الكذب


الحلقة مفرغة

هناك حقوق مشتركة بين الزوجين يجب على كل منهما أن يوفي بها تجاه الآخر، وهناك حقوق واجبة على الزوج لزوجته، وحقوق واجبة على الزوجة لزوجها، أوجبها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيجب على كل واحد من الزوجين أن يقوم بما هو عليه للآخر، وأن يتغاضى عن بعض ما هو له، حتى تتم المودة والرحمة بينهما التي أرادها الله تعالى أن تكون.

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

معاشر المؤمنين! لقد من الله على أمة الإسلام بصحوة ويقظة بعد غفوة وغفلة، ومن أبرز ملامح تلك الصحوة هذا الجيل العائد إلى الله من كل جهات الدنيا ومجالاتها، وفي شتى وظائفها وتخصصاتها، ولكن ما أحوج هذا الجيل إلى التفكير قبل العمل، وإلى التثبت قبل النقل، وإلى المناصحة عند الزلل: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46].

واعلموا يا عباد الله! أنه إن لم يتناصح المؤمنون فيما بينهم، فلينتقدنهم العدو، وليشمتن بهم الحاسد، وليجدن المرجف إلى عقر دارهم سبيلا، وإن مما ابتلي به كثيرٌ من المسلمين، الفرح والعجلة بنقل الأخبار، ونشرها في المجالس، وجعلها محور الحديث بين القاعدين، ثم لا تسل بعد ذلك عن الزيادات والحواشي والشروح، والدخول في المقاصد والنيات التي لا يعلمها إلا الله عز وجل.

عباد الله! لقد تعددت وتنوعت وسائل نقل الأخبار والأقوال، فضلاً عن سرعة وصولها، وبات الخبر الذي يصبح في شرق الدنيا، يضحي في مغربها، والمهم في حديثنا اليوم هو ما الذي يصح، وما الذي يثبت من هذا الكم الهائل من المعلومات، وما تتناقله الألسنة، وقديماً قال العلامة ابن خلدون يرحمه الله: فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل، والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتقليد عريق في الآدميين وسليل.

ولما فشا نقل الكلام، ومرض نقل الأخبار، لما فشا هذا الداء العضال في صفوف كثيرٍ من المسلمين إلا من عصم الله ورحم، بتنا نسمع كلاماً ينقل، تثور له ضغائن النفوس، وتتمزق له أواصر الأخوة والمحبة ، ومن قدر على العفو، لم يقدر على حفظ المودة من المنغصات، أو تصدع جدرانها.

فيا أخي:

احرص على حفظ القلوب من الأذى     فرجوعها بعد التنافر يصعب

إن النفوس إذا تنافر ودها     مثل الزجاجة كسرها لا يشعب

واجب التثبت عند نقل الأخبار وسماعها

لقد بلغ الداء في فريق من المسلمين، أن بات تصديقهم للقيل والقال في الرجال والأحوال، أسرع من تسلميهم للأمر عن الله ورسوله، ولو أنهم قالوا للناقل والساعي، ولمن جاء يتملق بالحديث أو يتشدق أو يتفيهق به، لو أنهم قالوا للناقل: من أين لك هذا؟ وما مصدر الخبر؟ لأسقط في يد الناقل، ولرأيت كثيراً من الناس يعتمد في نقله على مثل فعله من القيل والقال، أو يعتمد على الشائعات والمنشورات، أو الاستنتاج والقول باللوازم.

وبعضهم إذا قيل له: من أين لك هذا؟ وما مصدر كلامك؟ وما أصل نقله؟ قال: أخبرني فلان عن فلان عن فلان، ثم لم تلبث أن تسمع وترى سنداً يروي فيه الكذوب عن المدلس، عن صاحب الهوى، عن سيئ الحفظ، عن الصدوق، فلا يبلغ الخبر إلا بعد الزيادة والحذف والاضطراب والخلل والتأويل، ثم يتناقله السرعان من الناس، وما أرسلوا على الناس حافظين، ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به من الكف عن القيل والقال، لكان خيراً لهم وأقوم وأشد تثبيتا.

إن كثيراً من الأخبار التي يتناقلها البعض عن إخوانهم أو أترابهم، وربما هم عند الله خيرٌ منهم، علتها الكذب الصريح الذي لا مكان لمروءة الناقل الكاذب بعده، وحسبك أن الكذب دالةٌ في ضعف الدين، ودليلٌ على خسة الطباع، يقول الله عز وجل: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل:105]، وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن أبي مليكة، أن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذبة فما يزال في نفسه صلى الله عليه وسلم عليه، حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة.

تناقض الكذب مع المصلحة

ولا غرابة يا عباد الله! فمن يحدث في الحديث كذبا، أو يحدث بكذب الحديث، يحتاج إلى كذبٍ آخر، ليؤكد به الكذب الأول، إذ لا يعقل أن يكون مصداق الكذب حقاً وصدقا، وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا) رواه الإمام مسلم وغيره.

