شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [2]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويجوز الاستصباح بها في غير مسجد، وأن يكون من مالك أو من يقوم مقامه، فإن باع ملك غيره أو اشترى بعين ماله شيئاً بلا إذنه لم يصح، وإن اشترى له في ذمته بلا إذنه ولم يسمه في العقد صح له بالإجازة، ولزم المشتري بعدمها ملكاً، ولا يُباع غير المساكن مما فُتح عنوة كأرض الشام، ومصر، والعراق، بل يؤجر، ولا يصح بيع نقع البئر، ولا ما ينبت فيه أرضه من كلأ وشوك ويملكه آخذه. وأن يكون مقدوراً على تسليمه، فلا يصح بيع آبق وشارد وطير في هواء وسمك في ماء، ولا مغصوب من غير غاصبه، وقادر على أخذه، وأن يكون معلوماً برؤية، أو صفة، فإن اشترى ما لم يره أو رآه وجهله، أو وصف له بما لا يكفي سلماً لم يصح، ولا يُباع حمل في بطن ولبن في ضرع منفردين، ولا مسك في فأرته ونوى في تمر وصوف على ظهر، وفجل ونحوه قبل قلعه، ولا يصح بيع الملامسة والمنابذة، ولا عبد من عبيده ونحوه، ولا استثناؤه إلا معيناً، وإن استثنى من حيوان يؤكل رأسه وجلده وأطرافه صح، وعكسه الشحم والحمل].

تقدم لنا في الدرس السابق تعريف البيع، وذكرنا أن تعريفه: مبادلة مال بمال ولو في الذمة، أو منفعة مباحة بمثل أحدهما على التأبيد غير ربا وقرض.

وتقدم لنا أن الأصل في البيع الحِل والصحة، ودليل ذلك قول الله عز وجل: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وتقدم جملة من شروط العقد، وأن من شروط العقد التراضي، وكذلك من شرط العقد أن يكون العاقد جائز التصرف، وكذلك أيضاً من الشروط أن يكون المعقود عليه مباح النفع... إلى آخره.

ثم قال رحمه الله تعالى: (والأدهان النجسة، ولا المتنجسة).

الدهن النجس: هو الذي أصله وذاته نجسة كدهن الميتة، وأما الأدهان المتنجسة: فهي التي أصلها طاهر لكن طرأت عليها النجاسة كزيت طاهر وقع فيه شيء من البول، فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: (لا يصح بيع الأدهان النجسة، ولا المتنجسة).

أما النجسة فكما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- لا يصح بيعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم بيعها فقال: ( إن الله حرم بيع الميتة والخمر والأصنام، فقالوا: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنه تُطلى بها السفن وتُدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، هو حرام )، خرجاه في الصحيحين.

وأما الأدهان المتنجسة؛ فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: لا يصح بيعها؛ لأنهم يرون أن الأدهان المتنجسة لا يمكن أن تطهر، أي هم يفرقون بين الماء وبين سائر المائعات.

فالماء إذا تنجس يمكن أن يُطهّر، وأما سائر المائعات إذا تنجست فإنه لا يمكن أن تطهر، وإذا كان لا يمكن أن تطهر فإنها تُلحق بالأدهان النجسة، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى.

والصواب في هذه المسألة: أن الأدهان المتنجسة وسائر المائعات المتنجسة يمكن أن تطهر بالإضافة أو بالغلي أو بالمعالجة ونحو ذلك، وإذا كان كذلك فنقول بأنه يصح بيعها؛ لأن الأصل في ذلك الحِل فبيعها كبيع الثوب النجس، وبيع الثوب النجس جائز ولا بأس به.

قال رحمه الله: (ويجوز الاستصباح بها في غير مسجد).

يقول المؤلف رحمه الله: يجوز الاستصباح بالأدهان المتنجسة، وذلك بأن يوضع هذا الدهن المتنجس في السراج لكي يستخدم وقوداً للإضاءة، هذا بالنسبة للأدهان المتنجسة.

وأما بالنسبة للدهن النجس فهو نجس؛ لأنهم لا يرون أن النجاسة العينية تطهر بالاستحالة، وإلا فإن هذا الدهن سيستحيل إلى ضوء، ودخان، ومع ذلك لا يرون أن النجاسة العينية تطهر بالاستحالة.

