التربية بين المدرسة والبيت [2،1]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أيها الأحبة في الله! أحمد الله وحده لا شريك له الذي منّ علينا وعليكم بالإسلام، وقد ضل عنه خلق كثير، وكتب لنا أن نولد ونعيش ونتربى في مجتمعات المسلمين، فهذه والله نعمة عظيمة، وما ظنكم بواحد منا لو عاش في مجاهل الصين، أو في أفريقيا، أو في دول الإلحاد والإباحية والكفر، لا ينجو من الكفر إلا القليل القليل، فكانت من أعظم المنن وأجل النعم من الله جل وعلا أن عشنا وولدنا وتربينا في هذه المجتمعات الإسلامية، نسأل الله جل وعلا أن يجعل الإسلام قواماً لها في جميع أمورها دقيقها وحليلها.

ومن نعم الله أيضاً أن منَّ الله على هذه الأمة بنعمة التوحيد، وقد ضلت كثير من الأمم والخلائق عنه، فما أكثر الأمم والدول التي تنتسب إلى الإسلام، وتعد نفسها في قائمة العالم الإسلامي والإسلام منها براء، تحكم غير شرع الله، وتذبح لغير الله، وتدعو غير الله، وتقيم مناسبات بدعية يشرك فيها بالله جل وعلا، وصدق الله العظيم حيث يقول: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106].

يظنون أنهم على إيمان، ولكنهم في الحقيقة قد وقعوا في الشرك، ونسبة الإيمان أو الشرك أمر يعود إلى الجملة والفئة العامة، ولا عبرة بالنوادر والقليل، إذ لا تخلو أمة أياً كانت بعيدة أو قريبة من موحد من الموحدين.

كانت العرب تقر بأن الله هو الخالق وهو البارئ وهو المهيمن وهو المتصرف، وقد ورد ذلك في كلامهم وفي أشعارهم، يقول أحدهم:

وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق

فالأمر لله نافذ في كل دقيق وجلي، ويقول الآخر منهم:

ألا قبض الرحمن ربي يمينها     ......................

إذاً فهو يعرف أن الرحمن هو الذي بيده الأمر النافذ والحكمة البالغة، وإذا قدر أمراً فقدره نافذ سبحانه وتعالى، لكن مع ذلك يشركون مع الله في عبادتهم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ووداً وسواع ويغوث ويعوق ونسراً وغير ذلك من أوثان وأصنام الجاهلية.

ما أشبه الليلة بالبارحة! الكفر الذي مضى والوثنية التي سلفت في الأمم الماضية، هو موجود في هذا الزمان، لكن الذي لا يعلم يظن أن الناس كلهم مثل حاله، ولو قدر له أن يرى ما رآه غيره، لرأى الجاهلية الأولى بل أشد منها؛ لأن أهل الجاهلية الأولى كانوا إذا حزبتهم الأمور، واشتدت بهم الكربات، وضاقت عليهم المذاهب، دعوا الله مخلصين له الدين: وإذا ركبوا في الفلك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس:22] أما كفار هذا الزمان فالأمر يشتد بأحدهم وبأفرادهم وبأممهم وبجماعاتهم، ومع ذلك يقولون: دعونا نجرب مذهباً رأسمالياً، دعونا نجرب مذهباً اشتراكياً، دعونا نجرب مذهباً بعثياً، دعونا نجرب طريقة بدعية، يجربون ويجربون وما يزيدهم إلا ضلالاً وخساراً وبواراً.

فرغم ما حل بهم من المحن والمصائب، ما فكروا يوماً من الأيام أن يتجهوا إلى الله مخلصين له الدعاء، والله يجيب المضطر أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62] فالحاصل أن من نعم الله علينا في هذه الدولة ولله الحمد والمنة أن عشنا في مجتمع مسلم.

يا أيها الأحبة! إن الحديث في هذه الكلمة المتواضعة يدور حول التربية، والتربية في واقعنا وفي أرضنا، وفي كل مكان.. وما أجمل الصراحة في الحديث حتى تكون الأدوية على عين المرض!

التربية في واقعنا وفي مجتمعنا تتنازعها مؤسسات عديدة، وشأن التربية لا يخلو بين الولد وأمه وأبيه ومجتمع قريته المتواضع الصغير، فلا يمكن أن يوجد شذوذ أو جنوح أو نشاز في طريقة التربية، أو في منهجها ووضعها، لأن الذي يصنع شخصية الفرد كان فيما مضى إمام المسجد، جو المسجد، بيئة المسجد، جو القرية، المزرعة، المدينة المحدودة المتواضعة.

أما الآن فالناس قد انفتحت عليهم السبل، وانفتحت عليهم أمور جديدة، شنّفوا لها الآذان، وفتحوا لها الأسماع، فكان لها دور عظيم في صياغة شخصياتهم، وفي صياغة أنماط حياتهم، ومن ذا يقول: أرى شيئاً فلا أتأثر به؟ ومن ذا يقول: أسمع لهواً فلا أتأثر به؟ ومن ذا يقول: أرى أوضاعاً فلا أتأثر بها؟ والله إن كل واحد منا ليتأثر، سواءً شعر بهذا التأثر أو لم يشعر، لكنه في حقيقة أمره متأثر، لا عصمة إلا للأنبياء، أما سائر البشر فإنهم يتأثرون حتى ولو لم يقارفوا الذنوب والمعاصي، فإن عيشهم في مجتمعٍ تنفتح فيه الذنوب والمعاصي، يؤثر على مدى غيرتهم وإنكارهم للمنكرات.

ذكر أن واحداً من السلف، كان قافلاً من المسجد عائداً إلى بيته، فرأى في طريقه منكراً، فاشتد غضبه، وانتفخت أوداجه، واحمر وجهه، فلما عاد ما طاق أن يبول إلا دماً، من شدة تأثره، من شدة الهزة العنيفة التي أدركت أعماق أجهزته الباطنية من هذا الجسم، ثم رأى ذلك المنكر فتأثر تأثراً دون الأول، ثم رآه مرة ثالثة ورابعة، فأصبح الأمر عادياً طبيعياً.

فالإنسان يتأثر، ولو كان لا يقع في أي شيء مما نهى الله عنه، إلا أن الإنسان بحكم اجتماعيته ويتأثره بمن حوله، لا شك ولا ريب ولا محالة أنه يتأثر بالأوساط التي يخالطها.

معنى التربية وجوها

وما دام أن الحديث عن التربية أيضاً، فما هو جو التربية؟ وما الذي نعنيه بقولنا: التربية؟

لن ندقق في التعاريف، فالذي نعنيه في هذه الكلمة بالتربية، هو الجو والحيز الذي يصنع أنماطاً معينة في سلوك الشخص.

ما الذي يؤثر على هذا فيجعله صادقاً، ويؤثر على هذا فيجعله كاذباً؟

ما الذي يؤثر على هذا فيجعله أميناً، ويؤثر على هذا فيجعله خائناً؟

ما الذي يؤثر على هذا فيجعله ورعاً تقياً، وما الذي يؤثر على هذا فيجعله مجرماً لصاً، لا يحلل حلالاً ولا يحرم حراماً؟

الوسط.. الجو.. البيئة.. لها دور في هذه التربية، والتربية -كما قلنا- نعني بها سلوك الشخص وتصرفاته فحينما نرى شخصاً قد اتسم حديثه بالصدق، واتسمت معاملته بالأمانة، واتسمت عهوده ومواثيقه بالوفاء، نقول: هذا رجل تربيته حقاً إسلامية، حكمنا على هذه التربية من واقع سلوكه وتصرفاته، فهذا هو ما نعنيه بالتربية.

