سفينة المجتمع


الحلقة مفرغة

الشهادة أن يخبر المرء صادقاً بما رأى أو سمع، وعليه يشترط في الشاهد حتى تقبل شهادته أن يكون مسلماً، عاقلاً، بالغاً، عدلاً، غير متهم، أما عدد الشهود فيختلف باختلاف القضايا.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أسأل الله جل وعلا أن يثيبكم خير الثواب، وأن يجزيكم أطيب الجزاء على حضوركم واستماعكم، ونسأله جل وعلا في مستهل هذا اللقاء أن يسددنا في القول، وأن يخلص لنا ولكم العمل.

عنوان هذه الكلمة التي اختار الإخوان عنوانها: (سفينة المجتمع) وهذا عنوان حَمَّال ذو وجوه، فلك أن تتكلم عن سفينة المجتمع وما يتعلق بالأمن والأمان في هذا المجتمع، والمخاطر التي تخترم الأمن وتهدد الطمأنينة، ولك أن تتكلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الذي جاء فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة..) الحديث. ولك أن تستنبط من هذا العنوان معاني عديدة، وحسبنا أن نشير إلى ما أشار إليه الحديث الشريف؛ فهو أقربها إلى الأذهان، وهو من درجات الإيمان، ومن أهمها ومن أحوج ما تحتاج إليه الأمة في هذا الزمان.

أيها الأحبة في الله: إن المتأمل في حال البشر تماماً يراهم مثل أقوام ركبوا السفن:

فمنهم من ركب سفينة متينة، وأبحر باتجاه أمواج متلاطمة لا توصله إلى بر الأمان، بل سرعان ما تنكسر خشبته وتتحطم ألواحه ويتيه الربان ويضيع الركب، ولا تسأل عن هَلَكَة القوم بعدئذ؛ فالسفينة لا تغني قوتها ولا صلابتها عن أن يبحر بها ربان ماهر قادر يبحر بها ويتجافى ويتحاشى أمواجاً لا يطيقها، ويأخذها ذات اليمين تارة وذات الشمال تارة، يمشي بها الهوينا حينما يتعثر السير، ويجدُّ بها إذا وجد طريقاً ميسراً، ونصَّ وأسرع في سيره حتى يبلغ بأهلها.

وقوم ركبوا سفينة ضعيفة فلم تقاوم أدنى موج من أمواج البحر فانكسرت بأصحابها.

وأقوام ركبوا سفينة متينة وسار بهم ربان ماهر قادر خرِّيت مجرب، وسار وأبحر بهم إلى بر الأمان بإذن الله، فأولئك هم الذين أنعم الله عليهم من أهل الصراط المستقيم: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].

وإن تشبيه الناس في هذا المجتمع كقوم على سفينة لتشبيهٌ بليغ وجميل جداً؛ إذ أن الناس قد أبحرت بهم سفنهم من أول يوم وُجِدوا وخُلِقوا ونزلوا على وجه هذه الأرض، وكلنا أيها الأحبة قد ركب هذه السفينة، فهي تمخر بنا عباب السنين والأعوام.

والليل فاعلم والنهـار كلاهما     أرواحنا فيها تعدُّ وتحسبُ

إن الجديدين إذا ما استوليا          على جديدٍ أسلماه للبلى

منع البقاءَ تقلبُ الشمس     وخروجُها من حيث لا تمسي

وبزوغُها صفراءَ صافيةً     ومغيبُها حمراء كالوَرْسِِ

نحن قد أبحرت بنا السفن: فمنا من قطع من الرحلة عشرين أو ثلاثين أو أربعين، ومنا من هو الآن على شاطئ النهاية، وبعد النهاية -نهاية الدنيا- يستمر ويمضي في برزخ إلى أن يبعث يوم القيامة.

فنحن في سفينة ماخرة بنا إلى الدار الآخرة؛ فيا ليت شعري أين يكون الشاطئ وأين يكون بر الأمان؟! وأين الجودي الذي تستوي عليه هذه السفينة؟! قال صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة -أي: ضربوا القرعة بينهم، والسهمان أو ضرب القرعة من الأمور التي يُلْجَأ إليها عند تساوي الأمور- فكان لبعضهم أعلاها وكان لبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء -أي: طلبوا السقيا وأرادوا الماء- مروا بالذين من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا هذا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن هم تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) هذا الحديث عند البخاري رحمه الله، وهو حديث عظيم وفيه من الفوائد المستنبطة الجليلة العظيمة الكثير:

فمنها: جواز ضرب الأمثلة.

ومنها: البيان والتوضيح.

ومنها: جواز القرعة.

إلى غير ذلك.

مجتمعات تقاذفتها أمواج البحر

أيها الأحبة في الله: ينبغي أن نعلم تماماً أن سفينة مجتمعنا هي ماضية بنا وكل واحد منا عضو في هذا المجتمع، ومجموعنا نكون مجتمعاً واحداً وكلنا سائرون في هذه الدنيا إلى دار أخرى؛ ولكن من المهم تماماً أن نعلم أن كثيراً من الناس ربما تحطمت بهم السفينة قبل أن يبلغوا شيئاً من عمق البحر أو قبل أن تمخر بهم السفن في عرضه وطوله.

أعني بذلك: مجتمعات نشبت فيها الفتن وكثر فيها القيل والقال، وضاعت فيها المناهج، واختلطت المبادئ، وضيَّع القومُ صراطاً مستقيماً مبيناً قويماً، وأصبح الدليل حيران.

تاه الدليل فلا تعجب إذا تاهوا     أو ضيَّع الركبَ أذنابٌ وأشباهُ

أيها الأحبة: إننا يوم أن ننظر إلى سفنٍ اجتماعية عبارة عن مدن أو مجتمعات أو دول:

فمنها: مَن يتخبط ذات اليمين وذات الشمال.

ومنها: مَن هم ضاربون في أعماق الرذيلة والفساد والضلالة والانحراف وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:104].

ومنهم: مَن تحطمت بهم السفن، وتكسرت بهم الألواح، وكثر الغرقى، ولم يُسمع لصائحهم صيحة، ولم يَستجب لمناديهم أحد.

فهذه مجتمعات:

منها: مَن ضلَّ وتحطم وانتهى وانكسر.

ومنها: مَن ما يزال قائماً.

ومنها: مَن ينازع سكرات النهاية يوشك أن يفارق هذه الدنيا.

تأملوا مثلاً فلسطين التي هي مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى: إنك يوم أن تتأمل أحوال إخواننا المسلمين في فلسطين وقد مضوا ستين عاماً قد انكسرت سفينة مجتمعهم، ولسنا بصدد البحث عن أسباب كسر هذه السفينة؛ لكنك تجد قوماً لا سفينة لهم؛ بمعنى لا مجتمع أو لا كيان يحميهم ويجمعهم ويوحدهم ويمثلهم إلا ما كان من أمرٍ تعلموا حكم الإسلام فيه قبل أشهر أو أسابيع معدودة.

وعلى سبيل المثال أيضاً: تطاولت يد الشيوعية على مجتمع المسلمين في أفغانستان فحطمت، وتصارعت أمواج الشيوعية مع سفينة ضعيفة في المجتمع الأفغاني، وما زال الناس يرون لوحاً منكسراً يتعلقون به، أو شراعاً يُمَدُّ ليدفع هذه السفينة شيئاً ما، وما زالوا يصارعون وينازعون الأمواج حتى بلغوا إلى قريب من شاطئ الأمان وبر النهاية، وليست هذه هي النهاية إنما النهاية أن يُحَكَّم كتابُ الله وأن تُطَبَّق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلو التوحيد ولا يعلو شرك عليه بأي حال من الأحوال.