فيقول المؤلف رحمه الله: يجوز الاستصباح بالأدهان المتنجسة، وأما النجسة فإنه لا يجوز الاستصباح بها، والمتنجسة يجوز الاستصباح بها في غير المسجد، أي في البيت، وأما في المسجد فلا يجوز، قالوا: لأنه يؤدي إلى تنجيسه، وهذا الكلام كله فيه نظر.

والصواب في ذلك: أولاً: أما بالنسبة للأدهان المتنجسة فهذه يصح الانتفاع بها، ويمكن تطهيرها، ويصح بيعها, ولكن بقينا في الأدهان النجسة، فإن: الأدهان النجسة أو عموم النجاسات كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يجوز الانتفاع بالنجاسات على وجه لا يتعدى، فالنجاسات هذه يجوز الانتفاع بها على وجه لا يتعدى، وأما المتنجس فهذا أمره ظاهر أي يمكن تطهيره فيجوز الانتفاع به مطلقاً، ولكن ما كان نجس العين فإنه يجوز الانتفاع به على وجه لا يتعدى.

فمثلاً: الدهن النجس يجوز أن تنتفع به كما ذكر الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: ( أرأيت شحوم الميتة يا رسول الله؛ فإنه تُطلى بها السفن، وتُدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، هو حرام )، فقوله: (هو حرام) أي البيع، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على قولهم: تُدهن بها الجلود، وتُطلى بها السفن، ويستصبح بها الناس.

فإذا كانت هذه النجاسات يمكن أن يُنتفع بها في الصناعات ونحو ذلك، فنقول بأن هذا جائز ولا بأس به.

وقلنا: على وجه لا يتعدى كما لو استصبحها في أثناء الصلاة، فإن هذا لا يجوز، أو أنه تناولها مع فمه فإن هذا غير جائز.

قال رحمه الله: (وأن يكون من مالك، أو من يقوم مقامه).

هذا الشرط الرابع: أن يكون العقد من مالك، أو من يقوم مقام المالك، والذي يقوم مقام المالك أربعة: الوكيل والوصي والولي والناظر، فلابد أن يكون العقد صادراً من مالك أو من يقوم مقام المالك، ودليل ذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29]، وأيضا حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه في الترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تبع ما ليس عندك ).

قال رحمه الله: (فإن باع مُلك غيره، أو اشترى بعين ماله بلا إذنه لم يصح، وإن اشترى له في ذمته بلا إذنه ولم يسمه في العقد صح له بالإجازة). ‏

تصرف الفضولي

لما قرر المؤلف رحمه الله أن العقد لابد أن يكون من مالك، أو من يقوم مقام المالك سواء عقد البيع، أو عقد الإجارة، أو عقد المساقات، أو المزارعة، أو في عقود التبرعات، كالوقف والوصية... إلى آخره، قال: لابد أن يكون من مالك، أو من يقوم مقام المالك, وهنا ثلاث صور:

الصورة الأولى: قال: (فإن باع ملك غيره).

هذه الصورة الأولى: باع ملك غيره، مثال ذلك: إذا باع الرجل سيارة أخيه، وأخوه لم يأذن له في هذا البيع، فهل يصح ذلك أو لا يصح؟ أو باع سيارة صديقه أو أبيه، وأبوه وصديقه لم يأذنا له في البيع؟ يقول المؤلف رحمه الله بأنه لا يصح؛ لأنه فقد شرطاً من شروط صحة البيع، وهو أن يكون من مالك، أو من يقوم مقام المالك.

وحتى لو أجازه المالك فهذا التصرف يسمونه بالتصرف الفضولي فيرون أنه لا ينفذ.

وأضيق الناس في التصرفات الفضولية هم الشافعية والحنابلة، فإنهم لا يرون التصرفات الفضولية، فلو أجازه المالك، وقال: أجزت البيع، قالوا: بأنه لا ينفذ؛ لأنه فقد شرطاً من شروط صحة العقد.

وأوسع الناس في التصرفات الفضولية هم الحنفية، وأما المالكية فهم بين الطرفين، بين الشافعية والحنابلة وبين الحنفية، فهم يفرقون بين ما يتعلق بعقود المعاوضات وعقود التبرعات.

