التحذير من الفتن


الحلقة مفرغة

القرض هو دفع مال لمن ينتفع به ثم يرد بدله، وهو مستحب للمقرض ويؤجر عليه، وشروطه معرفة قدر القرض بكيل أو وزن أو عدد، ومعرفة صفة القرض، وأن يكون المقرض ممن يصح تبرعه، ويملك القرض بالقبض، ويرد مثله أو قيمته.

الحمد لله على نعمه التي لا تحصى، وإن من أجل نعم الله علينا أن تجتمع هذه الوجوه في هذا المكان الطيب المبارك لا ينتظر أحدنا ريالاً ولا ديناراً ولا درهماً (فتقول الملائكة: يا ربنا! اجتمع عبادك هؤلاء يذكرونك، ويسبحونك، فيقول الله جل وعلا: ماذا يسألون؟ فتقول الملائكة: يسألونك الجنة -والله ما جئنا إلا نريد الجنة، والله ما اجتمعنا إلا طلباً للجنة، والله ما ركعنا وسجدنا إلا ابتغاء رضوان الله في الجنة والنجاة من النار- فيقول الله جل وعلا للملائكة: وهل رأى عبادي جنتي؟ فتقول الملائكة: لا يا ربنا ما رأوها، فيقول الله جل وعلا: كيف لو رأوا جنتي؟ فتقول الملائكة: يكونون أشد طلباً لها، فيقول الله جل وعلا: ومما يستعيذ عبادي هؤلاء؟ فتقول الملائكة: يستعيذون بك من النار، فيقول الله جل وعلا: وهل رأوا ناري؟ فتقول الملائكة: لا يا ربنا).

ووالله ما اجتمعنا هاهنا إلا لنسأل ربنا النجاة من النار، نسأل ربنا النجاة يوم العرض الأكبر على الله، نسأل ربنا النجاة يوم يمر العباد على الصراط؛ منهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم من تدركه كلاليب جهنم فتخطفه إلى النار ولا حول ولا قوة إلا بالله.

اللهم يا مطلعاً على ما يعمل عبادك نشهدك ربنا أنا ما اجتمعنا هنا إلا لنستعيذ بك من النار ولنسألك الجنة، إنك هديتنا إلى الإسلام وما سألناك، فأعطنا الجنة وقد دعوناك، ونجنا من النار وقد رجوناك.

تتمة الحديث -أيها الأحبة- يقول الله جل وعلا للملائكة: (وهل رأى عبادي ناري؟ فتقول الملائكة: لا يا ربنا، ما رأوها، فيقول الله جل وعلا: كيف لو رأوا ناري؟ -كيف لو رأوها وهي تجر بسبعين ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك، إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان:12]- كيف لو رأوا ناري؟ فتقول الملائكة: يكونون أشد خوفاً وهرباً منها، فيقول الله جل وعلا: أشهدكم أني غفرت لهم).

الله أكبر يا عباد الله! الله أكبر يا إخواني في الله! ليخرجن برحمة الله هذه الساعة من هذا المسجد شباب ورجال لم يكتب عليهم سيئة وقد غفرت لهم خطاياهم التي مضت (أشهدكم أني غفرت لهم) فتقول الملائكة: من بينهم في هذا المكان، وفي هذا الصف، وفي تلك الناحية، قوم ما جاءوا يستمعون الذكر، وإنما جاءوا لأغراض أخرى، فيقول الله جل وعلا: (ولهم غفرت أيضاً، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).

الله أكبر يا عباد الله! إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] من ذا الذي يتعرض لها؟ من ذا الذي يتعرض لنسماتها ونفحاتها؟ إن كثيراً من العباد عنها لفي غفلة.

أيها الأحبة! لا أزال أكرر وأردد في كل مناسبة، أن حضور الندوات والمحاضرات في المساجد له شأن أبلغ من استماعها في الأشرطة والمسجلات، نعم، إذا فاتتك الموعظة، فينبغي لك ألا تفوتك الفائدة من سماعها، فتشتري شريطها فتسمعه، ثم تهديه وتدفعه إلى من لم يسمعه، ولكن الحضور له شأن آخر حيث تحضره الملائكة، ويذكر الله من حضره في ملأ أزكى وأعظم منهم، وتغشاهم السكينة، وتتنـزل عليهم الرحمة، هذا أمر لا يكون في سماع الأشرطة في المسجلات، وعلى أية حال ففضل الله واسع.

أيها الأحبة! الحديث كما تفضل الشيخ مقدم هذه المناسبة الطيبة جزاه الله خير الجزاء عن الحذر من الفتن، والفتن -أيها الأحبة في الله- تطلق ويراد بها معان عدة، يقول ابن منظور في لسان العرب: فـتن من الفتنة، وهي: الابتلاء والامتحان والاختبار، وأصلها مأخوذ من قولك: فَتَنْتُ الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد، ويقال: دينار مفتون، أي: مميزٌ، والله جل وعلا قد ذكر الفتنة في مقامات مختلفة، ومواضع عدة من كتابه، فمنها قول الله جل وعلا: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات:13] أي: يحرقون.

