شرح زاد المستقنع - كتاب الظهار [2]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [... أو كالميتة والدم فهو مظاهر، وإن قالته لزوجها فليس بظهار، وعليها كفارته، ويصح من كل زوجة.

فصل في تعجيل الظهار وما يتعلق به: ويصح الظهار معجلاً ومعلقاً بشرط؛ فإذا وجد صار مظاهراً، ومطلقاً ومؤقتاً، فإن وطئ فيه كفر، فإذا فرغ الوقت زال الظهار، ويحرم قبل أن يكفر وطء ودواعيه ممن ظاهر منها، ولا تثبت الكفارة في الذمة إلا بالوطء وهو العود، ويلزم إخراجها قبله عند العزم عليه من قبل أن يتماسا، وتلزمه كفارة واحدة بتكريره قبل التكفير من واحدة، ولظهاره من نسائه بكلمة واحدة، وإن ظاهر منهن بكلمات فكفارات.

فصل:

وكفارته عتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، ولا تلزم الرقبة إلا لمن ملكها أو أمكنه ذلك بثمن مثلها فاضلاً عن كفايته دائماً وكفاية من يمونه، وعما يحتاجه من مسكن وخادم ومركوب وعرض بذلة، وثياب تجمل، ومال يقوم كسبه بمئونته، وكتب علم، ووفاء دين].

تقدم لنا الظهار في اللغة والاصطلاح، وذكرنا أنه في اللغة يطلق على معان، وفي الاصطلاح: هو تشبيه الزوج زوجته بمن تحرم عليه على التأبيد، وأن هذا التشبيه محرم ولا يجوز، وذكرنا أن تشبيه الزوج زوجته ينقسم إلى أقسام، وذكرنا ثمانية أقسام أو تسعة منها: أن يشبهها بظهر أمه فهذا ظهار باتفاق الأئمة، والقسم الثاني: أن يشبهها على من تحرم عليه على سبيل التأبيد من أقاربه، والقسم الثالث: أن يشبهها بمن تحرم عليه على سبيل التأبيد من غير أقاربه، والقسم الرابع: أن يشبهها بمن تحرم عليه على التأقيت، والقسم الخامس: أن يشبه عضوا من أعضاء زوجته بظهر أمه، والقسم السادس: أن يشبهها بعضو من أعضاء أمه غير الظهر، والقسم السابع: أن يشبه عضواً من أعضاء زوجته بعضو من أعضاء أمه، والقسم الثامن: أن يقول لزوجته أنت عليّ حرام، والتاسع: أن يقول لها أنت عليّ كأمي أو مثل أمي إلخ، والقسم العاشر: أن يقول لها أنت أمي أو كأمي بحذف لفظ عليّ أو عندي.

تقدمت هذه الأقسام، وبينا أقوال أهل العلم رحمهم الله تعالى فيها، وكذلك أيضاً من الأقسام:

تشبيه الزوجة بظهر ذكر

القسم الحادي عشر: أن يشبه زوجته بظهر ذكر، كأن يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أبي، فهل يكون مظاهراً أو لا يكون مظاهراً؟ للعلماء رحمهم الله تعالى في ذلك قولان:

القول الأول: أنه يكون مظاهراً، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى؛ لأنه منكر من القول وزور.

القول الثاني: أنه لا يكون مظاهراً؛ لأن الذكر ليس محلاً للاستمتاع في العادة، وهذا القول هو الأقرب، والله أعلم أنه لا يكون ظهاراً لما ذكرنا من التعليل أن الذكر ليس محلاً للاستمتاع في العادة.

تشبيه الزوجة بالميتة أو الدم

القسم الثاني عشر: قال رحمه الله: (أو كالميتة والدم).