والصواب في هذه المسألة هو صحة تصرف الفضولي، وأنه ينفذ بالإجازة سواء كان ذلك في العبادات، أو كان ذلك في عقود المعاوضات، أو في عقود التبرعات، أو في عقود الأنكحة، أو في الفسوخ، والأمر في ذلك واسع، والصواب التوسع في التصرفات الفضولية؛ لأن العقود مبنية على الرضا، فإذا رضي المالك نفذ التصرف، وإذا أجاز التصرف ورضي فإن التصرف ينفذ، فتنفذ التصرفات الفضولية في العبادات، فلو أنه أخرج الزكاة عن أخيه، أو أبيه، ثم أجازه نفذ ذلك.

وينفذ أيضاً التصرف الفضولي في الكفارات، فلو أخرج كفارة اليمين عن صديقه ثم أجازه نفذ ذلك، وينفذ في عقود المعاوضات، فلو باع ملك غيره فإنه ينفذ، وينفذ أيضاً في عقود التبرعات، فلو أنه وقف ملك غيره فإنه ينفذ الوقف بالإجازة، ولو وهب ملك غيره فإنه ينفذ بالإجازة.

وكذلك أيضاً في الفسوخ، فلو طلق زوجة فلان فإنه ينفذ بالإجازة، وفي الخُلع، وفي النكاح، فلو عقد لابنة زيد فإنه ينفذ بالإجازة.

فالصواب في ذلك: أن التصرف الفضولي خلاف ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، فالمؤلف يوافق الحنابلة والشافعية في أنهم لا يرون التصرف الفضولي إلا في مسائل كما سيذكرها المؤلف رحمه الله، فيذكر هنا مسألة، ويذكرون في العِدد شيئاً من المسائل، أي على نطاق ضيق جداً.

إذاً: (إذا باع ملك غيره) فإن: هذا لا ينفذ، هذه الصورة الأولى.

الصورة الثانية: قال: (أو اشترى بعين ماله شيئاً بلا إذنه لم يصح) حتى بالإجازة يقول: لا يصح، فلو اشترى بعين ماله، كيف بعين ماله؟ معك مائة ريال لزيد، أو معك خمسون ريالاً، قلت: أعطني بهذه الخمسين هذا الكتاب، أو هذه السلعة, قال: لا يصح لأنه اشترى بعين مال غيره فلا ينفذ، ولو أجازه المالك قالوا: لا ينفذ؛ لأن العقد صدر من غير مالك، وهم يرون أن التصرفات الفضولية لا تنفذ.

الصورة الثالثة: قال: (وإن اشترى له في ذمته بلا إذنه ولم يسمه في العقد صح له بالإجازة) هذه الصورة هي التي يجيزونها فيما يتعلق بالتصرفات الفضولية، ولكن يصح بشرطين:

الشرط الأول: اشتراه في ذمته، فمثلاً قال: أعطني الكتاب ولم يقل بهذه الخمسين التي هي لزيد، وإنما اشترى لزيد هذا الكتاب بخمسين ريالاً فهذا اشتراه في ذمته، فهذه الصورة مقابلة للصورة التي قبلها، أي أنه لم يشترِ بعين ماله وإنما اشترى له في ذمته فيقول المؤلف رحمه الله: لا بأس. هذا الشرط الأول.

والشرط الثاني: ولم يسمه في العقد، ما قال: بعني هذا الكتاب لزيد، وإنما اشترى الكتاب على أنه لزيد، قال المؤلف رحمه الله: يصح بالإجازة. ولكي يصح تصرف الفضولي على المذهب فلابد من هذين الشرطين:

الشرط الأول: أن تشتري في ذمتك لا أن تشتري بعين ماله.

الشرط الثاني: ألا تسميه في العقد.

فإن سميته في العقد فإنه لا يصح، وإذا فعلت ذلك فإن أجازه من اشتريت له نفذ، وإذا لم يجزه ورد التصرف فإن السلعة التي اشتريتها تكون لك.

ثم قال رحمه الله: (ولزم المشتري بعدمها) يعني بعدم الإجازة (مُلكاً).

فتلخص لنا: أنهم لا يجيزون إلا هذه الصورة، والصواب في ذلك ما ذهب إليه الحنفية رحمهم الله تعالى.

ويدل لذلك حديث عروة بن الجعد رضي الله عنه( أن النبي صلى الله عليه وسلم: أعطى عروة بن الجعد ديناراً لكي يشتري له شاة أُضحية، فذهب عروة واشترى بهذا الدينار شاتين، وفي الطريق باع شاة بدينار, ورجع للنبي صلى الله عليه وسلم بشاة ودينار ) فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا التصرف.

