أرشيف المقالات

شرح العقيدة الواسطية (8)

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
شرح العقيدة الواسطية (8)


وقوله: ﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ [المائدة: 1]:
فيه إثبات أنَّ الله له إرادة وأنه يريد سبحانه وتعالى وليسَت إرادته كإرادة المخلوق؛ فإنَّ إرادة المخلوق فيها تَردُّد، وأما إرادة الله فليس فيها تردُّد، إرادة المخلوق قاصرة، وإرادة الخالق عامة كاملة لا نقص فيها.
 

وقوله: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125]:
والإرادة هنا لو أردنا أن نضع بدل الأولى (يقدر) كان المعنى: فمن قدَّر الله هدايته يشرح صدره، وهذه هي الإرادة العامة، ومن قدَّر أن يُضلَّه يجعل صدره ضيقًا حرَجًا فلا يشرح صدره، ولهذا فمِن معاني أهل السنة في القضاء والقدر أن الإرادة إذا كانت بمعنى القضاء والقدر فهي الإرادة العامة، وأن الإرادة إذا كانت بمعنى المحبة فهي الإرادة الخاصة، إذًا فإن في الآيات السابقة إثباتَ الأدلة على أن الله يريد، وأن الله يشاء، والمشيئة هي الإرادة العامة.
 
تنبيه:
الكلام كله - تفصيلاً وتنويعًا واستدلالاً - يتعلَّق بإرادة الله، لا بإرادة غيره سبحانه مِن الرسل ومَن دونهم، إذًا فالإرادة في كتاب الله نوعان؛ هما: إرادة كونية، وإرادة شرعية.
 
إثبات صفة المحبة لله:
وقوله: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، ﴿ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9]، وقوله: ﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 7]، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222].

هذه الآيات فيها إثبات صفة المحبة، وأن الله يُحِبُّ كما أنه يُحَبُّ؛ يُحِبُّ المؤمنين، ويحب أولياءه المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحبُّ المتقين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين جاهدوا في سبيله صفًّا كأنهم بنيان مرصوص، والمحبة من صفات الله الفعلية.
 
أنواع صفات الله من حيث تعلُّقُها:
ولهذا فمِن القواعد في الصفات أن صفات الله على نوعين؛ صفات ذاتية، وصفات فعلية:
1- الصفات الذاتية: سُميت ذاتية لأنها ملازمة لذات الله أزلاً وأبدًا لا تنفكُّ عن الله بحال، تُسمى صفات ذاتية لأنها ملازمة للذات؛ كالعلم، والحياة، والقدرة، والسَّمع، والبصر، والإرادة، والعلوِّ، والعظمة..
ونحوها، فهذه صفات لله مُلازمة.
 
فلا نقول: إنَّ الله في وقت ليس عاليًا أو عالِمًا أو سميعًا، ومن الصفات الذاتية كل صفات اتَّصفت بها ذاته سبحانه وتعالى؛ كوجهِه، ويدَيه، وأصابعه، وقدمه، وساقه التي ثبَت بها أدلةُ الوحيين، فهذه صفات ملازِمة لذات الله تعالى.
 
2- النوع الثاني: صفات فِعلية، وهي الصفات التي يفعلها الله إذا شاء ولا يفعلها إذا لم يشأ، وسُمِّيَت فعلية لارتباطها بفعل الله؛ من ذلك: المحبة؛ فالله يُحبُّ من يشاء، ولهذا فإن المحبة مخصوصة بالمؤمنين وبأوليائه وبمَن يفعل هذه الصفات التي تَستوجِب محبته، كذا صفة الغضب: فيَغضب إذا شاء، ومنه الرضا: يرضى عمن يشاء، ومنه الإتيان: يأتي إذا شاء ويَجيء إذا شاء.
 
وهذا تقسيمات الصفات باعتبار نوعيها:
أنواع الصفات من حيث الأدلة:
هناك تقسيم للصفات باعتبار أدلتها، وهي نوعان:
1- صفات خبرية؛ بمعنى أن مَدارها على الخبر، فلا يُمكن أن تثبت لله إلا من الخبر الصحيح؛ كصفات ذاته، فقد عَلِمْنا أن الله له أصابع من الخبر الصحيح، وكذا أنه جل جلاله يَنزل، فيقال لها: صفات خبَرية.
 
2- وهناك صفات عقلية دلَّ عليها الخبَر، ودلَّ عليها العقل الصحيح المؤيَّد بالفِطرة السليمة، المستمَد من الدليل الصحيح، ومن ذلك: الوجود؛ فإنه لا دليل في القرآن أنَّ الله موجود، لكن نُثبت بأن الله موجود؛ لأنَّ ضد الوجود العدم، واللهُ أخبَرَنا بصفات وجودية لا عدمية.
 
وهذه الصفات التي ربطت بالمحبة - أن الله يُحبُّ أهلها - تَستوجب من المؤمن أن يسعى إلى تكميلها، وإلى تحصيلها لينال محبة الله تعالى، فيكون مؤمنًا، فهذا يحبه الله، أما الكافر المنافق المشرك فيبغضه الله.
 
فالذي يحبه الله يكون مقسطًا عادلاً لا ظالمًا، يكون متقيًا، يكون متطهرًا، توابًا، يسعى إلى تحصيل هذه الأعمال التي ينال منها محبة الله، يتبع رسوله صلى الله عليه وسلم.
 
والآية نزلت في الرد على أهل الكتاب على النصارى لما قالوا: نحن نحبُّ الله، فنزل تكذيبهم بهذه الآية:
وقوله: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 31]، وقوله: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ [المائدة: 54] وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف: 4].
 
فاتِّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستقامة على دينه وسنَّته أعظم أسباب محبة الله، والابتعادُ عن سنَّته ودينِه من أعظم الأسباب في عدم محبَّة الله وإنما استِجلاب غضبِه، ولهذا فمَن يَبتدع بدعة فيَنسبها إلى سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى دينه فإنه استوجب بُغْض الله عليه.
 
وممَّن يُحبهم الله سبحانه: المصلون الذين يُصلُّون صفوفًا، والمجاهدون الذين يجاهدون صفوفًا يسمعون ويطيعون لوليِّ أمرهم، كما أن المصلين يتابعون إمامهم في ركوعه وسجوده وقيامه وقعوده، وهذا مما يحبه الله.
 
ومِن فقه الشيخ أنه ختم الآيات الدالة على إثبات المحبة لله بقوله:
وقوله: ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴾ [البروج: 14].
فالشاهد في قوله: "الودود"؛ فإنَّ الودود كثير المحبة، والله جل جلاله تتعدَّى محبَّته إلى أوليائه بما يستجلبون من أسباب محبته؛ فهذا مصلٍّ، وذاك قائم، وذاك مجاهد، وهذا متعلم في سبيل الله، وهذا واصلٌ لرَحِمه، وهذا متطهِّر، وهذا مستغفر، وهذا ذاكر، فلما تنوَّعت أسباب تحصيلهم محبةَ الله لهم كان من أسماء الله أنه "وَدود"؛ أي: إنه كثير المحبة، مُتودِّد لعباده بما يُحبُّه منهم، وهو الغفور فيغفر لهم تقصيرهم إذا بذلوا من أسباب الطاعة وأسباب الإجابة ما قد لا يُحصِّلون تمامه، فيغفر الله تقصيرهم، ويتجاوز عنهم بتقصيرهم، ولهذا ناسب اقتران هذين الاسمين: "الغفور، الودود"، فنسأل الله مغفرته ومحبته ومودته.






وهو الودودُ يُحبُّهم، ويُحبُّه
أحبابُه، والفضلُ للمَنانِ


وهو الذي جعل المحبة في قلو
بِهمُ وجازاهم بحبٍّ ثانِ






 
﴿ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9]، ﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 7]، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222].

شارك الخبر

المرئيات-١