ولك أن تتأمل مجتمع أو سفينة إخواننا في البوسنة والهرسك وهي قد تحطمت على يد الصرب وما بقي إلا أقل من ألواح؛ بل أدنى من عيدان هشة تعلق بها من تعلق، فالقوم في محنة لا يعلمها إلا الله، نسأل الله أن يفرج كربتهم، وأن يعجل نصرهم، وأن يكسر أعداءنا وأعداءهم.

وخذوا أيضاً الصومال وكيف انهار ذلك المجتمع، وكيف تحطمت تلك السفينة، فالناس الآن إما في سفينة يبحرون بها على خطر ووجل، وإما أقوام صارعوا أمواجاً عنيفة متلاطمة عنيدة فكسَّرت سفنهم، وبقي البقية منهم ينازعون البقاء، ويعالجون السباحة لبلوغ بر الأمان على ألواح هشة.

ونحن في هذه البلاد وفي هذا المجتمع نعيش على سفينة حسبنا من الخطر أن اسمها سفينة، وحسبنا من الخطر أننا في بحر تتلاطم أمواجه، وحسبنا من الخطر أننا نعالج ونواجه قوىً تتربص بنا في داخل أرضنا ومن خارجها.

وإني أقف وقفة يسيرة أمام بعض أحبابنا الذين ينـزعجون عند مثل هذا الكلام، حينما نتكلم عن الأعداء وعن الشر، وعن المتربصين والعلمانيين، وعن الفجرة وعن الذين يتمنون البلاء والفتنة والشر بهذا المجتمع، إني أقول لأولئك: لا تزعجكم هذه العبارات فإنها موجودة مذ وجد أفضل الخلق وأفضل المجتمعات وأفضل الأجيال، بل إن من تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في مستهل خطبته: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) فالنفس فيها شر فكيف ينكر أحد وجود شر في بيته أو في مجتمعه، أو وجود خطر من شر يحوم حوله.

وأيضاً كما جاء في السنة: (أنه من بنى بامرأة فله أن يضع يده على ناصيتها ويقول: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جُبِلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جُبِلت عليه) فأنفسنا فيها شرور نسأل الله أن يعيذنا منها، وزوجاتنا فيهن شرور نسأل الله أن يدفع شرهن عن أنفسهن وعنا، وأموالنا وأولادنا: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] ففي أموالنا أعداء، ومن أولادنا أعداء، ومن بيننا أعداء؛ فكيف ينزعج البعض حينما يسمع كلمة الشر والعداوة، والتخطيط والمكيدة، والمنافق والمتربص وكلها موجودة؛ ولو خلا منها مجتمع لخلا منها أفضل مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم.

علاج العطب الحاصل في السفينة

أيها الأحبة: إذا تأملنا هذا وأدركناه فإننا نعالج هذه القضية بأمور، أهمها: شعورنا أننا على خطر.

إن من استعرض الوسادة، وغَطَّ في النوم، وأشغله السبات، وعلا شخيره، وعاش في أحلام خيالية، وظن أنه بمأمن من العوادي والغوادي والمتربصين وغيرهم؛ فإنه يوشك أن يهلك لا محالة.

أما الذين يعملون وينكرون ويجاهدون، ويستعينون ويناصحون؛ فأولئك نسأل الله أن يسددهم وأن يكونوا على خير عظيم.

أقول: إننا في سفينة تربص بها الأعداء في الداخل والخارج فلننتبه لها، وإن كان في السفينة شيء من سوس نَخَرَ في بعض ألواحها .. إن كان في السفينة مَن يحاول أن يخرقها لتغرق بأهلها .. إن كان في السفينة شيء من الخطأ والخلل؛ فإن ذلك لا يعني أن نرضى بخرقها، أو أن نستسلم لمن أراد فسادها، أو أن نخضع لمن أراد أن يضيع ربانها وهم قادتها وولاة أمرها وعلماؤها.

أيها الأحبة: ينبغي أن نستشعر هذا المعنى، أنت يوم أن تتأمل أحوال المسلمين: إما أن تجدهم مسلمين بلا بلد .. بلا دولة .. بلا سفينة .. بلا كيان .. بلا مجتمع.

أو تجدهم مسلمين تحت ضغط وقهر واستبداد وأحكام مؤبدة، وأعمال شاقة، وأغلال وزنازين وسجون وشرور وآثام لا يعلم حدها وحصرها إلا الله جل وعلا.

أو أن تجد مجتمعاً كمجتمعنا هذا فيه خير كثير وفيه شر أيضاً نسأل الله أن يدفعه عنا، ولكن من المهم أن نعلم وأن نحقق هذا: أننا من أقل بلاد الله شراً، ومن أكثر بلاد الله خيراً.

إذاً فسفينتنا من أفضل السفن ولا يعني أنها سلمت من العوادي، ولا أنها في مأمن ومنجى من الخطر فكل عاقل ينتبه ويحذر.

أيها الأحبة: ما دمنا في هذه السفينة التي ننعم في ظلها وأمنها ووارف خيراتها ونعيمها، وما يُجْبَى إليها من الثمرات من المشرق والمغرب، وما فيها من النعم والأمن والطمأنينة، وما فيها من أمور تسهلت لكثير بل لجل الناس إن لم يكونوا كلهم؛ فنحن من المهم أن نحافظ على هذه السفينة؛ لما فيها من الخير الكثير؛ والفضل الوفير، وأفضل الخير فيها أنك لا تجد قبراً يُعبد من دون الله، ولا تجد ضريحاً يُطاف به، أو ولياً يُعتقد بأنه يدفع شراً أو يجلب نفعاً.

أعني بذلك أن من أعظم حسنات هذه السفينة التي نحن فيها سلامة المعتقد والتوحيد، وهذا خير عظيم، كما أن فيها من المصائب وأنواع البلاء والكبائر والمنكرات ما ربما يَرِد الحديث عنه.

أيها الأحبة: ما هي الأمور التي تكدر على هذه السفينة هادئ إبحارها؟

ما هي الأمور التي هي نذر شر بأمواج قد تواجه هذه السفينة وربانها؟

ما هي الأمور التي ربما كانت سبباً في أن يتصارع الناس وسط السفينة ويتنازعون فيها.

إن الشر والشرور التي تحيط بالسفن الماخرة على بحار المحيطات المتلاطمة بأمواجها العاتية ليست شروراً بالضرورة، قد تكون من حولها، أو من حيتان تقلبها من أسفلها من أعماق البحار، أومن قرصان أو قناصة أو قطاع طرق، بل قد يكون الشر من أبناء السفينة في وسطها لو تعاركوا وتصارعوا وتنازعوا واختلفوا، ثم دب الفشل فحينئذ ينشغل الربان عن سفينته ويشتغل القوم بعضهم ببعض، وحينئذ:

ومن رعى غنماً في أرض مسبعة     ونام عنها تولى رعيَها الأسدُ

حينئذ لا يدري الربان بم يشتغل! أهو بأن يهدي سير السفينة إلى بر أمانها، أم يعالج أوضاع أهلها من داخلها وهذه إشارة:

تكفي اللبيب إشارة مرمـوزة     وسواه يُدعى بالنداء العالي

أيها الأحبة: أتحدث عن مجتمعنا هنا لأنه ليس من الحكمة أن نجتمع مثلاً هنا في ظهرة البديعة في الرياض ، ثم نتكلم عن أوضاع الصين ، أو كمبوديا ، أو السلفادور والبوريساريو ، إن حاجة الناس أن يتحدثوا وأن يجتمعوا للحديث عن أوضاعهم وعن مجتمعهم وحاجاتهم وما يهمهم من الأخطار التي تحيط بهم، وليس من الحكمة أن نتحدث عن أخطار في مجتمعات بعيدة، ونحن نعالج ونرى ونجاهد ونصارع أخطاراً ومنكرات تحيط بنا، وحاجة الناس أن يسمعوا ما يتحاجون إليه لا ما يشتهيه متحدث وغيره.