بيع المساكن والأراضي المفتوحة

قال رحمه الله: (ولا يُباع غير المساكن مما فُتح عنوة كأرض الشام، ومصر، والعراق، بل تؤجر).

ما فُتح عنوة من أراضي مصر، والشام، والعراق، يقول المؤلف رحمه الله: المساكن هذه لا بأس أن تُباع؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اقتطعوا الخطط وعمروها وباعوها.

وأما بالنسبة للأراضي فإنهم اختلفوا في ذلك:

الرأي الأول: لا يجوز أن تُباع؛ لأنها وقف، فـعمر رضي الله عنه لما فُتحت هذه البلاد وقفها، والوقف كما في حديث ابن عمر لا يُباع ولا يوهب ولا يورث.

والرأي الثاني: أن مثل هذه الأراضي يجوز بيعها, وهو رأي الحنفية، واختاره شيخ الإسلام، والرأي الأول: رأي أكثر أهل العلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن وقف عمر ليس المراد به الوقف الاصطلاحي، وإنما المراد بذلك أن يبقي ريعها للمسلمين، فهذا مراد عمر رضي الله عنه، فلو مات هذا الشخص وعنده هذه الأرض الخراجية فإن ورثته يقومون مقامه بالإجماع؛ لأنها تورث.

والوقف الاصطلاحي هل يورث أو لا يورث؟ الوقف الاصطلاحي لا يورث لكن هنا تورث، ومراد عمر رضي الله عنه هو استمرار الخراج لبيت المال لكي يُصرف في مصالح المسلمين، فهذا مراد عمر رضي الله عنه، وليس المراد هنا الوقف الاصطلاحي.

ونظير هذه المسألة وهي ما يلتبس على بعض أهل العلم من عدم تفريقهم بين الاسم الشرعي والاسم الاصطلاحي الذي اصطلح عليه العلماء رحمهم الله قول النبي صلى الله عليه وسلم لـعمر لما طلق ابن عمر رضي الله عنه زوجته وهي حائض فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لـعمر :(مره فليراجعها)، فقوله عليه الصلاة والسلام لـعمر :(مره فليراجعها) أخذ العلماء رحمهم الله أن المراد بهذا المراجعة الاصطلاحية, وبنوا على ذلك أن طلاق الحائض يقع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مره فليراجعها)، والمراجعة فرع عن الطلاق.

ولكن شيخ الإسلام ابن القيم رد هذا، وقال: لا يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: مره فليراجعها ثم بعد ذلك يطلقها، فهذا بعيد.

فالمقصود بالمراجعة ليست الاصطلاحية وهي إعادة المطلقة غير البائن، وإنما المراد بالمراجعة هنا أن يردها إلى الحالة الأولى من حُسن العشرة ونحو ذلك، ولا يلزم أن تكون هذه المراجعة الاصطلاحية التي ينبني عليها وقوع الطلاق.

قال رحمه الله: (بل تؤجر).

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: لا بأس أن تؤجر، ومثل ذلك كلام العلماء رحمهم الله في رِباع مكة -أي منازل مكة- هل يجوز بيعها أو لا يجوز بيعها؟

فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن منازل مكة لا يجوز أن تُباع ولا أن تؤجر، وعند جمهور العلماء يجوز أن تُباع وأن تؤجر، لأن الله سبحانه وتعالى أضاف هذه الأموال للمهاجرين: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [الحشر:8]، فالإضافة تقتضي الملك، وإذا كان كذلك فلهم أن يبيعوا وأن يؤجروا.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(وهل ترك لنا عقيل من رِباع) أي عقيل بن أبي طالب لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر بنو هاشم باع أملاكهم، فدل ذلك على أن منازل مكة تُباع وأنها تؤجر كما هو عليه جماهير أهل العلم، أما ما يروى من أن رِباع مكة حرام بيعها وحرام إجارتها فهذا لا يثبت.

بيع نقع البئر

قال رحمه الله: (ولا يصح بيع نقع البئر).

يقول المؤلف رحمه الله: لا يصح بيع نقع البئر، والماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: المياه العامة كمياه البحار، والأنهار، والأودية ونحو ذلك, فالناس شركاء في هذه المياه، وليست ملكاً لأحد.

