{ ومن يرغب عن ملة إبراهيم }
مدة
قراءة المادة :
19 دقائق
.
﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ﴾﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 130 - 134].
﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ ﴾؛ رغِب عنه: تركه واجتنبه، ورغب فيه: طلبه، ﴿ مِلَّةِ ﴾: دين ﴿ إِبْرَاهِيمَ ﴾، ودين إبراهيم عليه السلام أنه كان حنيفًا مسلمًا لله، ولم يكن من المشركين، وهو النبي المجمَع على محبته من سائر الطوائف؛ فهو أبو العرب والإسرائيليين، وأبو الأنبياء، وهو الخليل صلى الله عليه وسلم، وأشرفهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعله الله إمامًا؛ كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120]، وجعل ملتَه هي الملة الحنيفية، فإذا كان كذلك، فلا أحد يرغب عن الملة الحنيفية القويمة.
﴿ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾؛ امتهنها واستخف بها، وأصل السفه: الخفة، ضد الرشد، ومنه السفاهة في الفعل؛ وهو ارتكاب أفعال لا يرضى بها أهل المروءة، والسفه في المال؛ وهو إضاعته وقلة المبالاة به وسوء تنميته، وسفِهه بمعنى: استخفه وأهانه؛ لأن الاستخفاف ينشأ عنه الإهانة، وسفُه صار سفيهًا.
والمعنى: لا أحد يرغب عن دين إبراهيم إلا من خف عقله، فمعناه النفي العام، فالمخالفون للرسل سفهاء؛ كما قال تعالى في المنافقين: ﴿ ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 13]، وقوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ [البقرة: 142]؛ فإنهم - وإن كانوا أذكياء، وعندهم علم بالصناعة، والسياسة - في الحقيقة سفهاء؛ لأن العاقل هو الذي يتبع ما جاءت به الرسل فقط.
قال ابن عاشور: "موقع هاته الآيات من سوابقها موقع النتيجة بعد الدليل؛ فإنه تعالى لما بيَّن فضائل إبراهيم من قوله: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى ﴾ [البقرة: 124]، إلى هنا، عُلِم أن صاحب هاته الفضائل لا يعدل عن دينه والاقتداء به، إلا سفيه العقل، أفن الرأي، فمقتضى الظاهر أن تعطف على سوابقها بالفاء، وإنما عدل من الفاء إلى الواو؛ ليكون مدلول هذه الجملة مستقلًّا بنفسه في تكميل التنويه بشأن إبراهيم، وفي أن هذا الحكم حقيق بملة إبراهيم من كل جهة، لا من خصوص ما حكى عنه في الآيات السالفة، وفي التعريض بالذين حادوا عن الدين الذي جاء متضمنًا لملة إبراهيم، والدلالة عن التفريع لا تفوت؛ لأن وقوع الجملة بعد سوابقها متضمنة هذا المعنى دليل على أنها نتيجة لما تقدم؛ كما تقول: أحسن فلان تدبير المهم، وهو رجل حكيم، ولا تحتاج إلى أن تقول: فهو رجل حكيم".
﴿ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ ﴾: اخترناه، وجعلناه صفيًّا من الخلق، معطوفة على الجمل التي قبلها الدالة على رفعة درجة إبراهيم عند الله تعالى، ﴿ فِي الدُّنْيَا ﴾، واصطفاؤه كان بالرسالة والخُلَّة والكلمات التي وفَّى ووصى بها، وبناء البيت، والإمامة، واتخاذ مقامه مصلًّى، وتطهير البيت، والنجاة من نار نمروذ، والنظر في النجوم، وأذانه بالحج، وإراءته مناسكه، إلى غير ذلك مما ذكر الله في كتابه، من خصائصه ووجوه اصطفائه.
﴿ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [البقرة: 130]، ذكر تعالى كرامة إبراهيم في الدارين، بأن كان في الدنيا من صفوته، وفي الآخرة من المشهود له بالاستقامة في الخير، ومن كان بهذه الصفة فيجب على كل أحد ألَّا يعدل عن ملته.
قال في البحر المحيط: وهاتان الجملتان مؤكَّدتان؛ أما الأولى فباللام، وأما الثانية فبأن وباللام، ولما كان إخبارًا عن حالة مغيبة في الآخرة، احتاجت إلى مزيد تأكيد، بخلاف حال الدنيا، فإن أرباب المآل قد علموا اصطفاء الله له في الدنيا بما شاهدوه منه، ونقلوه جيلًا بعد جيل، وأما كونه في الآخرة من الصالحين، فأمر مغيب عنهم يحتاج فيه إلى إخبار من الله تعالى، فأخبر الله به مبالغًا في التوكيد.
ولما كانت الدنيا دار شهوات وابتلاء، فلا يصبر عن هذه الشهوات، ولا على هذا الابتلاء إلا واحد دون الآخر، فإذا أخلص الإنسان نفسه لله، صار صفوة من عباد الله، والآخرة ليست هكذا؛ ففي الآخرة حتى الكفار يؤمنون؛ ولكن الفرق بين من يكون من الصالحين، وغير الصالحين؛ لأنهم إذا عُرِضوا على النار قيل لهم: ﴿ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا ﴾ [الأنعام: 30]، وقيل لهم: ﴿ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى ﴾ [غافر: 50]، وقالوا: ﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [يس: 52]...
وهكذا ما يدل على أنهم مؤمنون، لكنهم ليسوا من الصالحين.
﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ ﴾ هذا من الالتفات؛ إذ لو جرى على الكلام السابق، لكان: إذ قلنا له ﴿ أَسْلِمْ ﴾، انْقَدْ لأمرنا ونهينا، فاعبُدْنا وحدنا، ولا تلتفتْ إلى غيرنا، ومن معاني جماعها: التوحيد، والبراءة من الحول والقوة، وإخلاص الطاعة، وهذا من الثناء على إبراهيم عليه السلام.
والأكثرون على أنه قيل له ذلك قبل النبوَّة، وقبل البلوغ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس، واطلاعه على أمارات الحدوث فيها، وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية، وأمارات الحدوث، فلما عرف ربه، قال تعالى له: أسلم.
﴿ قَالَ أَسْلَمْتُ ﴾، مشعر بأنه بادر بالفور دون تريث، كما اقتضاه وقوعه جوابًا، وأنه لما أوحى الله إليه بالإيمان صادف ذلك عقلًا راشدًا ﴿ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 131]، فيه الإشارة إلى أن الخلق من آيات الله؛ لأنهم سُمُّوا عالمين؛ حيث إنهم عَلَم على خالقهم، والرب هو الذي يستحق أن يُسْلَم له؛ لأنه الخالق؛ ولهذا أنكر الله سبحانه وتعالى عبادة الأصنام، وبيَّن علة ذلك بأنهم لا يخلقون؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ [النحل: 20، 21]؛ فتبين بهذا مناسبة ذكر الإسلام مقرونًا بالربوبية.
وفي العموم من الفخامة ما لا يكون في الخصوص؛ لذلك عدل عن أن يقول: "أسلمت لربي"، ومن كان ربًّا للعالمين ينبغي أن يكون جميعهم مسلمين له منقادين.
﴿ وَوَصَّى ﴾ الوصية: العهد، وصى بنيه: أي: عهِد إليهم وتقدم إليهم بما يعمل به مقترنًا بوعظ، ووصَّى وأوصى لغتان، إلا أنهم قالوا: إنَّ "وصَّى" المشدَّد يدل على المبالغة والتكثير.
