فاحشة الزنا


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

عباد الله! لقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح ودرء المفاسد، فجاءت بالمصالح الثلاث، المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية، والمصالح الضرورية: هي ما يعود بحفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال، وهذه المصالح اتفقت الشرائع على حفظها، ومن حفظ العرض تحريم الزنا.

والزنا يا عباد الله! فاحشة نكراء، وجريمة شنعاء، وسبيل شر وبلاء، وسبب للعداوة والبغضاء، وباب لكثير من الأمراض والأدواء، ولهذا اتفقت الشرائع على تحريمه، وجاء النهي الصحيح الصريح في ذلك، وجعله الله عز وجل شرطاً للبيعة على الإسلام، ووصف المؤمنين بأنهم لا يزنون، وقرنه بالشرك والقتل بغير حق، وتوعد من فعل ذلك بمضاعفة العذاب له يوم القيامة، وبين الله عز وجل العقوبة الدنيوية الشديدة لفاعله، وأمر بحفظ الفرج من الزنا، وأمر بغض البصر الذي هو وسيلة إليه، وبين أن فلاح العبد في حفظ فرجه، وبين أن الزاني لا يطأ أو يتزوج إلا زانية أو مشركة، وتحريم هذا على المؤمنين وغير ذلك.

فنهى الله عز وجل عنه صريحاً، فقال سبحانه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، فلم يكتف الله عز وجل بتحريم الزنا، بل نهى عن مجرد القرب منه، ومقارفة الأسباب المؤدية إليه، والذرائع الموقعة فيه، فقال سبحانه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، وهذا تعبير دقيق يؤكد على إيصاد كل باب يمكن أن يوصل في نهايته إلى الزنا، سواء كان ذلك نظرة خائنة أم لمسة فاجرة، أم لفظة متكسرة، أم قصة ماجنة، أم مشهداً مثيراً، أم تبرجاً سافراً، أم زينة فاتنة، أم خلوة بأجنبي أم اختلاطاً، أم سفراً بغير محرم، إلى غير ذلك من الأسباب التي تثير الفتنة، وتحرك كوامن الشهوة، وتحرض على هذه الفاحشة؛ ولهذا فإن الإسلام يعمل على تجفيف منابع الفتنة، وإغلاق أبواب الغواية، وقطع أسباب الفساد والرذيلة.

وصف الله عز وجل الزنا بأقبح الأوصاف، فقال سبحانه: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، وصفه بأنه فاحشة، والفاحش: هو القبيح الذي تناهى قبحه حتى استقر في العقول والفطر المستقيمة، ووصفه بأنه شر سبيل؛ لما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة، من ضياع الأولاد واختلاط الأنساب، وانتهاك الأعراض والحرمات، وتضييع الحقوق والواجبات، وتهديم البيوت وتفكيك الأسر، وإهلاك الحرث والنسل، وزرع العداوة بين الناس بسبب التعدي على أعراضهم، وانتهاك محارمهم، وفي هذا خراب العالم وفساد نظامه، وهو شر سبيل، لما يترتب عليه من غضب الرب ومقته، وهوان العبد عليه، وسقوطه من أعين عباده، واحتقارهم له، ولما ينشأ عنه من سواد الوجه، وظلمة القلب، والذلة والمهانة، وذهاب الحياء، وفساد المروءة، وقلة الغيرة والأنفة على المحارم، والكذب والخيانة والمخادعة.

ولما يحصل بسببه من أمراض فتاكة، وطواعين عامة، ونقص في الرزق، وضيق في الصدر، ونكد في العيش، إلى غير ذلك من أنوع العقوبات الدنيوية والأُخروية.

وقد جعله الله عز وجل تركه شرطاً للبيعة على الإسلام، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:12].

ووصف الله عز وجل عباده المؤمنين بأنهم لا يزنون، وقرن الزنا بالشرك والقتل بغير حق، وجعل جزاء ذلك الخلود في العذاب المضاعف المهين، ما لم يتدارك العبد نفسه بالتوبة والإيمان والعمل الصالح. قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68-69].

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولما كانت مفسدة الزنا من أعظم المفاسد، وهي منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب وحماية الفروج، وصيانة الحرمات، وتوقي ما يوقع أعظم العداوة والبغضاء بين الناس، من إفساد كلٍ من امرأة صاحبه وابنته وأخته وأمه، وفي ذلك خراب العالم، كانت تلي مفسدة القتل في الكبر، ولهذا قرنها الله تعالى بها في كتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.

قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: لا أعلم بعد قتل النفس شيئاً أعظم من الزنا.

وقال ابن رشد رحمه الله تعالى: فالزنا من أعظم الذنوب وأجل الخطايا، ليس بعد الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله ذنب أعظم منه.

ورتب على فعله العقوبة الشديدة، قال الله عز وجل: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].

وأمر الله عز وجل بحفظ البصر والفرج، فقال سحابه: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30-31].

فهذا أمر من الله للمؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم، ثم أخبرهم بأن ذلك أزكى لهم وأنفع لهم في دنياهم وأخراهم، ثم ذكرهم بأنه خبير بأعمالهم، مشاهد لهم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر، جعل الله عز وجل الأمر بغضه مقدماً على حفظ الفرج، فإن الحوادث مبدؤها من البصر، كما أن معظم النار من مستصغر الشرر، تكون نظرة ثم خطرة ثم خلوة ثم خطيئة.

وعلق الله عز وجل فلاح العبد على حفظ فرجه من الزنا، فقال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:1-7].

فلا سبيل إلى الفلاح بدون حفظ الفرج وصيانته عن الحرام، وقد تضمنت هذه الآيات الثلاث الأخيرة ثلاثة أمور، أن من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين، وأنه من الملومين، وأنه من العادين، ففاته الفلاح، واستحق اسم العدوان، ووقع في اللوم.

اللهم! احفظ علينا أسماعنا وأبصارنا وفروجنا، ربنا! هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم! صلي وسلم وبارك على نبينا محمد.

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

عباد الله! ومما جاء في تحرم الزنا، أن الزاني لا يطأ أو يتزوج إلا زانية أو مشركة، والزانية كذلك، وتحريم هذا على المؤمنين، قال الله عز وجل: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3].

وأما السنة فقد جاءت مؤكدة ما في القرآن، وحفلت بنصوص كثيرة تأمر بالعفاف وحفظ الفرج، وتحرم الزنا بأساليب متنوعة، وتتوعد فاعله بالعذاب والنكال الشديد، فمن ذلك ما أخرجه البخاري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي ما بين رجليه وما بين لحييه أضمن له الجنة)، وروى أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)، رواه الشيخان.

وذكر النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة الزناة والزواني في البرزخ في رؤيا طويلة خرجها البخاري من حديث جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه، فمما جاء في هذا الحديث، أنه قال: (فأتينا على مثل التنور فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضو، وقال في آخره: وأما الرجال والنساء العراة الذين هم في مثل بناء التنور، فإنهم الزناة والزواني)، هكذا تكون عقوبتهم بعد الموت، يجعلون في تنور من نار، نسأل الله السلامة بمنه وكرمه، وفي رواية قال:(فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع تتوقد تحته نار، فإذا ارتقت ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، وإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة).

وقد أجمعت الأمة على تحريم الزنا وأنه من الكبائر، بل اتفقت على تحريمه وذم فاعله جميع الملل والشرائع السابقة، قال الشربيني الشافعي رحمه الله: واتفق أهل الملل على تحريمه، وهو من أفحش الكبائر، ولم يحل في ملة قط، ولهذا كان حده أشد الحدود؛ لأنه جناية على الأعراض والأنساب.

وسنتحدث إن شاء الله في الجمعة المقبلة عن أسباب هذه الفاحشة التي كثرت في وقتنا الحاضر، وعن شيء من مفاسدها وأضرارها وطرق علاجها، نسأل الله سبحانه وتعالى بمنه أن يحفظ علينا أبصارنا وأسماعنا وفروجنا.

اللهم! إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم! عليك بأعداء الدين، اللهم! عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم! إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم! أنج المسلمين من ظلمهم وطغيانهم يا قوي! يا عزيز! اللهم! احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم! احفظهم بحفظك التام، واحرسهم بعينك التي لا تنام، اللهم! من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل اللهم تدميره في تدبيره، واجعل اللهم الدائرة عليه، اللهم! آمنا في أوطاننا، اللهم! احفظ علينا إيماننا، وحفظ علينا إسلامنا، اللهم! أصلح ولاة أمور المسلمين، اللهم! ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شر شرارهم، اللهم! اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين! اللهم! اشف مرض المسلمين، اللهم! عجل لهم بالشفاء العاجل، اللهم! فك أسر المأسورين، اللهم! عجل لهم بالفرج يا أرحم الراحمين! ربنا! آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.