لو قال لزوجته: أنت عليّ كالميتة، أو قال لزوجته أنت عليّ كالدم، فهل يكون ظهاراً أو لا يكون ظهاراً؟ المشهور من المذهب أنه يكون ظهاراً، وتقدم الكلام على هذه المسألة وقلنا بأنه إذا شبه زوجته بالميتة أو شبهها بالدم أو شبهها بالخنزير أو غير ذلك مما يقتضي التحريم فإذا اقتضى التحريم فإن هذا لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يقصد اليمين الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب، كأن يقول لزوجته: إن خرجت فأنت عليّ كالميتة أو كالدم أو نحو ذلك مما يقصد به المنع، أو إن لم تخرجي فأنت عليّ كالميتة أو الدم، يقصد من ذلك الحث أو التصديق أو التكذيب، فهذا ذكرنا أن الصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأن حكمه حكم اليمين.. فيه كفارة يمين؛ لأن هذا اللفظ يقتضي التحريم، فكأنه قال لزوجته: إن فعلت كذا فأنت عليّ حرام.

تقدم لنا أن الصواب أن التحريم إذا قصد به الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب يكون يميناً يكفرها كما ثبت ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

القسم الثاني: أن يقصد مجرد التحريم كأن يقول لزوجته: أنت عليّ كالميتة، أو أنت عليّ كالدم يقصد مجرد التحريم، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه ظهار، والصواب في هذه المسألة كما تقدم لنا: أنه يمين فيها كفارة يمين إلا إن نوى الطلاق فإنه يقع عليه الطلاق، وذكرنا أن مقتضى هذا اللفظ هو تحريم هذه الزوجة وإذا حرم هذه الزوجة.. إلخ.

فقد تقدم كما ذكرنا عن طوائف من السلف أن حكمها حكم اليمين إلا إن نوى الطلاق فإنها كناية من كنايات الطلاق، فيقع عليه طلقة، وسبق أن ذكرنا أنه إن نوى بقوله أنت عليّ حرام الطلاق فإنه يقع عليه الطلاق، كما جاء ذلك عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم كـعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وابن عمر رضي الله تعالى عنهم بأسانيد صحيحة.

القسم الحادي عشر: أن يشبه زوجته بظهر ذكر، كأن يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أبي، فهل يكون مظاهراً أو لا يكون مظاهراً؟ للعلماء رحمهم الله تعالى في ذلك قولان:

القول الأول: أنه يكون مظاهراً، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى؛ لأنه منكر من القول وزور.

القول الثاني: أنه لا يكون مظاهراً؛ لأن الذكر ليس محلاً للاستمتاع في العادة، وهذا القول هو الأقرب، والله أعلم أنه لا يكون ظهاراً لما ذكرنا من التعليل أن الذكر ليس محلاً للاستمتاع في العادة.

القسم الثاني عشر: قال رحمه الله: (أو كالميتة والدم).

لو قال لزوجته: أنت عليّ كالميتة، أو قال لزوجته أنت عليّ كالدم، فهل يكون ظهاراً أو لا يكون ظهاراً؟ المشهور من المذهب أنه يكون ظهاراً، وتقدم الكلام على هذه المسألة وقلنا بأنه إذا شبه زوجته بالميتة أو شبهها بالدم أو شبهها بالخنزير أو غير ذلك مما يقتضي التحريم فإذا اقتضى التحريم فإن هذا لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يقصد اليمين الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب، كأن يقول لزوجته: إن خرجت فأنت عليّ كالميتة أو كالدم أو نحو ذلك مما يقصد به المنع، أو إن لم تخرجي فأنت عليّ كالميتة أو الدم، يقصد من ذلك الحث أو التصديق أو التكذيب، فهذا ذكرنا أن الصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأن حكمه حكم اليمين.. فيه كفارة يمين؛ لأن هذا اللفظ يقتضي التحريم، فكأنه قال لزوجته: إن فعلت كذا فأنت عليّ حرام.

تقدم لنا أن الصواب أن التحريم إذا قصد به الحث أو المنع أو التصديق أو التكذيب يكون يميناً يكفرها كما ثبت ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.