وترد الفتنة بمعنى الاختبار، وترد بمعنى المحنة، وترد بمعنى المال، وترد بمعنى الأولاد: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]وترد الفتنة بمعنى الكفر: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:191] وترد الفتنة بمعنى الناس، وترد الفتنة بمعنى المغالاة في الطلب، كقولهم: فلان رجلٌ مفتون بالدنيا، أي: مغال في طلبها، وترد الفتنة بمعنى الإعجاب، كما جاء في قوله تعالى: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس:85] أي: لا تجعل لهم نصراً علينا فيعجبون بهذه الفتنة وهي نصرهم علينا، وترد الفتنة بمعنى الوله والمحبة، إذا فتن الرجل بالمرأة وشغف بها حباً.

فالفتنة يراد بها معان عدة من حيث اللغة، وإذا أردنا بحثها في مجال الاصطلاح والشريعة، فإنها تكاد تنحصر حصراً اجتهادياً في أمرين:

فالأمر الأول: فتنة الرجل في ماله وأهله وولده، وما يعرض له في هذه الدنيا.

والأمر الثاني: الفتنة بمعناها الأعظم وهي: ضياع الناس وهرجهم ومرجهم، وتخبطهم في بعضهم، وسفك دماء بعضهم لبعض، وغياب الإمامة العظمى، أو ضياع الخلافة أو الرئاسة والملك، فإذا وجد قوم بلا خليفة أو رئيس أو ملك، ثم تخبط بعضهم في بعض يقال: هؤلاء في فتنة، أي: أنهم ضاع أمرهم، وفتن بعضهم ببعض ولا حول ولا قوة إلا بالله، والفتنة واردة لهذه المعاني المجتمعه.

تفضل مقدم هذه المحاضرة جزاه الله خيراً، بإيراد الحديث الصحيح، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل) هذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: إن بين يدي الساعة، أي: إن من مقدماتها، وإرهاصات ومقدمات نزولها وقيامها، أن توجد هذه الفتن، وهي الفتن التي نراها في زمننا هذا، فتن ماجت في الناس واضطربت، وتلاطمت أمواجها فيما بينهم، في أرحامهم، في آبائهم وأمهاتهم، في منازلهم، في أسواقهم، في مجتمعاتهم، فيما يسمعون، فيما يأكلون وفيما يشربون، فتن الناس بأعظم فتنة حتى شاع المتشابه بينهم، وقل الحلال عند كثير منهم، وأصبح الحرام سهلاً ميسوراً عند بعضهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً) وهذه الفتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، فاكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم، أي: فليكن كهابيل الذي تهدده أخوه قابيل بالقتل، فقال: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [المائدة:28-29] ولا حول ولا قوة إلا بالله!

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا ستكون فتن، ألا ستكون فتن، ألا ستكون فتن، فمن كانت له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، قيل: يا رسول الله! فمن لم يكن له إبل ولا غنم؟ قال: يعمد إلى صخرة فيدق سيفه عليها -أي: يكسر سيفه- ويعتزل هذه الفتن أجمع) وكان الصحابة رضوان الله عليهم وهم قريبون من عهد النبوة، وهم حديثو عهد بالنبوة يتساءلون فيما بينهم عن شأن هذه الفتن وعن أمرها.

جلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم، فقال: (أيكم يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن؟ فقال حذيفة بن اليمان، وهو أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحدثك عنها يا أمير المؤمنين! فقال عمر : والله إنك لجريء، حدثنا عنها، فقال حذيفة: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: فتنة الرجل في أهله وولده وماله يكفرها الصلاة، والصيام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال عمر: ما عن هذا سألتك، وإنما سألتك عن الفتن التي تموج كموج البحر، فقال حذيفة: نعم يا أمير المؤمنين! وإن دونها باباً، قال عمر : أيكسر أم يفتح؟ فقال حذيفة: بل يكسر يا أمير المؤمنين! فقال عمر: لا أبا لك) وهذه الكلمة مما يرددها العرب ولا يقصدون معناها، كقولهم: تربت يمينك، أو ثكلتك أمك، أو لا أبا لك، مما يقال لفظاً ولا يقصد معنى.

قال حذيفة: بل يكسر يا أمير المؤمنين! فعلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه بموته يقع في الأمة فتنة عظيمة، وسئل حذيفة رضي الله عنه هل كان عمر بن الخطاب يعلم أنه هو الباب؟ فقال حذيفة: نعم. إن عمر يعلم أنه هو باب الفتنة، أي: إذا قتل عمر فبعده ينفتح باب الفتنة، ثم بعد ذلك يموج الناس ويكون في شأنهم ما يكون، وفي هذا عبر ومواعظ، إذا حصلت الفتنة والناس بعد خليفتين من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنكم بالفتن في زماننا هذا.

ولا أزال أسرد عليكم مزيداً من الأحاديث التي اخترتها في باب الفتن، قال حذيفة رضي الله عنه: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، قال حذيفة : يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟

قال: نعم.

قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟

قال: نعم. وفيه دخن.

قلت: وما دخنه؟

قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف فيهم وتنكر.

فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم -هذا هو باب الفتنة- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.

فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا، فقال: نعم. أصفهم لك -يقوله النبي صلى الله عليه وسلم- قال: إنهم من جلدتنا -يلبسون هذه المشالح، ويلبسون هذه الثياب، وهذه الغتر والعقل، أو من سائر ما يلبس الناس من القمص وغيرها- ويتكلمون بألسنتنا.

