شرح بلوغ المرام - كتاب الجنائز - حديث 586-590


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه سيدنا، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

رقم هذا الدرس مائة وثمان وتسعون من أمالي شرح بلوغ المرام، وهذا يوم الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى من سنة: (1427هـ) ورقم الحديث الذي وقفنا عنده (564)، وهو حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على جنائزنا أربعاً، ويقرأ بفاتحة الكتاب في الأولى ).

والمصنف -رحمه الله- عزا هذا الحديث للشافعي، والشافعي قد خرجه في كتاب الأم له، وهو مصنفه الفقهي المطبوع، وكذلك خرج هذا الحديث الإمام البيهقي في سننه، والإمام البيهقي كما هو معروف أيضاً هو من الشافعية، وعني بفقه الإمام الشافعي ونصوصه وأدلته، وكذلك خرجه الحاكم في مستدركه. ‏

الحكم على الحديث

ولكن في سند هذا الحديث علة قادحة، فإن فيه إبراهيم بن محمد المدني وهو شيخ الشافعي، والشافعي أحياناً لا يذكره وإنما يقول: حدثني الثقة ولا يسميه، بينما إبراهيم بن محمد المدني هذا متروك عند كافة علماء الحديث، وقد نص على أنه كذاب جمع من الأئمة كالإمام أحمد وعلي بن المديني ويحيى بن معين والدارقطني وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم الرازي وغيرهم من الأئمة.

وهذا حقيقة من العجائب؛ لأن الإمام الشافعي رضي الله عنه إمام جليل القدر أولاً، وهو ثقة أمين، وهو يروي عن رجل .. يروي عن إبراهيم بن محمد ويسميه الثقة، ويأخذ عنه، ويقول: إنه ثقة في الأحكام والحديث، والرجل بهذه المنزلة عند أهل العلم وأهل الحديث، فهذا أمر غريب؛ لأن الإمام الشافعي -كما قلت- ثقة، مأمون، عظيم القدر، عظيم الشأن في الإسلام وهو أحد الأئمة العظام، وهو رجل نبيه، ويروي عن إبراهيم بن محمد المدني هذا ويسميه الثقة، أحياناً لا يسميه لا يقول: إبراهيم بن محمد وإنما يقول: حدثنا الثقة، ولهذا درج العلماء على أن الإمام الشافعي إذا قال: حدثنا الثقة؛ فإنه يعني إبراهيم بن محمد هذا وهو وضّاع، ليس فقط أنه ضعيف أو مغفل وإنما كذاب، فضلاً عن أنه متهم بعدد من البدع كبدعة الإرجاء، أنه مرجئ وجهمي وقدري، وفيه بلاء كثير.

فكيف يخرج.. كيف ينفصل الإنسان عن مثل هذا؟

لا ينفصل الإنسان عن مثل هذا إلا إذا كان عنده معرفة بسعة العذر للناس، أن يكون عنده قدر من العذر والتفهم لمواقف الناس، الشافعي رضي الله عنه لما قال هذا قاله عن معرفة وعن اقتناع، ولكن لا يلزم أن يكون صواباً، أبى الله سبحانه وتعالى أن يكون الصواب المطلق إلا لكتابه، وأن تكون العصمة إلا لرسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام.

فهذا لا يحملنا على أننا نقبل رواية إبراهيم بن محمد ونقلد الشافعي، وقد يقع للبيهقي شيء من هذا؛ فإنه تكلف الاعتذار عن إبراهيم بن محمد وتوثيقه، بينما الأئمة مطبقون على أنه كذاب ومرجئ ومبتدع وجهمي وكل بلاء فيه -كما يقولون-.