قال ابن عاشور: "والإيصاء أمر أو نهي يتعلق بصلاح المخاطب خصوصًا أو عمومًا، وفي فوته ضرٌّ، فالوصية أبلغ من مطلق أمر ونهي، فلا تُطلَق إلا في حيث يُخاف الفوات، إما بالنسبة للموصي؛ ولذلك كثر الإيصاء عند توقع الموت".
﴿ بِهَا ﴾ ملة الإِسلام القائمة على التوحيد، ﴿ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ﴾، وبنو إبراهيم ثمانية: إسماعيل؛ وهو أكبر بنيه وأمه هاجر، وإسحاق وأمه سارة وهو ثاني بنيه، والباقي أمهم قطورة التي تزوجها إبراهيم بعد موت سارة، ﴿ وَيَعْقُوبُ ﴾ بن إسحاق، من زوجه رفقة الآرامية، تزوجها سنة ست وثلاثين وثمانمائة وألف قبل المسيح في حياة جده إبراهيم، فكان في زمن إبراهيم رجلًا، ولُقِّب بإسرائيل، وهو جَدُّ جميع بني إسرائيل، ومات يعقوب بأرض مصر سنة تسع وثمانين وتسعمائة وألف قبل المسيح، ودُفن بمغارة المكفلية بأرض كنعان بلد الخليل؛ حيث دُفن جده وأبوه عليهم السلام.
وعَطْفُ يعقوب على إبراهيم هنا إدماج مقصود به تذكيرُ بني إسرائيل - الذي هو يعقوب - بوصية جدهم، فكما عرِّض بالمشركين في إعراضهم عن دين أوصى به أبوهم، عرض باليهود كذلك؛ لأنهم لما انتسبوا إلى إسرائيل، وهو يعقوب الذي هو جامع نسبهم بعد إبراهيم؛ لتقام الحجة عليهم بحق اتباعهم الإسلام.
﴿ يَا بَنِيَّ ﴾ ناداهم بوصف البنوة؛ ترفقًا معهم ليكون أدعى إلى القبول، ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ﴾ اختار ﴿ لَكُمُ الدِّينَ ﴾ الكامل، وفيه إشارة إلى أنه اختاره لهم من بين الأديان، وأنه فضَّلهم به؛ لأن اصطفى لك يدل على أنه ادخره لأجله، وأراد به دين الحنيفية الإسلام؛ فلذلك قال: ﴿ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]، نهيٌ عن مفارقة الإسلام - ملة إبراهيم - في جميع أوقات حياتهم، وذلك كناية عن ملازمته مدة الحياة؛ لأن الحي لا يدري متى يأتيه الموت، فنهى أحد عن أن يموت غير مسلم، وأمر بالاتصاف بالإسلام في جميع أوقات الحياة، والمراد من مثل هذا النهي شدة الحرص على ترك المنهي.
ولما كان من شأن أهل الحق والحكمة أن يكونوا حريصين على صلاح أنفسهم، وصلاح أمتهم، كان من مكملات ذلك أن يحرصوا على دوام الحق في الناس متبعًا مشهورًا، فكان من سُنَنِهم التوصية لمن يظنونهم خلفًا عنهم في الناس بألَّا يحيدوا عن طريق الحق، ولا يفرطوا فيما حصل لهم منه، فإن حصوله بمجاهدة نفوس، ومرور أزمان، فكان لذلك أمرًا نفيسًا، يجدر أن يحتفظ به.
﴿ أَمْ كُنتُمْ ﴾ استفهام استنكاري المخاطب به اليهود، الذين ادَّعوا أن يعقوب مات على اليهودية، وأوصى بها، فلزمت ذريته، فكان موقع الإنكار على اليهود واضحًا؛ وهو أنهم ادعوا ما لا قِبل لهم بعلمه؛ إذ لم يشهدوا.
﴿ شُهَدَاءَ ﴾ جمع شهيد؛ بمعنى الشاهد أي: الحاضر للأمر والشأن، ووجه دلالة نفي المشاهدة على نفي ما نسبوه إلى يعقوب هو أن تنبيههم إلى أنهم لم يشهدوا ذلك يثير في نفوسهم الشك في معتقدهم.
