الفتن وخطرها


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى هو مدبر الكون، لا يقع فيه شيء إلا بأمره وتدبيره وإرادته، ولا يقع في هذا الكون شيء إلا عن حكمة بالغة، فهو الذي يعلم مآلات الأمور، ويبلو عباده ويمتحنهم كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وإذا قدر أمراً يسر أسبابه، وبين المخارج منه، ووفق لذلك من شاء من خلقه، وإن من حكمته سبحانه وتعالى أن يمتحن أهل الأرض بما يجدون من الضراء، وبما يجدون من السراء أيضاً، وقد كتب ذلك كله في القدر، فكل ما يقع من ذلك مكتوب عند الله تعالى في أم الكتاب؛ ولهذا قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:22-23]، (لكيلا تأسوا) هذا التعليل لكتابة ذلك في أم الكتاب؛ ولكتابته في القدر السابق، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ [الحديد:23] أي: لا تحزنوا على ما فاتكم من هذه الدنيا، وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23] أي: بالسراء في هذه الحياة الدنيا، ولذلك على الإنسان أن يعلم أن هذه الدار ذات ألوان، وسيركب فيها الإنسان طبقاً عن طبق، وسيمر به كثير من الأطوار.

أطوار خلق الإنسان

وهذه الأطوار المنوعة يمثلها خلق الإنسان، فالإنسان خلق فيها تسعة أطوار كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12-16].

تسعة أطوار يمر بها خلق الإنسان، ونحن نشاهد أحد هذه الأطوار مع ما فيه من الأطوار الداخلية، فهذا الطور الذي طواه الله تعالى بقوله: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون:14]، المقصود به تنامي الإنسان بعد ميلاده، فقد خلق من ضعف، ثم لم يزل يزداد تقدماً وقوة إلى أن وصل إلى منتهى قوته فبدأ في الضعف والشيبة.

الأعراض الذي تعتري الإنسان في حياته

ويمر به في هذا الطور وحده كثير من الأطوار كالفراغ والانشغال، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والرضا والغضب، واللذة والألم، وغير ذلك من الأطوار التي تصابحه وتماسيه، ويجدها في كل أحيانه، وهي أعراض لم يكتب الله سبحانه وتعالى فيها الأجل إلا عند نهايته، فما يصيب الإنسان من الأعراض لو قدر به الأجل لكان أجله إما بالفرح، وإما بالحزن، وإما بالرضا، وإما بالغضب، وإما بالصحة، وإما بالمرض، أو غير ذلك من الأعراض التي تعتريه، وآخرها هو العرض الأخير الذي به أجله، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم حال الإنسان، ( فخط خطاً مربعاً، وخط بداخله خطاً، ثم أخرج منه خطاً آخر طويلاً، ثم خط خطوطاً عن يمين الخط الذي بداخل المربع، وخطوطاً عن شماله، ثم وضع إصبعه على الخط الداخلي، فقال: هذا الإنسان، ووضع إصبعه على الخط الخارجي فقال: وهذا أمله، ووضع إصبعه على المربع وقال: وهذا أجله، وأشار إلى الخطوط التي عن يمينه وعن شماله فقال: وهذه أعراض إن أخطأه هذا أصابه هذا ).

مقابلة نعم الله بالشكر والامتنان

فهذا مثال نبوي واضح لما يعترينا من الأعراض، ولما يحل في دنيانا هذه من التدبير التي ينبغي أن يكون زيادةً في الإيمان، وزيادةً في التقرب إلى الله تعالى، فأهل الإيمان كلما رأوا طوراً من هذه الأطوار ذكروا الله سبحانه وتعالى، إذا غربت الشمس فجاء الظلام ذكروا الله تعالى الذي امتن بالظلام على الأبدان، وإذا طلعت الشمس فجاء الضياء ذكروا الله فأقبلوا عليه بالشكر للامتنان على هذه النعمة، ولذلك فإنه سبحانه وتعالى امتن علينا بالضياء، وامتن علينا بالظلام، وكلاهما لا يصلح لوقته إلا هو، وجعل ذلك ذكرى وعبرة، فتفاوت الليل والنهار، وتكوير كل واحد منهما على الآخر هو تذكرة للغافلين والمشغولين عن الله تعالى بأن يئوبوا إليه ويتذكروا، ولهذا قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:61-62].

وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان إذا رأى الهلال أول مستهله يقول: أيها الخلق المتردد في منازل التقدير! والمتصرف في فلك التدبير! آمنت بمن نور بك الظلم، وأسفر بك البهم، وجعلك آيةً من آيات وحدانيته، وعلامةً من علامات سلطانه، وامتحنك بالزيادة والنقصان، والطلوع والأفول، والإنارة والكسوف، وفي كل ذلك أنت له مطيع، وإلى أمره سريع، فسبحان الذي خلقك وخلقني وقدرك منازل.

الاعتبار بآيات الله والاتعاظ بها

هذا القمر آية من آيات الله سماه الله بذلك في كتابه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12]، وهذه الآيات لا بد من الاعتبار بها، وقد قال الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً [الإسراء:59].

فالعبد يحتاج إلى ما يخوفه من الله، ولا يتم ذلك ما دام غارقاً في الطغيان، وما دام يحس بالاستغناء، فلذلك يبتليه الله تعالى ليئوب إليه ويرجع، ولهذا فكل ما يظهر في الأرض من الفساد، وكل ما يحصل فيها من الفتن، وكل ما يحصل فيها حتى من السيئات والذنوب أو من الطاعات والقرب كله ذكرى وعبرة للمعتبرين، فالإنسان إذا رأى العاصين المعرضين عن الله الذين يقبلون ويدبرون لا يبالون، ولا يخطر أمر الآخرة على خلد أحد منهم، ولا يتذكرون الموت، ولا يتذكرون العرض على الله، هذه عبرة وموعظة؛ لأنه يتعظ في هؤلاء كيف كانت لهم عقول كبيرة يتصرفون في أمورهم ويبيعون ويشترون، ومع ذلك هم بهذه الغفلة عن هذا الأمر العظيم الكبير الذي فيه يختصم الملأ الأعلى؟ لا يرجون لله وقاراً، أمر عظيم جداً؛ ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـعمرو بن العاص رضي الله عنه -وقد كان إسلامه متأخراً، فما أسلم إلا بعد صلح الحديبية- قال له عمر : يا عمرو ! والله إن كنا لنعدك من أعقلنا، فما الذي أخرك عن الإسلام؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إنا كنا مع مشيخة من قريش، كنا نعدهم أهل كمال وفطنة، فلما حاربوا هذا الأمر وأعرضوا عنه شغلنا برأيهم، فلما ماتوا نظرنا فإذا الحق واضح. فلذلك عجب عمر من تأخر إسلام عمرو بن العاص مع تمام عقله، ودهائه وفطنته، كيف يتأخر عن الإسلام وهو بهذا الوضوح، وآياته بينات ظاهرة باهرة.

ما حصل لأبي سفيان من آيات قبل إسلامه

ومن الغريب أيضاً: أن بعض من كان مشركاً في وقت من الأوقات، ورأى بعض هذه الآيات عجب من نفسه: كيف لم يؤمن عند ظهور تلك الآيات؟! فإن أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه كان خرج إلى مزرعة له بالطائف هو و صفوان بن أمية بن خلف ، فلما رجع من الطائف وكان على حدود الحرم بين عرفة ومزدلفة رأيا ذئباً يطرد أرنباً، فلما دخلت في الحرم رجع الذئب عنها، فقال أبو سفيان لـصفوان : ما رأيت كاليوم عجباً! ذئب جائع يريد أرنباً فتدخل في الحرم فيتركها!! فوقف الذئب وكلمهما بكلام فصيح، فقال: بل أمركما أعجب من أمري، يأتيكما محمد صلى الله عليه وسلم بالحق من عند الله تعالى فتعرضان وتكذبان!، فمكثا ساعةً لم يفكرا في هذا الأمر، مكثا ساعةً لا يستطيع أحد منهما جواباً حيرةً من هذا الأمر، ثم التفت أبو سفيان إلى صفوان فقال: لا تحدث بهذا الأمر؛ فإنك إن حدثت به لم يبق بين جبليها أحد، أي: سيخرج أهل مكة جميعاً، فتعاهدا على كتمانه، فلما أسلما حدث أبو سفيان بهذا الخبر العجيب!

ونظير ذلك أيضاً ما حصل له عندما خرج بعد عقد الهدنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، خرج أبو سفيان في تجارة قريش إلى الشام، فلما كانوا بغزة جاءهم الطلب، فإذا هرقل ملك الروم يدعوهم للحضور عنده، فأتي بهم وكانوا عدداً من الرجال من التجار، فلما أتوه وجدوه في دسكرة، أي: قبة عظيمة له، وعنده عظماء الروم جميعاً قد جمعهم فيها، برلمان الروم يجتمعون لسماع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال هرقل لترجمانه: ( قل لهم: أيكم ألصق نسباً بهذا الرجل؟ قال أبو سفيان : فقلت: أنا، فقال: قربوه عندي واجعلوا أصحابه عند ظهره، ففعلوا، فقال له: إني سائلك عن هذا الرجل فلا تكذب، وقال لأصحابه: إذا كذب فكذبوه، سأل هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أسئلةً تدل على تمام عقله وفطنته، وقد سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم: هل كنتم تؤثرون عليه كذباً قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قال: لا، قال: فهل قاتلتموه؟ قال: نعم، كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال، قال: فهل يغدر؟ قال: لا، ونحن منه الآن في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: لم أجد مسألةً أدخل فيها شيئاً إلا هذه، ونحن منه الآن في مدة ما ندري ما هو فاعل فيها، سأله: أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون، قال: أيرجع أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، فرد هرقل على أبي سفيان فقال: قد سألتك: هل كنتم تؤثرون عليه كذباً؟ فقلت: لا، فقد علمت أنه لم يكن ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك عن نسبه فقلت: هو فينا ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان في آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك: هل قاتلتموه؟ فقلت: نعم، وقلت: إن الحرب بينكم وبينه سجال، فكذلك أمر الإسلام حتى يتم، أو قال: أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك: أأشراف الناس اتبعوه أما ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك: هل يرجع أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، فكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، فكذلك أمر الإسلام حتى يتم، وسألتك: هل يغدر أم لا؟ فذكرت أنه لا يغدر، فكذلك الرسل لا تغدر، فإن كان ما قلت حقاً فليملكن موضع قدمي هاتين، ولو كنت عنده لتجشمت لقاءه ولغسلت عن قدميه )، وكانت هذه القصة في ذلك الوقت و أبو سفيان أشد ما يكون عداوةً للنبي صلى الله عليه وسلم.

قال: ( فخاطب الروم، فقال لهم: يا معشر الروم! هل لكم في أن يدوم ملككم أم تبايعوا هذا الرجل وتتبعوه؟ فحاصوا حيصة الحمر إلى الأبواب فوجدوها مغلقة، فدعاهم فقال: قد كنت أمتحن حرصكم على دينكم فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكثر اللغط عنده وأخرجنا، قال أبو سفيان : فمنذ سمعته يقول ما قال وأنا أعلم أن أمر الإسلام سيتم حتى أدخل الله علي الإيمان )، ومع هذا قال لأصحابه لما خرجوا: ( لقد كبر أمر ابن أبي كبشة حتى إن ملك بني الأصفر ليخافه ).

إرادة الله الكونية في الهداية

فلذلك لا بد أن نعلم أن الجميع من تقدير الله، وأن الإيمان ليس ميراثاً يرثه الإنسان عن آبائه وأجداده، وليس قناعةً عقليةً يقتنع بها إذا رأى المعجزات والآيات، أو قرأ وتدبر، إنما هو نور يقذفه الله في قلب من شاء من خلقه، ولهذا قال تعالى: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].

وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:109-111].

فلا يمكن أن يؤمن إلا من قدر الله له الإيمان، ولهذا قال الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:99-100].

فلذلك يهدي الله تعالى لنوره من يشاء، ويصرف عن هذا النور من يشاء، وقد تعهد بصرف الذين لا يرتضي خدمتهم للدين عن الإيمان وعن الالتزام، فقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].

وهذه الأطوار المنوعة يمثلها خلق الإنسان، فالإنسان خلق فيها تسعة أطوار كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12-16].

تسعة أطوار يمر بها خلق الإنسان، ونحن نشاهد أحد هذه الأطوار مع ما فيه من الأطوار الداخلية، فهذا الطور الذي طواه الله تعالى بقوله: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون:14]، المقصود به تنامي الإنسان بعد ميلاده، فقد خلق من ضعف، ثم لم يزل يزداد تقدماً وقوة إلى أن وصل إلى منتهى قوته فبدأ في الضعف والشيبة.

ويمر به في هذا الطور وحده كثير من الأطوار كالفراغ والانشغال، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والرضا والغضب، واللذة والألم، وغير ذلك من الأطوار التي تصابحه وتماسيه، ويجدها في كل أحيانه، وهي أعراض لم يكتب الله سبحانه وتعالى فيها الأجل إلا عند نهايته، فما يصيب الإنسان من الأعراض لو قدر به الأجل لكان أجله إما بالفرح، وإما بالحزن، وإما بالرضا، وإما بالغضب، وإما بالصحة، وإما بالمرض، أو غير ذلك من الأعراض التي تعتريه، وآخرها هو العرض الأخير الذي به أجله، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم حال الإنسان، ( فخط خطاً مربعاً، وخط بداخله خطاً، ثم أخرج منه خطاً آخر طويلاً، ثم خط خطوطاً عن يمين الخط الذي بداخل المربع، وخطوطاً عن شماله، ثم وضع إصبعه على الخط الداخلي، فقال: هذا الإنسان، ووضع إصبعه على الخط الخارجي فقال: وهذا أمله، ووضع إصبعه على المربع وقال: وهذا أجله، وأشار إلى الخطوط التي عن يمينه وعن شماله فقال: وهذه أعراض إن أخطأه هذا أصابه هذا ).

فهذا مثال نبوي واضح لما يعترينا من الأعراض، ولما يحل في دنيانا هذه من التدبير التي ينبغي أن يكون زيادةً في الإيمان، وزيادةً في التقرب إلى الله تعالى، فأهل الإيمان كلما رأوا طوراً من هذه الأطوار ذكروا الله سبحانه وتعالى، إذا غربت الشمس فجاء الظلام ذكروا الله تعالى الذي امتن بالظلام على الأبدان، وإذا طلعت الشمس فجاء الضياء ذكروا الله فأقبلوا عليه بالشكر للامتنان على هذه النعمة، ولذلك فإنه سبحانه وتعالى امتن علينا بالضياء، وامتن علينا بالظلام، وكلاهما لا يصلح لوقته إلا هو، وجعل ذلك ذكرى وعبرة، فتفاوت الليل والنهار، وتكوير كل واحد منهما على الآخر هو تذكرة للغافلين والمشغولين عن الله تعالى بأن يئوبوا إليه ويتذكروا، ولهذا قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:61-62].

وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان إذا رأى الهلال أول مستهله يقول: أيها الخلق المتردد في منازل التقدير! والمتصرف في فلك التدبير! آمنت بمن نور بك الظلم، وأسفر بك البهم، وجعلك آيةً من آيات وحدانيته، وعلامةً من علامات سلطانه، وامتحنك بالزيادة والنقصان، والطلوع والأفول، والإنارة والكسوف، وفي كل ذلك أنت له مطيع، وإلى أمره سريع، فسبحان الذي خلقك وخلقني وقدرك منازل.

هذا القمر آية من آيات الله سماه الله بذلك في كتابه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12]، وهذه الآيات لا بد من الاعتبار بها، وقد قال الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً [الإسراء:59].

فالعبد يحتاج إلى ما يخوفه من الله، ولا يتم ذلك ما دام غارقاً في الطغيان، وما دام يحس بالاستغناء، فلذلك يبتليه الله تعالى ليئوب إليه ويرجع، ولهذا فكل ما يظهر في الأرض من الفساد، وكل ما يحصل فيها من الفتن، وكل ما يحصل فيها حتى من السيئات والذنوب أو من الطاعات والقرب كله ذكرى وعبرة للمعتبرين، فالإنسان إذا رأى العاصين المعرضين عن الله الذين يقبلون ويدبرون لا يبالون، ولا يخطر أمر الآخرة على خلد أحد منهم، ولا يتذكرون الموت، ولا يتذكرون العرض على الله، هذه عبرة وموعظة؛ لأنه يتعظ في هؤلاء كيف كانت لهم عقول كبيرة يتصرفون في أمورهم ويبيعون ويشترون، ومع ذلك هم بهذه الغفلة عن هذا الأمر العظيم الكبير الذي فيه يختصم الملأ الأعلى؟ لا يرجون لله وقاراً، أمر عظيم جداً؛ ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـعمرو بن العاص رضي الله عنه -وقد كان إسلامه متأخراً، فما أسلم إلا بعد صلح الحديبية- قال له عمر : يا عمرو ! والله إن كنا لنعدك من أعقلنا، فما الذي أخرك عن الإسلام؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إنا كنا مع مشيخة من قريش، كنا نعدهم أهل كمال وفطنة، فلما حاربوا هذا الأمر وأعرضوا عنه شغلنا برأيهم، فلما ماتوا نظرنا فإذا الحق واضح. فلذلك عجب عمر من تأخر إسلام عمرو بن العاص مع تمام عقله، ودهائه وفطنته، كيف يتأخر عن الإسلام وهو بهذا الوضوح، وآياته بينات ظاهرة باهرة.

ومن الغريب أيضاً: أن بعض من كان مشركاً في وقت من الأوقات، ورأى بعض هذه الآيات عجب من نفسه: كيف لم يؤمن عند ظهور تلك الآيات؟! فإن أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه كان خرج إلى مزرعة له بالطائف هو و صفوان بن أمية بن خلف ، فلما رجع من الطائف وكان على حدود الحرم بين عرفة ومزدلفة رأيا ذئباً يطرد أرنباً، فلما دخلت في الحرم رجع الذئب عنها، فقال أبو سفيان لـصفوان : ما رأيت كاليوم عجباً! ذئب جائع يريد أرنباً فتدخل في الحرم فيتركها!! فوقف الذئب وكلمهما بكلام فصيح، فقال: بل أمركما أعجب من أمري، يأتيكما محمد صلى الله عليه وسلم بالحق من عند الله تعالى فتعرضان وتكذبان!، فمكثا ساعةً لم يفكرا في هذا الأمر، مكثا ساعةً لا يستطيع أحد منهما جواباً حيرةً من هذا الأمر، ثم التفت أبو سفيان إلى صفوان فقال: لا تحدث بهذا الأمر؛ فإنك إن حدثت به لم يبق بين جبليها أحد، أي: سيخرج أهل مكة جميعاً، فتعاهدا على كتمانه، فلما أسلما حدث أبو سفيان بهذا الخبر العجيب!

