والإمام أحمد من إثبات خيار المجلس، خلافاً لما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك من عدم إثبات خيار المجلس، مع أن الإمام مالكاً رحمه الله يروي حديث خيار المجلس في كتاب الموطأ، ومع ذلك قال ابن أبي ذئب: يستتاب مالك ، لأنه يروي هذا الحديث ومع ذلك لا يقول به، والصواب ما ذهب إليه الإمام أحمد والشافعي وهذا هو الصواب.

وهذا هو الذي دل له فهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم وابن عمر رضي الله تعالى عنهما، كان إذا أراد أن يلزم بعقد البيع مشى خطوات، كذلك أيضاً يدل لهذا فهم أبي برزة رضي الله تعالى عنه.

ما يثبت به خيار المجلس

وقوله: ( إذا تبايع الرجلان ) هذا يدل على إثبات خيار المجلس في البيع وما كان في معنى البيع، يعني: هذه مسألة خيار المجلس بما يثبت من العقود، يعني: ما هي العقود التي يثبت بها خيار المجلس؟ وما هي العقود التي لا يثبت بها خيار المجلس؟ نقول: الضابط في ذلك: خيار المجلس يثبت في البيع وما كان في معنى البيع، لقوله: ( البيعان )، ( إذا تبايعا )، وما عدا ذلك من العقود لا يثبت بها خيار المجلس، فيثبت خيار المجلس في البيع، ويثبت في الإجارة، مع أن الإجارة بيع للمنافع، ويثبت في الصرف؛ لأن الصرف بيع نقد بنقد، ويثبت في السلم؛ لأن السلم بيع تقديم الثمن وتأخير المثمن، ويثبت أيضاً على الصحيح في المساقاة والمزارعة؛ لأنها لازمة وهي شبيهة بالإجارة.

فنقول: يثبت في البيع وما كان في معنى البيع، وما عدا ذلك فلا يثبت فيه، كالوقف -مثلاً- لو قال هذا البيت وقف، ثم قال: رجعت ولي الخيار، نقول: ليس لك الخيار، وكذلك الهبة لا يرجع فيها، وكذلك القرض لا يثبت فيه، المهم أن العقود التي ليست بيعاً ولا في معنى البيع نقول: لا يثبت فيه، والنكاح لا يثبت فيه إلى آخره، والشركة والوكالة هذه لا يثبت فيها خيار المجلس، لأنها ليست بيعاً ولا في معنى البيع، وأيضاً هي عقود جائزة ولا حاجة إلى إثبات خيار المجلس فيها، بل له الحق في الفسخ متى شاء.

مدة خيار المجلس

وقوله: ( إذا تبايع الرجلان )، ومما يفيده هذا الحديث، أن مدة خيار المجلس أنها غير محددة لقوله: ( ما لم يتفرقا )، فمادام أنهما متلازمان بأبدانهما فإن الخيار باقٍ حتى لو طالت المدة، لو جلس في هذا المكان لمدة يوم أو يومين أو شهر، فإن الخيار باقٍ لكل واحد منهما مادام أنهما متلازمان بأبدانهما، حتى لو خرج من المجلس، فقول العلماء رحمهم الله: (خيار المجلس) هذا وصف أغلبي، لكن لو خرجا من المجلس وهما متلازمان بأبدانهما فكل واحد منهما بالخيار، حتى يتفرقا بأبدانهما عرفاً، فإذا تفرقا بأبدانهما عرفاً لزم البيع.

وقوله: ( إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا )، أيضاً يؤخذ من هذا أنهما إذا تفرقا بأبدانهما فإن العقد يكون لازماً، وضابط التفرق أنه راجع إلى العرف.