القسم الثاني: أن يقصد مجرد التحريم كأن يقول لزوجته: أنت عليّ كالميتة، أو أنت عليّ كالدم يقصد مجرد التحريم، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه ظهار، والصواب في هذه المسألة كما تقدم لنا: أنه يمين فيها كفارة يمين إلا إن نوى الطلاق فإنه يقع عليه الطلاق، وذكرنا أن مقتضى هذا اللفظ هو تحريم هذه الزوجة وإذا حرم هذه الزوجة.. إلخ.

فقد تقدم كما ذكرنا عن طوائف من السلف أن حكمها حكم اليمين إلا إن نوى الطلاق فإنها كناية من كنايات الطلاق، فيقع عليه طلقة، وسبق أن ذكرنا أنه إن نوى بقوله أنت عليّ حرام الطلاق فإنه يقع عليه الطلاق، كما جاء ذلك عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم كـعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وابن عمر رضي الله تعالى عنهم بأسانيد صحيحة.

قال رحمه الله: (وإن قالته لزوجها فليس بظهار، وعليها كفارته).

إذا قالت الزوجة لزوجها: أنت عليّ كظهر أبي فهل هو ظهار أم ليس ظهاراً؟ يقول المؤلف رحمه الله تعالى بأنه ليس ظهاراً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:3].

فدل ذلك على أن هذا خاص بالزوج، والله سبحانه وتعالى خص الظهار بالأزواج؛ ولأن الظهار فيه شيء من الفرقة، والذي يملك الفرقة هو الزوج، فالطلاق هو لمن أخذ بالساق، فإذا قالت لزوجها: أنت عليّ كظهر أبي أو كظهر أخي أو نحو ذلك، فليس ظهاراً ، لكن يقول المؤلف رحمه الله تعالى: (وعليها كفارته)، وعلى هذا نقول لهذه المرأة يجب عليها أن تعتق رقبة، فإن لم تستطع فصيام شهرين متتابعين، فإن لم تستطع فإنها تطعم ستين مسكينا، واستدلوا على ذلك بما ورد أن عائشة بنت طلحة قالت: إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو عليّ كظهر أبي، فأفتاها أهل المدينة بأن عليها إعتاق رقبة، مما يدل على أن الزوجة إذا قالت لزوجها أنت عليّ كظهر أبي... إلخ، فإنه يلزمها كفارة الظهار.

والرأي الثاني: أنه يلزمها كفارة اليمين، وهذه هي الرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله وقال به عطاء ؛ لأن هذا ليس ظهاراً، وما دمنا نقول بأنه ليس ظهاراً فكيف نلزمها بكفارة الظهار؟ فهذا تحريم، ويلزمها كفارة التحريم، وهذه بينها الله عزو جل بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:1-2].

فالصواب في هذه المسألة أنه لا يجب عليها كفارة ظهار، وإنما يجب عليها كفارة يمين؛ لأن هذا اللفظ ليس ظهاراً وإنما هو تحريم، وكما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين: الحرام يمين فيه الكفارة، وأما ما ورد أن عائشة بنت طلحة رضي الله عنها أفتيت بأن عليها إعتاق رقبة، فنقول: عليها إعتاق رقبة، هذا من كفارة اليمين لأن كفارة اليمين: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة:89].

وربما أن الذي أفتاها بتحرير الرقبة -وتحرير الرقبة من خصال كفارة اليمين- أراد التغليظ عليها، أو أنها رغبت في ذلك وأخرجت كفارة الرقيق خصوصاً أن الرقيق في ذلك الزمن متيسر.

قال رحمه الله: (ويصح من كل زوجة).

يعني: الظهار يصح من كل زوجة سواء كانت هذه الزوجة مدخول بها، أو كانت غير مدخول بها، وسواء كانت هذه الزوجة حرة أو كانت أمة، لقول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:3]، وهذا يشمل نساء المظاهر سواء كن حرائر أو إيماء، وسواء دخل بهن أو لم يدخل بهن.

ويؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (ويصح من كل زوجة) أنه لا يصح من ملك اليمين.. الأمة التي يملكها بيمينه لا يصح الظهار منها، فلو قال لأمته: أنت عليّ كظهر أمي، هل يكون مظاهراً؟ نقول بأنه لا يكون مظاهراً وحكمه حكم التحريم، وحينئذ تجب فيه كفارة اليمين، وكذلك أيضاً لو قال ذلك لأم ولده -أم ولده أمة تعتق بموت سيدها- فنقول بأنه لا يأخذ حكم الظهار وإنما عليه كفارة يمين.

وهل يشترط في الظهار أن يكون المظاهر بالغاً أو أن هذا ليس شرطاً؟

المشهور من مذهب الإمام أحمد أن الظهار يصح ممن يصح طلاقه، ومن هو الذي يصح طلاقه؟ البالغ وأيضاً المميز الذي يعقل الطلاق ويعرف أنه إذا تلفظ بهذا اللفظ فإن زوجته تطلق منه، وعليه فمذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه لا يشترط البلوغ.

والرأي الثاني: وهو قول أكثر أهل العلم أنه يشترط البلوغ، وهذا الرأي هو الصواب كما ذكرنا المذهب يطردون المسألة في الطلاق لا يشترط البلوغ.. في الإيلاء لا يشترط البلوغ.. في الظهار لا يشترط البلوغ.

والصواب في هذه المسألة أن البلوغ شرط وأنه يشترط لصحة الطلاق والإيلاء والظهار.. إلخ؛ لأن الصبي القلم عنه مرفوع وعبارته ملغاة.

وهل يصح من الكافر أو نقول أنه لا يصح من الكافر؟

المشهور من مذهب الإمام أحمد وكذلك أيضاً قول الشافعي أنه لا يشترط الإسلام، وتقدم أيضاً لنا في باب أنكحة الكفار أن حكم أنكحتهم كحكم المسلمين، يعني يترتب على أنكحتهم ما يترتب على أنكحة المسلمين، فإذا طلق الكافر يقع الطلاق، وإذا آلى من زوجته صح إيلاؤه، وإذا ظاهر من زوجته صح ظهاره، وتجب عليه النفقة، وتجب عليه العدة، وتجب عليه القسم... إلخ، فحكم أنكحتهم كأنكحة المسلمين، ويدل لذلك أن الله سبحانه وتعالى أضاف الزوجية إليهم وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4] مما يعتبر أنها زوجة ويترتب على هذه الزوجية سائر أحكامها.

والرأي الثاني: رأي الإمام مالك رحمه الله تعالى: أنه لا يصح من الكافر، والصواب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الحنابلة والشافعية لما تقدم وسبق أن نشرنا هذه المسألة في باب أنكحة الكفار.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى فصل في حكم تعجيل الظهار وتعليقه وتوقيته ونحو ذلك، فقال: (ويصح الظهار معجلاً ومعلقاً بشرط) يصح الظهار معجلاً كأن يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، هذا ظهار معجل، ويصح أيضاً معلقاً بشرطه، كأن يقول لزوجته أنت عليّ كظهر أمي إذا دخل رمضان، أو إذا طلع الفجر، أو طلعت الشمس، فيصح أن يكون معجلاً، ويصح أيضاً أن يكون معلقاً بشرط؛ لعموم قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:3]، وهذا يشمل الظهار المعجل وكذلك أيضاً الظهار المعلق.

قال رحمه الله: (ومطلقاً ومؤقتاً).