فلا هذا يحملنا على أن نوثق إبراهيم ونأخذ مروياته تقليداً للشافعي، ولا هذا أيضاً ينزل من قدر وقيمة ومقام الإمام الشافعي فإنه إمام مجتهد، وهذا بينه وبين الله سبحانه وتعالى، ولا يداخلنا ريب ولا شك أنه ناصح لله ولرسوله ودينه، ولو يعلم أنه كذاب ما أخذ عنه شيئاً، فلا بد أن يتعلم الطالب من مثل هذه المواقف والعبر؛ لأن بعض الناس قد يخفى عليهم أشياء، يعني يظنون أن العلم في الشريعة مثل علم الحساب والرياضيات: 1+1=2، لا، هو علم فيه صنعة وفيه إتقان وفيه اختيار وانتقاء واجتهاد، وعذر وتأويل وخطأ وصواب، هذا علم الشريعة؛ ولذلك نقول: إن الفقه ليس هو الدين، الدين من عند الله سبحانه وتعالى ولا يعرض له خطأ، وإنما الفقه هو اجتهاد الناس، ويخطئون قليلاً ويصيبون كثيراً خصوصاً الأئمة الكبار، المهم هذا إبراهيم -كما ذكرنا-.

سبب إيراد الحافظ ابن حجر لحديث جابر

ولكن مسألة الحديث التي ساق المؤلف رحمه الله الحديث من أجلها هي مسألة: قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وحيث إن الحديث يعتبر متروكاً؛ ولذلك ننتقل للحديث الذي بعده ونبحث المسألة فيه حتى لا نربط بحث المسألة بحديث ضعيف جداً أو موضوع.

وأود أن أشير هنا إلى نقطة أخرى وهي: أن الإمام ابن حجر رحمه الله إمام شافعي، ولعله لذلك ساق هذا الحديث.

طيب! لماذا ساق الحديث وهو بهذه الدرجة ولم يشر إليه؟ هذا له أجوبة.

أيضاً ينبغي أن يكون عندنا عذر للحافظ ابن حجر، هؤلاء الناس يهمهم دينهم وتهمهم آخرتهم لا يريدون أن يغشوا المؤمنين، ولكن يكون للإنسان اجتهاد بينه وبين الله سبحانه وتعالى، فمن اجتهاده: أنه قد يوافق -كما قلنا- الشافعي على أن هذا الرجل قد لا يرى أنه ثقة ولكن يرى أنه ضعيف وأن حديثه قد ينجبر بغيره، وهذا وجد من ذهب إليه كما ذكرت أن البيهقي يميل إلى هذا، أن يكون الراوي ضعيفاً ولكنه قد ينجبر برواية غيره من الرواة، هذا جواب؛ ولذلك الحافظ ابن حجر بعدما ساق الحديث هذا ساق بعده حديث ابن عباس رضي الله عنه في المسألة ذاتها.

الجواب الثاني: أن يكون الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ساق هذا الحديث لأنه شافعي، ويدرس في المدارس الشافعية، ويعرف أن مثل هذا الحديث يكون متداولاً عند طلبة العلم في مدارسهم ومجالسهم؛ لأنهم شافعية ويقرءون كتاب الأم ويعرفون هذا الحديث، ولذلك يناسب أن يساق في هذا المقام، ولكن كان الأولى في مثل هذا المقام أن يبين ضعف الحديث ويشير إليه كما هي عادته رحمه الله، فإن ابن حجر غالباً في البلوغ إذا ذكر حديثاً ضعيفاً أشار إلى ضعفه، خصوصاً إذا كان شديد الضعف على ما هو متبع.

ولكن في سند هذا الحديث علة قادحة، فإن فيه إبراهيم بن محمد المدني وهو شيخ الشافعي، والشافعي أحياناً لا يذكره وإنما يقول: حدثني الثقة ولا يسميه، بينما إبراهيم بن محمد المدني هذا متروك عند كافة علماء الحديث، وقد نص على أنه كذاب جمع من الأئمة كالإمام أحمد وعلي بن المديني ويحيى بن معين والدارقطني وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم الرازي وغيرهم من الأئمة.

وهذا حقيقة من العجائب؛ لأن الإمام الشافعي رضي الله عنه إمام جليل القدر أولاً، وهو ثقة أمين، وهو يروي عن رجل .. يروي عن إبراهيم بن محمد ويسميه الثقة، ويأخذ عنه، ويقول: إنه ثقة في الأحكام والحديث، والرجل بهذه المنزلة عند أهل العلم وأهل الحديث، فهذا أمر غريب؛ لأن الإمام الشافعي -كما قلت- ثقة، مأمون، عظيم القدر، عظيم الشأن في الإسلام وهو أحد الأئمة العظام، وهو رجل نبيه، ويروي عن إبراهيم بن محمد المدني هذا ويسميه الثقة، أحياناً لا يسميه لا يقول: إبراهيم بن محمد وإنما يقول: حدثنا الثقة، ولهذا درج العلماء على أن الإمام الشافعي إذا قال: حدثنا الثقة؛ فإنه يعني إبراهيم بن محمد هذا وهو وضّاع، ليس فقط أنه ضعيف أو مغفل وإنما كذاب، فضلاً عن أنه متهم بعدد من البدع كبدعة الإرجاء، أنه مرجئ وجهمي وقدري، وفيه بلاء كثير.

فكيف يخرج.. كيف ينفصل الإنسان عن مثل هذا؟

لا ينفصل الإنسان عن مثل هذا إلا إذا كان عنده معرفة بسعة العذر للناس، أن يكون عنده قدر من العذر والتفهم لمواقف الناس، الشافعي رضي الله عنه لما قال هذا قاله عن معرفة وعن اقتناع، ولكن لا يلزم أن يكون صواباً، أبى الله سبحانه وتعالى أن يكون الصواب المطلق إلا لكتابه، وأن تكون العصمة إلا لرسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام.

فهذا لا يحملنا على أننا نقبل رواية إبراهيم بن محمد ونقلد الشافعي، وقد يقع للبيهقي شيء من هذا؛ فإنه تكلف الاعتذار عن إبراهيم بن محمد وتوثيقه، بينما الأئمة مطبقون على أنه كذاب ومرجئ ومبتدع وجهمي وكل بلاء فيه -كما يقولون-.

فلا هذا يحملنا على أن نوثق إبراهيم ونأخذ مروياته تقليداً للشافعي، ولا هذا أيضاً ينزل من قدر وقيمة ومقام الإمام الشافعي فإنه إمام مجتهد، وهذا بينه وبين الله سبحانه وتعالى، ولا يداخلنا ريب ولا شك أنه ناصح لله ولرسوله ودينه، ولو يعلم أنه كذاب ما أخذ عنه شيئاً، فلا بد أن يتعلم الطالب من مثل هذه المواقف والعبر؛ لأن بعض الناس قد يخفى عليهم أشياء، يعني يظنون أن العلم في الشريعة مثل علم الحساب والرياضيات: 1+1=2، لا، هو علم فيه صنعة وفيه إتقان وفيه اختيار وانتقاء واجتهاد، وعذر وتأويل وخطأ وصواب، هذا علم الشريعة؛ ولذلك نقول: إن الفقه ليس هو الدين، الدين من عند الله سبحانه وتعالى ولا يعرض له خطأ، وإنما الفقه هو اجتهاد الناس، ويخطئون قليلاً ويصيبون كثيراً خصوصاً الأئمة الكبار، المهم هذا إبراهيم -كما ذكرنا-.

ولكن مسألة الحديث التي ساق المؤلف رحمه الله الحديث من أجلها هي مسألة: قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وحيث إن الحديث يعتبر متروكاً؛ ولذلك ننتقل للحديث الذي بعده ونبحث المسألة فيه حتى لا نربط بحث المسألة بحديث ضعيف جداً أو موضوع.

وأود أن أشير هنا إلى نقطة أخرى وهي: أن الإمام ابن حجر رحمه الله إمام شافعي، ولعله لذلك ساق هذا الحديث.

طيب! لماذا ساق الحديث وهو بهذه الدرجة ولم يشر إليه؟ هذا له أجوبة.

أيضاً ينبغي أن يكون عندنا عذر للحافظ ابن حجر، هؤلاء الناس يهمهم دينهم وتهمهم آخرتهم لا يريدون أن يغشوا المؤمنين، ولكن يكون للإنسان اجتهاد بينه وبين الله سبحانه وتعالى، فمن اجتهاده: أنه قد يوافق -كما قلنا- الشافعي على أن هذا الرجل قد لا يرى أنه ثقة ولكن يرى أنه ضعيف وأن حديثه قد ينجبر بغيره، وهذا وجد من ذهب إليه كما ذكرت أن البيهقي يميل إلى هذا، أن يكون الراوي ضعيفاً ولكنه قد ينجبر برواية غيره من الرواة، هذا جواب؛ ولذلك الحافظ ابن حجر بعدما ساق الحديث هذا ساق بعده حديث ابن عباس رضي الله عنه في المسألة ذاتها.