فقلت: يا رسول الله! فما تأمرني؟ قال صلى الله عليه وسلم: عليك بجماعة المسلمين، واعتزل تلك الفرق، قلت: فإن لم يكن للمسلمين يومئذ جماعة ولا إمام، قال: تعتزل تلك الفرق، ولو أن تعض بأصل شجرة) هذا حديث عظيم في باب الفتن.

وكذلك الحديث الآخر الذي يرويه حذيفة أيضا لما سأله عمر في رواية أخرى عن شأن الفتن، فقال حذيفة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها -أي أنكر الفتن- نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر -أي: والقلب الآخر- أسود مرباداً، كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً).

أيها الأحبة في الله! الأحاديث في شأن الفتن كثيرة جداً، ولكن حسبنا أن نتأمل فقه ما أوردناه من هذه الأحاديث، أما الأحاديث الواردة في الفتن العظمى، فأنتم ولله الحمد والمنة في هذا المجتمع الذي تعيشون فيه لستم إلا في باب الفتن التي تعرض على قلوبكم في أعمالكم، وأولادكم، وأسواقكم، وأموالكم، ومآكلكم، وفي مشاربكم، أما الفتن بمعناها الأعظم وهو: القتل والهرج، وتخبط الناس في دماء بعضهم، هي واقعة في هذا الزمان، لكن هذا المجتمع بفضل الله قد سلم منها، ولا يشترط أن تكون السلامة برهاناً أو ضماناً لدوام سلامة المجتمع، فكل شيء جائز، وإن الأمور بأسبابها، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

فإذا أخذ الناس بالأسباب التي تبعدهم عن الفتن حفظهم الله منها، وإن أهمل الناس شأنها تورطوا ووقعوا فيها، والأمثلة في ذلك كثيرة، انظروا الآن ما يدور في لبنان ، والله إن الذي يحمل السلاح ويطلق النار لا يعرف لماذا يقتل؟! والمقتول لا يعرف فيم يقتل؟! وفي أماكن كثيرة من بلاد المسلمين القاتل لا يدري لم قتل، والمقتول لا يدري فيم قتل، وهذه من الفتن العظيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وفي بلاد المسلمين أمثالها كثيرٌ، إلا أن الله قد نجى هذه الرقعة وهذه البلاد من هذه الفتنة، ولا نقول ذلك مديحاً أو ثناء، وإنما هو إخبار بالواقع، والله جل وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].

ليس على الله ضمان للعباد أن يبقوا على ما هم عليه، بل إن الله جل وعلا جعل الأمور بأسبابها، بسنن كونية، فإن هم أطاعوه حفظهم وأعزهم، وإن هم ضيعوا أمره وكلهم إلى أنفسهم، وحسبك بامرئٍ هلاكاً أن يكله الله إلى نفسه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

أيها الأحبة! ثم ندخل في باب الفتن التي تعرض لكل واحد منا في نفسه وأهله وماله وبيته، الفتنة كما قلنا في المقدمة هي من باب الامتحان، ومن باب الاختبار، ومن باب الابتلاء لكي يثبت من يدعي صدق الإيمان ممن يتزيا ويتزين به، ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، لو قلنا: من المسلم فينا؟ كلٌ يرفع يده، ونحن إن شاء الله مسلمون على التحقيق والتصديق.

من المؤمن فينا؟ كلنا مؤمنون، الذي يثبت ويصدق برهان إيمانه أدنى فتنة؟ والله لتجدن القليل من البشر هم الذين يبرهنون على صدق إيمانهم عند الفتن.

أيها الأحبة في الله! أبسط الأمثلة على ورود الابتلاء والامتحان والفتنة، كما في الحديث ( تعرض الفتن على القلوب عوداً عوداً ) وفي رواية: (عَوداً عَوداً) أي: مرة بعد مرة، هذه الفتن شبهت في صغر حجمها ودقتها، وتراص بعضها ببعض، كما يتراص أعواد الحصير في نسجه المتكامل، تعرض الفتنة على الواحد من بداية يومه حتى يمسي، فأول ذلك يوم أن يسمع داعي الله: حي على الصلاة.. حي على الفلاح، هذا نوع ابتلاء وامتحان، من الذي يغلب إيمانه وسادته وفراشه؟ إيمان لا يغلب الوسادة أحقٌّ أن يدعى إيمانا؟ إيمان لا يغلب الفراش والوسادة أيسمى إيماناً ويدعي صاحبه به ويتزين؟!

كلا والله -يا عباد الله- هذا إيمان ضعيف جداً.

نحن لا ننفي الإيمان بالكلية عن مؤمن من المؤمنين، أو مسلم من المسلمين؛ لأنه مهما ارتكب من المعاصي فلا يزول عنه الإيمان بالكلية، وإنما يقل الإيمان عنده إلى درجة قليلة جداً جداً، وهذا ما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما تكلم عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) قال: هذا الحديث لا يدل على أن الإيمان يزول بالكلية، أي: يصبح الإنسان فاسد الإيمان؛ لأننا لو قلنا: ضاع الإيمان بالكلية فمعناها أنه لم يعد يؤمن بالله ولا برسول الله ولا بالقدر والبعث، ولكن يقل الإيمان عنده إلى درجة قليلة قليلة جداً.