أيضاً يصح الظهار أن يكون مطلقاً بلا توقيت كأن يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، مطلق عن التوقيت، ويصح أيضاً أن يكون مؤقتاً؛ كأن يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي هذا الأسبوع أو هذا الشهر ونحو ذلك، ويدل على ذلك حديث سلمة بن صخر رضي الله تعالى عنه، فإنه ظاهر من زوجته شهر رمضان، وعلى هذا إذا مضى الوقت فإنه لا يلزمه شيء، إذا قال لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي مدة هذا الأسبوع، فإن مضى الوقت فإنه لا يلزمه شيء، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فإن وطئ فيه كفر، فإذا زال الوقت زال الظهار) إن وطئ فيه كفر لظهاره، وإن انقضت المدة ولم يطأ زال ظهاره، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم أنه يصح الظهار أن يكون مطلقاً وأن يكون أيضاً مؤقتاً، وعند المالكية أنه إذا أقت الظهار فإنه ينقلب إلى ظهار مؤبد.

والذي يظهر والله أعلم هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم لما ذكرنا من قصة سلمة بن صخر وهو في سنن أبي داود والحاكم والدارمي وحسنه الترمذي ، إلا أن البخاري حكم عليه بالانقطاع، وأشار البيهقي إلا كونه مرسلا، والحديث له شواهد تعضده.

قال رحمه الله: (ويحرم قبل أن يكفر وطء ودواعيه ممن ظاهر منها، ولا تثبت الكفارة في الذمة إلا بالوطء وهو العود).

عندنا هنا مسألتان:

المسألة الأولى: حكم دواعي الوطء، يعني: حكم الاستمتاع بالمرأة التي ظاهر منها، أما المرأة التي لم يظاهر منها -كما لو كان له زوجتان أو له ثلاث زوجات إلخ- فإنها لا تحرم، فهي مباحة سواء ما يتعلق بالوطء أو بالاستمتاع ما دام أنه لم يطأ حال الصيام، لكن بقينا في المرأة التي ظاهر منها هل له أن يستمتع، أما الوطء فسيأتينا إن شاء الله أنه محرم وفيه خلاف فيما يتعلق بالإطعام، لكن ما يتعلق بالاستمتاع، هل له أن ينظر إليها بشهوة وأن يمسها بشهوة ونحو ذلك من أنواع الاستمتاع، أو نقول بأنه ليس له ذلك؟ للعلماء رحمهم الله في ذلك رأيان:

الرأي الأول: أنه ليس له ذلك، وهذا هو المشهور من المذهب، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وطء ودواعيه) وهو قول أكثر أهل العلم أنه ليس له ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:2-3]، قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3].

الرأي الثاني: أن دواعي الوطء جائزة ولا بأس بها، وأن المراد بالمسيس هو الجماع، وكما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد صحيح أن المس والمسيس والمباشرة في القرآن المراد بها الجماع، ولكن الله يكني، وهذا وارد عن ابن عباس بإسناد صحيح، والأقرب والله أعلم في هذه المسألة أن يقال: إذا ظن أنه سيجامع فإنه لا يجوز، أما إذا ظن أنه لن يجامع فإن هذا جائز ولا بأس به، ومما يؤيد رأي الجمهور حديث ابن عباس رضي الله عنهما وإن كان في إسناده ضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما.

الخلاصة فيما يتعلق بدواعي الوطء نقول: إن ظن أنه سيجامع فلا يجوز له أن يباشر، وإن عرف من نفسه أنه لم يطأ نقول بأنه لا بأس بهذه الدواعي، وإن كان الأحوط أن يترك مثل هذه الأشياء، هذا فيما يتعلق بدواعي الوطء.

بقينا في الوطء، وهنا نقول: للكفارة ثلاث خصال: إعتاق الرقبة، والصيام، والإطعام.

أما الإعتاق والصيام فالقرآن صريح في ذلك وأنه ليس له أن يطأ حتى يكفر إن كان سيكفر بالعتق أو بالصيام قال: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا * فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3-4].