ونظير ذلك أيضاً ما حصل له عندما خرج بعد عقد الهدنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، خرج أبو سفيان في تجارة قريش إلى الشام، فلما كانوا بغزة جاءهم الطلب، فإذا هرقل ملك الروم يدعوهم للحضور عنده، فأتي بهم وكانوا عدداً من الرجال من التجار، فلما أتوه وجدوه في دسكرة، أي: قبة عظيمة له، وعنده عظماء الروم جميعاً قد جمعهم فيها، برلمان الروم يجتمعون لسماع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال هرقل لترجمانه: ( قل لهم: أيكم ألصق نسباً بهذا الرجل؟ قال أبو سفيان : فقلت: أنا، فقال: قربوه عندي واجعلوا أصحابه عند ظهره، ففعلوا، فقال له: إني سائلك عن هذا الرجل فلا تكذب، وقال لأصحابه: إذا كذب فكذبوه، سأل هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أسئلةً تدل على تمام عقله وفطنته، وقد سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم: هل كنتم تؤثرون عليه كذباً قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قال: لا، قال: فهل قاتلتموه؟ قال: نعم، كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال، قال: فهل يغدر؟ قال: لا، ونحن منه الآن في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: لم أجد مسألةً أدخل فيها شيئاً إلا هذه، ونحن منه الآن في مدة ما ندري ما هو فاعل فيها، سأله: أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون، قال: أيرجع أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، فرد هرقل على أبي سفيان فقال: قد سألتك: هل كنتم تؤثرون عليه كذباً؟ فقلت: لا، فقد علمت أنه لم يكن ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك عن نسبه فقلت: هو فينا ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان في آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك: هل قاتلتموه؟ فقلت: نعم، وقلت: إن الحرب بينكم وبينه سجال، فكذلك أمر الإسلام حتى يتم، أو قال: أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك: أأشراف الناس اتبعوه أما ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك: هل يرجع أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، فكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، فكذلك أمر الإسلام حتى يتم، وسألتك: هل يغدر أم لا؟ فذكرت أنه لا يغدر، فكذلك الرسل لا تغدر، فإن كان ما قلت حقاً فليملكن موضع قدمي هاتين، ولو كنت عنده لتجشمت لقاءه ولغسلت عن قدميه )، وكانت هذه القصة في ذلك الوقت و أبو سفيان أشد ما يكون عداوةً للنبي صلى الله عليه وسلم.

قال: ( فخاطب الروم، فقال لهم: يا معشر الروم! هل لكم في أن يدوم ملككم أم تبايعوا هذا الرجل وتتبعوه؟ فحاصوا حيصة الحمر إلى الأبواب فوجدوها مغلقة، فدعاهم فقال: قد كنت أمتحن حرصكم على دينكم فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكثر اللغط عنده وأخرجنا، قال أبو سفيان : فمنذ سمعته يقول ما قال وأنا أعلم أن أمر الإسلام سيتم حتى أدخل الله علي الإيمان )، ومع هذا قال لأصحابه لما خرجوا: ( لقد كبر أمر ابن أبي كبشة حتى إن ملك بني الأصفر ليخافه ).

فلذلك لا بد أن نعلم أن الجميع من تقدير الله، وأن الإيمان ليس ميراثاً يرثه الإنسان عن آبائه وأجداده، وليس قناعةً عقليةً يقتنع بها إذا رأى المعجزات والآيات، أو قرأ وتدبر، إنما هو نور يقذفه الله في قلب من شاء من خلقه، ولهذا قال تعالى: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].

وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:109-111].

فلا يمكن أن يؤمن إلا من قدر الله له الإيمان، ولهذا قال الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:99-100].

فلذلك يهدي الله تعالى لنوره من يشاء، ويصرف عن هذا النور من يشاء، وقد تعهد بصرف الذين لا يرتضي خدمتهم للدين عن الإيمان وعن الالتزام، فقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].

ضمان وتعهد من الله تعالى، وهذا الضمان والتعهد أسبابه واضحة في حياة الناس، وهي الفتن التي ينزلها الله تعالى كل ليلة وكل يوم، وهذه الفتن منها ما ينزل في السنة فيكون عامياً، ومنها ما يكون يومياً، ومنها ما يكون في عمر كل إنسان، ومنها ما يكون في القرون، فهي متفاوتة الدرجات والأنواع، ولكنها عقبات في طريق السير إلى الله تعالى، ومزالق على طريق الهداية والاستقامة، ولهذا قال الله تعالى في قصة المعراج: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً [الإسراء:60].

افتتان بعض الناس في العهد المكي

هناك أمران عجيبان في العهد المكي:

أحدهما: نزول قول الله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-46]، فعندما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات على أهل مكة قالوا: تباً لك تزعم أن النار تحرق، وتزعم أنه ينبت فيها الشجر؟ فكان ذلك سبباً لفتنة بعض من دخل الإسلام، لم يرتض الله تعالى إيمانهم فردهم على أعقابهم، نسأل الله السلامة والعافية.