القسم الثاني: المياه المحازة التي يحوزها الإنسان في الظروف والأواني ونحو ذلك، فهذه له أن يعاوض عليها وله أن يبيعها، فإذا استخرج الماء من البئر وجعله في السيارة له أن يبيعه.

ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لأن يأخذ أحدكم أحزمه فيحتطب ويبيع ويشتري خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه )،مع أن الحطب الناس شركاء فيه، فهذا يدل على أنه إذا حاز هذه المياه، أو حاز هذا الحطب, أو هذا الحشيش والكلأ فإنه يملكه وله أن يعاوض عليه.

القسم الثالث: وهو ما أشار إليه المؤلف رحمه الله هنا قال: (ولا يصح بيع نقع البئر) أي الماء المتجمع في جوف البئر، فإذا حفرت البئر فسيخرج عندك الماء، فهذا الماء المتجمع يقول المؤلف: لا يصح لك أن تبيعه؛ لأنك لا تملكه، وتملك هذا الماء بالحيازة فإذا أخرجته وحزته ملكته، وأما أنه مادام في جوف البئر فإنك لا تملكه؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي سلكه ينابيع في الأرض فلا تملكه، ولكن أنت أحق به من غيرك، فلك حق الشرب، وأن تسقي بهائمك، وتسقي زرعك وما فضل من ذلك لا يجوز لك أن تمنع غيرك منه؛ لأن الناس شركاء فيه، ولهذا قال المؤلف: لا يصح بيع نقع البئر.

بيع ما ينبت من كلأ وشوك في أرض البئر

قال رحمه الله: (ولا ما ينبت في أرضه من كلأ وشوك).

نقول كما أسلفنا: إن الكلأ والشوك والحطب ونحو ذلك تنقسم أيضاً إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الكلأ والحطب الذي يوجد في الصحاري والبراري ونحو ذلك، فنقول: الناس شركاء فيه.

القسم الثاني: الكلأ المحاز، الذي يحوزه الإنسان فهذا الإنسان يملكه بالحيازة، وإذا ملكه بالحيازة فإنه يملك أن يبيعه وأن يعاوض عليه كما جاء في الحديث.

القسم الثالث: الكلأ الذي يوجد في أرض الإنسان، فلو كان الإنسان عنده أرض كبيرة ونبت فيها عشب، أو نبت فيها حطب، أو نحو ذلك فنقول: هو أحق به من غيره، فيأخذ حاجته منه وما فضل فإنه ليس له أن يبيعه؛ لأن الناس شركاء فيه.

قال: (ويملكه آخذه)؛ لما تقدم من الدليل.

لما قرر المؤلف رحمه الله أن العقد لابد أن يكون من مالك، أو من يقوم مقام المالك سواء عقد البيع، أو عقد الإجارة، أو عقد المساقات، أو المزارعة، أو في عقود التبرعات، كالوقف والوصية... إلى آخره، قال: لابد أن يكون من مالك، أو من يقوم مقام المالك, وهنا ثلاث صور:

الصورة الأولى: قال: (فإن باع ملك غيره).

هذه الصورة الأولى: باع ملك غيره، مثال ذلك: إذا باع الرجل سيارة أخيه، وأخوه لم يأذن له في هذا البيع، فهل يصح ذلك أو لا يصح؟ أو باع سيارة صديقه أو أبيه، وأبوه وصديقه لم يأذنا له في البيع؟ يقول المؤلف رحمه الله بأنه لا يصح؛ لأنه فقد شرطاً من شروط صحة البيع، وهو أن يكون من مالك، أو من يقوم مقام المالك.

وحتى لو أجازه المالك فهذا التصرف يسمونه بالتصرف الفضولي فيرون أنه لا ينفذ.

وأضيق الناس في التصرفات الفضولية هم الشافعية والحنابلة، فإنهم لا يرون التصرفات الفضولية، فلو أجازه المالك، وقال: أجزت البيع، قالوا: بأنه لا ينفذ؛ لأنه فقد شرطاً من شروط صحة العقد.

وأوسع الناس في التصرفات الفضولية هم الحنفية، وأما المالكية فهم بين الطرفين، بين الشافعية والحنابلة وبين الحنفية، فهم يفرقون بين ما يتعلق بعقود المعاوضات وعقود التبرعات.

