خطب ومحاضرات
صلة الرحم
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
أوجب الله تعالى صلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب توطيداً للروابط بين أفراد الأسرة لتكون متآلفةً متناصرة، قال الله عز وجل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى [النساء:36].
والأرحام: جمع رحم وهم ذوو القربى الذين يرتبطون معك بنسب، سواء كانوا يرثون أو لا يرثون، والأقارب الذين يوصلون، موضع خلاف بين أهل العلم، فقال بعض العلماء: هم الذين يحرم التناكح بينك وبينهم. وقال آخرون: الذين يوصلون مرجعهم إلى العرف، وهذا هو الأقرب، وهناك أقوال أخرى.
ومعنى صلة الرحم: إيصالك الخير لأقاربك، ودفع الشر عنهم ما أمكن حسب العرف أيضاً، والصلة من الإحسان، وهي درجات، وتختلف باختلاف قدرة الواصل، وحاجة الموصول، وتختلف الصلة أيضاً باختلاف الزمان والمكان وخصوصاً في وقتنا هذا حيث كثرت وسائل الاتصال.
إن صلة الرحم من أجل الأعمال الصالحة التي تضمن للمسلم الجنة مع توحيد الله.
ففي الصحيحين: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم).
إن صلة الرحم لها ثمرات محققة، ونتائج حسنة في الدنيا والآخرة، حيث جعلت وسيلةً إلى تعدد الرزق، والبركة في العمر، والفوز برحمة الله.
ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه).
ومعنى بسط الرزق: سعته وبركته. ومعنى إنساء الأثر: أي: تأخير الأجل، وهو كناية عن زيادة العمر وبركته.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: من اتقى ربه، ووصل رحمه، نسئ في أجله وثري ماله، وأحبه أهله.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعاً: (من سره أن يمد له في عمره، ويوسع له في رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء، فليتق الله، وليصل رحمه).
وقال عليه الصلاة والسلام حينما استشهد حمزة : (رحمك الله يا عم! فلقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات).
إن صلة الرحم من مقتضيات الإيمان بالله واليوم الآخر.
ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)، فلا تلهينك الدنيا ومشاغلها عن صلتك لأرحامك.
فإن قلت: وما كيفية صلة الرحم؟
فأقول على سبيل التفصيل أن تعاملهم معاملةً حسنة يغمرها الرفق واللين، فتحترم كبيرهم، وترحم صغيرهم، وتحسن إلى ضعيفهم، وتتجاوز عن هفواتهم، وتغض الطرف عن زلاتهم، وتقابل المسيء منهم بالإحسان لا بالقطيعة والسب، كيف وهم أقاربك وأولى الناس بعطفك ورحمتك! وهم أقرب الناس إليك بعد والديك! فجدير بك وأنت منهم أن تسرع لمواساة بائسهم، وعيادة مريضهم، والسلام على غائبهم، ومشاركتهم في أفراحهم، وإظهار السرور لهم، ومشاطرتهم أتراحهم، وتخفيف آلام الحزن عنهم، والإسراع لقضاء حوائجهم، والاجتماع بهم بين الحين والآخر.
وأما من حيث الإجمال: فصلة الرحم كما سلف مرجعها إلى العرف، وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان وقوة القرابة، ولقد جعل الله تعالى القريب أحق بنصرة قريبه، قال الله عز وجل: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75].
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أكرم عشيرتك، فإنهم جناحك الذي تطير به، وبهم تصول وبهم تطول، وهم العدة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعد سقيمهم، وأشركهم في أمورك، ويسر على معسرهم، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك.
إن المسلم الذي يرجو ما عند الله والدار الآخرة هو الذي يصل رحمه وإن لم يصلوه، فلا يجازي السيئة بالسيئة، بل يكون متطلعاً إلى مرضاة الله، مترفعاً عن الجهالات والإساءات التي يهتم بها صغار الناس، فالذي يصل من وصله ويقطع من قطعه لا يعتبر واصلاً، إنما هو مكافئ، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)، وفي رواية: (قطعت).
فمن يصل رحمه وهم يسيئون إليه فليصبر وليبشر، فإنه لن يزال معه من الله ظهير ما دام على ذلك.
فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو حاله مع أقاربه، حيث ذكر أنه ينتهج معهم نهجاً قويماً، وهم يقابلون ذلك بالقطيعة والإساءة، فقال: (يا رسول الله! إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك) رواه مسلم.
ومعنى (تسفهم): من أسف إذا أكل الشيء غير ممزوج بشيء من الماء، وهو ما يعبر عنه بالسفوف في اللغة العامية، والمل هو الرماد الحار، وتناول الرماد شاق في حد ذاته، فكيف إذا انتشرت أجزاؤه في الحلق وتعسر ابتلاعها؟ ويزداد مشقة إذا كان حاراً، ومما يؤسف له أنك تجد التقاطع بين الأقارب لأيام وربما كان ذلك لشهور، وربما كان ذلك لسنوات بسبب الدنيا.