فالناس يتفاوت الإيمان في قلوبهم بحسب نور لا إله إلا الله في قلوبهم ذاتها، بحسب نور هذه الكلمة في قلوبهم، فمن الناس من يغلب إيمانه على نومه، فإذا سمع داعي: حي على الصلاة.. حي على الفلاح: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] كان الفراش حريراً وثيراً، كان الفراش ناعماً، كان الضجيع جميلاً، فلما سمع: حي على الصلاة، حي على الفلاح، انقلب الحرير جمراً، والنعومة خشونة؛ لأنه دعي إلى ما هو ألذ وأطيب، دعي إلى ساحات السجود والركوع، وإلى أماكن التسبيح والتهجد لله جل وعلا، وحضور الصلاة مع الجماعة: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16].

نعم يا عباد الله! نحن ندعو ربنا خوفاً منه، وطمعاً في جنته، لا كما يزعم مخرفة الصوفية، يقولون: أنا أعبد الله؛ لأنني أحبه هو، ليس حباً في جنته أو خوفاً من ناره، بل أنا أحبه!! لا، لن نكون بأي حال من الأحوال أكرم وأطوع لله وأقرب من أنبيائه الذين أثنى عليهم بقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء:90] رغبة فيما عندنا من النعيم، ورهبة فيما أعددناه للعصاة من الجحيم والعذاب.

جاء أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أنا لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ؛ لكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أعرابي! أنا ومعاذ حولها ندندن) نسأل الله الجنة وتعوذ بهم من النار.

فيا أيها الأحبة في الله! من الناس من تغلبه فتنة النوم والفراش والضجيع، فلا يقوم ليسجد لله مع المصلين صلاة الفجر، أين دعوى الإيمان؟ أين الذين يرغبون في الجنان؟ أين الذين يريدون الفردوس؟ أين الذين يريدون لذة النظر إلى وجه الله الكريم؟

أين الذين يريدون شربة لا يظمئون بعدها أبدا؟ أين الذين يريدون أن يكونوا في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله؟

تريدون هذا كله ومع ذلك تأتون بإيمان يعجز أن يقاوم فراشاً ووسادة، غلبت فتنة النوم والوسادة والفراش على هذا القلب، حتى لان لها، وترك أمر الله تحت وسادته وظهره ظهرياً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

ثم بعد ذلك يصبح أحدنا ليتوجه إلى عمله أو إلى أي مكان آخر، فيدير مذياع سيارته، فإما أن يسمع كلام الله، وإما أن يسمع الغناء والطرب واللهو ومزمور الشيطان، هذه ثاني فتنة تقابلك، الفتنة الأولى جاءت إليك في الفراش، الفتنة الثانية موجودة في السيارة، أدرت مذياع السيارة، إما أن تسمع غناء، وإما أن تسمع دعاء وقرآناً وكلاماً يرضي الله جل وعلا، تبدأ الفتنة، الاختبار، الابتلاء، الامتحان، هذا الإيمان الذي ندعيه في القلوب، هل يستطيع أن يغلب موجة الإذاعة إلى إذاعة القرآن الكريم، أم أن الشيطان يغلب بهذه الفتنة صاحب القلب المريض؛ فيعود بهذه الإذاعة يمنة أو يسرةً حتى يبحث عن المزمار والطرب، وعن الملهاة عن ذكر الله جل وعلا؟

في الغالب عند كثير من الناس لا يحلو له النوم إلا على أنغام الموسيقى الهادئة، ولا يحلو له ركوب السيارة إلا على أوتار الأنغام الخالعة، ولا يحلو له النزول إلا على مثلها.

الفتنة الثانية سهلة وبسيطة ويسيرة، ومع ذلك يدعي الإيمان ويعجز أن يختار كلام الله على كلام المطرب والمطربة والمغني والمغنية، فأين الإيمان؟ هل ثبت الإيمان أمام هذه الفتنة؟ هل ثبت الإيمان أمام هذا الابتلاء؟

لا والله.. هذا إيمان ضعيف، هذا إيمان مدخول، هذا إيمان فيه دخن ودخل.

ثم بعد ذلك ينزل صاحب هذه السيارة إلى متجره أو سوقه أو عمله، فتقوده نفسه اللوامة إلى أن يخلص في العمل، إلى أن يغض بصره، إلى أن يحسن معاملته، إلى أن يتقي الله فيمن يقابلهم، لكن نفسه الأمارة بالسوء مع هذه الفتنة تغلبه، فلا يغض بصره، فأين الإيمان وهو لم يستطع أن ينتصر على نظرة، الفتنة غلبت دعوى الإيمان:

والدعاوى إن لم يقيموا عليها     بينات أصحابها أدعياء

كلنا ندعي الإيمان، لكن أين الذي يثبته ويبرهنه؟ أين الذي يصمد إيمانه أمام المحنة؟

سعد بن أبي وقاص وثباته على الدين عند إسلامه

آمن أحد الصحابة رضوان الله عليهم بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغته، وكانت أمه عنيدة، كانت عجوزاً كبيرة شمطاء، فلما علمت أنه آمن أرادت أن تفتنه وتصرفه عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا ولدي! والله لا أستظل بظل، ولا أسيغ شراباً، ولا أذوق طعاماً، ولا أمشط شعراً، حتى تترك دين هذا الصابئ، أو أمضي على ذلك، أي: إما أن تترك دين محمد، وإلا فسأظل في الشمس، ولن أشرب شيئاً، ولا آكل شيئاً حتى تترك دين محمد، فالتفت إليها وقال: يا أماه! والله لو أن لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً، ما تركت هذا الدين، ولكن عودي إلى الظل فاستظلي، وكلي واشربي وامشطي شعرك، هذا أفضل لك أنك تعودين إلى الظلال وتأكلين وتشربين، وتربحين العافية، أما أنك تظنين بهذا الأسلوب أني سأترك دين محمد، والله لو كان لك مائة نفس ما تركت دين محمد.