قصة الإسراء والمعراج وافتتان البعض بها

والأمر الثاني: قصة الإسراء والمعراج لما حصلت كانت فتنةً لأقوام، ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم نام في وسط الليل بين أظهرهم في بيت أم هانئ بمكة، فجاءه جبريل ففرج له سقف البيت -رفع سقف البيت ولم يخرجه من الباب- فدخل به إلى المسجد الحرام، فشق صدره وغسله من زمزم، ثم خرج به من باب بني جمح، فإذا دابة بين الفرس والحمار وإذا هي البراق، فدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليركبها فشمست منه -أي: نفرت- فوضع جبريل يده على ظهرها، وقال: مه، فما ركبك خير منه فاستكانت له، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم البراق وسار به جبريل إلى الشام حتى وصلا عند بيت المقدس، فربط البراق بالحلقة التي يربط بها الأنبياء دوابهم، فدخل فوجد الأنبياء جميعاً ينتظرونه للصلاة، فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك نصب له المعراج فعرج به إلى سماء الدنيا، فاستأذن جبريل فقيل: من؟ فقال جبريل : قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء. ففتح له باب السماء فإذا آدم عليه السلام، وإذا عن يمينه أسودة، وعن شماله أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فسلم عليه فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، قال: فسألت جبريل عن تلك الأسودة؟ فقال: نسم بنيه -أي: أرواح بني آدم- أما الذين عن يمينه فأهل السعادة إذا نظر إليهم ضحك، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاء إذا نظر إليهم بكى، ثم ارتفع فاستأذن جبريل عند باب السماء الثانية، فقيل: من؟ فقال: جبريل ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، فقيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء. ففتح له باب السماء الثانية، فإذا عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا ابنا الخالتين عليهما السلام، فسلم عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردا عليه السلام وقالا: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح. ثم ارتفعا فاستأذن جبريل عند باب السماء الثالثة فقيل: من؟ فقال: جبريل ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء. ففتح له باب السماء الثالثة، فإذا يوسف عليه السلام، وإذا هو قد أوتي شطر الحسن -أي: نصفه- فسلم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، ثم ارتفع فاستأذن جبريل عند باب السماء الرابعة فقيل: من؟ فقال: جبريل ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء. ففتح له باب السماء الرابعة، فإذا إدريس عليه السلام، فسلم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح. ثم عرج به إلى السماء الخامسة فاستأذن جبريل ، فقيل: من؟ فقال: جبريل ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء. ففتح له باب السماء الخامسة، فإذا هارون بن عمران عليه السلام، فسلم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، وقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح. ثم عرج به إلى السماء السادسة، فاستأذن جبريل فقيل: من؟ فقال: جبريل ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، فقيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء. ففتح له باب السماء السادسة، فإذا موسى بن عمران عليه السلام وإذا هو رجل آدم شديد كأنه من رجال شنوءة -أي: كرجال الأزد- وفي رواية: كأنه من رجال الهند -أي: من رجال شرق آسيا وهم طوال أقوياء- فسلم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، وقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح. ثم عرج به إلى السماء السابعة فاستأذن جبريل فقيل: من؟ فقال: جبريل ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً ونعم المجيء جاء. ففتح له باب السماء السابعة فإذا إبراهيم عليه السلام، وإذا أشبه الناس به صاحبكم -أي رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وإذا عنده عدد كبير من الأطفال، فقال إبراهيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، أبلغ أمتك أن الجنة إنما هي قيعان، غراسها التكبير والتحميد والتهليل، قال: فسألت جبريل عن أولئك الأولاد فقال: أولاد المؤمنين الذين يموتون قبل بلوغ الحنث وهم عند إبراهيم عليه السلام. فإذا في السماء السابعة البيت المعمور، وإذا هو كل يوم يدخله سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه بعد، و إبراهيم مسند ظهره إليه، ثم عرج به حتى بلغ سدرة المنتهى، فإذا هي يغشاها الأمر من أمر الله فتتغير له ألوانها تارةً تصفر، وتارةً تخضر، وتارةً تحمر، يغشاها أمر الله تعالى فتتغير ألوانها من أجل ذلك، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا نبقها كقلال هجر، وإذا في أصلها -أي: في جذعها- أربعة أنهار: نهران داخلان، ونهران خارجان، فسألت جبريل فقال: أما النهران الداخلان فنهران في الجنة، وأما النهران الخارجان فنيل مصر والفرات، ثم بعد ذلك وقف جبريل في هذا المكان وقال: هذا مكاني لا أتعداه، وعرج برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمع صريف القلم، ثم رجع فمر بعد أن فرضت عليه الصلاة، وبعد أن تردد بين موسى وربه رجع إلى بيت المقدس، ومنه انطلق إلى مكة فمر بعير قريش، فرأى العير وأهلها بتفاصيل أمورهم، وشرب من قدح هناك لأحد بني هاشم، ولم يكن ليشرب من قدح لغيرهم؛ لأنه حرمت عليه الصدقة، ثم رأى إبلهم عند انطلاقها فسبقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء قبل طلوع الفجر إلى مكة )، فلما حدث بهذا الأمر كان فتنةً عظيمةً على الناس، فكثير من الذين أسلموا ولم تتشرب قلوبهم بشاشة الإيمان ارتدوا بعد أن سمعوا هذه القصة، وقالوا: كيف يسير الراكب بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام في ليلة واحدة؟! بل كيف يعرج إلى السموات على دابة؟! واستغربوا هذا الأمر استغراباً عظيماً، وكان أبو بكر غائباً، فاستقبله كفار أهل مكة فقالوا: أسمعت ما زعم صاحبك؟ زعم أنه في ليلة واحدة ذهب إلى الشام، ثم إلى السموات السبع، ثم رجع فأصبح عندنا بمكة، فقال: إن كان قالها فقد صدق. فزادت هذه الفتنة أبا بكر إيماناً وتصديقاً، وارتد بسببها آخرون، نسأل الله السلامة والعافية، ولذلك قال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً [الإسراء:60].

الاستقامة على الحق زمن الفتن

إن الفتن من حكمة الله تعالى، وهي النكبات على الطريق تصد أقواماً عن الاستمرار على طريق الحق، وترد آخرين قبل أن يريدوا طريق الحق، فالناس جميعاً ممتحنون بطريق واحد لا يرتضي لهم الله إلا هو، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، طريق واحد هو الصراط المستقيم، وهو المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وهو تمثيل للصراط الأخروي، فالصراط الدنيوي هو هذه المحجة البيضاء، والصراط الأخروي جسر منصوب على متن جهنم أدق من الشعر وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، ( فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم )، لكن بقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي، فالذي لا يثبت في أزمات الدنيا وفتنها يخشى عليه أن ينكب على وجهه في نار جهنم من فوق ظهر الصراط يوم القيامة، والذي يثبت على طريق الحق فلا يدخل يميناً ولا شمالاً في بنيات الطريق يرجى له أن يثبته الله يوم القيامة على الصراط، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم مثل لنا هذا الصراط الدنيوي بلا حب بين سورين، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وفوق السورين داعي الله ينادي: ( يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لم تخرج منه، وفي كل باب داع يدعو إليه )، فهذا الطريق الذي نسلكه محفوف بكثير من المخاطر، عن يمينه وشماله أبواب مفتحة، وعليها ستور، وفي كل باب داع يدعو إليه: إلي إلي، لكن فوق السورين داعي الله ينادي: ( يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لم تخرج منه، وداعي الله هو برهان الله في قلب كل مؤمن )، ويتفاوت سماع الإنسان لذلك بقدر إيمانه ومستواه في الإيمان، فمن كان إيمانه أقوى كان ابتعاده عن المعصية وإعراضه عن كل ما يؤدي إلى سخط الله أشد، ومن كان إيمانه أضعف كان إلى سماع ذلك الداعي الذي في الباب أقرب، وربما تأثر به، وربما دخل، نسأل الله السلامة والعافية.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4817 استماع
بشائر النصر 4288 استماع
أسئلة عامة [2] 4132 استماع
المسؤولية في الإسلام 4060 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3999 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3907 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع