حكم القذف وصوره والترهيب من الوقوع فيه
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
حكم القذفوصوره، والترهيب من الوقوع فيه
• تعريف القذف:
يقال قذف بالحجارة: أي رمى بها، والتقاذف: يعني الترامي، وهو في الأصل رميُ الشيء بقوة، ثم استعمل في الرمي بالزنا أو ما كان في معناه.
• حكم القذف:
عدَّ ابنُ حجر من الكبائر قذفَ المحصن أو المحصنة بزنًى أو لواط، أو السكوت على ذلك، وقال: "أجمع العلماء على أن المراد من الرمي في الآية الكريمة: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ...
﴾ [النور: 23] هو الرمي بالزنى، وهو يشمل الرمي باللواط كقوله: "يا زانية، أو بغيَّة، أو قحبة"، لها أو لزوجها؛ كقوله: "يا زوج القحبة"، أو لولدها؛ كـ"يا ولد القحبة..."، ثم قال: عد القذف كبيرة هو ما اتفقوا عليه، لما نصَّت عليه الآيات عن لعن فاعله في الدنيا والآخرة، وهذا من أقبح الوعيد وأشده".
اهـ بتصرف واختصار.
(الزواجر: ص 433)
• الترهيب من الوقوع في القذف:
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 4].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية السابقة:
هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، ثم قال: "وهي عامة في تحريم قذف كل محصنة، ولعنة مَن فعل ذلك في الدنيا والآخرة" (تفسير ابن كثير: 3/ 227) بتصرف.
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النور: 23 -24].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11].
وقد نزلت هذه الآيات في عبدالله بن أبي بن سلول عندما تكلَّم هو ومَن خاض معه في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها (والحديث عن البخاري ومسلم).
• وكانت الرسل وقبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم يحذرون من قذف المحصنات وينهون عن ذلك.
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن صفوانَ بن عَسَّالٍ رضي الله عنه:
"أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله، فقال: لا تقل نبي؛ فإنه إن سمعها تقول نبي كانت له أربعة أعين، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ [الإسراء: 101]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفرُّوا من الزحف))، شك شعبة ((وعليكم يا معشر اليهود خاصة، لا تَعْدُوا في السبت))، فقَبَّلَا يديه ورجليه، وقالا: نشهد أنك نبي، قال: ((فما يمنعكما أن تُسْلِما؟))، قالا: إنَّ داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود"!
• وهكذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من بداية دعوته ينهى عن قذف المحصنات؛ ففي الحديث الطويل الذي أخرجه الإمام أحمد عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي..." الحديث، وفيه: "...
أن جعفر بن عبدالمطلب قال للنجاشي: أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القويُّ منَّا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منَّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله؛ لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان.
وأمرَنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، قال: فعدَّد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنَّا..."؛ الحديث، (قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في "تحقيقه على المسند": إسناده صحيح).
• ومع رحيل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدنيا أكَّد أيضًا على هذا الأمر؛ فقد أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم بمنى: ((أتدرون أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن هذا يوم حرام، أتدرون أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: بلد حرام، أتدرون أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهر حرام، قال: فإن الله حرَّم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)).
• قال الحافظ ابن حجر رحمه الله كما في "فتح الباري" (10/ 464):
"والغرض من هذا الحديث بيان تحريم العِرض - الذي هو موضع المدح والذم من الشخص - أعم مِن أن يكون في نفسه، أو نسبه، أو حسبه" اهـ.
• وأخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمه، وعِرضه، وماله)).
وبين البداية من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم والنهاية كان النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه يَنهى عن القذف ويُحذِّر منه.
• بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم قذف المحصنات من الموبقات؛ فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجتنبوا السبع الموبقات))[1]: قيل: يا رسول الله، وما هُنَّ؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات[2] الغافلات[3] المؤمنات)).
قال أبو سلمة بن عبدالرحمن رحمه الله: "قصف المحصنات من الموجبات - أي: من موجبات النار - ثم تلا قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 23]؛ (الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية: ص 50).
• ومن صور القذف: الطعن في الأنساب:
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]، وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اثنتان في الناس هما بهما كفر[4]: الطعن في النَّسَب، والنياحة على الميت[5])).
• مَن يخوض في أعراض الناس يأتي يوم القيامة مفلسًا من الحسنات: ودليل ذلك ما أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون ما المُفْلِس؟))[6] قالوا: المُفْلِس فينا مَن لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المُفْلِس من أُمَّتِي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه؛ أخذ من خطاياهم؛ فطرحت عليه، ثم طرح في النار)).
• ومَن يتَّهم الناس بما هم منه براء فله عذاب شديد:
فقد أخرج الطبراني من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ذكَر امرًأ بشيء ليس فيه ليعيبه به[7]؛ حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه[8])).
وهذا الحديث وإن كان فيه ضعف، إلا أنه يشهد له الرواية الصحيحة وهي عند الطبراني أيضًا وفيها: ((أيما رجل أشاع عن رجلٍ مسلمٍ بكلمة وهو منها بريءٌ يَشينه بها في الدنيا؛ كان حق على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال)).
وفى رواية أخرى صحيحة عند أبي داود عن معاذ بن أنس الجُهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن حمى مؤمنًا من منافق - أراه قال - بعث الله ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومَن رمى مسلمًا بشيء يريد شينه به؛ حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال))؛ (قال الألباني في المشكاة: حسن).
[1] الموبقات؛ يعني: المهلكات.
[2] المحصِنات: بكسر الصاد وفتحها، والمراد بالمحصنات: هن المتزوجات العفيفات الطاهرات، وقد ورد الإحصان في الشرع على خمسة أقسام: العفَّة، والإسلام، والنكاح، والتزويج، والحرية.
[3] الغافلات؛ أي: الغافلات عن الفواحش وما قُذفن به.
[4] كفر؛ أي: من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية.
[5] النياحة: هي رفع الصوت بالبكاء، وما يلحقه من لطم الخدود وشق الجيوب، وتعداد أوصاف الميت.
[6] ما المفلس: وردت هكذا بلفظ (ما) وهي في عرف اللغة العربية لغير العاقل، وكان الأصل أن يقال: ((مَن المفلس)) وقد تحل ما" محل "من" لغرض، وكأن المفلس هنا قد فقد العقل لعدم استعماله.
[7] ليعيبه به: أي ليذكر سوءاته ويعد فضائحه ويشينه ويقدح فيه.
[8] المعنى أن يستمر عذابه مدة حتى يزيل هذه العيوب منه، ولن يزيل شيئًا منها؛ لأنها غير موجودة أصلاً.