الجواب الثاني: أن يكون الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ساق هذا الحديث لأنه شافعي، ويدرس في المدارس الشافعية، ويعرف أن مثل هذا الحديث يكون متداولاً عند طلبة العلم في مدارسهم ومجالسهم؛ لأنهم شافعية ويقرءون كتاب الأم ويعرفون هذا الحديث، ولذلك يناسب أن يساق في هذا المقام، ولكن كان الأولى في مثل هذا المقام أن يبين ضعف الحديث ويشير إليه كما هي عادته رحمه الله، فإن ابن حجر غالباً في البلوغ إذا ذكر حديثاً ضعيفاً أشار إلى ضعفه، خصوصاً إذا كان شديد الضعف على ما هو متبع.

الحديث رقم (565) وهو الذي بعده: عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: (صليت خلف ابن عباس رضي الله عنه على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة).

وما أحلى أن يسوق المصنف هذا الحديث ثم يقول لك: رواه البخاري، يعني: أوردك على عج -كما يقولون- فلا نحتاج إبراهيم بن محمد المدني ولا غيره، هذا حديث رواه البخاري .

تخريج الحديث

أولاً: فيما يتعلق بتخريج الحديث: خرجه البخاري في صحيحه كما أشار المصنف رحمه الله في كتاب الجنائز، باب: قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة. وفي الباب نفسه خرجه أيضاً الترمذي في سننه وأبو داود والنسائي والحاكم في المستدرك وابن حبان والبيهقي والدارقطني .. وغيرهم في كتاب الجنائز، باب: قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.

ترجمة راوي الحديث طلحة بن عبد الله بن عوف

أما ما يتعلق براوي الحديث: فهو طلحة بن عبد الله مكبر اسمه، طلحة بن عبد الله بن عوف، وطلحة هذا تابعي جليل القدر، روى عن جمع من الصحابة، منهم: عثمان بن عفان ومنهم: علي بن أبي طالب وهو إمام ثقة، وقد ولي القضاء في المدينة فترة لـيزيد بن معاوية، وولي أيضاً الصلاة في مسجد المدينة لفترة، وهو أحد الطلحات المشهورين بالكرم.

و هناك أكثر من طلحة كلهم مشهورون بالكرم، أولهم طلحة بن عبيد الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان سمحاً جواداً كريماً باذلاً للمال، وهو من أصحاب الأموال الطائلة وأصحاب الكرم والجود.

الثاني: هذا طلحة بن عبد الله بن عوف، كان أيضاً كريماً سمحاً جواداً.

الثالث: كان هناك ثالث اسمه طلحة بن عبد الله الخزاعي وهو يسمى: طلحة الطلحات، وكأن الذين اقتربوا منه رأوا أنه من أشدهم كرماً؛ ولهذا سمي طلحة الطلحات، وقد توفي طلحة هذا صاحبنا - طلحة بن عبد الله بن عوف - سنة سبع وتسعين للهجرة، وهو هنا يروي -كما هو واضح- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه.

حديث الباب: (في أن ابن عباس قرأ سورة الفاتحة في صلاة الجنازة وقال: لتعلموا أنها سنة).

شواهد الحديث

هذا الحديث له شواهد، ودائماً تعرفون معنى الشواهد، ما معنى قولنا: له شواهد؟

عندما نقول: (له شاهد) معناه: يوجد حديث آخر عن صحابي مختلف، ولكنه يحمل نفس المعنى، عن صحابي مختلف -مثلاً- إذا كان عن أبي أمامة قلنا: هذا شاهد، أما إذا كان ابن عباس نفسه، فهذا لا يقال: (له شاهد)، وإنما يسمى (متابع) أو نقول: (له طرق).

فمن شواهده: عن أبي أمامة عند النسائي .

ومن شواهده: عن الضحاك بن قيس عند النسائي أيضاً.