﴿ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ﴾ إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم، ﴿ الْمَوْتُ ﴾، وهو وقت التعجيل بالحرص على إبلاغ النصيحة في آخر ما يبقى من كلام الموصي، فيكون له رسوخ في نفوس الموصين؛ أخرج أبو داود والترمذي عن العرباض بن سارية، قال: ((وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة، وجِلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع؛ فأوصنا...))؛ [الحديث].
﴿ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ ﴾ هم الأسباط - وهو ابن الابن أي الحفيد - أي أسباط إسحاق، ومنهم تشعبت قبائل بني إسرائيل، وهم اثنا عشر ابنًا، وقد أخبر القرآن بأن جميعهم صاروا أنبياء، وأن يوسف كان رسولًا، ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ﴾، جاء يعقوب في وصيته بأسلوب الاستفهام لينظر مقدار ثباتهم على الدين؛ حتى يطَّلع على خالص طويتهم ليلقي إليهم ما سيوصيهم به من التذكير، وجيء في السؤال بما الاستفهامية دون "من"؛ لأن ما هي الأصل عند قصد العموم؛ لأنه سألهم عما يمكن أن يعبده العابدون.
﴿ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـهَكَ ﴾ معرفًا بالإضافة دون الاسم العَلَم، بأن يقول: نعبد الله؛ لأن إضافة إله إلى ضمير يعقوب وإلى آبائه، تفيد جميع الصفات التي كان يعقوب وآباؤه يصفون الله بها فيما لقَّنه منذ نشأتهم، ولأنهم كانوا سكنوا أرض كنعان وفلسطين مختلطين ومصاهرين لأممٍ تعبد الأصنام من كنعانيين وفلسطينيين وحثيين وآراميين، ثم كان موت يعقوب في أرض الفراعنة، وكانوا يعبدون آلهة أخرى، وأيضًا فمن فوائد تعريف الذي يعبدونه بطريق الإضافة إلى ضمير أبيهم وإلى لفظ آبائه أن فيها إيماء إلى أنهم مقتدون بسلفهم.
﴿ وَإِلَـهَ آبَائِكَ ﴾ إعادة المضاف مع المعطوف على المضاف إليه أفصح في الكلام، وفيه أن النفوس مجبولة على اتباع الآباء، لكن إن كان على حقٍّ فهو حق، وإن كان على باطل فهو باطل؛ لقولهم: ﴿ وَإِلَـهَ آبَائِكَ ﴾؛ ولهذا الذين حضروا وفاة أبي طالب قالوا له: أترغب عن ملة عبدالمطلب؟
﴿ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾، وهو عمٌّ ليعقوب فهو إطلاق من باب التغليب، ولأن العم بمنزلة الأب.
قال ابن عثيمين: الإشكال في عدِّهم إسماعيل من آبائه مع أنه عمهم؛ فيقال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ((أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ))؛ [مسلم]، و"الصنو" الغصنان أصلهما واحد؛ فذُكر مع الآباء؛ لأن العم صنو الأب؛ وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ))؛ [البخاري]، كذلك نقول: العم بمنزلة الأب، وقيل: إن هذا من باب التغليب، وأن الأب لا يطلق حقيقة على العم إلا مقرونًا بالأب الحقيقي، وعلى هذا فلا يكون فيها إشكال إطلاقًا؛ لأن التغليب سائغ في اللغة العربية، فيقال: "القمران"، والمراد بهما الشمس والقمر، ويقال: "العُمَرانِ"؛ وهما أبو بكر، وعمر.