أيها الأحبة في الله: ينبغي أن نعلم تماماً أن سفينة مجتمعنا هي ماضية بنا وكل واحد منا عضو في هذا المجتمع، ومجموعنا نكون مجتمعاً واحداً وكلنا سائرون في هذه الدنيا إلى دار أخرى؛ ولكن من المهم تماماً أن نعلم أن كثيراً من الناس ربما تحطمت بهم السفينة قبل أن يبلغوا شيئاً من عمق البحر أو قبل أن تمخر بهم السفن في عرضه وطوله.

أعني بذلك: مجتمعات نشبت فيها الفتن وكثر فيها القيل والقال، وضاعت فيها المناهج، واختلطت المبادئ، وضيَّع القومُ صراطاً مستقيماً مبيناً قويماً، وأصبح الدليل حيران.

تاه الدليل فلا تعجب إذا تاهوا     أو ضيَّع الركبَ أذنابٌ وأشباهُ

أيها الأحبة: إننا يوم أن ننظر إلى سفنٍ اجتماعية عبارة عن مدن أو مجتمعات أو دول:

فمنها: مَن يتخبط ذات اليمين وذات الشمال.

ومنها: مَن هم ضاربون في أعماق الرذيلة والفساد والضلالة والانحراف وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:104].

ومنهم: مَن تحطمت بهم السفن، وتكسرت بهم الألواح، وكثر الغرقى، ولم يُسمع لصائحهم صيحة، ولم يَستجب لمناديهم أحد.

فهذه مجتمعات:

منها: مَن ضلَّ وتحطم وانتهى وانكسر.

ومنها: مَن ما يزال قائماً.

ومنها: مَن ينازع سكرات النهاية يوشك أن يفارق هذه الدنيا.

تأملوا مثلاً فلسطين التي هي مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى: إنك يوم أن تتأمل أحوال إخواننا المسلمين في فلسطين وقد مضوا ستين عاماً قد انكسرت سفينة مجتمعهم، ولسنا بصدد البحث عن أسباب كسر هذه السفينة؛ لكنك تجد قوماً لا سفينة لهم؛ بمعنى لا مجتمع أو لا كيان يحميهم ويجمعهم ويوحدهم ويمثلهم إلا ما كان من أمرٍ تعلموا حكم الإسلام فيه قبل أشهر أو أسابيع معدودة.

وعلى سبيل المثال أيضاً: تطاولت يد الشيوعية على مجتمع المسلمين في أفغانستان فحطمت، وتصارعت أمواج الشيوعية مع سفينة ضعيفة في المجتمع الأفغاني، وما زال الناس يرون لوحاً منكسراً يتعلقون به، أو شراعاً يُمَدُّ ليدفع هذه السفينة شيئاً ما، وما زالوا يصارعون وينازعون الأمواج حتى بلغوا إلى قريب من شاطئ الأمان وبر النهاية، وليست هذه هي النهاية إنما النهاية أن يُحَكَّم كتابُ الله وأن تُطَبَّق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلو التوحيد ولا يعلو شرك عليه بأي حال من الأحوال.

ولك أن تتأمل مجتمع أو سفينة إخواننا في البوسنة والهرسك وهي قد تحطمت على يد الصرب وما بقي إلا أقل من ألواح؛ بل أدنى من عيدان هشة تعلق بها من تعلق، فالقوم في محنة لا يعلمها إلا الله، نسأل الله أن يفرج كربتهم، وأن يعجل نصرهم، وأن يكسر أعداءنا وأعداءهم.

وخذوا أيضاً الصومال وكيف انهار ذلك المجتمع، وكيف تحطمت تلك السفينة، فالناس الآن إما في سفينة يبحرون بها على خطر ووجل، وإما أقوام صارعوا أمواجاً عنيفة متلاطمة عنيدة فكسَّرت سفنهم، وبقي البقية منهم ينازعون البقاء، ويعالجون السباحة لبلوغ بر الأمان على ألواح هشة.

ونحن في هذه البلاد وفي هذا المجتمع نعيش على سفينة حسبنا من الخطر أن اسمها سفينة، وحسبنا من الخطر أننا في بحر تتلاطم أمواجه، وحسبنا من الخطر أننا نعالج ونواجه قوىً تتربص بنا في داخل أرضنا ومن خارجها.

وإني أقف وقفة يسيرة أمام بعض أحبابنا الذين ينـزعجون عند مثل هذا الكلام، حينما نتكلم عن الأعداء وعن الشر، وعن المتربصين والعلمانيين، وعن الفجرة وعن الذين يتمنون البلاء والفتنة والشر بهذا المجتمع، إني أقول لأولئك: لا تزعجكم هذه العبارات فإنها موجودة مذ وجد أفضل الخلق وأفضل المجتمعات وأفضل الأجيال، بل إن من تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في مستهل خطبته: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) فالنفس فيها شر فكيف ينكر أحد وجود شر في بيته أو في مجتمعه، أو وجود خطر من شر يحوم حوله.

وأيضاً كما جاء في السنة: (أنه من بنى بامرأة فله أن يضع يده على ناصيتها ويقول: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جُبِلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جُبِلت عليه) فأنفسنا فيها شرور نسأل الله أن يعيذنا منها، وزوجاتنا فيهن شرور نسأل الله أن يدفع شرهن عن أنفسهن وعنا، وأموالنا وأولادنا: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] ففي أموالنا أعداء، ومن أولادنا أعداء، ومن بيننا أعداء؛ فكيف ينزعج البعض حينما يسمع كلمة الشر والعداوة، والتخطيط والمكيدة، والمنافق والمتربص وكلها موجودة؛ ولو خلا منها مجتمع لخلا منها أفضل مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم.

أيها الأحبة: إذا تأملنا هذا وأدركناه فإننا نعالج هذه القضية بأمور، أهمها: شعورنا أننا على خطر.

إن من استعرض الوسادة، وغَطَّ في النوم، وأشغله السبات، وعلا شخيره، وعاش في أحلام خيالية، وظن أنه بمأمن من العوادي والغوادي والمتربصين وغيرهم؛ فإنه يوشك أن يهلك لا محالة.

أما الذين يعملون وينكرون ويجاهدون، ويستعينون ويناصحون؛ فأولئك نسأل الله أن يسددهم وأن يكونوا على خير عظيم.

أقول: إننا في سفينة تربص بها الأعداء في الداخل والخارج فلننتبه لها، وإن كان في السفينة شيء من سوس نَخَرَ في بعض ألواحها .. إن كان في السفينة مَن يحاول أن يخرقها لتغرق بأهلها .. إن كان في السفينة شيء من الخطأ والخلل؛ فإن ذلك لا يعني أن نرضى بخرقها، أو أن نستسلم لمن أراد فسادها، أو أن نخضع لمن أراد أن يضيع ربانها وهم قادتها وولاة أمرها وعلماؤها.

أيها الأحبة: ينبغي أن نستشعر هذا المعنى، أنت يوم أن تتأمل أحوال المسلمين: إما أن تجدهم مسلمين بلا بلد .. بلا دولة .. بلا سفينة .. بلا كيان .. بلا مجتمع.

أو تجدهم مسلمين تحت ضغط وقهر واستبداد وأحكام مؤبدة، وأعمال شاقة، وأغلال وزنازين وسجون وشرور وآثام لا يعلم حدها وحصرها إلا الله جل وعلا.

أو أن تجد مجتمعاً كمجتمعنا هذا فيه خير كثير وفيه شر أيضاً نسأل الله أن يدفعه عنا، ولكن من المهم أن نعلم وأن نحقق هذا: أننا من أقل بلاد الله شراً، ومن أكثر بلاد الله خيراً.

إذاً فسفينتنا من أفضل السفن ولا يعني أنها سلمت من العوادي، ولا أنها في مأمن ومنجى من الخطر فكل عاقل ينتبه ويحذر.

