شرح زاد المستقنع - كتاب الجنائز [6]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعلى غائب بالنية إلى شهر، ولا يصلي الإمام على الغال، ولا على قاتل نفسه، ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد.

فصل: يسن التربيع في حمله، ويباح بين العمودين، ويسن الإسراع بها، وكون المشاة أمامها والركبان خلفها ويكره جلوس تابعها حتى توضع، ويسجى قبر امرأة فقط، واللحد أفضل من الشق، ويقول مدخله: بسم الله وعلى ملة رسول الله، ويضعه في لحده على شقه الأيمن، مستقبل القبلة، ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنماً، ويكره تجصيصه والبناء والكتابة والجلوس والوطء عليه والاتكاء إليه].

تقدم لنا الصلاة على القبر، وذكرنا بأن الصلاة على القبر مشروعة باتفاق الأئمة، لكن هل الصلاة على القبر لها حد أو ليس لها حد؟ وأن المؤلف رحمه الله ذهب إلى أن الصلاة على القبر لها حدٌ إلى شهر، وأما بعد ذلك فإنها لا تشرع.

وقلنا: بأن بعض العلماء حدد ذلك بالكيفية ولم يحدده بالزمن, وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة ومالك فقالوا: يصلى عليه ما لم يغلب على الظن فناء الجسد، وإن غلب على ظنه فناء الجسد فإنه لا يصلى عليه.

وقلنا: بأن الشافعية -رحمهم الله- لهم رأيان في هذه المسألة، وأن أقرب الأقوال هو ما ذهب إليه الشافعية رحمهم الله.

الصلاة على الميت الغائب

ثم قال المؤلف رحمه الله: (وعلى غائب بالنية إلى شهر).

يقول المؤلف رحمه الله: يصلى على الغائب، فإذا مات شخص وهو غائب عن البلد فلك أن تصلي عليه إلى شهر، وإذا تجاوز الشهر فإنك لا تصلي عليه.

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنك تصلي على هذا الغائب مطلقاً، يعني: سواء صلي عليه أو لم يصل عليه.

وعلى هذا لو مات شخص في مكة وأنت في المدينة فلك أن تصلي عليه، والعكس بالعكس، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله؛ واستدلوا على ذلك ما ثبت في الصحيحين: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على النجاشي ) حديث جابر رضي الله تعالى عنه، والنجاشي في الحبشة، والنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة.

والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة ومالك : أن الغائب لا تشرع الصلاة عليه مطلقاً.

والرأي الثالث في المسألة: أن الصلاة على الغائب تشرع إذا لم يصل عليه، فإن صلي عليه فإنها لا تشرع الصلاة عليه، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم ، فالمسألة فيها رأيان. ورأي يتوسط بين الرأيين.

أما الذين قالوا: بأن الصلاة على الغائب تشرع فتقدم أنهم يستدلون بفعل النبي عليه الصلاة والسلام بصلاته على النجاشي، وأما الذين قالوا: بأنها لا تشرع فقالوا: لأنه مات كثير من الصحابة في المدينة والنبي عليه الصلاة والسلام خارج المدينة, ولم يرد أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى عليهم، وكذلك أيضاً العكس فمات أناس خارج المدينة والنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة، ولم يرد أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى عليهم.

وأما بالنسبة للرأي الثالث: أنه إن صلي عليه فإنه لا يصلى عليه، وإن لم يصل عليه فإنه يصلى عليه، هذا جمع بين الرأيين، فقالوا: بأنه إن صلي عليه لا يصلى عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل على من مات في المدينة وهو خارج المدينة أو بالعكس.

وأما إن لم يصل عليه فإنه يصلى عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على النجاشي، والنجاشي في بلد ليست ببلد إسلام، فصلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام.

وبعض أهل العلم قال: بأنه يصلى على ذوي الفضل إذا كانوا غائبين.

والأقرب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أنه إن صلي عليه فإنه لا يصلى عليه، وإن لم يصل عليه فإنه يصلى عليه؛ لما في ذلك من الجمع بين الأدلة.

الصلاة على الغال وقاتل نفسه

قال رحمه الله: (ولا يصلي الإمام على الغال، ولا على قاتل نفسه).

قول المؤلف رحمه الله: الإمام لا يصلي على الغال، والغال: هو الذي يسرق من الغنيمة قبل أن تقسم، وكذلك أيضاً قاتل نفسه هذا أمره ظاهر.