ومن شواهده: عن أم شريك عند ابن ماجه وفي سنده شهر بن حوشب، وشهر بن حوشب فيه مقال، فمن أهل العلم من وهاه وضعفه، ومنهم من قواه، ففيه اختلاف وكلام، وذكره الإمام مسلم في مقدمة صحيحه، وأن بعض أهل العلم يقول: إن شهراً نزكوه .. إن شهراً نزكوه، وفي رواية: إن شهراً تركوه، يعني: نزكوه ضربوه بالنيزك، يعني أجهزوا عليه، أما تركوه فهي واضحة، ويقال: إنه ولي بيت المال فذم لذلك، وقال القائل:

لقد باع شهر دينه بخريطة فمن يأمن القراء بعدك يا شهر

المهم: هذا الكلام لسنا منه، يعني: لسنا شهوداً فيه، وقد يكون شهراً أفضل عند الله ممن ذمه وعابه، ولكنه في الحديث فيه مقال، ليس بقوي، فهو يوهن ويضعف حديث أم شريك عند ابن ماجه، لكن مجموع هذه الأحاديث الثلاثة إضافة إلى حديث ابن عباس رضي الله عنه كلها تتعلق أو تدل على مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.

إذاً: عندنا حديث ابن عباس الذي هو حديث الباب أصلاً، وشواهده ثلاثة:

أولها: حديث أبي أمامة عند النسائي .

والثاني: الضحاك بن قيس عند النسائي أيضاً.

والثالث: حديث أم شريك عند ابن ماجه، وفيه شهر بن حوشب .

فهذه أربعة أدلة يعضد بعضها بعضاً، حتى لو كان حديث شهر فيه مقال إلا أنه يتقوى بما سبق.

فهذه أربعة أدلة على مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.

الأقوال في حكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة

ننتقل للنقطة الرابعة في الحديث وهي: حكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة:

اختلف العلماء في قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة على قولين مشهورين:

القول الأول: وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة وأدلته

القول الأول: أنها واجبة، كما هو المستقر في أذهان معظمكم، وهذا مذهب الشافعي والإمام أحمد وداود الظاهري، وانتصر له ابن حزم في المحلى، قالوا: إن قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة واجبة.

ومتى تقرأ الفاتحة؟

في الركعة الأولى.

طيب! وهل معها استفتاح أم بدون استفتاح؟

نقول: الأولى أنه بدون استفتاح، لأنه لم يرد النص عليه، ولو أنه استفتح فلا بأس بذلك أيضاً، فالمسألة ليس متفقاً عليه، بعض الأئمة يرون أن يستفتح، ولكن إذا كان يفوته قراءة الفاتحة فقراءة الفاتحة أولى من الاستفتاح. هذا هو القول الأول.

ما هو دليلهم؟

دليلهم أولاً: حديث الباب، حديث ابن عباس : ( أنه صلى بهم وكبر أربعاً وقرأ الفاتحة، وقال: لتعلموا أنها سنة ).

هو ابن عباس يقول: سنة، ونحن نقول: واجب، فكيف نجيب؟

أن المقصود بالسنة هنا: ليس السنة التي في مقابل الواجب، وإنما السنة يعني: أن هذا مأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نقول: إن كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو من السنة، بما في ذلك الأركان والواجبات وغيرها، تسمى سنة باعتبار أنها نقلت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .

إذاً: السنة هي المأثور عن الرسول عليه الصلاة والسلام.

إذاً: حديث ابن عباس يدل على قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وأنها واجبة، وقوله: ( لتعلموا أنها السنة )، يقول العلماء: هذا له حكم المرفوع، يعني: ابن عباس عندما يقول: (إنها السنة) يقصد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وبناءً عليه: كأن ابن عباس قال: سمعته من رسول الله، أو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فله حكم المرفوع، وإن كان ابن عباس رضي الله عنه قد يقول هذا لمسائل يعني: يقع عليها اختياره ونظره، ويرى أنها من السنة العامة، بمعنى: أنه لا يلزم أن يكون ورد بها نص بخصوصها؛ ولذلك -مثلاً- في أكثر من مسألة مثل ابن عباس في مسألة صيام رمضان، وأن كل أهل بلد لا يصومون حتى يروه، قصة كريب لما كان معاوية في الشام وابن عباس في المدينة وقال: ( لا نصوم حتى نراه، تلك سنة النبي عليه الصلاة والسلام ).

فذهب جمع من أهل العلم أن قول ابن عباس : ( تلك السنة ) لا يلزم منه أن يكون عنده نص بخصوص هذه المسألة، وإنما أخذه ابن عباس من قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه حديث ابن عمر وغيره: ( صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته ) فأخذ من هذا أنه خطاب لأهل كل بلد.

إذاً: نقول: إن قول ابن عباس في هذا الحديث: ( تلك السنة ) هو حمله القائلون بالوجوب على أن المقصود السنة المأثورة وأنه واجب، لكن الذين يشكون في هذه الدلالة، يقولون: إن قول ابن عباس : ( تلك السنة )، لا يلزم منه أن يكون ابن عباس عنده شيء بخصوص صلاة الجنازة، وإنما قد يكون أخذه من عموم الأحاديث الآمرة بقراءة الفاتحة في الصلاة، كما سوف يأتي في بقية الأدلة.

إذاً: الدليل الأول: حديث الباب، وقد بينا طريقة الاستدلال به.

الدليل الثاني: حديث أبي أمامة وحديث الضحاك وحديث أم شريك، هذه تصبح أربعة أدلة على وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.

الدليل الخامس: حديث: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، هذا حديث عبادة بن الصامت، حيث قال رضي الله عنه: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، والحديث خرجه البخاري .

فقالوا: إن صلاة الجنازة صلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا صلاة لمن لم يقرأ ) فكما أن هذا يكون في صلاة الفريضة والنافلة وكل أنواع الصلوات، فكذلك يكون في صلاة الجنازة، فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.

فهذا أقل ما يدل عليه الوجوب، وينبغي أن يعلم أننا إذا قلنا الوجوب؛ فإنه يدخل فيه من يقول بالركنية؛ لأن الركن واجب أيضاً.

إذاً: الدليل الخامس هو عموم حديث عبادة : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، ونقول: لعل ابن عباس لما قال: ( لتعلموا أنها السنة ) قصد الاستنباط من حديث عبادة وما كان على بابه من الأمر بقراءة الفاتحة في عموم الصلاة، وليس عنده نص بخصوص صلاة الجنازة، وقد يكون عنده نص وتوقيف بخصوص صلاة الجنازة.

إذاً: هذا هو القول الأول، وهو منسوب إلى جمع من الصحابة كـابن عباس كما هو واضح، وأبي أمامة والضحاك وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم.

القول الثاني: عدم مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة وأدلته

القول الثاني: أن صلاة الجنازة ليس لها قراءة، ومعنى ليس لها قراءة: لا يشرع فيها قراءة الفاتحة، وهنا تجد أن ابن أبي شيبة في المصنف نقل نصوصاً قوية جداً عن جمع من الصحابة أنهم يستنكرون قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكذلك نقل عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر : أنه كان ينكر قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وجمع كثير يقولون: الصلاة ليس لها قراءة -صلاة الجنازة- والأسانيد عن الصحابة في هذا أسانيد جياد وقوية: أنهم كانوا ينكرون قراءة الفاتحة في الصلاة، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة أيضاً من الأئمة المتبوعين: لا يرون لقراءة الفاتحة وجهاً في صلاة الجنازة، ما حجتهم في هذا؟ طبعاً!

لعل أقوى الحجج هي الآثار عن الصحابة كما قلنا: ابن عمر رضي الله عنه: كان لا يقرأ الفاتحة في صلاة الجنازة وفضالة بن عبيد، وعطاء من التابعين كان يقول: [ ما سمعنا بهذا ]، يعني: قراءة الفاتحة في الجنازة، وكذلك طاوس وعطاء، وهما من فقهاء التابعين، فكانوا ينكرون قراءة الفاتحة فيها.

إذاً: هذه الآثار تحمل على أنهم يقولون: ليس فيها توقيت، يعني: ليس فيها مشروعية، هذا هو الدليل الأول، إذاً: أنه ليس فيها نص أو توقيت أو لم يبلغهم النص.