المسئول عن التربية

إن المعني بالتربية خاصة، وبالدرجة الأولى في هذا التربية هم نشأنا وأبناؤنا وصغارنا، كيف نربيهم؟ من يتحمل مسئولية التربية؟

هل هو الأب؟

هل هي الأم؟

هل هي المدرسة؟

هل هي وسائل الإعلام؟

هل هي الإذاعة؟

هل هو التلفاز؟

هل هي الصحف والمجلات؟

من هو المسئول عن صياغة هذه الشخصية التي هي بمثابة العجينة اللينة الطرية، من خلال ما نسلطه عليها، عبر أي جهاز وعبر أي وسيلة، فإننا نستطيع أن نصنع شخصية بعد مدة، ولو ليست بالكثيرة، وسنراها ماثلة أمامنا.

إن الذي يحكم هذا الأمر ليس الأب وحده، وليست المدرسة ممثلة في المدير أو في المدرس، وليس جهاز الإعلام، وليس التلفاز وحده، وليست الإذاعة وحدها، وليست الجريدة أو المجلة وحدها، إن الذي يتحمل مسئولية التربية هو مجموع هذه الأجهزة مجتمعة، وأذكر في ندوة سلفت، ولعلها حررت وطبعت، ماذا يريد التربويون من الإعلاميين؟ لإدراكهم أن التربية مهمة حساسة وللإعلام فيها دور، ومن هنا وقف التربيون وقالوا: معاشر الإعلاميين قفوا معنا نناشدكم وتناشدونا، نحدثكم وتحدثونا، ماذا نريد منكم؟ إن جميع الأجهزة التي بين أيديكم ينبغي أن تخضع لنا معاشر التربويين.

لا شك أن جميع ما نراه من الأجهزة والدوائر، ومن المصالح والمؤسسات، كلها بمجموعها تسعى إلى إيجاد شخصية صالحة، أو ما يسمى بالمواطن الصالح، وإن كانت كلمة الإخلاص والنصيحة قد تغني، وهي أوسع من هذا الأمر، لكن لا مشاحة في الاصطلاح، ما دام أن جميع الأجهزة والدوائر والمؤسسات كبيرها وصغيرها معنية بصناعة هذا المواطن وهذه الشخصية.

إذاً فإن التربويين هم وحدهم بما لديهم من علوم شرعية، وليس الأمر في قطار التربية وحدها، الذين يقولون: ينبغي أن يوجه هذا الدرس بهذه الطريقة، وينبغي أن يوجه هذا الإعلام بهذه الطريقة، وينبغي أن توجه المجلة والمسلسل والفلم بهذه الطريقة.

إذاً فالتربية لها دور، ومكانتها والمسئول عنها ليس المدرس وحده، أو الأم أو الأب وحدهما، أو جهاز معين بحد ذاته، لا، الجميع مسئولون عن قضية التربية هذه.

وما دام أن الحديث عن التربية أيضاً، فما هو جو التربية؟ وما الذي نعنيه بقولنا: التربية؟

لن ندقق في التعاريف، فالذي نعنيه في هذه الكلمة بالتربية، هو الجو والحيز الذي يصنع أنماطاً معينة في سلوك الشخص.

ما الذي يؤثر على هذا فيجعله صادقاً، ويؤثر على هذا فيجعله كاذباً؟

ما الذي يؤثر على هذا فيجعله أميناً، ويؤثر على هذا فيجعله خائناً؟

ما الذي يؤثر على هذا فيجعله ورعاً تقياً، وما الذي يؤثر على هذا فيجعله مجرماً لصاً، لا يحلل حلالاً ولا يحرم حراماً؟

الوسط.. الجو.. البيئة.. لها دور في هذه التربية، والتربية -كما قلنا- نعني بها سلوك الشخص وتصرفاته فحينما نرى شخصاً قد اتسم حديثه بالصدق، واتسمت معاملته بالأمانة، واتسمت عهوده ومواثيقه بالوفاء، نقول: هذا رجل تربيته حقاً إسلامية، حكمنا على هذه التربية من واقع سلوكه وتصرفاته، فهذا هو ما نعنيه بالتربية.

إن المعني بالتربية خاصة، وبالدرجة الأولى في هذا التربية هم نشأنا وأبناؤنا وصغارنا، كيف نربيهم؟ من يتحمل مسئولية التربية؟

هل هو الأب؟

هل هي الأم؟

هل هي المدرسة؟

هل هي وسائل الإعلام؟

هل هي الإذاعة؟

هل هو التلفاز؟

هل هي الصحف والمجلات؟

من هو المسئول عن صياغة هذه الشخصية التي هي بمثابة العجينة اللينة الطرية، من خلال ما نسلطه عليها، عبر أي جهاز وعبر أي وسيلة، فإننا نستطيع أن نصنع شخصية بعد مدة، ولو ليست بالكثيرة، وسنراها ماثلة أمامنا.

إن الذي يحكم هذا الأمر ليس الأب وحده، وليست المدرسة ممثلة في المدير أو في المدرس، وليس جهاز الإعلام، وليس التلفاز وحده، وليست الإذاعة وحدها، وليست الجريدة أو المجلة وحدها، إن الذي يتحمل مسئولية التربية هو مجموع هذه الأجهزة مجتمعة، وأذكر في ندوة سلفت، ولعلها حررت وطبعت، ماذا يريد التربويون من الإعلاميين؟ لإدراكهم أن التربية مهمة حساسة وللإعلام فيها دور، ومن هنا وقف التربيون وقالوا: معاشر الإعلاميين قفوا معنا نناشدكم وتناشدونا، نحدثكم وتحدثونا، ماذا نريد منكم؟ إن جميع الأجهزة التي بين أيديكم ينبغي أن تخضع لنا معاشر التربويين.

لا شك أن جميع ما نراه من الأجهزة والدوائر، ومن المصالح والمؤسسات، كلها بمجموعها تسعى إلى إيجاد شخصية صالحة، أو ما يسمى بالمواطن الصالح، وإن كانت كلمة الإخلاص والنصيحة قد تغني، وهي أوسع من هذا الأمر، لكن لا مشاحة في الاصطلاح، ما دام أن جميع الأجهزة والدوائر والمؤسسات كبيرها وصغيرها معنية بصناعة هذا المواطن وهذه الشخصية.

إذاً فإن التربويين هم وحدهم بما لديهم من علوم شرعية، وليس الأمر في قطار التربية وحدها، الذين يقولون: ينبغي أن يوجه هذا الدرس بهذه الطريقة، وينبغي أن يوجه هذا الإعلام بهذه الطريقة، وينبغي أن توجه المجلة والمسلسل والفلم بهذه الطريقة.

إذاً فالتربية لها دور، ومكانتها والمسئول عنها ليس المدرس وحده، أو الأم أو الأب وحدهما، أو جهاز معين بحد ذاته، لا، الجميع مسئولون عن قضية التربية هذه.

