الحج المبرور


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن الله جل وعلا قد أنعم عليكم بنعمة الإسلام، وفضلكم على كثير من الأمم تفضيلاً، وشرع لكم في أركان دينكم حج بيته العظيم الذي جعله مثابةً للناس وأمناً، وأوجب على عباده المسلمين حج بيته الحرام مرةً واحدةً في العمر، وجعل ذلك سبباً لطهارة القلوب ومغفرة الذنوب، ففي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) من سره أن يقدم عملاً يكون سبباً لتكفير الذنوب ونيل دار الخلود والنعيم، فليبادر إلى حج بيت الله الحرام.

وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) بل لقد عدَّه صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال حينما سئل: (أي العمل أفضل؟ فقال: إيمانٌ بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) ومن عظيم رحمة الرب الكريم بعباده أن فرض الحج على العباد مرة واحدة، وما زاد فهو قربة وتطوع، ولم يجعل فرض الحج دائماً في كل عام، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا، فقال رجل -وفي رواية: أنه الأقرع بن حابس-: أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم، الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع) رواه أحمد والنسائي.

عباد الله: إن من الأمور الداعية إلى العجب والدهشة والغرابة ما يقع فيه كثير من المسلمين -وبالأخص بعض شباب المسلمين- من تأجيلهم الحج سنة بعد أخرى، وهم في أمنٍ، قد ملكوا الزاد والراحلة، والكثير منهم مقيم قريب من بيت الله الحرام، والأسوأ من ذلك أن ترى بعضهم قد زار بلاد الشرق والغرب من دول أوروبا وأمريكا ، وأنفق فيها أموالاً طائلةً، وأوقاتاً طويلةً، ومع ذلك لم يحج فرضه، ولم يقم بالعبادة الجليلة الواجبة، تلك العبادة التي لا تحتاج إلى وقتٍ طويل، أو أموال طائلة، فالحذر الحذر يا شباب المسلمين من هذا التساهل.

أما يخاف أولئك الذين يؤجلون الحج ويسوفونه؟ أما يخشون أن تصرعهم المنايا، أو تخطفهم سهام المنون وهم بين أظهر الكفار غافلين عن أداء فرض الله؟ أما يخافون المروق من الدين بنص وعيد المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله: (من ملك زاداً وراحلةً تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً) رواه الترمذي .

يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من له جدة ولم يحج، فيضربوا عليهم الفدية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين].

فبادروا بالحج وتعجلوا يا من لم تقضوا فرضكم، ومن حج وابتغى التقرب في الزيادة، فليجتهد في حسن الأداء, والبشارة له بعد ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، والحج المبرور ليس له ثوابٌ إلا الجنة) فمن استطاع الحج بوجود الزاد والراحلة، فليبادر وليتعجل إذا كان حراً بالغاً عاقلاً، والمرأة كذلك إذا وجدت محرماً زوجاً كان أو من تحرم عليه على التأبيد بسبب نسب فليبادر كلٌ بقضاء فرضه، واحرصوا على قضاء المرأة فرضها، وليحرص من هي في ذمته على ذلك، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

معاشر المؤمنين: اعلموا أنه لا يجوز لأحدٍ أن يحج عن غيره قبل أن يحج حجة الإسلام عن نفسه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً بالحج يقول: لبيك عن شبرمة، فقال صلى الله عليه وسلم: ومن شبرمة ؟ فقال: أخٌ لي، أو قريب، فقال صلى الله عليه وسلم: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة) رواه أبو داود وابن ماجة.

ومن عجز عن أداء فريضة الحج لكبرٍ أو مرضٍ لا يرجى برؤه، لزمه إقامة من ينوب عنه لأداء فرضه، ففي الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سألته امرأةٌ من خثعم، قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم).

وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، قال: (جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه، أفأحج عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أنت أكبر ولده؟ قال: نعم، قال: فاحجج عنه) رواه الإمام أحمد.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله منزل الكتاب، ومنشئ السحاب، وهازم الأحزاب، وخالق الخلق من تراب، لا إله إلا هو عليه توكلنا وإليه المناب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.

معاشر المؤمنين: ينبغي لمن جمع الهمة والقصد لحج بيت الله الحرام أن يراعي آداباً وواجبات في سفره لهذه العبادة الجليلة.

التوبة الصادقة النصوح

أول ما ينبغي لمن أراد الحج أن يبادر بالتوبة الصادقة النصوح من كل المعاصي والمحرمات، وأن يجتهد بإبراء ذمته من مظالم الخلق وحقوقهم عليه.

أن يكون المال حلالاً

وتذكروا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه : (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!!).

أنى يستجاب لمن تزود لهذه الطاعة من مال حرام؟! أو تزود لها من مال فيه ربا، أو مال فيه خيانة حتى ناله وجلبه على نفسه؟!

فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أنها عبادة جليلة لابد لها من زاد نقي طيب، والله لا يقبل إلا الطيب، في يوم عرفة آنذاك نظر أحد الصحابة إلى الحاج، قال: [إن الراكب كثير، فقال ابن عمر: ولكن الحاج قليل] فاعجبوا يا عباد الله من هذه الجموع العظيمة.

نسأل الله ألا يردها خائبة، وأن يكتب لنا حجاًً مع الحاجين، وفضلاً مع أصحاب الثواب والنعيم.

الإكثار من النفقة لمواساة المحتاجين

معاشر المؤمنين: كما ينبغي لمن أراد الحج أن يكثر من النفقة والزاد، ليواسي المحتاجين منه، وقبل ذلك كله أن تكون النفقة -كما قلنا- من مالٍ حلال لم تكدره الشوائب من المحرمات والشبهات.

إذا حججت بمالٍ أصله سحتٌ     فما حججت ولكن حجت العير

وليكن المسلم طيب النفس بما أنفق؛ ليكون أقرب إلى القبول والإجابة.

تعلم كيفية الحج

كما يجب على المسلم أن يتعلم كيفية الحج، وليحذر من قول الكثير: سأحج مع جماعة وما سيفعلونه أفعله، إذ إن هذا دليل الجهل والإصرار عليه، بل والواجب على المسلم أن يتعلم كيفية أداء النسك، وعليه أن يتعلم كيفية أداء العبادة التي يؤديها، لا أن يفعلها تقليداً كما يفعلها غيره، ومن الجميل المناسب أن يصحب الحاج معه كتيباً جامعاً لأحكام المناسك، وأن يديم مطالعته ومدارسته مع غيره ليتفقه في أحكام الحج، واعلموا أن الكتب في هذا الموضوع كثيرة، والكتاب الذي ننصح به أنفسنا وإخواننا هو كتاب التحقيق والإيضاح لمسائل الحج والعمرة على ضوء الكتاب والسنة لسماحة مفتي هذه البلاد وشيخها/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أطال الله بقاءه، ومتعه بالصحة والعافية، ونفع به الإسلام والمسلمين.

الاجتهاد في تحصيل الرفقة الصالحة

ينبغي لمن عزم على الحج أن يجتهد في تحصيل الرفقة الصالحة الرائدة للخير، المتمسكة بأحكام الشريعة؛ لتكون عوناً له على أداء النسك، وإن تيسر الحج في رفقة فيهم العلماء، أو طلبة العلم المدركون لأحكام الحج فيا حبذا ذلك؛ لأجل التواصي بالحق وحفظ آداب المناسك، والبعد عما يطرأ على المسافرين من مساوئ الأخلاق والتساهل في أمور الدين، وعلى الحاج مع رفقته أن يحرص على خدمتهم، وأن يحرص على رضاهم، وأن يتحمل عنهم شيئاً من المشقة، لا كما يفعله بعض ضعاف النفوس إذا ذهبوا مع رفقة، كانوا الجالسين وغيرهم يخدمونهم، وكم من رفقة تفرقت وعادت بالشحناء والعداوة من بينها من جراء أنانية بعضهم، والأثرة وحب الزاد.