الدليل الثاني: أنهم يرون أن صلاة الجنازة دعاء، ويحتجون بمثل حديث: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء )، وسوف يأتي بعد قليل، وهو حديث حسن: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ) .

فيقولون: إن صلاة الجنازة دعاء؛ ولذلك عندهم تكبيرات وبين التكبيرات يدعو، يعني: يكبر التكبيرة الأولى ويدعو، والثانية ويدعو، والثالثة ويدعو، ثم الرابعة ويدعو أو يسلم، فهم يرون أن صلاة الجنازة دعاء لا يشاب بقرآن، هذه حجتهم.

وقد يحتجون أيضاً: بأن صلاة الجنازة ليس فيها ركوع ولا سجود ولا تشهد، فكذلك ينبغي أن لا يكون فيها قراءة؛ لأن إسقاط الركوع وإسقاط السجود والقعود والتشهد عنها، دليل على أنها ليست كصفة الصلاة الفريضة أو الصلاة المعتادة، هذه بعض أدلتهم.

وقد نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولم أقف له على سند لكن نقل عن ابن مسعود واشتهر عنه أنه كان يقول: (لم يوقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة شيئاً، وإنما هو التكبير ثم تنتقي من أطايب الكلام )، فكأن ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن المشروع في صلاة الجنازة الثابت هو أن تكبر وتنتقي من أطايب الكلام، ويقصد طبعاً (بأطايب الكلام) ما يتعلق بالدعاء للميت.

إذاً: هذا هو القول الثاني؛ أن صلاة الجنازة ليس فيها قراءة، وهذا القول إذا اطلعت على تفاصيل النصوص الواردة عن الصحابة وجدته قولاً له قوة وله وجاهة.

القول الثالث: استحباب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة وأدلته

القول الثالث في المسألة هو: أن قراءة القرآن في صلاة الجنازة -قراءة الفاتحة- سنة وليست بواجب.

وكأن أصحاب هذا القول جمعوا بين الأدلة، جمعوا بين دليل حديث ابن عباس : ( لتعلموا أنها سنة )، وأخذوه على ظاهره أنها سنة.. مأثورة وليست بواجبة، وجمعوا بين مثل كلام ابن مسعود أنه لم يوقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين كلام عمر وابن عمر وعلي وجماعة من الصحابة: أنهم أنكروا -وكذلك أئمة التابعين كما ذكرت عن عطاء وطاوس - أنهم كانوا يستنكرون على من يقرأ الفاتحة، فقالوا: إنها سنة وليست بواجبة.

وهذا اختيار جمع من السلف، ولعل كثيراً ممن ينسب إليهم القراءة يميلون إليه، ورجحه الإمام ابن القيم وابن تيمية في الاختيارات .. وغيره، والإمام ابن القيم في الزاد وغير موضع، وكذلك جماعة من المحققين كصاحب عون المعبود وسواه.

والواقع: أن هذا القول هو الراجح؛ لأن صلاة الجنازة لا يمكن أن ينحى بها منحى صلاة الفريضة في إلحاق الأحكام لاختلافها عنها اختلافاً كلياً، من جهة أنه ليس فيها ركوع ولا سجود ولا قعود ولا تشهد، فهي صلاة مختلفة، والأصل فيها الدعاء، وهو أهم ما فيها مما لا يختلف فيه.

فمشروعية قراءة الفاتحة فيها وردت كما ذكرنا عن ابن عباس في صحيح البخاري ؛ لكن هذا الورود لا يقوى على القول بأنه ركن أو واجب، وإنما نقول: إن قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة سنة كما اختاره ابن تيمية وابن القيم والمباركفوري وسواهم.

حكم قراءة شيء من القرآن مع الفاتحة في صلاة الجنازة

أيضاً مما يتعلق بهذا الباب: أنه هل يقرأ مع الفاتحة سورة أو يكتفي بالفاتحة؟

ورد في رواية عند النسائي وغيره أنه قرأ الفاتحة وسورة، ولكن هذه الزيادة منكرة ولا تصح؛ ولهذا نقول: لا يشرع قراءة سورة مع الفاتحة، بل لو أطال الإمام الوقت قبل التكبيرة الثانية فإن المصلي يجوز له أن يقرأ سورة، والأفضل له أن يدعو للميت؛ لأن الدعاء للميت هو الركن الأعظم في صلاة الجنازة.

حكم الجهر بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة

سؤال آخر أيضاً في حديث ابن عباس : هل يشرع للإمام أن يجهر بالفاتحة في صلاة الجنازة أو لا يشرع؟ ابن عباس جهر أو ما جهر؟

جهر، والدليل أنهم سمعوه، ولهذا لما سلم قال: ( لتعلموا أنها سنة )، فلولا أنه جهر ما عرفوا أنه كان يقرأ الفاتحة أو أنه يدعو، فالأقرب أن ابن عباس جهر، وفي بعض الروايات: (أنه جهر بها)، نص على أنه جهر بها.

وفي بعضها: (أنه خافت) يعني: أنهم سمعوا بعض الآيات منها، فنقول: إن ابن عباس رضي الله عنه جهر بها؛ ولهذا نقول: إنه لا يشرع الجهر بها وإنما يجوز أن يجهر بها ليعلم الناس: أنه يقرأ الفاتحة أو أنه يشرع لهم أن يقرءوا الفاتحة، هذا وجه وهو الأقرب.

وبعض أهل العلم من الشافعية لهم اختيار لطيف أيضاً، قالوا: إن كانت صلاة الجنازة في الليل استحب له أن يجهر، وإن كانت في النهار استحب له أن لا يجهر، وألحقوا هذا بحكم الصلاة المفروضة: أنه يجهر في الليلية ولا يجهر في الصلوات النهارية.

فوائد حديثي جابر وابن عباس في قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة

طبعاً! حديثا الباب فيهما فوائد.

منها: مشروعية صلاة الجنازة.

ومنها: استحباب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.

ومنها: جواز الجهر بالفاتحة للمصلحة كما جهر بها ابن عباس .

ومنها: أن السنة في صلاة الجنازة الإسرار، ولهذا اعتذر ابن عباس لهم عن الجهر بقوله: ( لتعلموا أنها السنة ).

أولاً: فيما يتعلق بتخريج الحديث: خرجه البخاري في صحيحه كما أشار المصنف رحمه الله في كتاب الجنائز، باب: قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة. وفي الباب نفسه خرجه أيضاً الترمذي في سننه وأبو داود والنسائي والحاكم في المستدرك وابن حبان والبيهقي والدارقطني .. وغيرهم في كتاب الجنائز، باب: قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.

أما ما يتعلق براوي الحديث: فهو طلحة بن عبد الله مكبر اسمه، طلحة بن عبد الله بن عوف، وطلحة هذا تابعي جليل القدر، روى عن جمع من الصحابة، منهم: عثمان بن عفان ومنهم: علي بن أبي طالب وهو إمام ثقة، وقد ولي القضاء في المدينة فترة لـيزيد بن معاوية، وولي أيضاً الصلاة في مسجد المدينة لفترة، وهو أحد الطلحات المشهورين بالكرم.

و هناك أكثر من طلحة كلهم مشهورون بالكرم، أولهم طلحة بن عبيد الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان سمحاً جواداً كريماً باذلاً للمال، وهو من أصحاب الأموال الطائلة وأصحاب الكرم والجود.

الثاني: هذا طلحة بن عبد الله بن عوف، كان أيضاً كريماً سمحاً جواداً.

الثالث: كان هناك ثالث اسمه طلحة بن عبد الله الخزاعي وهو يسمى: طلحة الطلحات، وكأن الذين اقتربوا منه رأوا أنه من أشدهم كرماً؛ ولهذا سمي طلحة الطلحات، وقد توفي طلحة هذا صاحبنا - طلحة بن عبد الله بن عوف - سنة سبع وتسعين للهجرة، وهو هنا يروي -كما هو واضح- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه.

حديث الباب: (في أن ابن عباس قرأ سورة الفاتحة في صلاة الجنازة وقال: لتعلموا أنها سنة).