حينما نرى جنوحاً أو شذوذاً في تصرفات طفل من الأطفال، هذا التصرف هل هو مولود معه؟ حينما يكون التصرف شاذاً، حينما يكون سلوكه نشازاً بين سائر زملائه وإخوانه، هل يمكن أن نقول: إن هذا التصرف الذي فيه جنوح، ولد مع هذا الطفل الذي بلغ السادسة أو السابعة أو العاشرة، أو دون المراهقة؟ كل مولود يولد على الفطرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة..)

والفطرة بمعناها الصحيح هي فطرة الإسلام بكل ما جاء به الإسلام من الآداب، الفطرة على توحيد الله جل وعلا، وما ينبني على ذلك من آداب وأحكام (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه...) إذا كان يهودياً فالولد ينشأ ويتخرج ويكبر يهودياً: (فأبواه يهودانه أو يمجسانه ..) إذا كان يعيش في أسرة مجوسية، فالشاب يكبر وينمو مجوسياً (أو ينصرانه) فإذا كان المجتمع نصرانياً؛ فإن هذا الشاب يكبر وينمو نصرانياً، ولم يجئ في الحديث قوله: أو يسلمانه أو يمسلمانه، لأن الإسلام هو أصل الأمر الذي نشأ عليه: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30].

الناس فطروا حنفاء، يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي: (خلقت عبادي كلهم حنفاء ..) على الحنيفية التي تقر بوحدانية الله ووجوده، وصرف جميع أنواع العبادة له لكن: (فاجتالتهم الشياطين)

إذاً الأجواء والأوضاع التي تحيط بمجتمع أو فرد أو أمة من الأمم لها دور في تغيير سلوكها وتصرفاتها وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] في تفسير الحديث، وفي بيان هذه الآية، إن الله جل وعلا أخرج ذرية آدم من أصلاب الرجال كأمثال الذر، واستشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا.

إذاً فكل واحد منا قد شهد سلفاً، وفطر -أيضاً- على وحدانية الله جل وعلا، وعلى هذا الدين، لكن من قدر له أن يعيش في مجتمع المسلمين تكون حياته إسلامية، ومن قدر له أن يعيش في مجتمعات اليهود أو النصارى أو المجوس أو غيرهم، فتكون بيئته وسمته وصبغته مجوسية أو يهودية أو نصرانية.

هذا فيما يتعلق بالأصل، وبالقاعدة العريضة أن الجميع حنفاء وأهل فطرة وموحدون، لكن ما الذي طرأ؟ ما الذي حدث؟ هذه الأسرة التي احتضنت تلك النطفة، إما أن تكون أسرة احتضنت النطفة من أول يوم ألقيت في رحم أم مؤمنة، إما أن تكون وضعت على ذكر لله جل وعلا: (اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) من تلك اللحظة، وأثر الشريعة والملة والدين يبدو جلياً واضحاً على هذه النطفة التي تنمو في جوف تلك المرأة، والتي وضعها ذلك الرجل حلالاً، قد اتبع ما جاء وما طلب في ذلك من أوراد وأذكار.

ثم ماذا؟ هل غذيت هذه النطفة بالحلال أم بالحرام، فإن غذيت بالحلال، فهي لازالت تسير على خط سليم، فإذا ولدت فأول من يصرخ في وجه المولود الشيطان، ولذا يستهل المولود صارخاً، ثم بعد ذلك لا يترك فقيل في يومه أو في ثالثه، وعلى أكثرها في يوم سابعه، يؤذن في أذنه اليمنى ويسمى، وقضية الإقامة محل بحث ونظر.

إذاً منذ نعومة الشعر والأظفار، وهذا الجنين وهذه النطفة ترعى رعاية دقيقة حتى تكبر رويداً رويداً، والطفل أيضاً يكتسب اللغة اكتساباً، ويكتسب أيضاً جملة من الأمور التي يشاهدها، لذا ترى كثيراً من أبناء المسلمين ليس أمر الصلاة عجيباً أو غريباً لهم؛ لأنه على فطرة في مجتمع مسلم، ومنذ أن ينشأ وهو يرى أمه وأباه وإخوانه في صلاة وعبادة.

إذاً فهو ينشأ على هذا المنوال، وعلى هذا المسلك، فلا حاجة إذا بلغ أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، في حين أن التكليف والمحاسبة والحساب على الذنوب، والحساب على ما يؤمر به وينهى عنه، إنما يكون بالبلوغ، بعلاماته المختلفة بين الذكور والإناث، لكن لا نحتاج في يوم من الأيام أن نقول له: اشهد أن لا إله إلا الله فقد بلغت التكليف؛ لأن هذه الشهادة وجملة من الأمور والواجبات والمنهيات قد اكتسبها وعرفها، وحصل عليها من واقع الأسرة التي يعيش فيها، فإذا عاش حميداً في أسرة مؤمنة صادقة، بدأ يكتسب إلى جانب اللغة الطباع والأخلاق والمعاملة.

اللغة اكتساب: أنتم تلاحظون في أي بيت فيه خادمة، فإنها تحدث الطفل بالإندونيسية فيفهمها، ونحن لا نعلم، كلم أي طفل من الأطفال بالفليبينية أو بالإندونيسية: أغلق الباب تجده يغلق، افتح الباب.. يفتح، افعل كذا.. يفعل، لا تفعل كذا لا يفعل.

الطفل لديه اكتساب على أدق دراسة ثلاث لغات في مرحلة واحدة.

إذاً فليس عجيباً أن تكون قدرة الاستيعاب والاكتساب لدى الأطفال قوية، فمادام يكتسب ثلاث لغات في آن واحد، والعجيب أن الطفل حينما يأتي عند أمه وأبيه يعرف ماذا يصلح لهم من اللغات فيكلمهم، وقد تخاطبه الخادمة أو يخاطبه السائق بلغة أخرى معينة فتجده يتخاطب معه، ويعرف أنهم لا يتحدثون إلا بهذا، وهؤلاء لا يتحدثون إلا بهذه اللغة.

إذاً نحن نظن أن هؤلاء الأطفال بلهاء، وأنهم عاجزون عن كثير من الأمور، والله الذي لا إله إلا هو إن الأطفال ليدركون أموراً قد لا يدركها بعض كبار السن، مادام الأمر كذلك ولديهم القدرة على استيعاب هذا المقدار المتباين في الخطاب واللغة والضمير والعبارة، إذاً فالطفل قادر على أن يكتسب ما هو أكبر من ذلك.

دور الأب في التربية

إذا شب الطفل رويداً رويداً، تجده يتأثر بأبيه.

صديق لي مؤذن أولاده دائماً في البيت يؤذنون، وآخر والده خطيب ولده دائماً يرقي على كرسي، والآخر يصعد على وسادة، إن الحمد لله.. إن الحمد لله.. إذاً الطفل يتأثر بوالده حتى فيما قبل مرحلة الدراسة.

الطفل الذي تجد بيته قريباً من المسجد، تجده أكثر قدرة على الإنصات والمتابعة، والإلقاء وإعادة الأذان من غيره، لما يحيط به.