﴿ وَإِسْحَاقَ ﴾ في الإتيان بعطف البيان ضرب من محسن الاطراد؛ تنويهًا بأسماء هؤلاء الأسلاف، ﴿ إِلَـهًا ﴾ أُعيد لفظ "إلهًا"، ولم يقتصر على وصف "واحدًا" لزيادة الإيضاح؛ لأن المقام مقام إطناب ففي الإعادة تنويه بالمعاد، وتوكيد لما قبله، ﴿ وَاحِدًا ﴾ توضيح لصفة الإله الذي يعبدونه، ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133].
والآية تفصيل لوصية يعقوب بأنه أمر أبناءه أن يكونوا على ملة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وهي نظير ما وصى به إبراهيم بنيه، فأجمل هنا اعتمادًا على ما صرح به في قوله سابقًا: ﴿ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132]، وهذا تنويه بالحنيفية التي هي أساس الإسلام، وتمهيد لإبطال قولهم: ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ﴾ [البقرة: 135]، وإبطال لزعمهم أن يعقوب كان على اليهودية، وأنه أوصى بها بنيه فلزمت ذريته، فلا يحولون عنها.
﴿ تِلْكَ ﴾ إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وأبنائهما، باعتبار أنهم جماعة، وباعتبار الإخبار عنهم باسم مؤنث لفظه وهو ﴿ أُمَّةٌ ﴾؛ والأمة هنا بمعنى طائفة؛ وتُطلَق في القرآن على عدة معانٍ؛ المعنى الأول: الطائفة، كما هنا، والمعنى الثاني: الحقبة من الزمن؛ مثل قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾ [يوسف: 45]؛ يعني: بعد حقبة من الزمن، والمعنى الثالث: الإمام؛ مثل قوله تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ [النحل: 120]، والمعنى الرابع: الطريق، والملة؛ مثل قوله تعالى: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾ [الزخرف: 22].
﴿ قَدْ خَلَتْ ﴾ مضت وماتت وانقضت، وصارت إلى الفراغ والخلاء؛ وهو الأرض الذي لا أنيس به، والخبر هنا كناية عن عدم انتفاع غيرهم بأعمالهم الصالحة، وإلا فإن كونها خلت مما لا يُحتاج إلى الإخبار به.
والمخاطب هم اليهود والنصارى الذين ادَّعوا لإبراهيم وبنيه اليهودية والنصرانية، وفيه: أن الاعتماد على أعمال الآباء لا يجدي شيئًا، ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ من الخير ﴿ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ فالتمسُّح بأعتاب الماضين، والتشبُّث بالنصب الفارغة إلى الأولين غير مجدٍ لهم ولا نافع، فليقبلوا على إنقاذ أنفسهم من الجهل والكفر بالإيمان والإسلام والإحسان، أما من مضوا، فهم أمة قد أفضوا إلى ما كسبوا وسيُجزون به، وأنتم لكم ما كسبتم وستُجزون به، ولا تُجزون بعمل غيركم ولا تُسألون عنه، فإنهم لغرورهم يزعمون أن ما كان لأسلافهم من الفضائل يزيل ما ارتكبوه هم من المعاصي، أو يحمله عنهم أسلافهم.
وفي الآية دلالة على بطلان قول من يقول بجواز تعذيب أولاد المشركين بذنوب آبائهم، وفي الآية قبلها دلالة على أن الأبناء يثابون على طاعة الآباء.
﴿ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 134] جملة توكيدية لِما قبلها؛ لأنه قد أخبر بأن كل أحد مختص بكسبه من خير، وإذا كان كذلك، فلا يسأل أحد عن عمل أحد، فكما أنه لا ينفعكم حسناتهم، فكذلك لا تسألون، ولا تؤاخذون بسيئات من اكتسبها.
وفيه أن الآخر لا يُسأل عن عمل الأول، ولكن الأول قد يُسأل عن عمل الآخر؛ كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ [القصص: 41]؛ فقد يكون الأول صاحب بدعة، ويُتَّبَع على بدعته؛ فيكون دالًّا على ضلالة؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لكن الآخر لا يسأل عن عمل الأول؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا)).