شرح الأربعين النووية [7]


الحلقة مفرغة

الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان الستة المبينة في حديث جبريل المشهور، فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره).

أخرجه مسلم في (صحيحه)، وهو أول حديث في كتاب الإيمان الذي هو أول كتب صحيحه.

وجاء في إسناده أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حدث به عن أبيه استدلالاً به على الإيمان بالقدر، وذلك عندما سأله يحيى بن يعمر و حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أناس وُجدوا في العراق ينكرون القدر، ويقولون: إن الأمر أنف. فقال للسائل: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) ثم حدث بالحديث عن أبيه.

وحديث جبريل الذي رواه عمر من أفراد مسلم ، وقد اتفق الشيخان على إخراجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقد جاء في القرآن آيات كثيرة، وجاءت في السنة أحاديث عديدة تدل على إثبات القدر، فأما القرآن فقد قال الله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22].

وأما السنة فقد عقد الإمامان البخاري و مسلم في صحيحيهما كتاباً للقدر اشتمل على أحاديث عديدة في إثبات القدر، فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)].

وهذا الحديث عظيم، ومعناه أن قوة القوي وضعف الضعيف مقدران، وأن كل ذلك بقضاء الله وقدره، وكلاهما فيه خير مع تفاوتهما.

وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس) أي: حتى نشاط النشيط وكسل الكسول. فكل ذلك مقدر، فلا تقع حركة ولا سكون في الوجود إلا وهي بقضاء الله وقدره، وبمشيئة الله وإرادته، وخلقه وإيجاده.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله)، فعلى الإنسان أن يأخذ بالأسباب، ولا يتكل على القدر ويقول: إذا كتب الله لي شيئاً فإنه سيأتيني، ولو لم أفعل الأسباب. فلابد من فعل الأسباب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك) أي: أن نأخذ بالأسباب.

ولكن مع الأخذ بالأسباب لا يعول الإنسان عليها بحيث إنه يجعلها كل شيء، ولا يكون هناك شيء وراء الأسباب، بل هناك شيء وراء الأسباب، وهو توفيق مسبِّب الأسباب، وهو الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال بعد ذلك: (واستعن بالله) أي: ليس الأمر أن يفعل الإنسان السبب فيحصل كل شيء، وهذا هو حال الناس الماديين الذين ليس لهم صلة بالله عز وجل، فالحياة عندهم أسباب ومسببات ولا شأن لله عز وجل.

والذي يعتقده المسلم أنه لابد من الاثنين؛ لا بد من أن يفعل الإنسان السبب، ولابد أن يستعين بالله عز وجل على حصول المسبب.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فعل الأسباب لا يتنافى مع التوكل، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فالتوكل على الله عز وجل ليس بترك الأسباب، والرسول صلى الله عليه وسلم -وهو سيد المتوكلين- كان يلبس اللأمة والمغفر في الحرب، وهما من أسباب الوقاية، وهو مع ذلك متوكل على الله عز وجل.

فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، بل هو أمر مطلوب، فالإنسان عندما يريد الولد فإنه يتزوج، وليس هناك طريق للنسل إلا الزواج أو ملك اليمين، ولا يأتي الولد عفواً، ولو أن إنساناً قال: إذا قدِّر الله لي أن يأتني الولد تزوجت وإلّا فلا، أو يصير لي ملك يمين وإلّا فلا فإن هذا يعتبر سفهاً؛ لأن الولد لا يحصل إلا بهذا الطريق.

فلابد من الأخذ بالأسباب، ولكن مع كون الإنسان يتزوج ويأخذ بالأسباب عليه أن يعلم أن الزواج ليس هو كل شيء في تحقيق الولد، بل إن شاء الله عز وجل ووفق في حصول الولد حصل ذلك، وإن شاء أن لا يحصل لم يحصل وإن أخذ بالأسباب، فلابد من الأمرين جميعاً، ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إليهما في قوله: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله).

فالإنسان لا يعول على الأسباب ويقول: هي كل شيء. وكذلك لا يتركها ويقول: سأجلس في بيتي ولن أبحث عن الرزق، وإذا قدر الله لي شيئاً فإنه سيأتي إليَّ وإن لم أفعل الأسباب.

وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الطير تغدو خماصاً ولا تجلس في أوكارها وتنتظر أن يأتيها الرزق بدون فعل السبب، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً) أي أنها في الصباح تروح خاوية البطون (وتروح بطاناً) أي: وتأتي في الرواح مليئة البطون. فقد فعلت الأسباب، وفعل الأسباب لا ينافي التوكل، ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى الأمرين: فعل السبب، وبيان الشيء الذي لابد منه لتحصيل المقصود، وهو توفيق الله سبحانه، فالإنسان مع فعله السبب يلجأ إلى الله عز وجل ويسأله أن ينفع بالأسباب، وأن يوفقه لتحصيل ما يريد، وأن يسهل له ذلك، فقال: (واستعن بالله ولا تعجز)، ثم قال: (فإن أصابك شيء) أي: بعد فعل الأسباب (فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)، فلو أن إنساناً -مثلاً- دخل في مشروع من المشاريع وفعل الأسباب ولكنه فشل في هذا المشروع فليس له أن يقول: لو أنني لم أفعل هذا المشروع وفعلت مشروعاً آخر لحصل كذا وكذا. فهذا كلام باطل، فالله عز وجل أعلم بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فلا يدري الإنسان لو فعل مشروعاً آخر أنه سيوفق فيه؛ لأن ذلك غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان).

فالإنسان إذا قال: لو فعلت كذا لكان كذا فإن ذلك من عمل الشيطان ووسوسته للإنسان ليظله وليغويه، وليبعده عن التعويل على الله عز وجل في جميع شئونه.

أعمال العباد خيرها وشرها بقضاء وقدر

وروى مسلم بإسناده إلى طاوس أنه قال: (أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولون: كل شيء بقدر)، قال: وسمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس، أو: الكيس والعجز).

العجز والكيس ضدان، فنشاط النشيط وكسل الكسول وعجزه كل ذلك بقدر، قال النووي في شرح الحديث: ومعناه أن العاجز قد قُدِّر عجزه، والكَيّس قد قُدِّر كَيسه.

وقال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خُلق له. ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحسنى [الليل:5-6] إلى قوله لِلْعُسْرَى [الليل:10]).

رواه البخاري ومسلم من حديث علي رضي الله عنه.

وهذا الحديث يدل على أن أعمال العباد الصالحة مقدرة، وأنها تؤدي إلى حصول السعادة، وأن أعمالهم السيئة مقدرة، وأنها تؤدي إلى الشقاوة، وقد قدّر الله سبحانه وتعالى الأسباب والمسببات، وكل شيء لا يخرج عن قضائه].

لقد قدّر الله الأسباب وهي الأعمال، والمسببات وهي النهايات، فإذا عمل الإنسان عملاً صالحاً فهذا العمل سبب من الأسباب، وهو مقدّر، والغاية هي دخول الجنة، وهي -أيضاً- مقدرة، وكذلك العكس، فعمل السيئات مقدر، وهو يوصل إلى النار، وذلك مقدر، فالسعادة والشقاوة مقدّرتان، والأسباب التي توصل إليهما مقدرة أيضاً.

كل شيء بقضاء وقدر

وكل شيء لا يخرج عن قضاء الله وقدره، وخلقه وإيجاده، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف). رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح ].

جاء في بعض الروايات: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) أي أن ما أصابك وحصل لك لا يمكن أنه يتخلف، وأن ما أخطأك لا يمكن أنه يقع، وهذا هو معنى (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن)، فجملة (ما شاء الله كان) بمعنى (ما أصابك لم يكن ليخطئك)، وجملة (وما لم يشأ لم يكن) بمعنى (وما أخطأك لم يكن ليصيبك) وهاتان الجملتان -أعني: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن- عليهما تنبني عقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر.

وهذا الحديث شرحه الحافظ ابن رجب في كتابه: (جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم)، وهو الحديث التاسع عشر من الأربعين النووية.

وروى مسلم بإسناده إلى طاوس أنه قال: (أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولون: كل شيء بقدر)، قال: وسمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس، أو: الكيس والعجز).

العجز والكيس ضدان، فنشاط النشيط وكسل الكسول وعجزه كل ذلك بقدر، قال النووي في شرح الحديث: ومعناه أن العاجز قد قُدِّر عجزه، والكَيّس قد قُدِّر كَيسه.

وقال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خُلق له. ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحسنى [الليل:5-6] إلى قوله لِلْعُسْرَى [الليل:10]).

رواه البخاري ومسلم من حديث علي رضي الله عنه.