بقينا في الخصلة الثالثة وهي الإطعام، الله سبحانه وتعالى سكت عن الإطعام ولم يقيد الإطعام بالمسيس، فاختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، والمشهور من المذهب أنه لا يجوز له أن يطأ حتى لو أراد أن يكفر بالإطعام، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى منع الوطء في الصيام الذي تطول مدته شهران متتابعان، فإذا كان هذا في الصيام الذي مدته شهران متتابعان فلأن يكون ذلك في الإطعام الذي ينقضي بساعة أو ساعتين من باب أولى، وأيضاً مما يدل ذلك ما سبق أن أشرنا إليه من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به) وهو المشهور من المذهب وقال به كثير من العلماء.

الرأي الثاني: أن هذا جائز ولا بأس به؛ لأن الله سبحانه وتعالى سكت عنه، وما سكت عنه فهو عفو، والأحوط في هذه المسألة هو الرأي الأول، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى؛ لأنه إذا كان الله سبحانه وتعالى حرم الوطء في خصلة الصيام التي تطول فلأن يحرم ذلك في الإطعام الذي ينقضي في ساعة أو ساعتين أو نحو ذلك من باب أولى.

قال رحمه الله: (ولا تثبت الكفارة في الذمة إلا بالوطء وهو العود)، قوله: (لا تثبت الكفارة في الذمة).

معنى ذلك أن الكفارة لا تستقر إلا بالعود، واختلف العلماء رحمهم الله من المفسرين والفقهاء في تفسير العود، يعني: إذا ظاهر من زوجته وجبت عليه الكفارة، لكن هل هذه الكفارة مستقرة؟ هل هي ثابتة أو ليست ثابتة؟ نقول: هذه الكفارة ليست ثابتة، وعلى هذا لو أنه طلق زوجته قبل أن يعود، هل عليه كفارة؟ نقول: ليس عليه كفارة، ولو أنه مات قبل أن يعود هل عليه كفارة أو ليس عليه كفارة؟ نقول: ليس عليه كفارة، الكفارة تجب بالظهار ولكنها لا تستقر إلا بالعود.

واختلف العلماء رحمهم الله في المراد بالعود، والمشهور من المذهب قال: (إلا بالوطء وهو العود)، فالمشهور من المذهب أن العود هو الوطء، وعلى هذا لا تستقر كفارة بالذمة إلا بالوطء.

الرأي الثاني: أن المراد بالعود هو العزم على الوطء، وهذا هو قول أبي حنيفة والإمام مالك.

الرأي الثالث: رأي الشافعية أن المراد بالعود هو أن يمسكها زمنا يمكن أن يطلق فيه، يعني: على رأي الشافعية أن الكفارة تجب بالظهار، إذا ظاهر ثم مضى وقت ممكن أن يطلق فيه وجبت عليه الكفارة.

الرأي الأخير: وهو رأي الظاهرية قالوا: إن المراد بالعود هو أن يكرر لفظ الظهار مرة أخرى؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة:3].

أصبح عندنا الأقوال: المشهور من المذهب المراد بالعود الوطء.

الرأي الثاني؛ رأي أبي حنيفة ومالك : العزم على الوطء.

الثالث؛ رأي الشافعية: أن يمسكها زمنا يمكن أن يطلق فيه، وهنا يقولون أنه عاد فوجبت عليه الكفارة.

الرأي الرابع: أن المراد به أن يكرر اللفظ مرة أخرى، والذي يظهر والله أعلم أن المراد بالعود أن يعزم على وطئها كما هو رأي الحنفية والمالكية، لأنه إذا عزم على الوطء فقد عزم على أن يستحلها استحلالاً لا يكون لأمه؛ لأن الظهار هو أن يشبه أحل الناس له بأحرم الناس عليه، فإذا عزم على الوطء فقد عزم على أن يستحلها استحلالاً لا يكون لأمه.

وأما رأي الظاهرية: ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا [المجادلة:3]، فهذا رده ابن القيم رحمه الله، قال لو أن المراد هو أن يكرر لفظ الظهار لقال الله عز وجل: (ثم يعيدون ما قالوا) كذلك أيضاً رأي الشافعية، قال: العود المراد به خلاف اللفظ الذي صدر منه، واللفظ الذي صدر منه هو التشبيه القبيح حيث شبه أحل الناس له بأحرم الناس عليه فعاد عن هذا اللفظ ورجع عنه، ويكون راجعا عنه إذا عزم على أن يطأ فيكون عزم أن يستحلها استحلالاً لا يكون لأمه.

قال رحمه الله: (ويلزم إخراجها قبله عند العزم عليه). يعني: يجب عليه أن يخرج الكفارة قبل الوطء؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3]، فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:4]، يجب أن يخرج الكفارة عند العزم على الوطء وقبل الوطء، أما بعد الوطء فإن هذا لا يجوز؛ لما تقدم من قول الله عز وجل: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3].

قال رحمه الله: (وتلزمه كفارة واحدة بتكريره قبل التكفير من واحدة).

يعني: لو أن شخصا قال لزوجته اليوم: أنت عليّ كظهر أمي، ثم قال في الغد قبل أن يكفر: أنت عليّ كظهر أمي، ثم قاله في اليوم الثالث، ثم في اليوم الرابع قبل أن يكفر، فهذا تلزمه -كما يقول المؤلف رحمه الله- كفارة واحدة، ونظير ذلك اليمين بالله عز وجل، فإذا حلف قال: والله لا أكلم زيداً، ثم قال: والله لا أكلم زيداً، ثم قال: والله لا أكلم زيداً، قبل أن يكفر عن اليمين الأولى يلزمه كفارة يمين واحدة، فكذلك أيضاً هنا، وهذا هو المشهور من المذهب.

والرأي الثاني؛ وهو رأي أكثر أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية: أنه إن أراد بقوله أو بلفظه الثاني أنت عليّ كظهر أمي أن يؤكد اللفظ الأول فكفارة واحدة، وإن أراد أن يستأنف ظهاراً جديداً فعليه كفارة أخرى، يعني: لو قال لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي ولم يكفر، ثم قال مرة أخرى: أنت عليّ كظهر أمي، هم يقولون: اللفظ الثاني إن أراد به أن يؤكد الأول فهنا كفارة واحدة، وإن أراد ظهاراً جديدا -يعني: يستأنف ظهاراً جديداً- فعليه كفارة أخرى؛ للآية: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رقبة [المجادلة:3] ولأنه لما أراد ظهاراً جديدا هنا تجدد السبب فيلزمه كفارة أخرى.

قال رحمه الله: (ولظهاره من نسائه بكلمة واحدة).

مثلاً: عنده أربع نساء فقال لهن: أنتن عليّ كظهر أمي، يقول المؤلف رحمه الله: تجب عليه كفارة واحدة؛ لأنه ظهار واحد، وعند الحنفية أنه يجب عليه الكفارات بعدد النساء؛ لأن التحريم تعدد.

والأقرب والله أعلم في هذه المسألة وهو ما ذهب إليه الحنابلة والمالكية أنه لا يجب إلا كفارة واحدة.

قال رحمه الله: (وإن ظاهر منهن بكلمات فكفارات).

يعني: لو قال لزوجته الأولى: أنت عليّ كظهر أمي، وقال للثانية: أنت عليّ كظهر أمي، وقال للثالثة: أنت عليّ كظهر أمي، فهنا يلزمه كفارات لتعدد الظهار فيلزمه لكل ظهار كفارة مستقلة.

طيب لو أنه ظاهر من زوجته ثم كفر ثم ظاهر منها مرة أخرى، نقول: يجب عليه كفارة أخرى لتجدد السبب.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2816 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2730 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] 2676 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2643 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2638 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2556 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2553 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2526 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2520 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] 2497 استماع