يهمنا في الدرجة الأولى أن نعرف وضع الطفل مع والده، شخصية الطفل تكتسب التأثير بالدرجة الأولى من شخصية والده، ولذلك فإن أكبر الجرائم أن يسعى أب من الآباء في إفساد أولاده، وذلك بعدم اجتنابه للمعاصي والمنكرات، وعلى أقل الأحوال حنانيك، فبعض الشر أهون من بعض ألا يرتكب المعصية أمامهم إذا كان واقعاً لا محالة، في حين اتفاق الجميع أن المعصية منبوذة ومرفوضة من صغير وكبير.

إن الأب من أكبر المؤثرين على ولده، وله أكبر دور في صناعة شخصية ولده، أتلاحظون أباً في مجتمع لا يهمه إلا التدخين ولعب الورق وأمور أخرى، تجد الأطفال يقلدون هذا السلوك بكل دقة.

يحدثني شاب يقول: كنا صغاراً إذا خرج أبي وأصدقاؤه من المجلس جلسنا وكل واحد منا واضع رجلاً على رجل، واتكأ وأخذ الشيشة، وأخذ بعضنا يتكلم مع بعض، ويضرب الذي بجانبه برأس الشيشة يا فلان! بنفس الطريقة يسترقون الطباع استراقاً شديداً.

والطفل قد يكون أبوه من أهل الطرب والفن، فتجد الطفل يتقن كيف يمسك العود، وانظر إلى شاب والده ذي صناعة معينة، انظر كيف يستطيع أن يحكم طريقة هذه الصناعة وبكل دقة.

أعرف رجلاً صرافاً في مكان ما، رأيت مجموعة من أولاده يعدون عملة معدنية بكميات كبيرة، فيعدون بطريقة عجيبة، أحاول أن أعد معهم بنفس الطريقة فلا أعرف، يمكن أنثر هنا ريالاً وهنا ريالاً، أما أولئك فيعدون بطريقة غريبة وسريعة أيضاً، كان والدهم صرافاً، ومنذ الصغر كان يصحبهم إلى محله أو مكان صيرفته، فتأثروا بأسلوبه وطريقة تعامله.

إذاً أكبر من يصنع شخصية الطفل هو الأب؛ فإذا كان الأب ممن يعتنون بزي معين، ستجد الابن بالضرورة يريد من أبيه أن يعطيه مثلما يلبس، طفل يرى أباه مغرماً بالبنطلون والجاكيت والقميص، يقول: اشتر لي مثل هذا يا أبي، وتجد طفلاً أبوه عالم بطبيعة عمله يلبس المشلح أو شيء من هذا، اشتر لي مثل هذا بالضبط، يأتي له ببنطلون يقول له: لا أريد، أريد مثل هذا الذي أنت تلبسه، ولو أعطيت المشلح الصغير لابن صاحب البنطلون أو العكس، لا أحد من هؤلاء يقبل؛ لأن كل صغير يرى أن صورة والده هي الصورة الأكمل والأسمى والمثلى.

إذاً فنحن لنا دور في صناعة شخصيات أبنائنا وأولادنا، ولذلك إياك أن يراك ولدك ذليلاً فيتعلم منك الذلة، إياك أن يراك ولدك جباناً أو خواراً أو ضعيفاً فيتعلم منك ذلك، إياك أن يراك ولدك خائناً أو مخادعاً فيتعلم منك ذلك، لو رأى الخيانة والخداع من الآخرين لجاء يخبرك مستنكراً، أما وقد رآها منك فسوف يقلدك مفتخراً.

إذاً فللأب دور كبير وعظيم في صناعة شخصية ولده، والكثير منا لا يعرف، وإن كان يعرف لا يبالي أن شخصيته لها دور في صناعة ولده، إلا من رحم الله، وقليل ما هم.

ونتيجة للجهل بهذا الأمر لا تجد الأب حينما يكون لديه رجال في مجلس علم لا يدعه يجلس، بالعكس دعه يجلس، حينما يرى طريقتك في إدارة حوار، أو طريقتك في إمساك كتاب، أو طرح نقاش، أو طريقتك في طرح قضية معينة، وإن كان لا زال صغيراً على الدخول في أعماق الفكرة، لكن حقيقة الأمر أنه يكتسب رويداً رويداً.

وأضرب لكم مثالاً عن نفسي، ودائماً الذي يرزق بأول مولود يحتار لا يعرف كيف يربي، حتى وإن درس التربية، لا بد له من نماذج عملية يقتدي بها ويعرفها، لي ولد صغير أسأل الله له الصلاح، ما كنت أعرف كيف أتعامل معه إذا خرج من البيت بدون إذني، لا زال صغيراً عمره أربع سنوات، وبجوارنا في بيت الجيران لعبة يلعب الأطفال بها، لكني لا أريد أن يكتسب هذا الطفل من الخارج شيئاً.

أعرف أهداف التربية، لكن لا أعرف كيف أتعامل معه، تارة أضرب، وتارة أرفع الصوت عليه، وتارة أهدده بالحرمان، وتارة .. وتارة، قدر لي أن أزور أحد الأصدقاء في دولة ما، ووجدت أطفاله في سن ولدي بالضبط، فكنت جالساً معه في بحث موضوع لا أريد أن يجلس معنا أحد فيه، فقال لأولاده الصغار: لو سمحتم يا فلان وفلان! أنا عندي اجتماع خاص مع عمكم فلان، ورجائي تتيحوا لنا الفرصة نتحدث لبحث الموضوع بصورة من الهدوء، ولو تكرمتم تفضلوا، فهزوا رءوسهم وخرجوا.

أنا واثق أنهم لم يفهموا شيئاً، لكن أسلوب المعاملة دل على أن هناك نوعاً من الاحترام، لكن المحصلة النهائية نريد منكم أن تتفضلوا مشكورين، ففهموا هذه القضية وخرجوا، أما تفاصيل الكلام ما فهموا منه شيئاً، فقلت له: أنت تتعامل مع الأولاد بالطريقة هذه، قال: بغير هذه الطريقة لا يمكن أن تتعامل مع الطفل، وفعلاً جئت وعدلت أسلوب التربية، الولد مستغرب جداً. أبي ما هو بصاحي!!

قسا ليزدجروا ومن يك راحماً     فليقس أحياناً على من يرحم

أحياناً قد تقسو وقلبك كله يتقطع حسرة وشفقة على ولدك، لكن أحياناً تظن أن هذا هو أقرب ما تملك لتوجيه الطفل من مراحل مبكرة، يستغرب ويعجب، خلال فترة معينة استطاع هذا الولد اسأل الله أن يديم علينا وعليكم وعلى ذرية المسلمين الصلاح والهداية والاستقامة، بمجرد الخطاب العادي، يا بني تفضل.. يتفضل، يا بني نصلي.. نصلي، اجلس.. يجلس، اذهب معنا.. يذهب.

السبب أن البعض لا يستطيع أن يتعامل مع ولده بهذا الأسلوب، وبهذه الطريقة، لماذا؟ مادام لك أكبر أثر في صناعة شخصية ولدك، فثق تمام الثقة أن لديه الاستعداد أن يتقبل منك في المراحل المبكرة، ولا يعني ذلك أن الطفل سيكون ملاكاً لا يخطأ، لا، سيكون عنده أخطاء، وستكون عنده نوع من الغرائز التي تنمو مبكرة، غريزة الاعتداء على الأطفال، وأخذ اللعب التي في أيديهم، غريزة الطمع، يريد أن يكون نصيبه أكثر من نصيب أخته، يريد أن يكون الأول في الخروج والدخول قبل إخوانه.