والصواب في هذه المسألة هو صحة تصرف الفضولي، وأنه ينفذ بالإجازة سواء كان ذلك في العبادات، أو كان ذلك في عقود المعاوضات، أو في عقود التبرعات، أو في عقود الأنكحة، أو في الفسوخ، والأمر في ذلك واسع، والصواب التوسع في التصرفات الفضولية؛ لأن العقود مبنية على الرضا، فإذا رضي المالك نفذ التصرف، وإذا أجاز التصرف ورضي فإن التصرف ينفذ، فتنفذ التصرفات الفضولية في العبادات، فلو أنه أخرج الزكاة عن أخيه، أو أبيه، ثم أجازه نفذ ذلك.

وينفذ أيضاً التصرف الفضولي في الكفارات، فلو أخرج كفارة اليمين عن صديقه ثم أجازه نفذ ذلك، وينفذ في عقود المعاوضات، فلو باع ملك غيره فإنه ينفذ، وينفذ أيضاً في عقود التبرعات، فلو أنه وقف ملك غيره فإنه ينفذ الوقف بالإجازة، ولو وهب ملك غيره فإنه ينفذ بالإجازة.

وكذلك أيضاً في الفسوخ، فلو طلق زوجة فلان فإنه ينفذ بالإجازة، وفي الخُلع، وفي النكاح، فلو عقد لابنة زيد فإنه ينفذ بالإجازة.

فالصواب في ذلك: أن التصرف الفضولي خلاف ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله، فالمؤلف يوافق الحنابلة والشافعية في أنهم لا يرون التصرف الفضولي إلا في مسائل كما سيذكرها المؤلف رحمه الله، فيذكر هنا مسألة، ويذكرون في العِدد شيئاً من المسائل، أي على نطاق ضيق جداً.

إذاً: (إذا باع ملك غيره) فإن: هذا لا ينفذ، هذه الصورة الأولى.

الصورة الثانية: قال: (أو اشترى بعين ماله شيئاً بلا إذنه لم يصح) حتى بالإجازة يقول: لا يصح، فلو اشترى بعين ماله، كيف بعين ماله؟ معك مائة ريال لزيد، أو معك خمسون ريالاً، قلت: أعطني بهذه الخمسين هذا الكتاب، أو هذه السلعة, قال: لا يصح لأنه اشترى بعين مال غيره فلا ينفذ، ولو أجازه المالك قالوا: لا ينفذ؛ لأن العقد صدر من غير مالك، وهم يرون أن التصرفات الفضولية لا تنفذ.

الصورة الثالثة: قال: (وإن اشترى له في ذمته بلا إذنه ولم يسمه في العقد صح له بالإجازة) هذه الصورة هي التي يجيزونها فيما يتعلق بالتصرفات الفضولية، ولكن يصح بشرطين:

الشرط الأول: اشتراه في ذمته، فمثلاً قال: أعطني الكتاب ولم يقل بهذه الخمسين التي هي لزيد، وإنما اشترى لزيد هذا الكتاب بخمسين ريالاً فهذا اشتراه في ذمته، فهذه الصورة مقابلة للصورة التي قبلها، أي أنه لم يشترِ بعين ماله وإنما اشترى له في ذمته فيقول المؤلف رحمه الله: لا بأس. هذا الشرط الأول.

والشرط الثاني: ولم يسمه في العقد، ما قال: بعني هذا الكتاب لزيد، وإنما اشترى الكتاب على أنه لزيد، قال المؤلف رحمه الله: يصح بالإجازة. ولكي يصح تصرف الفضولي على المذهب فلابد من هذين الشرطين:

الشرط الأول: أن تشتري في ذمتك لا أن تشتري بعين ماله.

الشرط الثاني: ألا تسميه في العقد.

فإن سميته في العقد فإنه لا يصح، وإذا فعلت ذلك فإن أجازه من اشتريت له نفذ، وإذا لم يجزه ورد التصرف فإن السلعة التي اشتريتها تكون لك.

ثم قال رحمه الله: (ولزم المشتري بعدمها) يعني بعدم الإجازة (مُلكاً).

فتلخص لنا: أنهم لا يجيزون إلا هذه الصورة، والصواب في ذلك ما ذهب إليه الحنفية رحمهم الله تعالى.