هكذا يصمد الإيمان أمام الفتن، هكذا تظهر دعاوى الإيمان ويظهر صدقها وبرهانها أمام الكير وأمام النار، أمام الصقيل الذي يظهرها ويميز صحيحها من سقيمها، وزائفها وصادقها من كاذبها.

خبيب بن عدي وثباته أمام فتنة قريش حتى قتل

جيء بـخبيب بن عدي، وصلب على خشبة، وجعلت سهام قريش تخطيه يمنة ويسره، يريدون أن يخاف، شخص لا حول ولا وقوة إلا بالله لو يصلب في هذا العمود، ثم يؤتى بأربعة جنود يطلق أحدهم رصاصة عن يمينه، ورصاصة عن يساره، ورصاصة فوق، ورصاصة تحت، هاه.. أتترك هذا الدين أو لا تترك هذا الدين؟ سيقول: يا جماعة موافق أطلقوني فقط، تجده ولا حول ولا قوة إلا بالله ممن لا يصدق في دعوى إيمانه، بل يتنازل عند أتفه شيء.

جيء بـخبيب بن عدي وصلب على خشبة، وجاءت قريش برجالها ونسائها وسفهائها، وجعلت السهام تتخطاه يمنة ويسره، فقيل له: أيسرك أن محمداً مكانك؟ معناها: دع محمد ينفعك، انظر ما أنت الآن فيه، وهكذا يأتي المرجفون المثبطون إذا وقع أحد الصالحين في نوع من البلاء أو الفتنة، إنسان قد يكون عنده أسهم ربوية، إنسان قد يكون عنده تجاره محرمة، ثم يأتي من ينصحه يقول له: يا أخي! اتق الله! فتنة المال لا تغويك، فتجد هذا الشاب أو هذا الرجل يبرأ إلى الله من الحرام، ويقنع بالحلال فيفاجأ بنوع ابتلاء وامتحان، فتصيبه فاقة وفقر، وقلة ذات اليد، فيأتي المرجفون الذين يتحدثون، دع دينك ينفعك، لو عندك أسهم في البنك، وأنت كل سنة تأخذ أرباحها، وتصرف على نفسك، وتسدد الكهرباء والماء والهاتف، وتصلح جميع هذه الأمور من هذه الأسهم، لكن دع هذا الذي ينصحك ينفعك الآن.

جاءت قريش تقول لـخبيب : هل يسرك أن محمداً مكانك؟ يختبرونه وفي نفس الوقت يعرضون بالنبي أمامه، فأخذ يضطرب ويبكي ويقول: لا، لا. ولا أن يشاك بشوكة في بدنه صلى الله عليه وسلم، لا أرضى أن يكون محمد مكاني، ليس في القتل بل في شوكة يشاكها في بدنه لا أرضى، وكان أول من سَنَّ سُنة ركعتي الشهادة؛ لأنه لما أرادوا أن يصلبوه، قال: اتركوني، ثم صلى ركعتين، تجوز فيهما، أي: أسرع، فقال: لولا أن تقول قريش: خاف من الموت، لأطلت في ركعتي هاتين، ثم قال أبياتاً:

لقد جمع الأعداء حولي وألبـوا     قبائلهم واستجمعوا كل مجمعِ

ولست أبالي حين أقتل مسلماً     على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإلـه وإن يشأ     يبارك على أوصال شلو ممزع

نعم يا عباد الله! ثبت ذلك الصحابي حتى تخطفته الرماح والسهام، وأفضت روحه إلى بارئها، ثبت إيمانه، دعوى الإيمان خرج صدقها، وظهر برهانها، وهكذا ربى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته على إيمان يقاوم الفتن، أما إيماننا -أيها الإخوان- نسأل الله ألا يفتننا في ديننا.

يا إخوان! مثلما يقول العوام: "الإيمان في القلوب" والله إن فُتِن لرأيت العجائب والمصائب ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولكن لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا بليتم فاصبروا، لا تتمنوا الفتنة واسألوا الله العافية، لا ينبغي لأحد أن يعرض نفسه للفتنة ليقول: أنا أريد أن أعرف درجة نجاحي في الإيمان، لا، لكن الإنسان يصدق في دعواه مع الله جل وعلا، وينتبه لنفسه فذلك خير له.