مذهب أهل السنة والجماعة: أن فاعل الكبيرة إذا مات ولم يتب أنه مسلم بإسلامه أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وفعله للكبيرة هذا لا يخرجه عن الإسلام، خلافاً لما ذهب إليه الخوارج.

وعلى هذا؛ فإن من قتل نفسه، أو مات على كبيرة من كبائر الذنوب باتفاق الأئمة، وهو قول أهل السنة والجماعة: أنه يغسل ويكفن ويصلى عليه.. إلى آخره.

لكن قال المؤلف رحمه الله: لا يصلي الإمام على الغال، ولا على قاتل نفسه؛ لورود الدليل في ذلك، ففي حديث جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جيء برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه )، والمشاقص جمع مشقص وهو نصل عريض، أو سهم فيه نصل عريض.

كذلك أيضاً حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه في الذي غل من الغنيمة لم يصل عليه النبي عليه الصلاة والسلام عليه وقال: ( صلوا على صاحبكم ).

فيستثنى من ذلك الإمام، فإنه لا يصلي عليه، هذا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله.

وقال بعض العلماء كـأبي حنيفة والشافعي : بأن الإمام يصلي على من قتل نفسه، أو على من غل من الغنيمة، وقال مالك : من قتل نفسه أو قتل في الحد فإن الإمام لا يصلي عليه.

وعند أحمد يقول: لا يصلي عليهما الإمام.

عند الشافعي وأبي حنيفة: أن الإمام يصلي عليهما.

وأما مالك قال: بأن من قتل نفسه أو قتل بحق في حد لا يصلي عليه الإمام.

وقد تقدم أن أشرنا إلى كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأن ذوي الفضل لو امتنعوا من الصلاة عليهم لكان أحسن، فيمتنعون من الصلاة في الظاهر, ويدعون لهم في الباطن، فيجمعون بين المصلحتين، يعني: من مات على شيء من الكبائر فإن ذوي الفضل يمتنعون من الصلاة عليهم، ويدعون لهم في الباطن، فيمتنعون من الصلاة عليهم لمصلحة الحي؛ لما في ذلك من الردع والزجر عن فعل مثل هذه الأفعال، ويدعون في الباطن لمصلحة الميت.

وكما أشرنا فيما سبق أن الصلاة على الميت هي صلاة دعاء وشفاعة، وقد تحقق ذلك للميت، فيدعون للأموات في الباطن بأن الله عز وجل يعفو عنهم, ولا يصلون عليهم في الظاهر، وهذا أقرب قول دلت له السنة.

يعني: كون النبي عليه الصلاة والسلام ترك الصلاة على من قتل نفسه لما في ذلك من الزجر والردع لغيره من أن يفعل هذا الفعل، وإذا دعا له في الباطن فقد أدى ما يقصد بالصلاة؛ لأن الصلاة شفاعة.

فالقاعدة في ذلك: كل من كان مظهراً للفسق والفجور أو للبدعة ونحو ذلك ولم يخرجه ذلك عن الإسلام فإن ذوي الفضل يتركون الصلاة عليهم جمعاً بين المصلحتين.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (وعلى غائب بالنية إلى شهر).

يقول المؤلف رحمه الله: يصلى على الغائب، فإذا مات شخص وهو غائب عن البلد فلك أن تصلي عليه إلى شهر، وإذا تجاوز الشهر فإنك لا تصلي عليه.

وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنك تصلي على هذا الغائب مطلقاً، يعني: سواء صلي عليه أو لم يصل عليه.

وعلى هذا لو مات شخص في مكة وأنت في المدينة فلك أن تصلي عليه، والعكس بالعكس، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله؛ واستدلوا على ذلك ما ثبت في الصحيحين: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على النجاشي ) حديث جابر رضي الله تعالى عنه، والنجاشي في الحبشة، والنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة.

والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة ومالك : أن الغائب لا تشرع الصلاة عليه مطلقاً.

والرأي الثالث في المسألة: أن الصلاة على الغائب تشرع إذا لم يصل عليه، فإن صلي عليه فإنها لا تشرع الصلاة عليه، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم ، فالمسألة فيها رأيان. ورأي يتوسط بين الرأيين.

أما الذين قالوا: بأن الصلاة على الغائب تشرع فتقدم أنهم يستدلون بفعل النبي عليه الصلاة والسلام بصلاته على النجاشي، وأما الذين قالوا: بأنها لا تشرع فقالوا: لأنه مات كثير من الصحابة في المدينة والنبي عليه الصلاة والسلام خارج المدينة, ولم يرد أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى عليهم، وكذلك أيضاً العكس فمات أناس خارج المدينة والنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة، ولم يرد أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى عليهم.

وأما بالنسبة للرأي الثالث: أنه إن صلي عليه فإنه لا يصلى عليه، وإن لم يصل عليه فإنه يصلى عليه، هذا جمع بين الرأيين، فقالوا: بأنه إن صلي عليه لا يصلى عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل على من مات في المدينة وهو خارج المدينة أو بالعكس.

وأما إن لم يصل عليه فإنه يصلى عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على النجاشي، والنجاشي في بلد ليست ببلد إسلام، فصلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام.

وبعض أهل العلم قال: بأنه يصلى على ذوي الفضل إذا كانوا غائبين.

والأقرب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أنه إن صلي عليه فإنه لا يصلى عليه، وإن لم يصل عليه فإنه يصلى عليه؛ لما في ذلك من الجمع بين الأدلة.

قال رحمه الله: (ولا يصلي الإمام على الغال، ولا على قاتل نفسه).

قول المؤلف رحمه الله: الإمام لا يصلي على الغال، والغال: هو الذي يسرق من الغنيمة قبل أن تقسم، وكذلك أيضاً قاتل نفسه هذا أمره ظاهر.

مذهب أهل السنة والجماعة: أن فاعل الكبيرة إذا مات ولم يتب أنه مسلم بإسلامه أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وفعله للكبيرة هذا لا يخرجه عن الإسلام، خلافاً لما ذهب إليه الخوارج.

وعلى هذا؛ فإن من قتل نفسه، أو مات على كبيرة من كبائر الذنوب باتفاق الأئمة، وهو قول أهل السنة والجماعة: أنه يغسل ويكفن ويصلى عليه.. إلى آخره.

لكن قال المؤلف رحمه الله: لا يصلي الإمام على الغال، ولا على قاتل نفسه؛ لورود الدليل في ذلك، ففي حديث جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جيء برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه )، والمشاقص جمع مشقص وهو نصل عريض، أو سهم فيه نصل عريض.

كذلك أيضاً حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه في الذي غل من الغنيمة لم يصل عليه النبي عليه الصلاة والسلام عليه وقال: ( صلوا على صاحبكم ).

فيستثنى من ذلك الإمام، فإنه لا يصلي عليه، هذا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله.

وقال بعض العلماء كـأبي حنيفة والشافعي : بأن الإمام يصلي على من قتل نفسه، أو على من غل من الغنيمة، وقال مالك : من قتل نفسه أو قتل في الحد فإن الإمام لا يصلي عليه.

وعند أحمد يقول: لا يصلي عليهما الإمام.

عند الشافعي وأبي حنيفة: أن الإمام يصلي عليهما.

وأما مالك قال: بأن من قتل نفسه أو قتل بحق في حد لا يصلي عليه الإمام.

وقد تقدم أن أشرنا إلى كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأن ذوي الفضل لو امتنعوا من الصلاة عليهم لكان أحسن، فيمتنعون من الصلاة في الظاهر, ويدعون لهم في الباطن، فيجمعون بين المصلحتين، يعني: من مات على شيء من الكبائر فإن ذوي الفضل يمتنعون من الصلاة عليهم، ويدعون لهم في الباطن، فيمتنعون من الصلاة عليهم لمصلحة الحي؛ لما في ذلك من الردع والزجر عن فعل مثل هذه الأفعال، ويدعون في الباطن لمصلحة الميت.

وكما أشرنا فيما سبق أن الصلاة على الميت هي صلاة دعاء وشفاعة، وقد تحقق ذلك للميت، فيدعون للأموات في الباطن بأن الله عز وجل يعفو عنهم, ولا يصلون عليهم في الظاهر، وهذا أقرب قول دلت له السنة.

يعني: كون النبي عليه الصلاة والسلام ترك الصلاة على من قتل نفسه لما في ذلك من الزجر والردع لغيره من أن يفعل هذا الفعل، وإذا دعا له في الباطن فقد أدى ما يقصد بالصلاة؛ لأن الصلاة شفاعة.

فالقاعدة في ذلك: كل من كان مظهراً للفسق والفجور أو للبدعة ونحو ذلك ولم يخرجه ذلك عن الإسلام فإن ذوي الفضل يتركون الصلاة عليهم جمعاً بين المصلحتين.

قال رحمه الله: (ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد).

الصلاة على الميت في المسجد هذه جائزة بالاتفاق، لكن هل يكره ذلك أو لا يكره ذلك؟

فيه رأيان لأهل العلم رحمهم الله، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أنه لا بأس أن يصلى عليه في المسجد، ولا كراهة في ذلك، وهذا قال به الشافعي رحمه الله.

وقال أبو حنيفة ومالك : إنه يكره الصلاة على الميت في المسجد.

أما الذين قالوا بعدم الكراهة فاستدلوا بحديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سهل بن بيضاء في المسجد ). هذا رواه مسلم ، وكذلك أيضاً صلي على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في المسجد.

والذين قالوا بالكراهة استدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه)، هذا الحديث أجاب عنه العلماء رحمهم الله بأجوبة:

الجواب الأول: جواب الإمام أحمد رحمه الله: أن هذا الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الجواب الثاني: أن هذا الحديث ورد بلفظ: ( من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له ).

الجواب الثالث: أن هذا الحديث منسوخ، وهذا سلكه الطحاوي رحمه الله، والطحاوي كثيراً ما يسلك مسلك النسخ، وهذا فيه نظر؛ لأن النسخ إبطال لأحد الدليلين، ولا يصار إلى الإبطال مع إمكان إقامة الدليل، إذا كان الدليل ثابتاً وأمكن إقامة الدليل للجمع فإنه لا يصار إلى إبطال الدليل.

والجواب الرابع: قالوا: بأن المراد نقصان الأجر، وعدم تمام الأجر، يعني: ( فلا شيء له ) المراد بذلك نقصان الأجر.

ووجه نقصان الأجر أن من صلى عليه في المسجد فإن الغالب أنه لا يتابع الجنازة وإنما ينصرف إلى بيته فينقص أجره، بخلاف ما إذا صلى عليها في مصلى الجنائز، فإن الإنسان إذا ذهب وصلى عليها في مصلى الجنائز الغالب أنه يتم له أجره؛ لكونه يتابع الجنازة حتى تدفن، فهذه أربعة أجوبة:

الجواب الأول: الضعف.

والجواب الثاني: أنه ورد بلفظ: ( ولا شيء عليه ).

والجواب الثالث: النسخ.

والجواب الرابع: أن هذا محمول على نقصان الأجر.

واعلم -كما ذكر ابن القيم رحمه الله- أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم الراتب هو الصلاة على الميت في مصلى الجنائز، فقد كان في زمن النبي عليه الصلاة والسلام مصلى يسمى بمصلى الجنائز، كما أن هناك مصلى يسمى بمصلى العيد، ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الراتب أنه يصلي على الجنائز في المسجد، لكن ربما صلى النبي عليه الصلاة والسلام على الجنازة في المسجد, كما تقدم لنا في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.

وعلى هذا نقول: ما دام أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على الجنازة في المسجد، فمن صلى على الجنازة في المسجد فلا شيء عليه، وأجر الصلاة تام عند الله عز وجل، وتكون صلاته على الجنازة في المسجد للعذر خصوصاً في وقتنا هذا، فالآن ليس هناك مصليات للجنائز، فالإنسان يكون معذوراً.

بقي علينا في صلاة الجنازة فصلان: فصل فيما يتعلق بحمل الميت ودفنه إلى آخره، ونحث الإخوة على المراجعة، فقد أخذنا شيئاً كثيراً من الأبواب، فلا بد لطالب العلم أن يراجع وأن يستذكر.

فكان الأئمة -رحمهم الله- كالإمام أحمد وابن معين ومحمد بن مسلم وأبي حاتم وغيرهم يجتمعون ويلتقون للمذاكرة، يتذاكرون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي حفظوها، وهم أئمة وأعلام وحفاظ، فينبغي للطالب أن يكون له دروس مذاكرة مع زملائه وجلسات يتذاكر مع زملائه ما أخذ، فمن أخذ مثلاً أربعة أبواب أو خمسة أبواب، أو أنهى متناً أو كتاباً أو كتابين، فعليه الاجتماع بإخوانه ليتذاكروا، ويسأل عما أشكل عليه ويسترجع ما حفظ.