ويدل لذلك حديث عروة بن الجعد رضي الله عنه( أن النبي صلى الله عليه وسلم: أعطى عروة بن الجعد ديناراً لكي يشتري له شاة أُضحية، فذهب عروة واشترى بهذا الدينار شاتين، وفي الطريق باع شاة بدينار, ورجع للنبي صلى الله عليه وسلم بشاة ودينار ) فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا التصرف.

قال رحمه الله: (ولا يُباع غير المساكن مما فُتح عنوة كأرض الشام، ومصر، والعراق، بل تؤجر).

ما فُتح عنوة من أراضي مصر، والشام، والعراق، يقول المؤلف رحمه الله: المساكن هذه لا بأس أن تُباع؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اقتطعوا الخطط وعمروها وباعوها.

وأما بالنسبة للأراضي فإنهم اختلفوا في ذلك:

الرأي الأول: لا يجوز أن تُباع؛ لأنها وقف، فـعمر رضي الله عنه لما فُتحت هذه البلاد وقفها، والوقف كما في حديث ابن عمر لا يُباع ولا يوهب ولا يورث.

والرأي الثاني: أن مثل هذه الأراضي يجوز بيعها, وهو رأي الحنفية، واختاره شيخ الإسلام، والرأي الأول: رأي أكثر أهل العلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن وقف عمر ليس المراد به الوقف الاصطلاحي، وإنما المراد بذلك أن يبقي ريعها للمسلمين، فهذا مراد عمر رضي الله عنه، فلو مات هذا الشخص وعنده هذه الأرض الخراجية فإن ورثته يقومون مقامه بالإجماع؛ لأنها تورث.

والوقف الاصطلاحي هل يورث أو لا يورث؟ الوقف الاصطلاحي لا يورث لكن هنا تورث، ومراد عمر رضي الله عنه هو استمرار الخراج لبيت المال لكي يُصرف في مصالح المسلمين، فهذا مراد عمر رضي الله عنه، وليس المراد هنا الوقف الاصطلاحي.

ونظير هذه المسألة وهي ما يلتبس على بعض أهل العلم من عدم تفريقهم بين الاسم الشرعي والاسم الاصطلاحي الذي اصطلح عليه العلماء رحمهم الله قول النبي صلى الله عليه وسلم لـعمر لما طلق ابن عمر رضي الله عنه زوجته وهي حائض فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لـعمر :(مره فليراجعها)، فقوله عليه الصلاة والسلام لـعمر :(مره فليراجعها) أخذ العلماء رحمهم الله أن المراد بهذا المراجعة الاصطلاحية, وبنوا على ذلك أن طلاق الحائض يقع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مره فليراجعها)، والمراجعة فرع عن الطلاق.

ولكن شيخ الإسلام ابن القيم رد هذا، وقال: لا يمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: مره فليراجعها ثم بعد ذلك يطلقها، فهذا بعيد.

فالمقصود بالمراجعة ليست الاصطلاحية وهي إعادة المطلقة غير البائن، وإنما المراد بالمراجعة هنا أن يردها إلى الحالة الأولى من حُسن العشرة ونحو ذلك، ولا يلزم أن تكون هذه المراجعة الاصطلاحية التي ينبني عليها وقوع الطلاق.

قال رحمه الله: (بل تؤجر).

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: لا بأس أن تؤجر، ومثل ذلك كلام العلماء رحمهم الله في رِباع مكة -أي منازل مكة- هل يجوز بيعها أو لا يجوز بيعها؟

فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن منازل مكة لا يجوز أن تُباع ولا أن تؤجر، وعند جمهور العلماء يجوز أن تُباع وأن تؤجر، لأن الله سبحانه وتعالى أضاف هذه الأموال للمهاجرين: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [الحشر:8]، فالإضافة تقتضي الملك، وإذا كان كذلك فلهم أن يبيعوا وأن يؤجروا.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(وهل ترك لنا عقيل من رِباع) أي عقيل بن أبي طالب لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر بنو هاشم باع أملاكهم، فدل ذلك على أن منازل مكة تُباع وأنها تؤجر كما هو عليه جماهير أهل العلم، أما ما يروى من أن رِباع مكة حرام بيعها وحرام إجارتها فهذا لا يثبت.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2818 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2735 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] 2678 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2648 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2640 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2558 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2555 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2527 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2521 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] 2498 استماع