عباد الله: الحذر الحذر من مصاحبة الجهال والسفهاء، والعصاة المصرين.. الحذر الحذر من مصاحبتهم في سفر الحج، فإن هؤلاء لا يسلم من خالطهم في الغالب من الإثم واللغو في الحج.

الإخلاص لله تعالى

أما الأمر المهم في هذه الفريضة لمن أراد أن يؤدي فرضه ورغب التزود والنافلة، فهو النية الصادقة الخالصة، إن من الناس من يحج ليسمى حاجاً، إذا عاد إلى بلاده، فلا ينادى إلا بها، ومنهم من يسافر ويفاخر بحجاته، وإذا جلس في مجلس قال: حججت ست عشرة حجة، أو ثماني عشرة حجة، وبعضهم إذا تكلم غيره، قال: أنا أكثر منك في حجاتي، فمن كانت هذه حاله، فهو على خطر عظيم في حبوط العمل وسقوطه في الرياء عياذاً بالله من ذلك.

أيها المسلم: احرص على التزود من فعل الخيرات، والمحافظة على الواجبات، فإن ذلك من أعظم القربات، وما زاد عن الفريضة فهو نافلة، فلا يضيع الواجب بالنافلة.

اتقوا الله في أداء ما فرضه عليكم، وتقربوا إليه بذلك، ولا تطلبوا بذلك سوى وجه الله.

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يأتي على الناس زمان يحج أمتي نزهة، وأوساطهم للتجارة، وقراؤهم للرياء والسمعة، وفقراؤهم للمسألة) نعوذ بالله من حال أولئك أجمعين.

الابتعاد عن المعاصي والمنكرات

معاشر المؤمنين: إن بعض الحجاج-منَّ الله علينا وعليهم بالهداية- إذا عزموا على الحج كأنهم عازمون على سفر ترفيهي، بل وإن الكثير منهم من يعمد إلى ما يعصي الله به، ليذهب به إلى المشاعر وليتنقل به بين المناسك، كثير منهم يأخذ معه تلفازاً، وكأن المكان ليس لذكر الله والاستغفار والتوبة والإنابة، وكثير منهم يريد أن يقضي ليالي التشريق حتى ينتهي من هذا الموسم ويعود، وهذا جهل عظيم، بل إنه قد يظن أنه ذاهب إلى عبادة جليلة، فيعود بأوزار مضاعفة، لأنه لم يحترم حرمة الزمان والمكان الذي هو فيه.

بعضهم يذهب بالتلفاز معه إلى هناك، ولا يتورع أن يرى كل ما يعرض فيه، وبعضهم تسمع الأغاني في خيمته، وبعضهم تشم رائحة الدخان من مكانه، وكثير منهم ترى الكاميرا قد علقها على صدره يأخذ لهؤلاء صورة للذكرى هنا، وصورة للذكرى هناك، وصورة عند هذا المكان، وصورة عند غيره، متى كان الحج ذكريات في الصور والمنكرات والملاهي؟

يا عباد الله: ينبغي لمن عزم على الحج أن يكون حريصاً على خلو حجه من المنكرات والمخالفات، ومن غلب على ظنه أنه سيقع في كثير من التساهل والتجاوز إما بسبب ضعف نفسه، أو بسبب رفقة هو يخالطها، فالأولى له أن يتصدق بنفقة حجه، ولا حج حجاً هذه حاله! لأن الله جل وعلا طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، ولا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً، فلا تختلط الأعمال الصالحة بالمعاصي والمنكرات.

أول ما ينبغي لمن أراد الحج أن يبادر بالتوبة الصادقة النصوح من كل المعاصي والمحرمات، وأن يجتهد بإبراء ذمته من مظالم الخلق وحقوقهم عليه.