وبهذا يثبت العلم ويرسخ بإذن الله عز وجل، ويكون الإنسان مقتدياً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف رحمهم الله.

وأما كون الإنسان لا يرجع إلى محفوظاته وإلى دروسه حتى تعود الدروس، فهذا يؤدي به إلى نسيان ما أخذ، كذلك أيضاً يؤدي به إلى الضعف في الطلب وفي التحصيل، والله عز وجل قال: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12] .

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ).

كذلك أيضاً بمناسبة الحج نقول: على طالب العلم أن يهيئ نفسه لإفادة الناس وإرشادهم وتوجيههم، وأن يقرأ حول الحج، وأن يسأل عما أشكل عليه؛ لكي يفيد الناس، وخصوصاً إذا خرج حاجاً فينبغي ألا يكون سلبياً، بل عليه أن يتفهم، وأن يدرس، وأن يفيد الناس، وأن يوجههم؛ لأن كثيراً من الحجاج يجهلون كثيراً من أحكام المناسك، وتغيب عنهم، ويقعون في كثير من الإشكالات.

لكن إذا وجد من يوجههم ويذكرهم، وخرج طالب العلم معهم فإنه يزول عنهم كثير من اللبس والجهل ويأخذون بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد تحملوا المكابد والمشاق، وصرفوا كثيراً من أموالهم.

فعلينا أيها الأحبة أن نحرص على توجيههم، وتبصيرهم بدين الله عز وجل.

نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا هداةً مهتدين، وأن يرنا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبساً علينا، اللهم صل وسلم على نبينا محمد.

حكم حمل الجنازة واتباعها ودفنها

حمل الميت فرض كفاية؛ لأن الحمل وسيلة للدفن، والدفن فرض، والوسائل لها أحكام المقاصد.

ونقول: بأن حمل الميت على الكفاية وليس على التعيين؛ لأننا سبق أن أشرنا إلى قاعدة وهي الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية، أن ما لوحظ فيه العمل فهو فرض على الكفاية، وما لوحظ فيه العامل فهو فرض على التعيين.

وحمل الجنازة الملاحظ فيه العمل وليس العامل، فإن المطلوب تحصيل هذا الحمل سواء كان من فلان أو فلان, المطلوب هو التحصيل، فإذا حصل هذا الحمل من فلان أو فلان إلى آخره أجزأ ذلك, بخلاف فرض العين فإنه مطلوب من كل أحد بعينه.

وأيضاً دفنه فرض كفاية، والدليل على هذا الإجماع، فالمسلمون مجمعون على أن دفن الميت فرض كفاية، وأيضاً دلل له القرآن والسنة مع الإجماع.

أما القرآن فقول الله عز وجل: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26].

وأيضاً قول الله عز وجل: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أكرمه بدفنه.

وأيضاً من السنة: هدي النبي صلى الله عليه وسلم المتواتر في دفن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكذلك أيضاً يدل لذلك حديث أبي طلحة رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين من صناديد قريش فقذفوا في بئر أو طوي من أطوائها. ) كما في الصحيحين.

وكذلك أيضاً يدل لذلك ( أن أبا طالب لما توفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن يواريه ) ، وهذا أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .

والدفن كما سبق فرض على الكفاية وليس فرض عين؛ لما تقدم أن أشرنا إليه أنه لوحظ فيه العمل وليس العامل، وكذلك أيضاً ما يتعلق باتباع الجنائز، هل هو سنة أو فرض على الكفاية؟ المشهور من المذهب أن اتباع الجنازة سنة.

والرأي الثاني: أنه فرض على الكفاية، وهذا ذكره بعض الحنابلة كـابن حمدان رحمه الله تعالى، وهذا القول هو الأقرب: أن اتباع الجنائز فرض على الكفاية.

ويدل لهذا حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم باتباع الجنائز ) ، وهذا في الصحيحين.

وأيضاً حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( حق المسلم على المسلم خمس -في رواية: ست، وذكرها منها-: وإذا مات فاتبعه )، فنقول: الصواب: أن اتباع الجنائز فرض على الكفاية.

صفة حمل الميت

قال رحمه الله: (يسن التربيع في حمله، ويباح بين العمودين).

حمل الميت ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: صفة مستحبة.

والقسم الثاني: صفة مباحة مجزئة.

أما الصفة المستحبة فأشار إليها المؤلف رحمه الله بقوله: (يسن التربيع في حمله)، هذه الصفة المستحبة، ويدل لها ما ورد عن أبي الدرداء أنه قال: ( من تمام أجر الجنازة: أن تشيعها من أهلها، وأن تحمل بأركانها الأربع، وأن تحثو في القبر )، وهذا رواه ابن أبي شيبة.

وكذلك أيضاً ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في مصنف ابن أبي شيبة . وكذلك أيضاً ورد حديث ابن مسعود : ( من اتبع الجنازة فليحمل بجوانب السرير كلها، فإنه من السنة )، لكن هذا الحديث ضعيف، فعندنا ما ورد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وأيضاً ما ذكره أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه، هذه الصفة الأولى وهي صفة التربيع، وصفة التربيع أن تأتي إلى القائمة اليسرى التي في المقدمة وتضعها على عاتقك الأيمن، ثم تتأخر وتأخذ بقائمة السرير اليسرى التي في المؤخرة وتضعها على عاتقك الأيمن، ثم بعد ذلك تتقدم إلى قائمة السرير اليمنى في المقدمة وتضعها على عاتقك الأيسر، ثم تتأخر إلى قائمة السرير اليمنى في المؤخرة وتضعها على عاتقك الأيسر.

وهذه الصفة التي تتعلق بالتربيع المشهور من مذهب الإمام أحمد كما ذهب إليه المؤلف وقال به أبو حنيفة والشافعي خلافاً للإمام مالك فإنه يقول: لا توقيف في الحمل.

الصفة الثانية: الصفة المجزئة: وهي أن يحمل كيف شاء بشرط ألا يزري بالميت، فكيفما حمل سواء حملناه بالتربيع أو بغير ذلك نقول: بأن هذا كله جائز بشرط ألا يحصل إزراء للميت.

مشروعية حمل الجنازة من بين العمودين

قال رحمه الله: (ويباح بين العمودين).

يعني: يباح أن تحمل بين العمودين، وذلك بأن تجعل عمودي السرير أو النعش على كتفيك، وهذا كان في الزمن الأول، فقد كان يوجد نعش في الزمن الأول تنحني بالنسبة للقوائم، فإذا انحنت القوائم تمكن الإنسان من أن يضع القائمتين المقدمتين على عاتقيه، فإذا وضع الإنسان هاتين القائمتين على عاتقيه، فإن هذا لا بأس به، وكما أشرنا أن الصفة المجزئة أن الإنسان كيفما حمل الميت بشرط ألا يكون هناك إزراء للميت.

وقول المؤلف رحمه الله: (ويباح بين العمودين).

ورد هذا عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كـعثمان بن عفان وأبي هريرة ، وابن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن الزبير.

الإسراع بالجنازة.. حكمه وشروطه

قال رحمه الله: (ويسن الإسراع بها).

يسن الإسراع بالجنازة إذا حملت؛ ويدل لهذا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحةً فخير تقدمونها إليه، وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم )، فيستحب الإسراع بها، لكن الإسراع هذا مقيد بقيدين:

القيد الأول: ألا يكون هناك ضرر على التابعين؛ كما أشار إلى ذلك الشافعي رحمه الله.

القيد الثاني: ألا يكون هناك ضرر على الميت، كما ذكر ذلك النووي رحمه الله، فإذا كان يخشى على الميت من الإسراع تغيره، أو خروج أشياء منه.. إلى آخره فإنه لا يسرع بقدر ما يمنع هذه المفسدة، كما أشار إلى ذلك النووي .

مكان المشاة والركبان من الجنازة عند اتباعها

قال رحمه الله: (وكون المشاة أمامها، والركبان خلفها).

يستحب أن يكون المشاة أمامها والركبان خلفها، فهاتان مسألتان.

المسألة الأولى: المشاة، أين يكونون؟ ذهب المؤلف رحمه الله إلى أن المشاة يتقدمون على الجنازة، وهذا قول أكثر أهل العلم، يعني: هذا مذهب الإمام أحمد ومالك والشافعي أن السنة بالنسبة للمشاة أن يتقدموا على الجنازة، والشافعية يرون التقدم بالنسبة للمشاة والركبان.

والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة : أن السنة لهم أن يتأخروا، فهذان قولان.

والمشهور من المذهب وهو قول أكثر أهل العلم -كما قلنا- مذهب مالك والشافعي : أن السنة أن يتقدموا. وعند أبي حنيفة : أن السنة أن يتأخروا.

فمن قال بالتقدم قال: بأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر كما قال ابن المنذر رحمه الله: ( ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة ).

أما بالنسبة للحنفية فقالوا: بأنه ورد عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: المشي خلفها أفضل من المشي أمامها.

والأقرب في ذلك أن يقال: بأن الأمر واسع سواء مشوا أمامها أو خلفها أو عن يمينها أو عن يسارها، المهم أن يكون الإنسان قريباً من الميت؛ لأنه في هذه الحالة يحقق اتباع الجنازة.

ويدل لهذا حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها ) خلفها وأمامها وعن يمينها وعن شمالها، وهذا أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الترمذي .

تقدم حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها )، لكن اليوم بالنسبة للسيارات هذا قد يكون فيه صعوبة أن تكون مثل هذه المراكب خلف الجنازة، وأن تتقدم الجنازة على مثل هذه المراكب، فمثل هذه لو تقدمت فلا بأس، يعني ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة : ( الراكب يسير خلف الجنازة ) هذا في مثل الدواب، أما مثل المركوبات الآن فهو صعب أن تكون خلف الجنازة، وعلى هذا لو تقدمت فلا بأس بذلك للعذر.

القيام للجنازة عند مرورها والجلوس قبل وضعها

قال رحمه الله: (ويكره جلوس تابعها حتى توضع).

يكره أن يجلس من تبعها حتى يوضع بالأرض، يعني حتى يوضع الميت بالأرض، وعلى هذا من تبع الجنازة فإنه يظل قائماً إلى أن توضع في الأرض.

ويدل لهذا في الصحيحين قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من تبع جنازةً فلا يجلس حتى توضع )، لكن استثنى العلماء -رحمهم الله- ما إذا كان يترتب على ذلك مشقة، فقالوا: لا بأس للإنسان أن يجلس كما لو كانت الجنازة بعيدة ونحو ذلك.

أيضاً هل يشرع القيام إذا مرت الجنازة أو جاءت الجنازة أو لا يشرع القيام؟

للعلماء -رحمهم الله- في ذلك كلام كثير، لكن الأئمة يرون أن القيام للجنازة منسوخ، وعلى هذا ليس مشروعاً، بل المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يكره القيام للجنازة.

فهم يقولون: بأن القيام للجنازة منسوخ؛ لحديث علي رضي الله تعالى عنه قال: ( قام رسول الله صلى الله عليه وسلم للجنازة فقمنا، وجلس فجلسنا )، وهذا أخرجه مسلم في صحيحه.

وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن القيام للجنازة مستحب، وأنه مشروع، وهذا أيضاً قال به الإمام أحمد رحمه الله، وابن القيم والنووي وغيرهم.

ودليل ذلك حديث عامر بن ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيتم الجنازة فقوموا حتى تخلفكم أو توضع )، وهذا أمر، والحديث في الصحيحين.

وأيضاً حديث سهل بن حنيف : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام مرت به جنازة يهودي فقام، فقيل: إنه يهودي، فقال: أليست نفساً؟ )، وهذا التعبير من النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن ينسخ، يعني: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( أليست نفساً؟ ) هذا لا يمكن أن ينسخ؛ لأن الجنازة لا تصير يوماً نفساً ويوماً لا تكون نفساً.

وأيضاً ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام في سنن ابن ماجه قال: ( إن للموت فزعاً ) وهذا أيضاً التعليل لا يمكن أن ينسخ، لا يمكن أن يحتمل النسخ.

وعلى هذا الصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو روي عن الإمام أحمد وقال به ابن القيم وغيره من أهل العلم: أن القيام للجنازة أنه مستحب ومشروع، هذا هو الصواب في هذه المسألة، وعلى هذا إذا مرت الجنازة فإن السنة للإنسان أن يقوم حتى توضع.

مثلاً: إذا جيء بها لكي يصلى عليها فإن السنة للإنسان أن يقوم حتى توضع أو تخلفه, يعني: تذهب وتتركه، فإذا ذهبت وتركته فله أن يجلس.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2814 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2725 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] 2674 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2639 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2636 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2554 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2549 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2524 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2518 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] 2493 استماع