مجموعة غرائز معينة، قضية كونه يريد أن يكون الأول، وإذا ركبت السيارة يريد أن يركب في المقدمة، وإخوانه كلهم في الخلف، هي غريزة حب الشهرة، لكنه في هذه المرحلة يترجمها بهذا الوضع، في مرحلة معينة لها صورة، في مرحلة أكبر لها صورة، لكن أصل الغريزة موجودة، غريزة أخذ ما في أيدي الأطفال، حب التملك، وهذه الغريزة تختلف في صورتها بحسب مراحل نمو الإنسان.

والإسلام بالمناسبة، وهذا كلام جميل قاله الشيخ مناع خليل القطان، في رسالة أنصح الجميع بقراءتها وأسمها تهذيب الغرائز في الإسلام، قال: إن الإسلام لا يكبت الغرائز، ولا يكبح الغرائز، ولكن يهذب الغريزة، توجد غريزة تملك تفصل أبواب التملك في الإسلام مفتوحة، لكن عليها ضوابط، ولها أمور تقيدها، حتى لا تكون حرية التملك سبباً في الاعتداء على حقوق الآخرين، خلافاً للأنظمة الشيوعية التي منعت الإنسان أن يتملك، تقول: أنت إنسان تريد أن تأكل وتشرب، خذ وكل واشرب وأما التملك فليس لك فيه حاجة.

ولذلك في فترة من الفترات، لاقت الشيوعية عنتاً من إضراب العمال؛ لأنها كبتت هذه الغريزة، يأتي العاملان في مصنع واحد، تجد عاملاً سميناً طويلاً يأكل أربع دجاجات، ويستهلك كذا رطل من الماء والعصير، وثلاثة تباسي رز...الخ وفي النهاية يصنع كرسياً واحداً في اليوم، ويأتي عامل نحيل، لا يشتهي الأكل، يأكل نصف دجاجة، ويشرب كأساً واحداً من العصير أو الماء، وينتج نفس الكرسي، عجيب! هذا ينتج نفس الإنتاج وهذا يأكل أكثر من هذا! ذلك العامل يرى أنه مظلوم، فأضرب عن العمل، وأضربت طوائف كثيرة من العمال عن العمل؛ لأن قضية التملك مكبوتة، كونك تعطيني آكل واشرب وألبس هذا لا يكفي، عندي غريزة أحب أن أتملك، أريد أن يكون لي رصيد، وأريد أن يكون لي سيارة أملكها، أريد أن يكون لي بيت أتملكه، ذلك ما بدأت تتنازل الشيوعية عنه.

أخيراً ولعلهم -كما يزعمون- في عهد هذا المجرم جورباتشوف هو أوسع من فتح النظم الشيوعية على الإطلاق، ولكن دندنة وشنشنة أخزمية، يراد بها في يوم من الأيام ضربة للمسلمين، أو تصوير جديد للشيوعية بمنطلق أو بصورة جديدة حتى ينخدع المسلمون بها، لكن أما وقد أسفر الصبح لذي عينين، وقد علم الناس وعرفوا مساوئ هذه الشيوعية، وما فيها من كبت للحريات وللحدود وللتملك.

الأنظمة الرأسمالية تملك ما تشاء، وكانت قبل قضية الرأسمالية في أوروبا أنظمة الإقطاع، أي: أنك تملك مزرعة كبر السويدي والبديعة وشبرى بمن فيها من الناس والبشر، البشر مسخرون والإقطاع تملكه، وكل هؤلاء يكونون عبيداً تحت هذا المالك، أما الإسلام فما فتح هذا الباب على مصاريعه، تملكوا الناس وتملكوا الأرض وتملكوا كل ما فيها، لا، وما حجب الناس أن يتملكوا، بل لهم أن يتملكوا، وقد جاء من الصحابة تجار أثرياء كبار جداً كـعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان وكثيـر منهم.

الإسلام لم يكبت هذه الحرية ولم يفتحها، بل هذب غريزة حب التملك، الغريزة الجنسية، الرهبنة النصرانية القسس -كما يزعمون- أنهم يحرمون ويتبتلون ذكوراً وإناثاً عن الزواج، وفي المقابل الآخر انفتاح لا أخلاقي وإباحية مطلقة، وأما في الإسلام فنحن لا نطلق هذه الغريزة الجنسية، ولا تكبت كبتاً كما يفعله اليهود والنصارى، لكن تهذب الغريزة الجنسية بالزواج، وبما تملك الأيمان إلى آخر ذلك.

إذاً الإسلام يهذب الغرائز، ولا يكبتها، وثقوا أن هذا الغرائز أيضاً غرائز فطرية، فيولد الطفل ومعه مجموعة من الغرائز، فإياك أن تكبت الطفل من غريزة، لكن ينبغي أن تهذبها وأن توجهها، ولو انطلقت غريزة من غرائزه في وقت مبكر؛ فعليك أن ترعاها بدقة حتى يحين الوقت المناسب لتحقيق رغبته الغريزية في إطار حدود الشريعة.

إذاً ينبغي ألا نتجاهل في قضية التربية أن الأطفال والصغار لديهم غرائز فينبغي أن يكون لهم دور، لو سألت الكثير هل كل واحد منكم من الأولاد عنده ما يملكه؟ الطفل يحب أن يتملك، لو تعود الطفل أن تعطيه ريالاً أو ثمانية عشر قرشاً وعودته على التوفير، فستجد في نهاية الأسبوع أنه قد جمع، هل هو خلفه أسرة يكد عليها؟ لا، لكن التملك موجودة، وهو يجمع لكي يشتري لعبة أو حلوى أو أي شيء آخر.

فهذا الطفل لا بد أن توجه غريزته، يريد الطفل أن يخرج معك، يريد أن يكون في المركب الأمامي في السيارة، تقول له: لا، إذا حفظت هذه السورة أخذتك معي، ويكون لك الصدارة في السيارة، فستجده يحفظ.

إذاً فليعلم أن الصدارة لا بد أن تكون مقابل أداء أو إعطاء أو إنتاج، فإذا هو أعطى وأدى وأنتج، عند ذلك هو سوف يرتقي هذا المكان، فبهذه الطريقة حينما نوقن تمام اليقين أن لدى أطفالنا غرائز، وحينما نعرف أن هذه الغرائز ينبغي ألا تكبت، وإنما ينبغي أن توجه في وقت مبكر، عند ذلك سيكون للطفل تصرف وسلوك غريب وعجيب بالنسبة لنا؛ لأننا شاهدنا الانفصام في شخصية الشباب، وفي شخصية الأطفال، نتيجة غرائزه الموجودة، والكبت الذي يواجهه، والتعاليم الذي يتلقاها، والواقع الذي يخالف ذلك.

هذا فيما يتعلق بوضع الأسرة، فالأب يصنع أكبر دور في هذا الأمر.

دور الأم في التربية

البنية تتأثر بوالدتها أكبر تأثر، أنا أرى بنيات صغاراً تلبس حجاباً، وعندما يمر رجال تتغطى وهي طفلة صغيرة جداً، لكن أنوثتها مبكرة، ولديها توجه نحو اكتساب صفات الأنوثة، لاحظ هذه الطفلة، إما أن تلف غطاء الرأس بطريقة ما يسمونه الروز، وهي بذلك قد رأت أمها أو أختها تفعل هذه الطريقة، فقلدتها بالضبط، وإما أن تجد الصغيرة تشغل أمها: أعطيني قفازاً مثلما عندك قفاز، وتلبس العباءة بنفس طريقة الحجاب؛ طريقة الستر التي تفعلها أمها.

إذاً الفتاة معجبة بأمها غاية الإعجاب، وتتأثر بأمها غاية التأثر، إذا كانت الأم من ذوات الموضات والموديلات إلى حد يشغل غالب أوقاتها، لا يهمها في كتاب أو مجلة أو جريدة إلا صفحة الأزياء وعروض الأزياء، ستكون هذه الفتاة أيضاً متأثرة بنفس وضع أمها، ولذلك تلاحظ الطفلة تلف فوطة صغيرة وتضعها في السرير.. هذه بنتي، تقليداً لأمها، الدور الذي مارسته الأم معها، تريد أن تمارس هذه الطفلة ولو في الخيال، استعداداً لاكتساب صفات الأنوثة.

الأمر الآخر: تجد لها تصرفات وسلوكيات مكتسبة من واقع أفعال المرأة أو أفعال النساء، فإذا كان الفعل الذي تراه في بيتها مع أمها فعلاً سليماً؛ رأيت من الفتاة فعلاً سليماً، وإن كان الفعل خاطئاً رأيت تصرفاً من الفتاة خاطئاً، وعلى أية حال:

ربوا البنات على الفضيلة إنها     في الشرق علة ذلك الإخفاق

الأم روض إن تعهده الحيا     بالري أيرق أيما إيراق

الأم مدرسة إذا أعددتها     أعددت شعباً طيب الأعراق

الأم والأب كل منهما له أثر على أطفالهما، فإن كانا مثلين ساميين ملتزمين؛ سيكون الأطفال بإذن الله بنفس المستوى، وإن كانا خلاف ذلك، فإنك لا تجني من الشوك العنب.

تريد الأب مطبلاً والأم رقاصة والولد إماماً! لا يمكن إلا بمنّ من الله وهداية، فإن الله يخرج الحي من الميت، لكن بالصورة العامة والطبيعية العامة هذه هي النتيجة المتوقعة، ولذلك يعجب الناس حينما تخرج فتاة متحجبة من بيت منفلت؛ لأن الثمرة الطبيعية أن تكون الفتاة منفلتة، فلما خرجت فتاة محجبة ملتزمة كان هذا أمراً داعياً إلى العجب والدهشة والاستغراب.

ومن العجب أيضاً أن شاباً ملتزماً مستقيماً، محافظاً على الصلاة، في أسرة كلها تفلت وتداخل وفوضى لا انضباط فيها، لا في عبادة ولا في صلاة ولا في مذياع ولا في صوت ولا في موسيقى ولا في غيره، في كل شيء تجد الأمر مفتوحاً على مصاريعه، إذاً تعجب، تقول: كيف خرج هذا الشاب؟! لأن النتيجة المتوقعة أن يكون هذا الشاب كمثل أبيه بلا شك، فلما خرج شخصية أخرى، كان ذلك داعياً إلى الدهشة والعجب والغرابة.

إذا شب الطفل رويداً رويداً، تجده يتأثر بأبيه.

صديق لي مؤذن أولاده دائماً في البيت يؤذنون، وآخر والده خطيب ولده دائماً يرقي على كرسي، والآخر يصعد على وسادة، إن الحمد لله.. إن الحمد لله.. إذاً الطفل يتأثر بوالده حتى فيما قبل مرحلة الدراسة.

الطفل الذي تجد بيته قريباً من المسجد، تجده أكثر قدرة على الإنصات والمتابعة، والإلقاء وإعادة الأذان من غيره، لما يحيط به.

يهمنا في الدرجة الأولى أن نعرف وضع الطفل مع والده، شخصية الطفل تكتسب التأثير بالدرجة الأولى من شخصية والده، ولذلك فإن أكبر الجرائم أن يسعى أب من الآباء في إفساد أولاده، وذلك بعدم اجتنابه للمعاصي والمنكرات، وعلى أقل الأحوال حنانيك، فبعض الشر أهون من بعض ألا يرتكب المعصية أمامهم إذا كان واقعاً لا محالة، في حين اتفاق الجميع أن المعصية منبوذة ومرفوضة من صغير وكبير.

إن الأب من أكبر المؤثرين على ولده، وله أكبر دور في صناعة شخصية ولده، أتلاحظون أباً في مجتمع لا يهمه إلا التدخين ولعب الورق وأمور أخرى، تجد الأطفال يقلدون هذا السلوك بكل دقة.

يحدثني شاب يقول: كنا صغاراً إذا خرج أبي وأصدقاؤه من المجلس جلسنا وكل واحد منا واضع رجلاً على رجل، واتكأ وأخذ الشيشة، وأخذ بعضنا يتكلم مع بعض، ويضرب الذي بجانبه برأس الشيشة يا فلان! بنفس الطريقة يسترقون الطباع استراقاً شديداً.

والطفل قد يكون أبوه من أهل الطرب والفن، فتجد الطفل يتقن كيف يمسك العود، وانظر إلى شاب والده ذي صناعة معينة، انظر كيف يستطيع أن يحكم طريقة هذه الصناعة وبكل دقة.

أعرف رجلاً صرافاً في مكان ما، رأيت مجموعة من أولاده يعدون عملة معدنية بكميات كبيرة، فيعدون بطريقة عجيبة، أحاول أن أعد معهم بنفس الطريقة فلا أعرف، يمكن أنثر هنا ريالاً وهنا ريالاً، أما أولئك فيعدون بطريقة غريبة وسريعة أيضاً، كان والدهم صرافاً، ومنذ الصغر كان يصحبهم إلى محله أو مكان صيرفته، فتأثروا بأسلوبه وطريقة تعامله.

إذاً أكبر من يصنع شخصية الطفل هو الأب؛ فإذا كان الأب ممن يعتنون بزي معين، ستجد الابن بالضرورة يريد من أبيه أن يعطيه مثلما يلبس، طفل يرى أباه مغرماً بالبنطلون والجاكيت والقميص، يقول: اشتر لي مثل هذا يا أبي، وتجد طفلاً أبوه عالم بطبيعة عمله يلبس المشلح أو شيء من هذا، اشتر لي مثل هذا بالضبط، يأتي له ببنطلون يقول له: لا أريد، أريد مثل هذا الذي أنت تلبسه، ولو أعطيت المشلح الصغير لابن صاحب البنطلون أو العكس، لا أحد من هؤلاء يقبل؛ لأن كل صغير يرى أن صورة والده هي الصورة الأكمل والأسمى والمثلى.

إذاً فنحن لنا دور في صناعة شخصيات أبنائنا وأولادنا، ولذلك إياك أن يراك ولدك ذليلاً فيتعلم منك الذلة، إياك أن يراك ولدك جباناً أو خواراً أو ضعيفاً فيتعلم منك ذلك، إياك أن يراك ولدك خائناً أو مخادعاً فيتعلم منك ذلك، لو رأى الخيانة والخداع من الآخرين لجاء يخبرك مستنكراً، أما وقد رآها منك فسوف يقلدك مفتخراً.

إذاً فللأب دور كبير وعظيم في صناعة شخصية ولده، والكثير منا لا يعرف، وإن كان يعرف لا يبالي أن شخصيته لها دور في صناعة ولده، إلا من رحم الله، وقليل ما هم.

ونتيجة للجهل بهذا الأمر لا تجد الأب حينما يكون لديه رجال في مجلس علم لا يدعه يجلس، بالعكس دعه يجلس، حينما يرى طريقتك في إدارة حوار، أو طريقتك في إمساك كتاب، أو طرح نقاش، أو طريقتك في طرح قضية معينة، وإن كان لا زال صغيراً على الدخول في أعماق الفكرة، لكن حقيقة الأمر أنه يكتسب رويداً رويداً.

وأضرب لكم مثالاً عن نفسي، ودائماً الذي يرزق بأول مولود يحتار لا يعرف كيف يربي، حتى وإن درس التربية، لا بد له من نماذج عملية يقتدي بها ويعرفها، لي ولد صغير أسأل الله له الصلاح، ما كنت أعرف كيف أتعامل معه إذا خرج من البيت بدون إذني، لا زال صغيراً عمره أربع سنوات، وبجوارنا في بيت الجيران لعبة يلعب الأطفال بها، لكني لا أريد أن يكتسب هذا الطفل من الخارج شيئاً.

أعرف أهداف التربية، لكن لا أعرف كيف أتعامل معه، تارة أضرب، وتارة أرفع الصوت عليه، وتارة أهدده بالحرمان، وتارة .. وتارة، قدر لي أن أزور أحد الأصدقاء في دولة ما، ووجدت أطفاله في سن ولدي بالضبط، فكنت جالساً معه في بحث موضوع لا أريد أن يجلس معنا أحد فيه، فقال لأولاده الصغار: لو سمحتم يا فلان وفلان! أنا عندي اجتماع خاص مع عمكم فلان، ورجائي تتيحوا لنا الفرصة نتحدث لبحث الموضوع بصورة من الهدوء، ولو تكرمتم تفضلوا، فهزوا رءوسهم وخرجوا.

أنا واثق أنهم لم يفهموا شيئاً، لكن أسلوب المعاملة دل على أن هناك نوعاً من الاحترام، لكن المحصلة النهائية نريد منكم أن تتفضلوا مشكورين، ففهموا هذه القضية وخرجوا، أما تفاصيل الكلام ما فهموا منه شيئاً، فقلت له: أنت تتعامل مع الأولاد بالطريقة هذه، قال: بغير هذه الطريقة لا يمكن أن تتعامل مع الطفل، وفعلاً جئت وعدلت أسلوب التربية، الولد مستغرب جداً. أبي ما هو بصاحي!!

قسا ليزدجروا ومن يك راحماً     فليقس أحياناً على من يرحم

أحياناً قد تقسو وقلبك كله يتقطع حسرة وشفقة على ولدك، لكن أحياناً تظن أن هذا هو أقرب ما تملك لتوجيه الطفل من مراحل مبكرة، يستغرب ويعجب، خلال فترة معينة استطاع هذا الولد اسأل الله أن يديم علينا وعليكم وعلى ذرية المسلمين الصلاح والهداية والاستقامة، بمجرد الخطاب العادي، يا بني تفضل.. يتفضل، يا بني نصلي.. نصلي، اجلس.. يجلس، اذهب معنا.. يذهب.

السبب أن البعض لا يستطيع أن يتعامل مع ولده بهذا الأسلوب، وبهذه الطريقة، لماذا؟ مادام لك أكبر أثر في صناعة شخصية ولدك، فثق تمام الثقة أن لديه الاستعداد أن يتقبل منك في المراحل المبكرة، ولا يعني ذلك أن الطفل سيكون ملاكاً لا يخطأ، لا، سيكون عنده أخطاء، وستكون عنده نوع من الغرائز التي تنمو مبكرة، غريزة الاعتداء على الأطفال، وأخذ اللعب التي في أيديهم، غريزة الطمع، يريد أن يكون نصيبه أكثر من نصيب أخته، يريد أن يكون الأول في الخروج والدخول قبل إخوانه.

مجموعة غرائز معينة، قضية كونه يريد أن يكون الأول، وإذا ركبت السيارة يريد أن يركب في المقدمة، وإخوانه كلهم في الخلف، هي غريزة حب الشهرة، لكنه في هذه المرحلة يترجمها بهذا الوضع، في مرحلة معينة لها صورة، في مرحلة أكبر لها صورة، لكن أصل الغريزة موجودة، غريزة أخذ ما في أيدي الأطفال، حب التملك، وهذه الغريزة تختلف في صورتها بحسب مراحل نمو الإنسان.

والإسلام بالمناسبة، وهذا كلام جميل قاله الشيخ مناع خليل القطان، في رسالة أنصح الجميع بقراءتها وأسمها تهذيب الغرائز في الإسلام، قال: إن الإسلام لا يكبت الغرائز، ولا يكبح الغرائز، ولكن يهذب الغريزة، توجد غريزة تملك تفصل أبواب التملك في الإسلام مفتوحة، لكن عليها ضوابط، ولها أمور تقيدها، حتى لا تكون حرية التملك سبباً في الاعتداء على حقوق الآخرين، خلافاً للأنظمة الشيوعية التي منعت الإنسان أن يتملك، تقول: أنت إنسان تريد أن تأكل وتشرب، خذ وكل واشرب وأما التملك فليس لك فيه حاجة.

ولذلك في فترة من الفترات، لاقت الشيوعية عنتاً من إضراب العمال؛ لأنها كبتت هذه الغريزة، يأتي العاملان في مصنع واحد، تجد عاملاً سميناً طويلاً يأكل أربع دجاجات، ويستهلك كذا رطل من الماء والعصير، وثلاثة تباسي رز...الخ وفي النهاية يصنع كرسياً واحداً في اليوم، ويأتي عامل نحيل، لا يشتهي الأكل، يأكل نصف دجاجة، ويشرب كأساً واحداً من العصير أو الماء، وينتج نفس الكرسي، عجيب! هذا ينتج نفس الإنتاج وهذا يأكل أكثر من هذا! ذلك العامل يرى أنه مظلوم، فأضرب عن العمل، وأضربت طوائف كثيرة من العمال عن العمل؛ لأن قضية التملك مكبوتة، كونك تعطيني آكل واشرب وألبس هذا لا يكفي، عندي غريزة أحب أن أتملك، أريد أن يكون لي رصيد، وأريد أن يكون لي سيارة أملكها، أريد أن يكون لي بيت أتملكه، ذلك ما بدأت تتنازل الشيوعية عنه.

أخيراً ولعلهم -كما يزعمون- في عهد هذا المجرم جورباتشوف هو أوسع من فتح النظم الشيوعية على الإطلاق، ولكن دندنة وشنشنة أخزمية، يراد بها في يوم من الأيام ضربة للمسلمين، أو تصوير جديد للشيوعية بمنطلق أو بصورة جديدة حتى ينخدع المسلمون بها، لكن أما وقد أسفر الصبح لذي عينين، وقد علم الناس وعرفوا مساوئ هذه الشيوعية، وما فيها من كبت للحريات وللحدود وللتملك.

الأنظمة الرأسمالية تملك ما تشاء، وكانت قبل قضية الرأسمالية في أوروبا أنظمة الإقطاع، أي: أنك تملك مزرعة كبر السويدي والبديعة وشبرى بمن فيها من الناس والبشر، البشر مسخرون والإقطاع تملكه، وكل هؤلاء يكونون عبيداً تحت هذا المالك، أما الإسلام فما فتح هذا الباب على مصاريعه، تملكوا الناس وتملكوا الأرض وتملكوا كل ما فيها، لا، وما حجب الناس أن يتملكوا، بل لهم أن يتملكوا، وقد جاء من الصحابة تجار أثرياء كبار جداً كـعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان وكثيـر منهم.

الإسلام لم يكبت هذه الحرية ولم يفتحها، بل هذب غريزة حب التملك، الغريزة الجنسية، الرهبنة النصرانية القسس -كما يزعمون- أنهم يحرمون ويتبتلون ذكوراً وإناثاً عن الزواج، وفي المقابل الآخر انفتاح لا أخلاقي وإباحية مطلقة، وأما في الإسلام فنحن لا نطلق هذه الغريزة الجنسية، ولا تكبت كبتاً كما يفعله اليهود والنصارى، لكن تهذب الغريزة الجنسية بالزواج، وبما تملك الأيمان إلى آخر ذلك.

إذاً الإسلام يهذب الغرائز، ولا يكبتها، وثقوا أن هذا الغرائز أيضاً غرائز فطرية، فيولد الطفل ومعه مجموعة من الغرائز، فإياك أن تكبت الطفل من غريزة، لكن ينبغي أن تهذبها وأن توجهها، ولو انطلقت غريزة من غرائزه في وقت مبكر؛ فعليك أن ترعاها بدقة حتى يحين الوقت المناسب لتحقيق رغبته الغريزية في إطار حدود الشريعة.

إذاً ينبغي ألا نتجاهل في قضية التربية أن الأطفال والصغار لديهم غرائز فينبغي أن يكون لهم دور، لو سألت الكثير هل كل واحد منكم من الأولاد عنده ما يملكه؟ الطفل يحب أن يتملك، لو تعود الطفل أن تعطيه ريالاً أو ثمانية عشر قرشاً وعودته على التوفير، فستجد في نهاية الأسبوع أنه قد جمع، هل هو خلفه أسرة يكد عليها؟ لا، لكن التملك موجودة، وهو يجمع لكي يشتري لعبة أو حلوى أو أي شيء آخر.

فهذا الطفل لا بد أن توجه غريزته، يريد الطفل أن يخرج معك، يريد أن يكون في المركب الأمامي في السيارة، تقول له: لا، إذا حفظت هذه السورة أخذتك معي، ويكون لك الصدارة في السيارة، فستجده يحفظ.

إذاً فليعلم أن الصدارة لا بد أن تكون مقابل أداء أو إعطاء أو إنتاج، فإذا هو أعطى وأدى وأنتج، عند ذلك هو سوف يرتقي هذا المكان، فبهذه الطريقة حينما نوقن تمام اليقين أن لدى أطفالنا غرائز، وحينما نعرف أن هذه الغرائز ينبغي ألا تكبت، وإنما ينبغي أن توجه في وقت مبكر، عند ذلك سيكون للطفل تصرف وسلوك غريب وعجيب بالنسبة لنا؛ لأننا شاهدنا الانفصام في شخصية الشباب، وفي شخصية الأطفال، نتيجة غرائزه الموجودة، والكبت الذي يواجهه، والتعاليم الذي يتلقاها، والواقع الذي يخالف ذلك.

هذا فيما يتعلق بوضع الأسرة، فالأب يصنع أكبر دور في هذا الأمر.

البنية تتأثر بوالدتها أكبر تأثر، أنا أرى بنيات صغاراً تلبس حجاباً، وعندما يمر رجال تتغطى وهي طفلة صغيرة جداً، لكن أنوثتها مبكرة، ولديها توجه نحو اكتساب صفات الأنوثة، لاحظ هذه الطفلة، إما أن تلف غطاء الرأس بطريقة ما يسمونه الروز، وهي بذلك قد رأت أمها أو أختها تفعل هذه الطريقة، فقلدتها بالضبط، وإما أن تجد الصغيرة تشغل أمها: أعطيني قفازاً مثلما عندك قفاز، وتلبس العباءة بنفس طريقة الحجاب؛ طريقة الستر التي تفعلها أمها.

إذاً الفتاة معجبة بأمها غاية الإعجاب، وتتأثر بأمها غاية التأثر، إذا كانت الأم من ذوات الموضات والموديلات إلى حد يشغل غالب أوقاتها، لا يهمها في كتاب أو مجلة أو جريدة إلا صفحة الأزياء وعروض الأزياء، ستكون هذه الفتاة أيضاً متأثرة بنفس وضع أمها، ولذلك تلاحظ الطفلة تلف فوطة صغيرة وتضعها في السرير.. هذه بنتي، تقليداً لأمها، الدور الذي مارسته الأم معها، تريد أن تمارس هذه الطفلة ولو في الخيال، استعداداً لاكتساب صفات الأنوثة.

الأمر الآخر: تجد لها تصرفات وسلوكيات مكتسبة من واقع أفعال المرأة أو أفعال النساء، فإذا كان الفعل الذي تراه في بيتها مع أمها فعلاً سليماً؛ رأيت من الفتاة فعلاً سليماً، وإن كان الفعل خاطئاً رأيت تصرفاً من الفتاة خاطئاً، وعلى أية حال:

ربوا البنات على الفضيلة إنها     في الشرق علة ذلك الإخفاق

الأم روض إن تعهده الحيا     بالري أيرق أيما إيراق

الأم مدرسة إذا أعددتها     أعددت شعباً طيب الأعراق

الأم والأب كل منهما له أثر على أطفالهما، فإن كانا مثلين ساميين ملتزمين؛ سيكون الأطفال بإذن الله بنفس المستوى، وإن كانا خلاف ذلك، فإنك لا تجني من الشوك العنب.

تريد الأب مطبلاً والأم رقاصة والولد إماماً! لا يمكن إلا بمنّ من الله وهداية، فإن الله يخرج الحي من الميت، لكن بالصورة العامة والطبيعية العامة هذه هي النتيجة المتوقعة، ولذلك يعجب الناس حينما تخرج فتاة متحجبة من بيت منفلت؛ لأن الثمرة الطبيعية أن تكون الفتاة منفلتة، فلما خرجت فتاة محجبة ملتزمة كان هذا أمراً داعياً إلى العجب والدهشة والاستغراب.

ومن العجب أيضاً أن شاباً ملتزماً مستقيماً، محافظاً على الصلاة، في أسرة كلها تفلت وتداخل وفوضى لا انضباط فيها، لا في عبادة ولا في صلاة ولا في مذياع ولا في صوت ولا في موسيقى ولا في غيره، في كل شيء تجد الأمر مفتوحاً على مصاريعه، إذاً تعجب، تقول: كيف خرج هذا الشاب؟! لأن النتيجة المتوقعة أن يكون هذا الشاب كمثل أبيه بلا شك، فلما خرج شخصية أخرى، كان ذلك داعياً إلى الدهشة والعجب والغرابة.