وحسبكم يا عباد الله! أن الكذب من علامات النفاق، قال صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) متفق عليه. ومن أنجس الحماقات وأخبثها، من يدعي أنه يكذب لمصلحة الدعوة، أو من يدعي أنه يكذب للإصلاح، أو لإصلاح الأوضاع الفاسدة، وهل عقم الدليل؟ وهل شح النص؟ وهل ضعفت النصوص الصحيحة الصريحة؟ هل عجزت عن الإصلاح حتى نصلح أحوالنا بالكذب؟

نعم. ليس من الكذب الكلام في إصلاح ذات البين وما استثني بالنص، ولكن أن نظن أن الكذب أو التحريف سوف يجر خيراً ومصلحة وحقاً، فهيهات هيهات إنك لا ترجو من الشوك العنب، واليوم ظهرت سرية من أعوان الكذابين والكاذبين، تمارس حرباً نفسية على كل من لم يوافق هؤلاء المفترين، أو على الأقل يسكت عن الحق الذي يعلمه، حتى أصبح بعض العقلاء يعلم في نفسه، كذب بعض ما يدور ويتناقله الغوغاء على الألسنة، ولكن بعض هؤلاء العقلاء يخشى من أعوان المفترين، أن يصنفوه أو ينالوه بكذبة تجعله في عداد المكذوب عليهم، ولذا تراه يتردد عن القول بالحق والنطق به، فيقول: إن سكت سلمت من ألسنتهم وشائعاتهم وأقوالهم، وإن تكلمت لم أنج حتى من الشائعة أو التهمة بأدنى باقعة.

ونقول لكل عاقل: لا تدع الصدق لأنهم يكذبون، ولا تدع الأمانة لأنهم يخونون، ولا تدع الوفاء لأنهم يغدرون، ولا تدع الأمر بالمعروف لأنهم عن المنكر يسكتون، والله المستعان!

ضروب أخرى من الكذب

ومن ضروب الكذب وخبيث أنواعه، تلك الكلمات التي يطلقها الكاذبون غير جريئين على الصراحة، ورمي المكذوب عليه صراحة، ولكن يلجئون إلى إثارة الشبهات والشكوك حول هذا الذي يكذب عليه، حتى تجتمع من الأحوال، ومختلف المواقف المرتبة على نسقٍ معين، ما يجعلون السامع ينطق به -أي: ينطق بالكذب- أو يعقد على الكذبة التي هابوا وخافوا من النطق بها صراحة.

إنه لا يجوز أن نكذب على أحد، حتى على أعدائنا من ذوي المذاهب الضالة والملل المنحرفة، ولو كان عدواً إلا ما استثني بالدليل، من الكذب حال الحرب والمعركة، أما الكذب والافتراء حتى على ذوي الأهواء والمذاهب الضالة فإنه لا يجوز، فما بالك بمن يشاركوننا في الإسلام والإيمان والإصلاح، إنه لا يجوز أن نكذب، ولماذا نكذب وعندنا من الحق والدليل ما يكفي لهتك أستار الأعداء ونبذ أخبارهم، دون اللجوء إلى الافتراء.

ومن أنواع الكذب الذي يسري على عقول كثير من المسلمين، ذكر بعض الحقائق وإخفاء بعضها الآخر، فترى الكذوب يسمعك من الرواية فصولاً لا تدع للسامع مجالاً ينجو فيه من تغير حاله ورأيه على المكذوب عليه، ولو أن السامع أسمع الواقعة كلها، لانقلب السامع مؤيداً ونصيراً ومعيناً، وللكاذب عدواً.

ولكن يا عباد الله! إذا زلت العقول عن المنهج، وعن الدليل، وعن الحق، ومالت إلى الهوى، فلا تسأل عن الهلكة: فإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص:50] إن كثيراً من الذين يكذب عليهم، لو أسمعوا الحقائق على جملتها وتفاصيلها، لانقلب السامع مؤيداً ونصيراً للمكذوب عليه، بل وانقلب السامع معيناً لمن جاء الكاذب يتزلف بعرضه، أو يسعى في إفساد سمعته، أو كما يقال إحراق أوراقه.

روى الإمام أحمد وأبو داود بسندٍ صحيح، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في أمره، ومن مات وعليه دين، فليس بالدينار والدرهم، ولكن بالحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه، لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال وليس بخارج).. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:15-16].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

لقد بلغ الداء في فريق من المسلمين، أن بات تصديقهم للقيل والقال في الرجال والأحوال، أسرع من تسلميهم للأمر عن الله ورسوله، ولو أنهم قالوا للناقل والساعي، ولمن جاء يتملق بالحديث أو يتشدق أو يتفيهق به، لو أنهم قالوا للناقل: من أين لك هذا؟ وما مصدر الخبر؟ لأسقط في يد الناقل، ولرأيت كثيراً من الناس يعتمد في نقله على مثل فعله من القيل والقال، أو يعتمد على الشائعات والمنشورات، أو الاستنتاج والقول باللوازم.

وبعضهم إذا قيل له: من أين لك هذا؟ وما مصدر كلامك؟ وما أصل نقله؟ قال: أخبرني فلان عن فلان عن فلان، ثم لم تلبث أن تسمع وترى سنداً يروي فيه الكذوب عن المدلس، عن صاحب الهوى، عن سيئ الحفظ، عن الصدوق، فلا يبلغ الخبر إلا بعد الزيادة والحذف والاضطراب والخلل والتأويل، ثم يتناقله السرعان من الناس، وما أرسلوا على الناس حافظين، ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به من الكف عن القيل والقال، لكان خيراً لهم وأقوم وأشد تثبيتا.

إن كثيراً من الأخبار التي يتناقلها البعض عن إخوانهم أو أترابهم، وربما هم عند الله خيرٌ منهم، علتها الكذب الصريح الذي لا مكان لمروءة الناقل الكاذب بعده، وحسبك أن الكذب دالةٌ في ضعف الدين، ودليلٌ على خسة الطباع، يقول الله عز وجل: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل:105]، وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن أبي مليكة، أن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذبة فما يزال في نفسه صلى الله عليه وسلم عليه، حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2802 استماع
حقوق ولاة الأمر 2654 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2650 استماع
توديع العام المنصرم 2645 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2550 استماع
من هنا نبدأ 2494 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2459 استماع
أنواع الجلساء 2459 استماع
الغفلة في حياة الناس 2435 استماع
إلى الله المشتكى 2434 استماع