عبد الله بن حذافة وثباته أمام مغريات ملك الروم

أحد الصحابة أسره أحد ملوك الروم أو الفرس وهو عبد الله بن حذافة السهمي فلما جيء به أرادوا أن يفتنوه، قبضوا عليه، وهذا من لؤم وشؤم وخبث الكفار؛ لأنه كان معروفاً أن الرسل لا تقتل، المرسول والمندوب والسفير لا يتعرض له أحد، فجيء به ليفتن في دينه، قالوا له: تترك دين محمد؟

قال: لا. فحثوا التراب على رأسه إهانة له، ومن الناس من تؤذيه الإهانة المعنوية أشد من الإهانة الحسية، ومع ذلك رفض، أخذوا يعرضون عليه المال، النساء، المنصب.. إلى غير ذلك، فرفض، فأمر ذلك الملك رجاله بأن يجمعوا ناراً عظيمة، ويضعوا فوقها قدراً كبيراً فيها زيت يغلي، قيل: ارموا بهذا الرجل في هذا القدر الذي يغلي بالزيت، إما أن يتنازل عن دين محمد وإلا فارموا به في هذا القدر الذي يغلي بالزيت، فلما جيء به إلى هذا القدر الذي يغلي بالزيت ويتقلب، بكى ذلك الصحابي رضوان الله عليه.

فقال الملك: قفوا لا ترموه، ائتوني به، قال: بلغنا أنك بكيت، أترجع عن دين محمد؟ قال: لا والله، قال: إذاً لماذا بكيت؟ قال: تمنيت أن لي مائة نفس كلها تموت هذه الميتة!

الله أكبر، انظروا عظم الإيمان.

وإذا كانت النفوس كباراً     تعبت في مرادها الأجسام

النفس الكبيرة عنيدة عظيمة قوية، لا يمكن أن تتنازل على مكافئات أو أموال أو نقود أو سيارات أو مراكب أو توافه، لا.

فلما سمع الملك قول عبد الله بن حذافة ، مائة نفس تتمنى أن ترمى في القدر نفساً بعد نفس.. قال: إذاً تقبل رأسي وأعفو عنك، فقال عبد الله بن حذافة: وتعفو عن أصحابي؟ قال: نعم، فوافق على أن يقبل رأسه، فلما عادوا إلى عمر بن الخطاب، علم أن عبد الله بن حذافة ما قبل رأس هذا الرجل وهو يريد السلامة لنفسه، وإنما قبل رأسه من أجل إخوانه من الصحابة، فقال عمر: حقٌ على كل واحد منا أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، فجاء الصحابة رضوان الله عليهم، وقبلوا رأسه واحداً بعد الآخر.

أيها الأحبة! الإيمان يثبت عند المحن، يظهر عند الابتلاء، وانظروا الفارق؛ رجل يمتحن إيمانه عند قدر يغلي بالزيت والماء، وآخر يبتلى في إيمانه إلى حد قطع الرقبة وتناوش السهام والرماح له يمنة ويسرة، وآخر يبتلى ويفتن في إيمانه عند وسادة وفراش، فهذا يغلبه الفراش والوسادة، وهذا ينتصر على القدر والعذاب والترغيب والترهيب!

أيها الإخوة! الفتن ماضية، والواقع مليء بهذه الفتن، يفتن الرجل الآن في ماله، يقال له: تعال يا فلان! ومن قال لك إن الربا حرام؟ لقد لقينا الدكتور: فلان بن فلان وهو سعودي يقول: إن الربا حلال، فلا تصدق هؤلاء العلماء والمشايخ؟ فيبدأ الرجل تدخله الفتنة، فيقول: إي والله.. الدراهم المودعة عند المصرف الفلاني، لماذا نودعها بدون فوائد؟ فلابد من أن نجعل لها فوائد، وكما يقول الناس: (ضع بينك وبين النار مطوع) ألم يفت بجوازها الشيخ الفلاني من الأزهر وبهذه الطريقة يفتن الرجل في هذا الباب، فتغلبه فتنة الريال والدينار والدرهم، فيضع أمواله في حساب الفوائد، يصبح حساب وديعة لأجل، إما وديعة متوسطة الأجل، أو وديعة طويلة الأجل، أو وديعة قصيرة الأجل، ونسبة الفائدة بحسب مدة الوديعة، ثم بعد ذلك يأخذ منها.

ثم يقال: أي نعم، هذه هي الحياة؛ لا تتعب نفسك ولا هم يحزنون، إذا دارت السنة فاذهب لتأخذ أرباحك، واصرف على أولادك، وجدد سيارتك، وافعل هكذا .. وهكذا، ثم يفتن الرجل في هذا المال، فينساق لهذه الفتنة ولا حول ولا قوة إلا بالله!

فتن عظيمة جداً، يفتن الإنسان فيما يعرض له في هذا الزمن -خاصة الشباب- بأمور المنكرات ومقدمات الفواحش، لا نقول الفواحش مباشرة، مقدمات الفواحش؛ لأنه لا يمكن أن يقع الإنسان في الفاحشة مباشرة، وإنما تكون درجات، يقول الله جل وعلا: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] لماذا؟ لأن الزنا لا يمكن أن يقع فيه الإنسان فوراً، وإنما درجات؛ مكالمة، ابتسام، غمز، التفات، كلام، سلام، اتصال، لقاء، ثم تقع الفاحشة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

يعرض على بعض الشباب فتنة بأن يسافر للدراسة في الخارج، يكون في إحدى الدول العربية في تجارة أو في علاج، يطرق الباب عليه، ثم بعد ذلك من عند الباب؟ فيسمع صوتاً ناعماً، ويعرف أنها باغية من البغايا، زانية من الزواني، فاجرة من الفاجرات، أفتح لها أو لا أفتح؟ سوف أفتح لها لأنظر ماذا تريد، أنت تعرف أساساً ماذا تريد بالضبط، يبدأ الإنسان يقلب إيمانه على جمر الفتنة، فإما أن يثبت إيماناً صحيحاً، وإما أن ينهار الإيمان، فينساق وراءها حتى يقع في الفاحشة إلى أقصى درجاتها وغاياتها.

وقديماً قيل: الزنا أول امرأة، إذا وقع الزنا بالمرأة الأولى، صار أمر الزنا هيناً، وأصبح يتفنن صاحبه فيه، ويتفنن في تدبيره والتخطيط له، والإيقاع بالنساء فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله، ما لم تدركه توبة صادقة نصوح، والخمر أول كأس، يجلس الإنسان مجلس رجال أعمال، كبار شخصيات، ثم تدار الكأس، يا أخي! على الأقل فقط ضعها أمامك، من أجل لا يقولون: هذا معقد، أنت لا تلاحظ أنهم ينظرون إليك، يا أخي! خذ ولو رشفة واحدة مجاملة، اليوم الناس (اتكيت وعلاقات) اليوم الناس مصانعة.. إلى غير ذلك، وهكذا قليلاً قليلاً حتى يهون عليه أمر الله من أجل إرضاء الفساق والفجار الذين هان عليهم أمر الله، ثم بعد ذلك نسوا الله فنسيهم.

إذا نسي الله وذكر الذين أمامه أوكله الله إليهم، فقادوه إلى واد سحيق، وقادوه إلى هوة سحيقة من المعصية والضلالة، ولا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم!

يوسف عليه السلام: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23] امرأة ملكة عزيزة ذات منصب وجمال، هي سيدة القصر، تقفل الأبواب فلا يمكن أن يطلع أحد، هي التي طلبته وأرادته، لو امتنع تهدده، ومع ذلك غلقت الأبواب وتهيأت وأعدت كل شيء، قال: معاذ الله! لا يمكن أن أفعل ذلك، ولذلك: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله -وذكر منهم- شاب دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) ثبت الإيمان على جمر فتنة الجمال والإغراء والفاحشة، وغلب وسيطر فانتصر، فكان جزاؤه برحمة الله أن يكون في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله.

محمد المسكي وثباته أمام فتنة الزنا

ومما قرأت من قصص التاريخ الواقعية أن شاباً يسمى بـمحمد المسكي، هذا الشاب كان شاباً وسيماً جميلاً، وكان يبيع المراوح التي تصنع من القش وغيرها، وكان يدور في السوق، فرأته امرأة وأعجبت به، وهي امرأة جميلة وغنية، فصاحت إليه: أعندك مراوح، قال: نعم. وكان شاباً تقياً يصنع هذه المراوح، ويبيعها ويأكل من عمل يده، فقالت: ادخل وأعطنا ما عندك، فلما دخل أغلقت الباب دونه، قالت: إما أن تفعل الفاحشة الآن، وإما أن أصيح بأهل السوق أجمع بأنك دخلت علي وهتكت ستري، وأردت الفاحشة بي، ثم بعد ذلك لا تخرج حياً أو ميتاً.

فأصبح الرجل في مصيبة عظيمة، ولما أراد الله أن ينجيه، فتح له باب الصبر؛ لأن الصبر على المعصية أن تصبر حتى تتجافى وتبتعد عن المعصية، قال: نعم. إذا كان ولا بد فافتحي لي الحش حتى أتهيأ، لم يكن هناك حمامات، بل برج ويوضع فيه مخلفات الإنسان، وكان معروفاً قديماً، فلما فتحت الحش ودخل أخذ يفكر: إن زنيت بها فهي فاحشة وعصيان لله، وإن رفضت فضحتني أمام الأولين والآخرين، ومن الذي يصدقني وأنا الآن في بيتها، فجال بخاطره أن يفتح غطاء البرج والحش فيغرف من الغائط بيده، ويلطخ على رأسه وبدنه، فيخرج إليها بنتن الغائط حتى تتقزز منه، وتفتح الباب له وتجعله يخرج.

ولما هم بذلك أصبح الأمر بالنسبة له صعباً، كل إنسان بطبيعة الجبلة يأنف من الروائح الخبيثة، فضلاً عن أن يمسها بيده، فضلاً عن أن يجعلها على رأسه وبدنه، ولكن غلب نور الإيمان على جمر الفتنة، فمد يده وأخذ يغرف من هذا الغائط، فلطخ رأسه وثيابه وبدنه، ثم فتح الباب وخرج فإذا هي تنتظره متزينة متعطرة، فلما رأت هيئته بهذه القذارة من الغائط والأوساخ، طردته ونهرته وفتحت الباب وأخرجته، فعاد متسللاً إلى بيته يسأل الله الستر ألا يراه أحد، وفعلاً وصل إلى بيته وأزال الغائط والأوساخ، فما أن انتهى حتى فاحت رائحة المسك من بدنه، وبقيت هذه الرائحة فيه حتى مات، واشتهر باسم: محمد المسكي؛ لأنه عوضه الله جل وعلا على أن تحمل هذا الأمر الذي لا ترضاه النفوس في سبيل ألا يقع في معصية الله، وألا يرتكب فاحشة من محرمات الله، فعوضه الله في ذلك عوضاً عظيماً، ولأجر الآخرة أكبر وخير.

آمن أحد الصحابة رضوان الله عليهم بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغته، وكانت أمه عنيدة، كانت عجوزاً كبيرة شمطاء، فلما علمت أنه آمن أرادت أن تفتنه وتصرفه عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا ولدي! والله لا أستظل بظل، ولا أسيغ شراباً، ولا أذوق طعاماً، ولا أمشط شعراً، حتى تترك دين هذا الصابئ، أو أمضي على ذلك، أي: إما أن تترك دين محمد، وإلا فسأظل في الشمس، ولن أشرب شيئاً، ولا آكل شيئاً حتى تترك دين محمد، فالتفت إليها وقال: يا أماه! والله لو أن لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً، ما تركت هذا الدين، ولكن عودي إلى الظل فاستظلي، وكلي واشربي وامشطي شعرك، هذا أفضل لك أنك تعودين إلى الظلال وتأكلين وتشربين، وتربحين العافية، أما أنك تظنين بهذا الأسلوب أني سأترك دين محمد، والله لو كان لك مائة نفس ما تركت دين محمد.

هكذا يصمد الإيمان أمام الفتن، هكذا تظهر دعاوى الإيمان ويظهر صدقها وبرهانها أمام الكير وأمام النار، أمام الصقيل الذي يظهرها ويميز صحيحها من سقيمها، وزائفها وصادقها من كاذبها.

جيء بـخبيب بن عدي، وصلب على خشبة، وجعلت سهام قريش تخطيه يمنة ويسره، يريدون أن يخاف، شخص لا حول ولا وقوة إلا بالله لو يصلب في هذا العمود، ثم يؤتى بأربعة جنود يطلق أحدهم رصاصة عن يمينه، ورصاصة عن يساره، ورصاصة فوق، ورصاصة تحت، هاه.. أتترك هذا الدين أو لا تترك هذا الدين؟ سيقول: يا جماعة موافق أطلقوني فقط، تجده ولا حول ولا قوة إلا بالله ممن لا يصدق في دعوى إيمانه، بل يتنازل عند أتفه شيء.

جيء بـخبيب بن عدي وصلب على خشبة، وجاءت قريش برجالها ونسائها وسفهائها، وجعلت السهام تتخطاه يمنة ويسره، فقيل له: أيسرك أن محمداً مكانك؟ معناها: دع محمد ينفعك، انظر ما أنت الآن فيه، وهكذا يأتي المرجفون المثبطون إذا وقع أحد الصالحين في نوع من البلاء أو الفتنة، إنسان قد يكون عنده أسهم ربوية، إنسان قد يكون عنده تجاره محرمة، ثم يأتي من ينصحه يقول له: يا أخي! اتق الله! فتنة المال لا تغويك، فتجد هذا الشاب أو هذا الرجل يبرأ إلى الله من الحرام، ويقنع بالحلال فيفاجأ بنوع ابتلاء وامتحان، فتصيبه فاقة وفقر، وقلة ذات اليد، فيأتي المرجفون الذين يتحدثون، دع دينك ينفعك، لو عندك أسهم في البنك، وأنت كل سنة تأخذ أرباحها، وتصرف على نفسك، وتسدد الكهرباء والماء والهاتف، وتصلح جميع هذه الأمور من هذه الأسهم، لكن دع هذا الذي ينصحك ينفعك الآن.

جاءت قريش تقول لـخبيب : هل يسرك أن محمداً مكانك؟ يختبرونه وفي نفس الوقت يعرضون بالنبي أمامه، فأخذ يضطرب ويبكي ويقول: لا، لا. ولا أن يشاك بشوكة في بدنه صلى الله عليه وسلم، لا أرضى أن يكون محمد مكاني، ليس في القتل بل في شوكة يشاكها في بدنه لا أرضى، وكان أول من سَنَّ سُنة ركعتي الشهادة؛ لأنه لما أرادوا أن يصلبوه، قال: اتركوني، ثم صلى ركعتين، تجوز فيهما، أي: أسرع، فقال: لولا أن تقول قريش: خاف من الموت، لأطلت في ركعتي هاتين، ثم قال أبياتاً:

لقد جمع الأعداء حولي وألبـوا     قبائلهم واستجمعوا كل مجمعِ

ولست أبالي حين أقتل مسلماً     على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإلـه وإن يشأ     يبارك على أوصال شلو ممزع

نعم يا عباد الله! ثبت ذلك الصحابي حتى تخطفته الرماح والسهام، وأفضت روحه إلى بارئها، ثبت إيمانه، دعوى الإيمان خرج صدقها، وظهر برهانها، وهكذا ربى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته على إيمان يقاوم الفتن، أما إيماننا -أيها الإخوان- نسأل الله ألا يفتننا في ديننا.

يا إخوان! مثلما يقول العوام: "الإيمان في القلوب" والله إن فُتِن لرأيت العجائب والمصائب ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولكن لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا بليتم فاصبروا، لا تتمنوا الفتنة واسألوا الله العافية، لا ينبغي لأحد أن يعرض نفسه للفتنة ليقول: أنا أريد أن أعرف درجة نجاحي في الإيمان، لا، لكن الإنسان يصدق في دعواه مع الله جل وعلا، وينتبه لنفسه فذلك خير له.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2802 استماع
حقوق ولاة الأمر 2664 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2652 استماع
توديع العام المنصرم 2647 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2552 استماع
من هنا نبدأ 2495 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2461 استماع
أنواع الجلساء 2460 استماع
إلى الله المشتكى 2436 استماع
الغفلة في حياة الناس 2436 استماع