أيها الأحبة: ما دمنا في هذه السفينة التي ننعم في ظلها وأمنها ووارف خيراتها ونعيمها، وما يُجْبَى إليها من الثمرات من المشرق والمغرب، وما فيها من النعم والأمن والطمأنينة، وما فيها من أمور تسهلت لكثير بل لجل الناس إن لم يكونوا كلهم؛ فنحن من المهم أن نحافظ على هذه السفينة؛ لما فيها من الخير الكثير؛ والفضل الوفير، وأفضل الخير فيها أنك لا تجد قبراً يُعبد من دون الله، ولا تجد ضريحاً يُطاف به، أو ولياً يُعتقد بأنه يدفع شراً أو يجلب نفعاً.

أعني بذلك أن من أعظم حسنات هذه السفينة التي نحن فيها سلامة المعتقد والتوحيد، وهذا خير عظيم، كما أن فيها من المصائب وأنواع البلاء والكبائر والمنكرات ما ربما يَرِد الحديث عنه.

أيها الأحبة: ما هي الأمور التي تكدر على هذه السفينة هادئ إبحارها؟

ما هي الأمور التي هي نذر شر بأمواج قد تواجه هذه السفينة وربانها؟

ما هي الأمور التي ربما كانت سبباً في أن يتصارع الناس وسط السفينة ويتنازعون فيها.

إن الشر والشرور التي تحيط بالسفن الماخرة على بحار المحيطات المتلاطمة بأمواجها العاتية ليست شروراً بالضرورة، قد تكون من حولها، أو من حيتان تقلبها من أسفلها من أعماق البحار، أومن قرصان أو قناصة أو قطاع طرق، بل قد يكون الشر من أبناء السفينة في وسطها لو تعاركوا وتصارعوا وتنازعوا واختلفوا، ثم دب الفشل فحينئذ ينشغل الربان عن سفينته ويشتغل القوم بعضهم ببعض، وحينئذ:

ومن رعى غنماً في أرض مسبعة     ونام عنها تولى رعيَها الأسدُ

حينئذ لا يدري الربان بم يشتغل! أهو بأن يهدي سير السفينة إلى بر أمانها، أم يعالج أوضاع أهلها من داخلها وهذه إشارة:

تكفي اللبيب إشارة مرمـوزة     وسواه يُدعى بالنداء العالي

أيها الأحبة: أتحدث عن مجتمعنا هنا لأنه ليس من الحكمة أن نجتمع مثلاً هنا في ظهرة البديعة في الرياض ، ثم نتكلم عن أوضاع الصين ، أو كمبوديا ، أو السلفادور والبوريساريو ، إن حاجة الناس أن يتحدثوا وأن يجتمعوا للحديث عن أوضاعهم وعن مجتمعهم وحاجاتهم وما يهمهم من الأخطار التي تحيط بهم، وليس من الحكمة أن نتحدث عن أخطار في مجتمعات بعيدة، ونحن نعالج ونرى ونجاهد ونصارع أخطاراً ومنكرات تحيط بنا، وحاجة الناس أن يسمعوا ما يتحاجون إليه لا ما يشتهيه متحدث وغيره.

هذه سفينتا فما الذي يهددها وما الذي يكدرها؟

إنها المنكرات والمعاصي؛ إن كل جنوح أو ميل أو انحراف أو بُعد خاصة حينما يكون عمداً -ومعاذ الله أن يوجد هذا- أو ميل عن صراط الله المستقيم عن الشريعة القويمة والمحجة المستقيمة؛ عن هذا الدين الذي أتمه الله وأكمله؛ إنما هو بُعد بهذه السفينة عن سيرها الهادئ إلى شعاب مرجانية وصخور شرسة تحطم هذه السفينة وتُفني وتكسر ألواحها، فالمنكرات بأنواعها من أخطر الأمور على هذه السفينة.

وعلاج هذا كله هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حاجة السفينة وحاجة أهلها أن تُهْدَى وأن تسلك سبيل المعروف، وأن تقاوم وتجانب وتجافي طريق المنكر، فما هو المعروف؟ وما هو المنكر؟

المعروف والمنكر

هل المعروف ما تعارفنا عليه؟ وهل المنكر ما اتفقنا على إنكاره؟

هل المعروف ما رآه فلان وعلان؟ وهل المنكر ما أنكره فلان وعلان؟

كلا ولا وألف لا، إنما المعروف ما كان معروفاً في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والمنكر ما كان منكراً في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذا من جميل خصال وسمات منهج أهل السنة والجماعة الذي يقرر فيه أئمة السلف وعلماء الملة والشريعة: أن التحسين والتقبيح ما هو إلا من جهة الشرع لا من جهة العقل، أما المعتزلة والمناطقة والفلاسفة والمتكلمون فإنهم يقولون بالتقبيح والتحسين العقليين، يعني: ما كان في العقول حسناً فهو حسن، وما كان في العقول قبيحاً فهو قبيح، وهذا قد جعلهم يضلون ضلالاً بعيداً، وقادهم إلى التعطيل والتشبيه والضلال في باب الأسماء والصفات، بل قاد كثيراً من متقدميهم ومتأخريهم إلى إنكار صريح السنة بحجة أنه خبر آحاد، وقاد بعضهم إلى نفي المتواتر من الدين بتأويلٍ لا مسوِّغ له ولا قرينة تصرف إليه، وكلكم تعلمون هذه المسائل.

إذاً: فالمعروف ما كان معروفاً في كلام الله ورسوله، والمنكر ما كان منكراً في كلام الله ورسوله؛ إذ لو أن الأمر اعتبر فيه ما اجتمع عليه الناس لكان اجتماع الناس في زمن أو في مكان على منكر من المنكرات واعتباره معروفاً يحوِّل الحرام حلالاً والحلال حراماً.

انظر إلى بعض مجتمعات المسلمين فضلاً عن مجتمعات الكفار كيف ينظرون إلى أن فعل المرأة بتبرجها وكونها حاسرة عن شعرها، مُبْدِية صدرها، حتى أبانت ذراعيها وشيئاً من ساقيها، يرونه مما تعارف عليه الناس بل وربما أُنْكر على مسلمة تحجبت وغطت وجهها وسترت يدها وساقها ونحو ذلك.

هل اجتماع الناس في بلد من البلدان ولو سميت إسلامية نسبة إلى تعداد المسلمين وإن كانت أنظمتها ضالة ظالمة، هل اجتماع الناس على أمر كهذا يغير مسألة التبرج من كونها حراماً ومنكراً إلى المعروف والحلال؟!

لا وألف لا، بل في كثير من المجتمعات يُعَد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاته تدخلاً وعدوانية وفضولية، بل وربما عوقب الإنسان لأنه أمر أو نهى، وربما تعارف الناس على مثل هذا، فكون الناس تعارفوا على ترك الأمر بالمعروف، واعتبار القيام به فضولية وتدخلاً في شئون الآخرين فإن ذلك لا يغير حقيقته.

إذاً: فالمعروف معروف بكلام الله وكلام رسوله، والمنكر منكر بكلام الله وكلام رسوله في كل زمان وفي كل مكان؛ إذ أن الذي خلق العباد هو الذي أنزل الكتاب، وهو الذي شرع الشرائع، وهو الذي سن الأحكام، وهو الذي أحل الحلال وحرم الحرام: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

إن ربنا جل وعلا يوم أن شرع في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم صنوف وألوان وأحكام الحلال والحرام شرعها للبشر في كل زمان ومكان؛ فلا يتغير المنكر بل يبقى منكراً إلى يوم القيامة، ولا يتغير بل يبقى المعروف إلى يوم القيامة، وقد ضل وجهل وسقم من ظن أن الأمور يمكن أن تتحول من كونها معروفاً إلى منكراً ومن كونها منكرةً إلى المعروف، بل إنما الذي يتغير أنواع من المباحات ربما تكون في بعض الأحيان لمصلحة العباد أن يُمْنَعوا من شيء منها، ولمصلحة العباد أن يؤمروا أو يجبروا على شيء منها؛ مما يقدره العلماء ومما تقتضيه المصالح المرسَلَة والمصالح الشرعية المرعية.

إذاً: فأول قاعدة في هداية هذه السفينة وسيرها المطمئن إلى بر الأمان أن نعرف أن حاجتها إلى إقرار المعروف والعمل به ومعرفة المنكر والحذر منه، والمعروف ما كان معروفاً في الكتاب والسنة، والمنكر ما كان منكراً في الكتاب والسنة، حتى ولو أجمع الناس وأطبقوا على خلافه.

أمثلة للمعروف والمنكر

على سبيل المثال: خذ بلية من البلايا، ومصيبة من المصائب، وفتنة من الفتن التي ابتُلينا بها في مجتمعنا هذا، نسأل الله أن يدفع عنا شرورها وغوائلها ومغبتها ألا وهي: قضية الربا؛ إن كثيراً من الناس قد وقعوا في الربا بحجة أنه قد انتشر، أو بحجة أنه لا سلامة منه، أو بحجة أي مقولة تقال، المهم ينبغي أن نعرف أن الربا خطر وأنه من أخطر معاول الهدم والكسر لهذه السفينة، كيف لا والله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279] ؟!

فالربا كبيرة وخطر: (لعن الله آكل الربا ومُوْكِلَه وكاتبه وشاهديه) لا أحد ينازع في هذه القضية حتى لو تعامل بها مَن تعامل، أو ضل بها مَن ضل، أو تأول مَن تأول؛ إذ أن مصيبتنا في هذا الزمان أن أقواماً أخذوا يلتوون ويسلكون أذناب الثعالب في الدخول إلى عقول السُّذَّج والبسطاء والغوغاء يقولون لهم: إن الربا الحرام ليس هو الربا الذي يتعاطاه بعض الناس في هذا الزمان، ولو سُلِّم هذا الأمر وانطلت مثل هذه الحيل لجاء اليوم الذي يقال فيه إن الزنا الذي يوجد في بلاد الغرب ليس الزنا المحرم، وإن الشرك الذي يُعبد فيه أصحاب القبور، ويعتقد فيه بنفع ودفع الأولياء وضرهم ليس هو الشرك المقصود، ولا تستقر حينئذ للأمة أحكام، ولا تُفْهَم شريعة على مثل هذا التأويل أو سوق هذه الحيل والأباطيل.

وجوب التسليم لأمر الله وأمر رسوله

أيها الأحبة في الله: ما دمنا قد علمنا أن المعروف معروفاً والمنكر منكراً بكلام الله وكلام رسوله، فإن أول ما يتعلق بنا ونحن من ركاب سفينة المجتمع هذه؛ أن نعلم أن من واجبنا الإذعان والانقياد؛ فالأصل في كل مسلم أن يقبل الحق وأن يعمل به؛ والأصل في كل مسلم أن يرد المنكر وأن يزجر عنه دون عناد أو جدال، حتى إن علم الحكمة أو جهلها، إن فهم المقصد أو غاب عنه؛ فواقع المسلم وأصل المسلم أن يقبل الحق وأن يقول فيه: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].

الأصل في المسلم أن يكون مستجيباً منقاداً مخبتاً لأمر الله وأمر رسوله وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] أين نحن من: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] أين نحن من (ليس لنا الخيرة في أمرنا هذا) ما دام الأمر قد ورد من عند الله، والنهي قد جاء من وحي يُوْحَى مثل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينبغي لنا إلا الاستجابة.

إنك تعجب من مسلم تقرر له القاعدة في أن الربا محرم، أو أن هذا الأمر لا يجوز، أو أن هذه المسالة لا تجوز ثم يقول: ولكنهم في الغرب اكتشفوا، ولكنهم في الشرق علموا، ولكنهم وصلوا ودخلوا وقرروا!

بل وأعجب من هذا أن تجد مسلماً يسلِّم.. بل يعتقد.. بل يؤمن.. بل يوقن أن شجرةً بعرض هذا العمود قد كتب عليها أحد علماء الآثار أن هذه الشجرة عمرها ثلاثة آلاف سنة، فيصدق وينقل هذا الخبر للناس مع أن المكتشف ليس عنده سند متصل ممن غرس هذه الشجرة إلى هذا الزمان حتى يُعْرَف أن عمرها ثلاثة آلاف سنة أو ألف أو خمسمائة سنة!

وربما أخرجت أحفورة من الأحافير أو قطعة أثرية من الآثار ويَكتب باحثُها: مائة سنة، أو ثمانمائة سنة، فيسلِّم بعقله مستجيباً، ولو ناقشه أحد لقال: ألا تسلِّم لأهل العلوم في علومهم؟! ألا تسلِّم لأهل الفنون في فنونهم؟! ألا تسلِّم لأهل الطب في طبهم؟! لماذا لا تسلِّم لذوي الاختصاص؟! فإذا قيل له: قال الله وقال رسوله، قال: لماذا؟ وكيف؟ ولعلل! ويمكن! وربما! وأين؟ وأتى لك بجميع أدوات الاستفهام والحذف والجر والإضافة غير مستجيب لأمر الله وأمر رسوله! فأين استجابته بالتصديق الموقن فيما يتعلق بشجرة عمرها ثلاثة آلاف سنة؟! وأين استجابته لقطة أو لاكتشاف أثري بيد واحد من علماء الآثار من استجابته لكلام الله وكلام رسوله؟! شتان ما بين هذا وهذا!

إن من المصائب في هذه السفينة التي نبحر بها ونمخر عباب البحر المتلاطم بالأمواج فيها، أن تجد من أبنائنا من لا يزال ينخر بل يخرق في لوح السفينة، وإذا قيل له: إن مضيك في هذا الخرق يحدث فجوة تغرق هذه السفينة؛ فتجده ينازع ويجادل ويناطح ولا يستجيب أبداً ويستجيب لأمور لا دليل عليها من عقل.

إن القضية تتعلق تعلقاً أصلياً بمسألة العقيدة، وكيف يكون تعلقها؟

انظر أخي الكريم إلى مريض من المرضى يشكو علة من العلل وسقماً من الأسقام وداءًَ من الأدواء، ثم يُذكر له طبيب ماهر بارع خبير بأمراض الأبدان، فتجده يذهب إليه ويبوح بأسراره، ويكشف علته، ويصف أعراضها وحالها وأوصافها فيقول الطبيب: افتح فمك، مد يدك، ارفع رجلك، انزع ثيابك، خذا هذا الشراب، وخذ هذا الدواء، وامتنع من الطعام، وكُلْ هذا الطعام، فتجده مستجيباً حتى لو جُعِل الحديد والإبر في بدنه لقال: هذا من حكمة هذا الطبيب الذي عرف هذا الدواء لذلك الداء في ذلك الموضع في تلك الساعة في ذلك المكان، استجابة لا ينازعها تردد أبداً، لماذا استجاب؟!

لأنه أيقن وعلم علماً لا جهل فيه، ويقيناً لا شك يخالطه؛ أنه ذاهب إلى طبيب ماهر قد سلَّم لعلمه وحكمته فكان نتيجة تسليمه استجابة لا تردد فيها بأي حال من الأحوال، فإذا قيل له: هذا أمر الله وأمر رسوله ربما وجدت تردداً وعناداً، واختلافاً وإصراراً، وتعليلاً وتأويلاً وغير ذلك! أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

وجوب تقدير الله حق قدره

أتظنون أن الله حرَّم الحرام عبثاً؟! أو أمر بالواجب عبثاً؟! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً [المؤمنون:115]، أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36].

إن الإنسان ما خُلِق عبثاً، وما أُمِر عبثاً، وما نُهِي عبثاً، ما أُمِر بالشرع عبثاً، وما نُهِي عن أمر عبثاً، بل كل أمر فيه حكمة، وكل ندب فيه حكمة، وكل زجر فيه حكمة، فمن سلَّم لحكمة الله أورثه ذلك وقاراً وهيبةً وإجلالاً لله، ولأجل ذا قال نوح عليه السلام لقومه لما وجد عنادهم وإصرارهم، ووجدهم يستغشون ثيابهم، ويضعون أصابعهم في آذانهم، ويصرون إصراراً، ويستكبرون استكباراً، جعل المعول في هذا كله أنهم لا يعرفون لله قدراً ووقاراً، فقال: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [نوح:13] لو كنتم تعظمون الرب حق التعظيم، وتجلونه حق الجلالة، وتخشونه حق الخشية، وتهابونه تمام الهيبة، وتراقبونه حق المراقبة، لأورث ذلك استجابة لأنبيائه ودعاته ورسله؛ ولكن لما غاب التعظيم والوقار فلا تسل عن ألوان المعاصي، ولأجل ذلك كان العلم الخشية: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

كفى بخشية الله علماً: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] مَن كان بالله أعرف كان منه أخوف، ولما جاء الثلاثة النفر إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته وكأنهم تقالُّوها، قال أحدهم: (وأين نحن من رسول الله وقد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فلا آكل لحماً، وقال الآخر، لا أستظل ظلاً، وقال الآخر: لا أطأ فراشاً ولا ألتذ بنوم، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم غضب واحمر وجهه وخطب الناس وقال: ما بال أقوام يرغبون عن سنتي... إلى أن قال: أما إني لأَعْلَمُكُم بالله وأخشاكم له) فترتب الخشية على العلم.

لذا حاجتنا أن نعلم لله عظيم وقاره وعظيم قدره: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] .

إننا بحاجة قبل أن ننذر العصاة وأن نذكرهم أن نعرفهم من هو الرب الذي عصوه! ومن هو الرب الذي خالفوا أمره! إذ أن من عصاك ولا يعرف قدرك لا يبالي بما استمر عليه من المعصية، فالحاجة ماسة إلى إنكار المنكر مع بيان عظمة الرب جل وعلا لهؤلاء الخلق جميعاً.

نقول: إن الأصل في كل مسلم أن يقبل الحق مستجيباً له على أية حال.

من نأى عن الكتاب لم يزدد إلا ضلالاً

العجب أيها الأحبة! أنه يوجد من -ولعلهم أقل من البعض- من يعتقد أن المجتمع كافر، وأن النظام كافر، وأن الدولة كافرة، بحجة وجود بعض المعاصي والمنكرات والكبائر، وسيأتي الكلام على هذه المسألة.

وقد وجدت شيئاً من هذا الضلال المبين لما كنت في سفر قبل شهر تقريباً في أمريكا ، فوجدت أناساً قد تخبطت بهم المناهج وضاعت بهم السبل؛ ولا غرابة! فمن طلب الحق بغير منهج أهل السنة والجماعة فقد ضل ضلالاً بعيداً مهما أعمل عقله وأجال فكره:

نهاية إقدام العقول عقال     وآخر سعي العالمين ضلالُ

وأرواحنا في وحشة من جسومنا     وغاية مسعانا أذىً ووبالُ

ولم نستفِد من بحثنا طول عمرنا     سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

وجدنا أقواماً ما قادهم طول البحث والحوار والجدال على منهج غير قويم إلىصراط مستقيم، بل قادهم إلى مزيد ضلال وبعد، ولا حول ولا وقوة إلا بالله!

الأمر الآخر أيها الأحبة: نحن يا من نعيش في هذه السفينة ويهمنا شأنها، ونعلم أن هذه السفينة بحُكَّامها ودُعاتها وعلمائها وقادتها ونحن معهم فيها إن غرقت غرقنا جميعاً وإن نجت نجونا جميعاً، فالعاقل ينتبه إلى مثل هذه المسائل حتى يكون الإصلاح بطريقة تصلح لوحاً ولا تخرق أمراً، بطريقة ترد المنكر وتدفعه بغير أن يضطرب الطريق أو يتصارع الناس داخل السفينة.

المنكر في كل زمان والمعروف كذلك

هذه السفينة؛ ألا وهي مجتمعنا لا نتصوره مجتمعاً ملائكياً يخلو من الخطيئة والمعصية، إن من أراد مجتمعاً إسلامياً لا معصية فيه قد طلب مجتمعاً أفضل من مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا محال بكل حال، يقول صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) فلا يمكن أن يأتي أحد ليجعل أو ليصنع من مجتمع خيرية تحاكي -فضلاً أن تكون أفضل- أو تضاهي مجتمع النبوة أو مجتمع الخلافة الراشدة، أو القرن الأول والثاني والثالث، ينبغي أن نفهم هذا تماماً، ولكن إذا علمنا أن صلاح المجتمع وصلاح أهل السفينة لا يعني بالضرورة سلامة أهلها من وقوع وحصول بعض المعاصي والمنكرات؛ إذ لو تأملت مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت فيه من زنا فرجم، ومن زنا فجلد، ومن سرق فقطع، ومن زنت فرجمت، بل ومن خان خيانة عظمى، ومع ذلك فإن المنهج القرآني والمنهج الإسلامي الشرعي جاء ليحفظ لكلٍ حسناته؛ إذ أن السيئة لا تلغي الحسنات ولكن الحسنات تمحو السيئات، هذا أمر ينبغي أن نفهمه تماماً.

على سبيل المثال: حاطب بن أبي بلتعة لما بعث بكتاب في قرن امرأة إلى قريش ليخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يصبِّحهم ويمسِّيهم، هذا في المصطلح السياسي المعاصر يسمى الخيانة الكبرى، إفشاء أسرار الجيش والدولة، حاطب بن أبي بلتعة قد أرسل مع ضعينة إلى أهل مكة رسالة تخبرهم أن النبي سيغزوهم، فجاء الوحي وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث علياً وآخر من الصحابة وقال: ستجدون الضعينة في مكان كذا خذوا منها الكتاب، فلما أسرعوا وجدُّوا في السير وبلغوها حيث وصف وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا لها: [أخرجي الكتاب، قالت: ما معي من كتاب، فقالوا: لتُخْرِجِنَّ الكتاب أو لننزعن الثياب] فقامت فأخرجت كتاباً من ضفائرها، ثم جيء بـحاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر بن الخطاب شهيد المحراب، الإمام الأواب، الفاروق الذي يهابه الشيطان؛ يتطاير غيظاً وحنقاً على من فعل هذه الفعلة، فقال عمر رضي الله عنه: نافق يا رسول الله، فدعني أقطع رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عمر ! وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم إني قد غفرت لكم).

انظروا إلى هذا العدل النبوي؛ تذكر حسنة عظيمة أمام سيئة عظيمة، حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأرضاه من صحابة رسول الله أفشى أسرار الدولة، أفشى أسرار المصطفى صلى الله عليه وسلم، فجاء من يظن أن عقابه أن يقطع رأسه، ولكن من يتكلم بالوحي الذي لا ينطق عن الهوى يتكلم بهدي مبين وشرع من عند رب العالمين، يذكر حسنته عند سيئته هذه، هذا هو المنطق وهذا هو الواجب، إذا أردنا أن نعاقب فعلينا أن نذكر الحسنات والسيئات، إذا أردنا أن نجازي فلنذكر الحسنات والسيئات، لا أن ننظر بعين مغضية عن السيئات أو بعين مسرفة في الحسنات أو العكس، لابد أن ننظر بعين متوازنة إلى مجتمعنا وإلى أفرادنا وأئمتنا وعلمائنا وقادتنا وحكامنا حتى نعرف مقدار الخير الذي نملكه وحجم الشر الذي نخشاه على ولاة أمرنا ومجتمعنا وأنفسنا.

حاجتنا إلى المنهج القرآني العادل

هذا العدل الرباني العظيم وإن كان هذا نوع استطراد عن موضوع المحاضرة لكن لا بأس؛ لأننا أيها الأحبة ربما أسرفنا شيئاً ما في بعض المواضيع فأسهبنا وتعمقنا في ذكر منكرات وسيئات ومعاصٍ ونسينا أن في مجتمعنا حسنات، وربما ابتلينا ببعض المنافقين والمداهنين الذين أخذوا يزيدون ويبالغون ويذكرون الحسنات حتى ظن بعض الناس أنه لا يوجد ولا يتصور أن يوجد على وجه الأرض مجتمع أفضل منا، أو يظن البعض أن صورة مجتمعنا هذه هي صورة شرعية مطابقة للكتاب والسنة عـلى درجة (100%) وهذا أمر لا يجوز، حاجتنا أن ننظر بعين العدل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء:135]، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].

حاجتنا أن ننظر بالمنهـج القـرآني، اقرأ مـن أول سورة آل عمران: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ [آل عمران:71].. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:99].. هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ [آل عمران:66] خطاب وعتاب وكلام شديد على أهل الكتاب، ثم بعد ذلك يأتي قول الله: لَيْسُو سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113] انظر إلى هذا العدل القرآني حتى مع الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] وقالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] وقالوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] وانظر نفس العـدل وذات العدل من رب العالمين: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40].. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً [يونس:44]، وكمـا يقول ربنا عز وجل في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرماً) انظر هذا العدل حتى مع الذين قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64] وحتى مع الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ [آل عمران:181] قال تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ أي: جبل من الذهب وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً [آل عمران:75] .

نحن بحاجة إلى الوسطية والاعتدال في منهج الدعوة .. في الأمر .. في النهي .. في الإنكار .. في النصيحة .. في الموقف .. في كل شئوننا، وحينئذ نضمن بإذن الله سلامة سفينتنا، ومضي إبحارها على طريقة متواترة توصلها بإذن الله جل وعلا إلى بر الأمان وشاطئ السلامة.

أيها الأحبة: أعود إلى أصل الموضوع لأقول: إن من يعتقد أن أهل السفينة ومجتمع السفينة ينبغي أن يكون مجتمعاً لا معصية فيه، أو لا يتصور أن توجد فيه الخطيئة فقد ضل ضلالاً بعيداً، ولو كان المقصود في الناس والحال التي عليها ولأجلها خلقوا أن يوجدوا على وتيرة لا معصية فيها ولا ذنب لَمَا كانت ثم فائدة عظيمة أو حاجة بليغة إلى آيات التوبة والاستغفار.

الصحابي الذي جاءته امرأة وكان تماراً في المدينة وقد أعجب بجمالها فقالت المرأة وهي قد قدمت لشراء التمر: هل عندك تمر أجود من هذا؟ قال: نعم. في البيت أجود منه، فلما خلا بها في داره أو أغلق الباب وأوصده دونها كأنه مَسَّ شيئاً من جسدها، ولم يبلغ معها ما يوجب حداً، قال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان الذي فسره في الحرم المدني، ولستُ أدري هل هذا مذكور في الأضواء أم لا، قال: لعله كان بينه وبينها شيء من الضمِّ أو التقبيل أو نحوه وأمر لا يوجب الحد، فلما حصل ما حصل ندم الرجل وعاد نادماً آيباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك، فما لبث النبي حتى تغشاه الوحي وأنزل الله جل وعلا آية مدنية في سورة مكية في سورة هود: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].

إن ذلك الصحابي يوم أن أذنب ذلك الذنب لم يُنْفَ من المجتمع، ولم يُصَنَّف مذنباً، ولاحظوا هذه المسألة الخطيرة التي بلي الناس بها في هذا الزمان عند أدنى ذنب أو خطيئة أو زلل أو خطل ونحوه فإنه سرعان ما يصنَّف ولا يُلْتَمَس له عذر، ما صُنِّف مذنب في عصر الصحابة ولا عصر النبي صلى الله عليه وسلم بل يقال: مخطئ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32] .

الناس واحد من ثلاثة:

إما سابق بالخيرات.

وإما مقتصد.

وإما ظالم لنفسه.

هكذا ينبغي أن ننظر في تعاملنا مع بعضنا ونحن في وسط هذه السفينة التي تمخر بنا عباب بحار مليئة بأمواج خطيرة ومتلاطمة.

هل المعروف ما تعارفنا عليه؟ وهل المنكر ما اتفقنا على إنكاره؟

هل المعروف ما رآه فلان وعلان؟ وهل المنكر ما أنكره فلان وعلان؟

كلا ولا وألف لا، إنما المعروف ما كان معروفاً في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والمنكر ما كان منكراً في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذا من جميل خصال وسمات منهج أهل السنة والجماعة الذي يقرر فيه أئمة السلف وعلماء الملة والشريعة: أن التحسين والتقبيح ما هو إلا من جهة الشرع لا من جهة العقل، أما المعتزلة والمناطقة والفلاسفة والمتكلمون فإنهم يقولون بالتقبيح والتحسين العقليين، يعني: ما كان في العقول حسناً فهو حسن، وما كان في العقول قبيحاً فهو قبيح، وهذا قد جعلهم يضلون ضلالاً بعيداً، وقادهم إلى التعطيل والتشبيه والضلال في باب الأسماء والصفات، بل قاد كثيراً من متقدميهم ومتأخريهم إلى إنكار صريح السنة بحجة أنه خبر آحاد، وقاد بعضهم إلى نفي المتواتر من الدين بتأويلٍ لا مسوِّغ له ولا قرينة تصرف إليه، وكلكم تعلمون هذه المسائل.

إذاً: فالمعروف ما كان معروفاً في كلام الله ورسوله، والمنكر ما كان منكراً في كلام الله ورسوله؛ إذ لو أن الأمر اعتبر فيه ما اجتمع عليه الناس لكان اجتماع الناس في زمن أو في مكان على منكر من المنكرات واعتباره معروفاً يحوِّل الحرام حلالاً والحلال حراماً.

انظر إلى بعض مجتمعات المسلمين فضلاً عن مجتمعات الكفار كيف ينظرون إلى أن فعل المرأة بتبرجها وكونها حاسرة عن شعرها، مُبْدِية صدرها، حتى أبانت ذراعيها وشيئاً من ساقيها، يرونه مما تعارف عليه الناس بل وربما أُنْكر على مسلمة تحجبت وغطت وجهها وسترت يدها وساقها ونحو ذلك.

هل اجتماع الناس في بلد من البلدان ولو سميت إسلامية نسبة إلى تعداد المسلمين وإن كانت أنظمتها ضالة ظالمة، هل اجتماع الناس على أمر كهذا يغير مسألة التبرج من كونها حراماً ومنكراً إلى المعروف والحلال؟!

لا وألف لا، بل في كثير من المجتمعات يُعَد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاته تدخلاً وعدوانية وفضولية، بل وربما عوقب الإنسان لأنه أمر أو نهى، وربما تعارف الناس على مثل هذا، فكون الناس تعارفوا على ترك الأمر بالمعروف، واعتبار القيام به فضولية وتدخلاً في شئون الآخرين فإن ذلك لا يغير حقيقته.