وهذا الحديث يدل على أن أعمال العباد الصالحة مقدرة، وأنها تؤدي إلى حصول السعادة، وأن أعمالهم السيئة مقدرة، وأنها تؤدي إلى الشقاوة، وقد قدّر الله سبحانه وتعالى الأسباب والمسببات، وكل شيء لا يخرج عن قضائه].

لقد قدّر الله الأسباب وهي الأعمال، والمسببات وهي النهايات، فإذا عمل الإنسان عملاً صالحاً فهذا العمل سبب من الأسباب، وهو مقدّر، والغاية هي دخول الجنة، وهي -أيضاً- مقدرة، وكذلك العكس، فعمل السيئات مقدر، وهو يوصل إلى النار، وذلك مقدر، فالسعادة والشقاوة مقدّرتان، والأسباب التي توصل إليهما مقدرة أيضاً.

وكل شيء لا يخرج عن قضاء الله وقدره، وخلقه وإيجاده، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف). رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح ].

جاء في بعض الروايات: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) أي أن ما أصابك وحصل لك لا يمكن أنه يتخلف، وأن ما أخطأك لا يمكن أنه يقع، وهذا هو معنى (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن)، فجملة (ما شاء الله كان) بمعنى (ما أصابك لم يكن ليخطئك)، وجملة (وما لم يشأ لم يكن) بمعنى (وما أخطأك لم يكن ليصيبك) وهاتان الجملتان -أعني: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن- عليهما تنبني عقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر.

وهذا الحديث شرحه الحافظ ابن رجب في كتابه: (جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم)، وهو الحديث التاسع عشر من الأربعين النووية.

الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان الستة المبينة في حديث جبريل المشهور، فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره).

أخرجه مسلم في (صحيحه)، وهو أول حديث في كتاب الإيمان الذي هو أول كتب صحيحه.

وجاء في إسناده أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حدث به عن أبيه استدلالاً به على الإيمان بالقدر، وذلك عندما سأله يحيى بن يعمر و حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أناس وُجدوا في العراق ينكرون القدر، ويقولون: إن الأمر أنف. فقال للسائل: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) ثم حدث بالحديث عن أبيه.

وحديث جبريل الذي رواه عمر من أفراد مسلم ، وقد اتفق الشيخان على إخراجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وقد جاء في القرآن آيات كثيرة، وجاءت في السنة أحاديث عديدة تدل على إثبات القدر، فأما القرآن فقد قال الله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22].

وأما السنة فقد عقد الإمامان البخاري و مسلم في صحيحيهما كتاباً للقدر اشتمل على أحاديث عديدة في إثبات القدر، فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)].

وهذا الحديث عظيم، ومعناه أن قوة القوي وضعف الضعيف مقدران، وأن كل ذلك بقضاء الله وقدره، وكلاهما فيه خير مع تفاوتهما.

وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس) أي: حتى نشاط النشيط وكسل الكسول. فكل ذلك مقدر، فلا تقع حركة ولا سكون في الوجود إلا وهي بقضاء الله وقدره، وبمشيئة الله وإرادته، وخلقه وإيجاده.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله)، فعلى الإنسان أن يأخذ بالأسباب، ولا يتكل على القدر ويقول: إذا كتب الله لي شيئاً فإنه سيأتيني، ولو لم أفعل الأسباب. فلابد من فعل الأسباب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك) أي: أن نأخذ بالأسباب.

ولكن مع الأخذ بالأسباب لا يعول الإنسان عليها بحيث إنه يجعلها كل شيء، ولا يكون هناك شيء وراء الأسباب، بل هناك شيء وراء الأسباب، وهو توفيق مسبِّب الأسباب، وهو الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال بعد ذلك: (واستعن بالله) أي: ليس الأمر أن يفعل الإنسان السبب فيحصل كل شيء، وهذا هو حال الناس الماديين الذين ليس لهم صلة بالله عز وجل، فالحياة عندهم أسباب ومسببات ولا شأن لله عز وجل.

والذي يعتقده المسلم أنه لابد من الاثنين؛ لا بد من أن يفعل الإنسان السبب، ولابد أن يستعين بالله عز وجل على حصول المسبب.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فعل الأسباب لا يتنافى مع التوكل، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فالتوكل على الله عز وجل ليس بترك الأسباب، والرسول صلى الله عليه وسلم -وهو سيد المتوكلين- كان يلبس اللأمة والمغفر في الحرب، وهما من أسباب الوقاية، وهو مع ذلك متوكل على الله عز وجل.

فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل، بل هو أمر مطلوب، فالإنسان عندما يريد الولد فإنه يتزوج، وليس هناك طريق للنسل إلا الزواج أو ملك اليمين، ولا يأتي الولد عفواً، ولو أن إنساناً قال: إذا قدِّر الله لي أن يأتني الولد تزوجت وإلّا فلا، أو يصير لي ملك يمين وإلّا فلا فإن هذا يعتبر سفهاً؛ لأن الولد لا يحصل إلا بهذا الطريق.

فلابد من الأخذ بالأسباب، ولكن مع كون الإنسان يتزوج ويأخذ بالأسباب عليه أن يعلم أن الزواج ليس هو كل شيء في تحقيق الولد، بل إن شاء الله عز وجل ووفق في حصول الولد حصل ذلك، وإن شاء أن لا يحصل لم يحصل وإن أخذ بالأسباب، فلابد من الأمرين جميعاً، ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إليهما في قوله: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله).

فالإنسان لا يعول على الأسباب ويقول: هي كل شيء. وكذلك لا يتركها ويقول: سأجلس في بيتي ولن أبحث عن الرزق، وإذا قدر الله لي شيئاً فإنه سيأتي إليَّ وإن لم أفعل الأسباب.

وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الطير تغدو خماصاً ولا تجلس في أوكارها وتنتظر أن يأتيها الرزق بدون فعل السبب، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً) أي أنها في الصباح تروح خاوية البطون (وتروح بطاناً) أي: وتأتي في الرواح مليئة البطون. فقد فعلت الأسباب، وفعل الأسباب لا ينافي التوكل، ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى الأمرين: فعل السبب، وبيان الشيء الذي لابد منه لتحصيل المقصود، وهو توفيق الله سبحانه، فالإنسان مع فعله السبب يلجأ إلى الله عز وجل ويسأله أن ينفع بالأسباب، وأن يوفقه لتحصيل ما يريد، وأن يسهل له ذلك، فقال: (واستعن بالله ولا تعجز)، ثم قال: (فإن أصابك شيء) أي: بعد فعل الأسباب (فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا)، فلو أن إنساناً -مثلاً- دخل في مشروع من المشاريع وفعل الأسباب ولكنه فشل في هذا المشروع فليس له أن يقول: لو أنني لم أفعل هذا المشروع وفعلت مشروعاً آخر لحصل كذا وكذا. فهذا كلام باطل، فالله عز وجل أعلم بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون، فلا يدري الإنسان لو فعل مشروعاً آخر أنه سيوفق فيه؛ لأن ذلك غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان).

فالإنسان إذا قال: لو فعلت كذا لكان كذا فإن ذلك من عمل الشيطان ووسوسته للإنسان ليظله وليغويه، وليبعده عن التعويل على الله عز وجل في جميع شئونه.

علم الله الأزلي بكل ما هو كائن

الإيمان بالقدر له أربع مراتب لابد من اعتقادها:

المرتبة الأولى: علم الله الأزلي بكل ما هو كائن، فإن كل كائن قد سبق علم الله به أزلاً، ولا يتجدد له علم بشيء لم يكن عالماً به أزلاً.

وقد سبق إيضاح هذه المرتبة عند الكلام على صفة العلم في الفقرة رقم (7) ].

فالمخلوقون يتجدد علمهم بالشيء عندما يحصل وعندما يحصِّلون العلم، أما الله عز وجل فقد علم كل شيء أزلا، ولا يتجدد لله العلم بشيء لم يكن معلوماً له أزلاً، بل كل شيء معلوم له أزلاً.

وأما ما جاء في بعض الآيات مثل قوله: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] فليس المقصود أنه يتجدد لله علم بذلك، وإنما المقصود ظهور ذلك العلم ظهوراً يترتب عليه ثواب وعقاب، وليس معنى ذلك أنه يحصل لله علم لم يكن حاصلاً من قبل، بل كل شيء معلوم لله أزلاً.

وقد سبق إيضاح ذلك في الفقرة السابقة من الفقرات التي اشتمل عليها الكتاب. انظر الفقرة رقم (7).

[ علْم الله محيط بكل شيء، فقد علم أزلاً ما كان وما سيكون، ومالم يكن أن لو كان كيف يكون ].

علم الله تعالى: ما كان وما سيكون، وما لم يكن أن لو كان كيف يكون، فالشيء الذي لا يكون قد علمه الله عز وجل، كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28]، فهم يَسألون أن يرجعوا إلى الدنيا ليعملوا صالحاً، والله تعالى يقول: إنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، فهذا الشيء لم يكن، ومع ذلك علم لو كان كيف سيكون، فعلمه محيط بكل شيء.

[ كما قال الله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:27-28].

فأخبر عن أمر لا يكون، وهو رجوع الكفار إلى الدنيا، وأنهم لو ردوا لعادوا لما نهو عنه ].

ونظير هذا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر لا يكون، ولو أنه سيكون فقد علم الله تعالى كيف يكون.

فقولنا: (عن أمر لا يكون) هو اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً من الناس، فلو كان متخذاً خليلاً لكان المتخَذ أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، لكنه لا يتخذ خليلاً، فهذا لا يتعلق بالعلم، ولكنه يتعلق بالشيء الذي لا يكون لو كان كيف يكون.

[ وقال الله عز وجل: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، وقال تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فصلت:47]، وقال: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد:8-10]، وقال: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:13-14]، وقال: عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ:3].

وكل ما هو كائن في الوجود من حركة أو سكون قد سبق به علم الله، ولا يحصل لله علم بشيء لم يكن معلوماً له من قبل أزلاً.

قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه (أضواء البيان) عند قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] قال: ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون.

وقد بيّن أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه بقوله جل وعلا: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154]، فقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ بعد قوله: وَلِيَبْتَلِيَ دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار.

وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه، ومعنى قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ [البقرة:143] أي: علماً يترتب عليه الثواب والعقاب. فلا ينافي أنه كان عالماً به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس، أما العلم بالسر والنجوى فهو سبحانه وتعالى عالم بكل ما سيكون، كما لا يخفى.

الكتابة لكل كائن في اللوح المحفوظ

الثانية من مراتب القدر: كتابة كل ما هو كائن في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء). روه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

مشيئة الله تعالى وإرادته

الثالثة: مشيئة الله وإرادته، فإنّ ما هو كائن إنما حصل بمشيئة الله، ولا يقع في ملك الله إلا ما أراده الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال الله عز وجل: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وقال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29].

الخلق والإيجاد

الرابعة: إيجاد كل ما هو كائن وخلْقه بمشيئة الله، وفقاً لما علمه أزلاً، وكتبه في اللوح المحفوظ، فإن كل ما هو كائن من ذوات وأفعال هو بخلق الله وإيجاده، كما قال الله عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، وقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].

قد يعلم الخلق ما هو مقدر بأحد طريقين

وما قدره الله وقضاه وكتبه في اللوح المحفوظ هو من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ويمكن أن يعلم الخلق ما هو مقدر بأحد أمرين:

الأمر الأول: الوقوع، فإذا وقع شيء عُلم بأنه مقدر؛ لأنه لولم يقدر لم يقع، فإن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

الثاني: حصول الإخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور ستقع في المستقبل، مثل إخباره عن الدجال، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم، وغير ذلك من الأمور التي تقع في آخر الزمان، فهذه الأخبار تدل على أن هذه الأمور لابد لها من أن تقع، وأنه قد سبق بها قضاء الله وقدره، ومثل إخباره عن أمور ستقع قرب زمانه صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك ما جاء في حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين). رواه البخاري .

وقد وقع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في عام واحد وأربعين للهجرة، حيث اجتمعت كلمة المسلمين فسمي عام الجماعة، وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من هذا الحديث أن الحسن رضي الله عنه لن يموت صغيراً, وأنه سيعيش حتى يحصل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلح.

الإيمان بالقدر له أربع مراتب لابد من اعتقادها:

المرتبة الأولى: علم الله الأزلي بكل ما هو كائن، فإن كل كائن قد سبق علم الله به أزلاً، ولا يتجدد له علم بشيء لم يكن عالماً به أزلاً.

وقد سبق إيضاح هذه المرتبة عند الكلام على صفة العلم في الفقرة رقم (7) ].

فالمخلوقون يتجدد علمهم بالشيء عندما يحصل وعندما يحصِّلون العلم، أما الله عز وجل فقد علم كل شيء أزلا، ولا يتجدد لله العلم بشيء لم يكن معلوماً له أزلاً، بل كل شيء معلوم له أزلاً.

وأما ما جاء في بعض الآيات مثل قوله: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] فليس المقصود أنه يتجدد لله علم بذلك، وإنما المقصود ظهور ذلك العلم ظهوراً يترتب عليه ثواب وعقاب، وليس معنى ذلك أنه يحصل لله علم لم يكن حاصلاً من قبل، بل كل شيء معلوم لله أزلاً.

وقد سبق إيضاح ذلك في الفقرة السابقة من الفقرات التي اشتمل عليها الكتاب. انظر الفقرة رقم (7).

[ علْم الله محيط بكل شيء، فقد علم أزلاً ما كان وما سيكون، ومالم يكن أن لو كان كيف يكون ].

علم الله تعالى: ما كان وما سيكون، وما لم يكن أن لو كان كيف يكون، فالشيء الذي لا يكون قد علمه الله عز وجل، كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28]، فهم يَسألون أن يرجعوا إلى الدنيا ليعملوا صالحاً، والله تعالى يقول: إنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، فهذا الشيء لم يكن، ومع ذلك علم لو كان كيف سيكون، فعلمه محيط بكل شيء.

[ كما قال الله عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:27-28].

فأخبر عن أمر لا يكون، وهو رجوع الكفار إلى الدنيا، وأنهم لو ردوا لعادوا لما نهو عنه ].

ونظير هذا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر لا يكون، ولو أنه سيكون فقد علم الله تعالى كيف يكون.

فقولنا: (عن أمر لا يكون) هو اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً من الناس، فلو كان متخذاً خليلاً لكان المتخَذ أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، لكنه لا يتخذ خليلاً، فهذا لا يتعلق بالعلم، ولكنه يتعلق بالشيء الذي لا يكون لو كان كيف يكون.

[ وقال الله عز وجل: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، وقال تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فصلت:47]، وقال: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد:8-10]، وقال: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:13-14]، وقال: عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ:3].

وكل ما هو كائن في الوجود من حركة أو سكون قد سبق به علم الله، ولا يحصل لله علم بشيء لم يكن معلوماً له من قبل أزلاً.

قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه (أضواء البيان) عند قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143] قال: ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون.

وقد بيّن أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه بقوله جل وعلا: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154]، فقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ بعد قوله: وَلِيَبْتَلِيَ دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار.

وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه، ومعنى قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ [البقرة:143] أي: علماً يترتب عليه الثواب والعقاب. فلا ينافي أنه كان عالماً به قبل ذلك، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس، أما العلم بالسر والنجوى فهو سبحانه وتعالى عالم بكل ما سيكون، كما لا يخفى.

الثانية من مراتب القدر: كتابة كل ما هو كائن في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء). روه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

الثالثة: مشيئة الله وإرادته، فإنّ ما هو كائن إنما حصل بمشيئة الله، ولا يقع في ملك الله إلا ما أراده الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال الله عز وجل: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وقال: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29].

الرابعة: إيجاد كل ما هو كائن وخلْقه بمشيئة الله، وفقاً لما علمه أزلاً، وكتبه في اللوح المحفوظ، فإن كل ما هو كائن من ذوات وأفعال هو بخلق الله وإيجاده، كما قال الله عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، وقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].

وما قدره الله وقضاه وكتبه في اللوح المحفوظ هو من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ويمكن أن يعلم الخلق ما هو مقدر بأحد أمرين:

الأمر الأول: الوقوع، فإذا وقع شيء عُلم بأنه مقدر؛ لأنه لولم يقدر لم يقع، فإن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

الثاني: حصول الإخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور ستقع في المستقبل، مثل إخباره عن الدجال، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى بن مريم، وغير ذلك من الأمور التي تقع في آخر الزمان، فهذه الأخبار تدل على أن هذه الأمور لابد لها من أن تقع، وأنه قد سبق بها قضاء الله وقدره، ومثل إخباره عن أمور ستقع قرب زمانه صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك ما جاء في حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: (ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين). رواه البخاري .

وقد وقع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في عام واحد وأربعين للهجرة، حيث اجتمعت كلمة المسلمين فسمي عام الجماعة، وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من هذا الحديث أن الحسن رضي الله عنه لن يموت صغيراً, وأنه سيعيش حتى يحصل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلح.