القصد في اللفظ مع الوفاء بحق المعنى
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
من خصائص النظم القُرْآنيالقصد في اللفظ مع الوفاء بحق المعنى
كما عبر عنه الدكتور محمد عبدالله دراز فقال: (نهايتان كل من حاول أن يجمع بينهما وقف منهما موقف الزوج بين ضرتين لا يستطيع أن يعدل بينهما دون ميل ما إلى إحداهما: فالذي يعمد إلى ادخار لفظه وعدم الإنفاق منه إلا على حد الضرورة لا ينفك من أن يحيف على المعنى قليلًا أو كثيرًا؛ ذلك أنه إما أن يؤدي لك مراده جملة لا تفصيلًا...
وإما أن يذهب فيه إلى شيء من التفصيل، ولكنه إذ يأخذه الحذر من الإكثار والإسراف يبذل جهده في ضم أطرافه وحذف ما استطاع من أدوات التمهيد والتشويق، ووسائل التقريب والتثبيت، وما إلى ذلك مما تمس إليه حاجة النفس في البيان، حتى يخرجه ثوبًا متقلصًا يقصر عن غايته، أو هيكلًا من العظم لا يكسوه لحم ولا عصب، ورب حرف واحد ينقص من الكلام يذهب بمائه ورونقه، ويكشف شمس فصاحته، ورب اختصار يطوي الكلام طيًّا يزهق روحه ويعمي طريقه، ويرد إيجازه عيًّا وإلغازًا، والذي يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى عناصره، وإبراز كل دقائقه...
لا يجد له بدًّا من أن يمد في نفسه مدًّا؛ لأنه لا يجد في القليل من اللفظ ما يشفي صدره، ويؤدي عن نفسه رسالتها كاملة، فإذا أعطى نفسه حظها من ذلك لا يلبث أن يباعد ما بين أطراف كلامه، ويبطئ بك في الوصول إلى غايته، فتحس بقوة نشاطك وباعثة إقبالك آخذتين في التضاؤل والاضمحلال)[1]؛ اهـ.
قلت: أما النظم القُرْآني فقد جمع بين القصد في اللفظ مع الوفاء بحق المعنى، وتلك عجيبة من عجائبه، وخاصية من خصائصه بدون إجحاف وحيف على المعنى وبدون إسراف وإكثار من اللفظ، وخير مثال لذلك ما مثل به دكتور/ دراز فقال: (يقول الله تعالى في ذكر حِجَاج اليهود: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 91] هذه قطعة من فصل من قصة بني إسرائيل، والعناصر الأصلية التي تبرزها لنا هذه الكلمات القليلة تتلخص فيما يلي:
1- مقالة ينصح بها الناصح لليهود؛ إذ يدعوهم إلى الإيمان بالقُرْآن.
2- إجابتهم لهذا الناصح بمقالة تنطوي على مقصدين.
3- الرد على هذا الجواب بركنيه، من عدة وجوه.
وأقسم لو أن محاميًا بليغًا وكلت إليه الخصومة بلسان القُرْآن في هذه القضية، ثم هُدي إلى استنباط هذه المعاني التي تختلج في نفس الداعي والمدعو، لمَا وسعه في أدائها أضعاف هذه الكلمات، ولعله بعد ذلك لا يفي بما حولها من إشارات واحتراسات وآداب وأخلاق.
قال الناصح لليهود: آمنوا بالقُرْآن كما آمنتم بالتوراة؛ ألستم قد آمنتم بالتوراة التي جاء بها موسى لأنها أنزلها الله؛ فالقُرْآن الذي جاء به محمد أنزله الله، فآمنوا به كما آمنتم بها.
فانظر كيف جمع القُرْآن هذا المعنى الكثير في هذا اللفظ الوجيز: ﴿ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 91]، وسر ذلك أنه عدل بالكلام عن صريح اسم القُرْآن إلى كنايته، فجعل دعاءهم إلى الإيمان به دعاء إلى الشيء بحجته، وبذلك أخرج الدليل والدعوى في لفظ واحد.
ثم انظر كيف طوى ذكر المنزل عليه فلم يقل: آمنوا بما أنزل الله (على محمد) مع أن هذا جزء متمم لوصف القُرْآن المقصود بالدعوة، أتدري لم ذلك؟...
لأنه لو ذكر لكان في نظر الحكمة البيانية زائدًا، وفي نظر الحكمة الإرشادية مفسدًا، أما الأول فلأن هذه الخصوصية لا مدخل لها في الإلزام، فأدير الأمر على القدر المشترك وعلى الحد الأوسط الذي هو عمود الدليل، وأما الثاني فلأن إلقاء هذا الاسم على مسامع الأعداء من شأنه أن يخرج أضغانهم ويثير أحقادهم فيؤدي إلى عكس ما قصده الداعي من التأليف والإصلاح.
ذلك إلى ما في هذا الحذف من الإشارة إلى طابع الإسلام، وهو أنه ليس دين تفريق وخصومة، بل هو جامع ما فرقه الناس من الأديان، داعٍ إلى الإيمان بالكتب كلها على سواء: بما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم، لا نفرق بين شيء من كتبه، كما لا نفرق بين أحد من رسله، كان جواب اليهود أن قالوا: إن الذي دعانا للإيمان بالتوراة ليس هو كونها أنزلها الله فحسب، بل إننا آمنا بها لأن الله أنزلها علينا، والقُرْآن لم ينزله علينا، فلكم قُرْآنكم ولنا توراتنا، ولكل أمة شرعة ومنهاج.
هذا هو المعنى الذي أوجزه القُرْآن في قوله: ﴿ نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ﴾ [البقرة: 91]، وهذا هو المقصد الأول، وقد زاد في إيجاز هذه العبارة أن حذف منها فاعل الإنزال، وهو لفظ الجلالة؛ لأنه تقدم ذكره في نظيرتها.
من البيِّن أن اقتصارهم على الإيمان بما أنزل عليهم يومئ إلى كفرانهم بما أنزل على غيرهم، وهذا هو المقصد الثاني، ولكنهم تحاشَوا التصريح به؛ لما فيه من شناعة التسجيل على أنفسهم بالكفر، فأراد القُرْآن أن يبرزه، انظر كيف أبرزه؟ إنه لم يجعل لازم مذهبهم مذهبًا لهم، ولم يدخل مضمون قولهم في جملة ما نقله من كلامهم، بل أخرجه في معرض الشرح والتعليق على مقالتهم، فقال: ﴿ وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ﴾ [البقرة: 91] أليس ذلك هو غايةَ الأمانة في النقل؟
ثم انظر إلى التعبير عن القُرْآن بلفظ ﴿ بِمَا وَرَاءَهُ ﴾ [البقرة: 91]؛ فإن لهذه الكلمة وجهًا تعم به غير القُرْآن، ووجهًا تخص به هذا العموم؛ ذلك أنهم كما كفروا بالقُرْآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم كفروا بالإنجيل المنزل على عيسى، وكلاهما وراء التوراة؛ أي: جاءا بعدها، ولكنهم لم يكفروا بما قبل التوراة من صحف إبراهيم مثلًا، وهكذا تراه قد حدد الجريمة تمام التحديد باستعمال هذا اللفظ الجامع المانع، وهذا هو غاية الإنصاف وتحري الصدق في الاتهام.
جاء دور الرد والمناقشة فيما أعلنوه وما أسرُّوه.
فتراه لا يبدأ بمحاورتهم في دعوى إيمانهم بكتابهم، بل يتركها مؤقتًا كأنها مسلَّمة ليبني عليها وجوب الإيمان بغيره من الكتب، فيقول: كيف يكون إيمانهم بكتابهم باعثًا على الكفر بما هو حق مثله؟ لا، بل ﴿ هُوَ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 91] كله، وهل يعارض الحق حتى يكون الإيمان بأحدهما موجبًا للكفر بالآخر؟!
ثم يترقى فيقول: وليس الأمر بين هذا الكتاب الجديد وبين الكتب السابقة عليه كالأمر بين كل حق وحق؛ "فقد يكون الشيء حقًّا وغيره حقًّا فلا يتكاذبان، ولكنهما في شأنين مختلفين، فلا يشهد بعضهما لبعض، أما هذا الكتاب فإنه جاء شاهدًا و ﴿ مُصَدِّقًا ﴾ [البقرة: 91] لِما بين يديه من الكتب، فأنى يكذِّب به مَن يؤمن بها؟!
ثم يستمر في إكمال هذا الوجه قائلًا: ولو أن التحريف أو الضياع الذي نال من هذه الكتب قد ذهب بمعالم الحق فيها جملة لكان لهم بعض العذر في تكذيبهم بالقُرْآن؛ إذ يحق لهم أن يقولوا: "إن البقية المحفوظة من هذه الكتب في عصرنا ليس بينها وبين القُرْآن هذا التطابق والتصادق، فليس الإيمان بها موجبًا للإيمان به"..
بل لو أن هذه البقية ليست عندهم ولكنهم كانوا عن دراستها غافلين، لكان لهم مثل ذلك العذر، أما وهذا القُرْآن مصدق لما هو قائم من الكتاب في زمنهم وبأيديهم ويدرسونه بينهم، فبماذا يعتذرون؟ وأنى يذهبون؟! هذا المعنى كله يؤديه لنا القُرْآن بكلمة: ﴿ لِمَا مَعَهُمْ ﴾ [البقرة: 91].
فانظر إلى الإحكام في صنعة البيان: إنما هي كلمة رُفِعت وأخرى وُضعت في مكانها عند الحاجة إليها؛ فكانت هذه الكلمة حسمًا لكل عذر، وسدًّا لكل باب من أبواب الهرب، بل كانت هذه الكلمة وحدها بمثابة حركة تطويق للخصم، تمت بخطوة واحدة، وفي غير ما جلبة ولا طنطنة.
ولما قضى وطر النفس من هذا الجانب المطوي الذي ساقه مساق الاعتراض والاستطراد، استوى إلى الرد على المقصد الأصلي الذي تبجحوا بإعلانه والافتخار به، وهو دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، فأوسعهم إكذابًا وتفنيدًا، وبين أن داء الجحود فيهم داء قديم، قد أشربوه في قلوبهم، ومضت عليه القرون حتى أصبح مرضًا مزمنًا، وأن الذي أتوه اليوم من الكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ما هو إلا حلقة متصلة بسلسلة كفرهم بما أنزل عليهم، وساق على ذلك الشواهد التاريخية المفظعة التي لا سبيل لإنكارها، في جهلهم بالله، وانتهاكهم لحرمة أنبيائه، وتمردهم على أوامره: ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 91].
[1] "النبأ العظيم" (ص: 109).