ومما يؤسف له أيضاً: أنك تجد التواصل بين الأباعد من الزملاء والأصدقاء، والتقاطع بين الأقارب، فاتقوا الله أيها المسلمون! وصلوا أقاربكم وذوي أرحامكم، تتمكن المحبة فيما بينكم.
إن بعض الناس قد يترك صلة أرحامه وزيارتهم بسبب ما عندهم من منكرات، فأقول: الواجب هو زيارتهم وصلتهم، ومن الصلة بهم النصح لهم، وله أن يستعمل الهجر معهم إذا كان ذلك لعلاج، أما أن يترك صلتهم بالكلية فهذا لا يجوز، وقد أمر الله بمصاحبة الأبوين المشركين بالمعروف، فقال سبحانه: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، وأقاربك وأرحامك عرفتهم بسبب أبويك، فاتق الله فيهم.
وعن أسماء رضي الله عنها، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي أتت راغبة أفأصلها وهي مشركة؟ قال: نعم، صلي أمك).
ومن الصلة بهم: الدعاء لهم، فاتقوا الله عباد الله، وصلوا أرحامكم، واستجيبوا لأمر الله عز وجل، واقتدوا بنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وبصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وأخص منهم الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعن بقية العشرة المبشرين، وعن بقية صحابة نبيك أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وإياكم وقطيعة الأرحام، فلا تكونوا من الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون في الأرض، أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار.
ولقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على صلة الرحم، إذ اعتبرها سبيلاً للحصول على شرف الصلة بالله تعالى، والتعرض لعظيم فضله وكرمه، وجعل القطع سبباً في البعد عنه، والحرمان من رحمته، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائد بك من القطيعة؟ قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فهو لك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاقرءوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23]) رواه البخاري .
فإياك وقطيعة الرحم، فإنها معصية، وسبب لقطع الله لك، فليس أرضى لله من صلة الرحم التي أمر الله أن توصل، وليس أجلب لسخط الله من إهدار هذه الحقوق التي يوغر إهدارها الصدور، ويثير العداوة ويورث الأحقاد، ويجعل الأسرة المتعاطفة متدابرةً متخالفة.
يا قاطع الرحم! حسبك بلاءً وشقاءً وحرماناً أن تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري رحمه الله: (لا يدخل الجنة قاطع)، قال سفيان : يعني قاطع رحم، وحسبك شؤماً وتعساً أن الرحمة لا تنزل على قوم أنت فيهم، كما في الحديث الذي رواه البيهقي في شعب الإيمان: (إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم).
ولهذا كان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لا يرضى أن يدعو الله في مجلس فيه قاطع رحم؛ لأنه يحول دون نزول الرحمة، واستجابة الدعاء، وكذلك أيضاً كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه.
إن المسلم المتطلع إلى رضوان الله تعالى والسلامة في الآخرة لتهزه هذه النصوص من الأعماق، فهي تقرر أن قطيعة الرحم تحجب الرحمة، وترد الدعاء، وأنها بلاء كبير يحيط بالمرء أن يدعو فلا يستجاب له.
ومما يؤسف له أنه على كثرة المواصلات والاتصالات أن قطع الرحم وعدم زيارتهم كثير في الناس اليوم، وقد يكون ذلك قطعاً للوالدين لسبب أو لغير سبب، وإنما مرجع ذلك هو ضعف الإيمان، وركون الناس إلى هذه الحياة الدنيا الفانية، وقلة الرغبة فيما عند الله والدار الآخرة، وقسوة القلوب، وحب الذات، والعيش في دائرة النفس، فاتقوا الله وصلوا أرحامكم تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
اللهم إنا نسألك صلة الرحم، وبر الوالدين، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعلنا مستجيبين لأمرك، متبعين لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل اللهم الدائرة عليهم، اللهم انج المسلمين من كيدهم وفجورهم، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك، وسنة رسولك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر. ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً.
اللهم! فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، واقض الدين عن المدينين، اللهم! اشف مرضى المسلمين، اللهم! اجمع لهم بين الأجر والعافية، اللهم! اجعل ما أصابهم كفارةً لسيئاتهم، ورفعةً لدرجاتهم، اللهم! اغفر لموتى المسلمين، اللهم! اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، اللهم! أكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
اللهم! صل وسلم وبارك على نبينا محمد.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أحكام الصيام | 2892 استماع |
حقيقة الإيمان - تحريم التنجيم | 2514 استماع |
مداخل الشيطان على الإنسان | 2495 استماع |
الأمن مطلب الجميع [2] | 2438 استماع |
غزوة الأحزاب | 2376 استماع |
نصائح وتوجيهات لطلاب العلم | 2366 استماع |
دروس من قصة موسى مع فرعون | 2354 استماع |
دروس من الهجرة النبوية | 2352 استماع |
شهر الله المحرم وصوم عاشوراء | 2211 استماع |
حقوق الصحبة والرفقة | 2182 استماع |