إذاً: فالمعروف معروف بكلام الله وكلام رسوله، والمنكر منكر بكلام الله وكلام رسوله في كل زمان وفي كل مكان؛ إذ أن الذي خلق العباد هو الذي أنزل الكتاب، وهو الذي شرع الشرائع، وهو الذي سن الأحكام، وهو الذي أحل الحلال وحرم الحرام: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

إن ربنا جل وعلا يوم أن شرع في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم صنوف وألوان وأحكام الحلال والحرام شرعها للبشر في كل زمان ومكان؛ فلا يتغير المنكر بل يبقى منكراً إلى يوم القيامة، ولا يتغير بل يبقى المعروف إلى يوم القيامة، وقد ضل وجهل وسقم من ظن أن الأمور يمكن أن تتحول من كونها معروفاً إلى منكراً ومن كونها منكرةً إلى المعروف، بل إنما الذي يتغير أنواع من المباحات ربما تكون في بعض الأحيان لمصلحة العباد أن يُمْنَعوا من شيء منها، ولمصلحة العباد أن يؤمروا أو يجبروا على شيء منها؛ مما يقدره العلماء ومما تقتضيه المصالح المرسَلَة والمصالح الشرعية المرعية.

إذاً: فأول قاعدة في هداية هذه السفينة وسيرها المطمئن إلى بر الأمان أن نعرف أن حاجتها إلى إقرار المعروف والعمل به ومعرفة المنكر والحذر منه، والمعروف ما كان معروفاً في الكتاب والسنة، والمنكر ما كان منكراً في الكتاب والسنة، حتى ولو أجمع الناس وأطبقوا على خلافه.

على سبيل المثال: خذ بلية من البلايا، ومصيبة من المصائب، وفتنة من الفتن التي ابتُلينا بها في مجتمعنا هذا، نسأل الله أن يدفع عنا شرورها وغوائلها ومغبتها ألا وهي: قضية الربا؛ إن كثيراً من الناس قد وقعوا في الربا بحجة أنه قد انتشر، أو بحجة أنه لا سلامة منه، أو بحجة أي مقولة تقال، المهم ينبغي أن نعرف أن الربا خطر وأنه من أخطر معاول الهدم والكسر لهذه السفينة، كيف لا والله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:278-279] ؟!

فالربا كبيرة وخطر: (لعن الله آكل الربا ومُوْكِلَه وكاتبه وشاهديه) لا أحد ينازع في هذه القضية حتى لو تعامل بها مَن تعامل، أو ضل بها مَن ضل، أو تأول مَن تأول؛ إذ أن مصيبتنا في هذا الزمان أن أقواماً أخذوا يلتوون ويسلكون أذناب الثعالب في الدخول إلى عقول السُّذَّج والبسطاء والغوغاء يقولون لهم: إن الربا الحرام ليس هو الربا الذي يتعاطاه بعض الناس في هذا الزمان، ولو سُلِّم هذا الأمر وانطلت مثل هذه الحيل لجاء اليوم الذي يقال فيه إن الزنا الذي يوجد في بلاد الغرب ليس الزنا المحرم، وإن الشرك الذي يُعبد فيه أصحاب القبور، ويعتقد فيه بنفع ودفع الأولياء وضرهم ليس هو الشرك المقصود، ولا تستقر حينئذ للأمة أحكام، ولا تُفْهَم شريعة على مثل هذا التأويل أو سوق هذه الحيل والأباطيل.

أيها الأحبة في الله: ما دمنا قد علمنا أن المعروف معروفاً والمنكر منكراً بكلام الله وكلام رسوله، فإن أول ما يتعلق بنا ونحن من ركاب سفينة المجتمع هذه؛ أن نعلم أن من واجبنا الإذعان والانقياد؛ فالأصل في كل مسلم أن يقبل الحق وأن يعمل به؛ والأصل في كل مسلم أن يرد المنكر وأن يزجر عنه دون عناد أو جدال، حتى إن علم الحكمة أو جهلها، إن فهم المقصد أو غاب عنه؛ فواقع المسلم وأصل المسلم أن يقبل الحق وأن يقول فيه: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].

الأصل في المسلم أن يكون مستجيباً منقاداً مخبتاً لأمر الله وأمر رسوله وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] أين نحن من: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] أين نحن من (ليس لنا الخيرة في أمرنا هذا) ما دام الأمر قد ورد من عند الله، والنهي قد جاء من وحي يُوْحَى مثل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينبغي لنا إلا الاستجابة.

إنك تعجب من مسلم تقرر له القاعدة في أن الربا محرم، أو أن هذا الأمر لا يجوز، أو أن هذه المسالة لا تجوز ثم يقول: ولكنهم في الغرب اكتشفوا، ولكنهم في الشرق علموا، ولكنهم وصلوا ودخلوا وقرروا!

بل وأعجب من هذا أن تجد مسلماً يسلِّم.. بل يعتقد.. بل يؤمن.. بل يوقن أن شجرةً بعرض هذا العمود قد كتب عليها أحد علماء الآثار أن هذه الشجرة عمرها ثلاثة آلاف سنة، فيصدق وينقل هذا الخبر للناس مع أن المكتشف ليس عنده سند متصل ممن غرس هذه الشجرة إلى هذا الزمان حتى يُعْرَف أن عمرها ثلاثة آلاف سنة أو ألف أو خمسمائة سنة!

وربما أخرجت أحفورة من الأحافير أو قطعة أثرية من الآثار ويَكتب باحثُها: مائة سنة، أو ثمانمائة سنة، فيسلِّم بعقله مستجيباً، ولو ناقشه أحد لقال: ألا تسلِّم لأهل العلوم في علومهم؟! ألا تسلِّم لأهل الفنون في فنونهم؟! ألا تسلِّم لأهل الطب في طبهم؟! لماذا لا تسلِّم لذوي الاختصاص؟! فإذا قيل له: قال الله وقال رسوله، قال: لماذا؟ وكيف؟ ولعلل! ويمكن! وربما! وأين؟ وأتى لك بجميع أدوات الاستفهام والحذف والجر والإضافة غير مستجيب لأمر الله وأمر رسوله! فأين استجابته بالتصديق الموقن فيما يتعلق بشجرة عمرها ثلاثة آلاف سنة؟! وأين استجابته لقطة أو لاكتشاف أثري بيد واحد من علماء الآثار من استجابته لكلام الله وكلام رسوله؟! شتان ما بين هذا وهذا!

إن من المصائب في هذه السفينة التي نبحر بها ونمخر عباب البحر المتلاطم بالأمواج فيها، أن تجد من أبنائنا من لا يزال ينخر بل يخرق في لوح السفينة، وإذا قيل له: إن مضيك في هذا الخرق يحدث فجوة تغرق هذه السفينة؛ فتجده ينازع ويجادل ويناطح ولا يستجيب أبداً ويستجيب لأمور لا دليل عليها من عقل.

إن القضية تتعلق تعلقاً أصلياً بمسألة العقيدة، وكيف يكون تعلقها؟

انظر أخي الكريم إلى مريض من المرضى يشكو علة من العلل وسقماً من الأسقام وداءًَ من الأدواء، ثم يُذكر له طبيب ماهر بارع خبير بأمراض الأبدان، فتجده يذهب إليه ويبوح بأسراره، ويكشف علته، ويصف أعراضها وحالها وأوصافها فيقول الطبيب: افتح فمك، مد يدك، ارفع رجلك، انزع ثيابك، خذا هذا الشراب، وخذ هذا الدواء، وامتنع من الطعام، وكُلْ هذا الطعام، فتجده مستجيباً حتى لو جُعِل الحديد والإبر في بدنه لقال: هذا من حكمة هذا الطبيب الذي عرف هذا الدواء لذلك الداء في ذلك الموضع في تلك الساعة في ذلك المكان، استجابة لا ينازعها تردد أبداً، لماذا استجاب؟!

لأنه أيقن وعلم علماً لا جهل فيه، ويقيناً لا شك يخالطه؛ أنه ذاهب إلى طبيب ماهر قد سلَّم لعلمه وحكمته فكان نتيجة تسليمه استجابة لا تردد فيها بأي حال من الأحوال، فإذا قيل له: هذا أمر الله وأمر رسوله ربما وجدت تردداً وعناداً، واختلافاً وإصراراً، وتعليلاً وتأويلاً وغير ذلك! أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].