إنا وجدنا آباءنا على أمة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد أوله وآخره، وظاهره وباطنه، وسره وعلانيته، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا مضل لمن هديت ولا هادي لمن أضللت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مباعد لما قربت ولا مقرب لما باعدت، اللهم عائذون بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا.

نسألك اللهم ربنا الأمن يوم الخوف، والنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول يوم القيامة، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، واحشرنا في زمرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم غير خزايا ولا مفتونين، بمنك ورحمتك يا رب العالمين!

أيها الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وأشكر الله جل وعلا ثم أشكركم على حسن إنصاتكم وحضوركم واجتماعكم، وأشكر مركز الدعوة الذي يسر هذا الشرف بالمثول بين يديكم والتحدث إليكم، أسأل الله جل وعلا أن يذكر بعضنا بعضاً هذا المقام في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

أيها الأحبة في الله: موضوع المحاضرة في هذه الليلة بعنوان: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22].أيها الأحبة: الحق أبلج وواضح وجلي.

والحق أبلج لو يبغون رأيته     هيهات يبصر من في ناظريه عمى

والله إن الحق لجلي لمن أراده وطلبه، إلا من كان في قلبه ظلم، أو كبر وعلو، أو هوى كما قال عز وجل: وَجَحَدُوا بِهَا [النمل:14] بألسنتهم، بألفاظهم، بأقوالهم، بأفواههم: وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14] في قرارة قلوبهم يعلمون أن الحق هو ما جاء من عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14] فلماذا يجحدون؟ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14].

إن لرد الحق على مرور التاريخ صوراً عديدة، فتارة يرد الحق؛ لأن الذي جاء به ضعيف كما قال قوم شعيب له: وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ [هود:91] فإنهم يرون أن شعيباً ضعيف، ويرون ضعفه سبباً لرد الحق الذي جاء به، وآخرون يرون أن الفقر والفاقة والمسكنة سبب لرد الحق ممن جاء به، ولذلك قال فرعون يحدث قومه ويرد الحق الذي جاء به موسى: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52] وهو يفتخر بأمواله ويقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51].

وقريش تقول لمحمد: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف:53] فهذه صورة من الصور التي بينها القرآن وذكرتها السنة في حال كثير من الذين يردون الحق ولا يقبلونه ممن جاء به.

وإن كثيراً ممن يردون الحق لا يردونه لأنهم يجهلونه، والله إنهم ليعلمونه ويعرفونه، ولكن الظلم والكبر، والهوى والعلو، والعناد والإصرار هو الذي ساقهم لذلك، قال عز وجل: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ [القصص:50] لم يقل: فإنهم يجهلون أو لا يعلمون أو لا يفقهون أو لا يدركون، قال: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص:50] وقال عز وجل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23] إنه لم يضل عن جهل ولم يضل عن نقص فقه أو فهم، وإنما ضل على علم، كذلك الهوى يعمي صاحبه عن البصيرة ويرده عن اتباع الصراط المستقيم.

فالحق أبلج، حينما ندعو من ضل عن الحق إلى الحق ندعوه بدعوة الله عز وجل لا نسبه ولا نشتمه: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108] وإنما شفاء العي السؤال: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] وحينما نعالج المريض فإننا لا نشتمه ولا نشتم مرضه، وأول ما نحتاج إليه وأول ما ننبهه إليه أن ندعوه إلى استخدام عقله وفكره؛ حتى لا يكون من الذين قال الله فيهم: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179] إن من الصور الواردة في رد الحق ودفعه ممن جاء به، ما ذكره القرآن في مواضع شتى، وإن الحاصر والمتتبع لها في القرآن ليجد صورة من الصور تكررت في مواجهة كثير من الأنبياء والرسل، تلكم الصورة التي يرد فيها الضالون الحق ممن جاء به؛ لا لأن عندهم حقاً يوازيه أو ينافسه أو أفضل منه، ولا لأنهم لم يفقهوه، ولا لأنهم لم يدركوه، وإنما قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22].

قال الله عز وجل: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:21-24] في هذه الآية ذكر ردهم للحق بسبب اتباعهم لآبائهم.

فالأولى قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، والأمة في هذه الآية بمعنى الملة والطريقة قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22] وبعد هذه الآية في نفس السورة: إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23] يقول ابن كثير : يقول عز وجل منكراً على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ [الزخرف:21] إي من قبل شركهم، من قبل ضلالهم وبدعهم، من قبل ظلمهم وعدوانهم، هل عندهم كتاب كانوا به يستمسكون؟ ثم بين عز وجل أن حجتهم في هذا أن آباءهم سبقوا إلى هذا، وهذا حال كثير من أمثالهم ونظرائهم.

ويقول عز وجل في آية أخرى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُون َ [البقرة:170] قال المفسرون: إن هؤلاء إذا قيل لهم اتبعوا ما جاءت به الرسل من عند الله، وما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام النبي وحي يُوحى؛ لأن النبي لا ينطق عن الهوى، واتركوا ما أنتم عليه من الضلال قالوا: لا. بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والأنداد، فينكر الله عليهم: أولو كان آباؤكم هؤلاء الذين تتبعونهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون، أي: أنتم مصرون على اتباع آبائكم وأجدادكم حتى ولو كان آباؤكم ليس عندهم كتاب يستمسكون به، ولا فهماً، ولا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.

وفي آية ثالثة يقول عز وجل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا [المائدة:104] ما هو حسبهم، وما الذي يكفيهم، وما الذي ملأ قلوبهم دون هذا الحق؟ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [المائدة:104] قال المفسرون: أي أنهم إذا دعوا إلى الله وشرعه وما أوجبه، وإذا دعوا إلى ترك ما حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم قالوا: حسبنا، أي: يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك، فالله يرد عليهم ويقول: أولو كان آباؤكم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون؛ أفأنتم تتبعونهم حتى ولو كانوا لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون أبداً.

بل وأخبث من هذا وأضل أنهم يفعلون الفواحش والمنكرات ويحتجون بأنهم ألفوا آباءهم عليها وهم سائرون على ما سار عليه أسلافهم، قال تعالى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28] انظروا الكذب والعياذ بالله، يحتجون بآبائهم ثم يكذبون على الله ويقولون إن الله أمرهم بها: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28] تعالى الله ربنا عز وجل، مولانا وخالقنا، الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، وهدانا، ومن كل خير سألناه أعطانا، أيأمر ربنا بالفحشاء وهو الذي حرمها: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33] ربنا الذي يحرم الفواحش ظاهرها وباطنها أيعقل أنه عز وجل يأمر بالفحشاء؟! أفيكون هذا دليلاً وحجة يكذبون على الله ويحتجون بآبائهم: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:28-29] والعبرة في النصوص القرآنية والنصوص النبوية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن كان لهذه الآية سبب وقصة كما ذكر ابن كثير قال:

كانت العرب ما عدا قريشاً لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها، فكانت قريش وتسمى الحمس، ويقال حمساً حمستهم الشمس، كانوا يطوفون في ثيابهم، وما سواهم من قبائل العرب يقولون: لا نطوف بالبيت وعلينا ثياب عصينا الله فيها، فمن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه، ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوباً ولم يجد أحداً من الحمس يعيره ثوباً طاف عريانا، وربما كانت المرأة تطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر وتقول وهي تطوف:

اليوم يبدو بعضه أو كله     فما بدا منه فلا نحله

وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل، وهذا شيء ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند من أمر من الله وشرعه فأنكر الله عليهم ذلك بقوله: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28] فرد عليهم ربنا عز وجل فقال: قل أي: يا محمد إن الله لا يأمر بالفحشاء، هذا الذي يصنعونه منكر وفاحشة والله لا يأمر به، أتقولون على الله ما لا تعلمون؟!

وكذلك الحال -أيها الإخوة- في كثير من الناس في هذا الزمان في كثير من البدع، سواءً كانت بدعاً في الاعتقاد، أو بدعاً في التعبد، أو بدعاً في السلوك أو المعاملات، أو إسرافاً، أو تجاوزاً، تجد أن كثيراً من الناس إذا نهوا عن منكر شائع وخطأ فادح، وأمر منتشر بينهم غير محمود؛ فإنهم يحتجون بفعل آبائهم وأجدادهم وعلى سبيل المثال:

الإسراف تبعاً للآباء والأجداد

منذ أيام كنا في مناسبة في منطقة من مناطق شمال المملكة ، وإذ بنا نجلس على موائد لا ينتهي إليها البصر من أول هذا المسجد إلى آخره وصفوف متتابعة، ثم دعي الناس إلى الطعام فأكلوا ووالله ما حركوا ربع ما في هذه الصحون، ثم قيل هذه الضيافة الأولى، وأنتم بعد صلاة الظهر غداً على موعد في الضيافة الثانية، وحياكم الله بعد صلاة العشاء غداً في دخول العريس على زوجته في ضيافة ثالثة، فقلنا لصاحب الزفاف -يا عبد الله- أما تتقي الله عز وجل؟! إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً [الإسراء:27] والله عز وجل يقول: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31] فكيف تقعون في هذا الإسراف؛ فقال بعضهم: هذه من عادات آبائنا وأجدادنا، وعيب علينا أن نترك عادات الآباء والأجداد، والأعجب من ذلك أن من مد هذه الموائد وهذه السماطات فقراء يشترون السيارة الصالون التي قيمتها مائة بمائة وتسعين ألف ريال من أجل هذا الإسراف والتبذير، وإذا قيل له: لماذا تصر على هذا المنكر وهذا الحرام؟ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22] يقول: هذه عادة أبي وجدي .. بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22].

وكذلك بعضهم تجده يبتدع في العبادة ويتعبد الله بأمر لا دليل عليه من كلام الله ورسوله، ولا دليل عليه من فعل أبي بكر الصديق ولا من فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومع ذلك إذا قيل له: هل عندك حجة من القرآن؟ هل عندك دليل من السنة؟ هل عندك من هدي الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) هل عندك شيء من علم أو آثارة من علم فتخرجه لنا؟ قال: لا. لكنا أدركنا آباءنا وأجدادنا على هذا، ولا يعقل أن يكون والدي وجدي على ضلال.

لماذا لا يكون والدك أو جدك على ضلال؟ أهو معصوم؟ أم أوحي إليه؟ أم سلم من هذا كله؟ أم استوثق العلم وحفظه من جميع جوانبه؟

كشف النساء عن وجوههن بحجة عادات الآباء والأجداد

كذلك كشف النساء وجوههن لإخوة الزوج مثلاً، تجد في بعض المناطق تساهلاً، وإن كانت ولله الحمد والمنة مع الدعوة والاحتساب، ونشر الكتب والأشرطة النافعة بدأت هذه الظاهرة تزول.

وفي بعض المناطق تجد كثيراً من الناس يتساهلون في الدخول على المحارم، فإذا قيل لبعضهم: اتق الله ولا تفعل هذا، فإن نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والدخول على المحارم، فقال رجل: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) يقول بعضهم: لا. هذه أختي .. هذه لحمي ودمي .. هذه شعرة من جسمي .. لا يمكن أن أهم فيها بسوء، فنقول له: مالنا ومواقفك الشخصية، وما علينا من نزاهتك وطهارتك الذاتية، لكن المهم أن الله أمرك فاستجب، ونبيك صلى الله عليه وسلم أمرك فاستجب أياً كانت درجة النـزاهة والطهارة في ذاتك أو في شخصيتك، أو أياً كانت درجة العفة في ذاتك، قال الله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] .. إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] لا تقل: آباؤنا وأجدادنا كانت المرأة فيهم تكرم الضيف وتخدمه، ولم يكن الضيف يهم بالمنكر، أنتم أيها الأجيال الأخيرة الذين تسيئون الظن بالناس، لا. أياً كانت القضية فنحن عندنا هدي من الله مأمورون بالاستجابة له والالتزام به.

وقس على ذلك كثيراً من العادات والتقاليد، والبدع والأخطاء والأغلاط في أمور العقائد والتعبد والعادات العامة عند الناس في مناسباتهم وغيرها مما يحتج عليه بفعل الآباء والأجداد، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [الحج:8] .. وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان:21] وهذه مصيبة هؤلاء الذين لا يجدون حجة إلا أن يقولوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، إنا وجدنا آباءنا على أمة، إنا وجدنا آباءنا على طريقة، وجدناهم على ملة، أيعقل أن الآباء والأجداد ضالون؟ أيعقل أن الآباء والأجداد يخطئون؟

يا حبيبي: أقول لك: هذا كلام الله بين دفتي المصحف لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] .. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] أعطيك القرآن وتقول: قال أبي وجدي، أعطيك قول نبيك صلى الله عليه وسلم فتعطينا من خزانة أبيك وجدك، ألا فليتق الله من كان هذا حاله.

أيها الأحبة: من أراد الحق والبصيرة، وأراد أن يعبد الله عبادة تنفعه إذا حشرجت روحه وبلغت الحلقوم، من أراد أن يعبد الله عبادة تنفعه إذا حمل على الجنازة، وإذا وضع في القبر، وإذا بعث بين يدي الله ووقف للحشر والنشر والحساب والسؤال والجواب، إذا وقف الناس على الصراط بين الجنة والنار، من أراد أن ينفعه عمله فليتق الله ولينظر إلى ما كان يفعله آباؤه وأجداده، فما وجد عليه هدى وأثارة من علم من كلام الله ورسوله فنعم الفعل فعل الآباء والأجداد.

إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق

أيها الإخوة: إن الإسلام ما جاء ليلغي كل أفعال الآباء والأجداد، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بنسخ كل ما فعلته العرب من قبله، بل أثبت أموراً كانت العرب تفعلها، وهو ما كان مشروعاً محموداً مشكوراً في القرآن والسنة؛ من الوفاء والصدق والأمانة، وإكرام الضيف، والتعاون على الحق، ونصرة المظلوم، ودفع الظالم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

فيا أحبابنا: لنعلم تماماً أن من علمنا عنده شيئاً من عادات آبائه وأجداده، فما كان منها موافقاً لكتاب الله وسنة رسوله فنعمت الأخلاق، ونعمت الجبلة والسجايا، وما كانت مخالفة لأمر الله ورسوله، فلن ندع قول جبار السموات والأرض لعادات بشر يمرضون ويتغوطون، ويتبولون ويمتخطون، وينامون وينسون، ويسأمون ويموتون، لن ندع قول الله لقول هؤلاء، ولن ندع قول نبي معصوم لقول هؤلاء أيضاً، قال الله عز وجل في بيان حوار جميل بين إبراهيم عليه السلام وقومه الذين -أيضاً- كانوا يحتجون بالآباء والأجداد: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:51-54].

انظروا ماذا قالوا؟ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، يبين ابن كثير رحمه الله بقوله: لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضُّلال، ولهذا قال: قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:54] أي الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم فأنتم وإياهم على غير هدى وعلى غير طريق مستقيم.

منذ أيام كنا في مناسبة في منطقة من مناطق شمال المملكة ، وإذ بنا نجلس على موائد لا ينتهي إليها البصر من أول هذا المسجد إلى آخره وصفوف متتابعة، ثم دعي الناس إلى الطعام فأكلوا ووالله ما حركوا ربع ما في هذه الصحون، ثم قيل هذه الضيافة الأولى، وأنتم بعد صلاة الظهر غداً على موعد في الضيافة الثانية، وحياكم الله بعد صلاة العشاء غداً في دخول العريس على زوجته في ضيافة ثالثة، فقلنا لصاحب الزفاف -يا عبد الله- أما تتقي الله عز وجل؟! إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً [الإسراء:27] والله عز وجل يقول: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31] فكيف تقعون في هذا الإسراف؛ فقال بعضهم: هذه من عادات آبائنا وأجدادنا، وعيب علينا أن نترك عادات الآباء والأجداد، والأعجب من ذلك أن من مد هذه الموائد وهذه السماطات فقراء يشترون السيارة الصالون التي قيمتها مائة بمائة وتسعين ألف ريال من أجل هذا الإسراف والتبذير، وإذا قيل له: لماذا تصر على هذا المنكر وهذا الحرام؟ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22] يقول: هذه عادة أبي وجدي .. بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22].

وكذلك بعضهم تجده يبتدع في العبادة ويتعبد الله بأمر لا دليل عليه من كلام الله ورسوله، ولا دليل عليه من فعل أبي بكر الصديق ولا من فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومع ذلك إذا قيل له: هل عندك حجة من القرآن؟ هل عندك دليل من السنة؟ هل عندك من هدي الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) هل عندك شيء من علم أو آثارة من علم فتخرجه لنا؟ قال: لا. لكنا أدركنا آباءنا وأجدادنا على هذا، ولا يعقل أن يكون والدي وجدي على ضلال.

لماذا لا يكون والدك أو جدك على ضلال؟ أهو معصوم؟ أم أوحي إليه؟ أم سلم من هذا كله؟ أم استوثق العلم وحفظه من جميع جوانبه؟

كذلك كشف النساء وجوههن لإخوة الزوج مثلاً، تجد في بعض المناطق تساهلاً، وإن كانت ولله الحمد والمنة مع الدعوة والاحتساب، ونشر الكتب والأشرطة النافعة بدأت هذه الظاهرة تزول.

وفي بعض المناطق تجد كثيراً من الناس يتساهلون في الدخول على المحارم، فإذا قيل لبعضهم: اتق الله ولا تفعل هذا، فإن نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والدخول على المحارم، فقال رجل: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) يقول بعضهم: لا. هذه أختي .. هذه لحمي ودمي .. هذه شعرة من جسمي .. لا يمكن أن أهم فيها بسوء، فنقول له: مالنا ومواقفك الشخصية، وما علينا من نزاهتك وطهارتك الذاتية، لكن المهم أن الله أمرك فاستجب، ونبيك صلى الله عليه وسلم أمرك فاستجب أياً كانت درجة النـزاهة والطهارة في ذاتك أو في شخصيتك، أو أياً كانت درجة العفة في ذاتك، قال الله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] .. إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] لا تقل: آباؤنا وأجدادنا كانت المرأة فيهم تكرم الضيف وتخدمه، ولم يكن الضيف يهم بالمنكر، أنتم أيها الأجيال الأخيرة الذين تسيئون الظن بالناس، لا. أياً كانت القضية فنحن عندنا هدي من الله مأمورون بالاستجابة له والالتزام به.

وقس على ذلك كثيراً من العادات والتقاليد، والبدع والأخطاء والأغلاط في أمور العقائد والتعبد والعادات العامة عند الناس في مناسباتهم وغيرها مما يحتج عليه بفعل الآباء والأجداد، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [الحج:8] .. وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان:21] وهذه مصيبة هؤلاء الذين لا يجدون حجة إلا أن يقولوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، إنا وجدنا آباءنا على أمة، إنا وجدنا آباءنا على طريقة، وجدناهم على ملة، أيعقل أن الآباء والأجداد ضالون؟ أيعقل أن الآباء والأجداد يخطئون؟

يا حبيبي: أقول لك: هذا كلام الله بين دفتي المصحف لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] .. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] أعطيك القرآن وتقول: قال أبي وجدي، أعطيك قول نبيك صلى الله عليه وسلم فتعطينا من خزانة أبيك وجدك، ألا فليتق الله من كان هذا حاله.

أيها الأحبة: من أراد الحق والبصيرة، وأراد أن يعبد الله عبادة تنفعه إذا حشرجت روحه وبلغت الحلقوم، من أراد أن يعبد الله عبادة تنفعه إذا حمل على الجنازة، وإذا وضع في القبر، وإذا بعث بين يدي الله ووقف للحشر والنشر والحساب والسؤال والجواب، إذا وقف الناس على الصراط بين الجنة والنار، من أراد أن ينفعه عمله فليتق الله ولينظر إلى ما كان يفعله آباؤه وأجداده، فما وجد عليه هدى وأثارة من علم من كلام الله ورسوله فنعم الفعل فعل الآباء والأجداد.

أيها الإخوة: إن الإسلام ما جاء ليلغي كل أفعال الآباء والأجداد، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بنسخ كل ما فعلته العرب من قبله، بل أثبت أموراً كانت العرب تفعلها، وهو ما كان مشروعاً محموداً مشكوراً في القرآن والسنة؛ من الوفاء والصدق والأمانة، وإكرام الضيف، والتعاون على الحق، ونصرة المظلوم، ودفع الظالم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

فيا أحبابنا: لنعلم تماماً أن من علمنا عنده شيئاً من عادات آبائه وأجداده، فما كان منها موافقاً لكتاب الله وسنة رسوله فنعمت الأخلاق، ونعمت الجبلة والسجايا، وما كانت مخالفة لأمر الله ورسوله، فلن ندع قول جبار السموات والأرض لعادات بشر يمرضون ويتغوطون، ويتبولون ويمتخطون، وينامون وينسون، ويسأمون ويموتون، لن ندع قول الله لقول هؤلاء، ولن ندع قول نبي معصوم لقول هؤلاء أيضاً، قال الله عز وجل في بيان حوار جميل بين إبراهيم عليه السلام وقومه الذين -أيضاً- كانوا يحتجون بالآباء والأجداد: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:51-54].

انظروا ماذا قالوا؟ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، يبين ابن كثير رحمه الله بقوله: لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضُّلال، ولهذا قال: قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:54] أي الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم فأنتم وإياهم على غير هدى وعلى غير طريق مستقيم.

العجب -أيها الإخوة- في زمننا هذا، في عصر التقنية والتكنولوجيا، في عصر استخدام العقل -كما يقال- أن تجد أناساً ربما فيهم المهندس والطبيب، وفيهم عالم الرياضيات، والمتخصص في الأحياء والفيزياء وغيرها من الأمور التي تحتاج إلى إشغال العقل وإعماله بدقة يقبل أموراً يحتج عليها بفعل الآباء والأجداد.

لئن كانت قبلنا أمم أو أناس يحتجون بفعل آبائهم وأجدادهم لأنهم أميون لا يقرءون ولم يتعلموا، ولم يعرفوا الحساب ولم يعرفوا استخدام العقل في مكانه، فما حجة أولئك الذين برعوا في العلم والفيزياء والرياضيات، والصيدلة والكيمياء وعلوم أخرى، لئن كان في الآباء من لم يتعلم فانطلت عليه عادات الآباء والأجداد؛ فأنت أيها المتعلم، يا من لك عقل، ويا من لك هدى وبصيرة كيف تنطلي عليك هذه.

تعطيل العقول سبب الضلالات

إذاً: من واجبنا أن نستخدم عقولنا لو أن رجلاً قال لي أو قال لك أو قال لأي واحد: أرجوك أن تغمض عينيك وأن ترمي بعقلك في الزبالة أو في صندوق، واتبعني في كل ما أنا فيه ولا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً؛ لقلت: لا وألف لا،إن الله ما خلق هذا العقل عبثاً.

لو أن رجلاً أراد يلقمك تلقيماً ويلقنك أموراً، وقال لك: احفظها ولا تناقش ولا تحاور ولا تجادل، ولا تبحث ولا تسأل ولا تناظر، إنما خذها وسلم بها؛ لقلت: وما قيمة العقل، وما الحاجة إليه إذاً؟! أيعقل أن العقل قد خلق عبثاً، إنما خلق العقل لكي يهتدى به إلى الحق، مستنيراً بنور الوحي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه [الحجرات:1].

بل إن الله عز وجل بين أن طوائف الكفار الذين يصلون جهنم وساءت مصيراً يعترفون بأن تعطيل عقولهم كان سبباً في دخولهم النار، قال تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10-11] فالأولى قالوا: لو كنا نسمع أو نعقل، لو أنا حكمنا عقولنا لما دخلنا النار، ثم قال: فاعترفوا بذنبهم، أي: فأقروا أن تعطيل العقول ذنب، وأقروا أن تعطيل العقول أمر منكر، فكانت العاقبة أنهم من أهل النار ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أيها الأحبة: اسمعوا قول الجبار عز وجل الذي خلقنا وإياكم، وخلق جميع البشر، وهو أدرى بما يصلح أحوالنا، وأدرى بما ينفعنا وأدرى بما يضرنا، قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] اسمعوا قول الجبار عز وجل: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود:109] يعني: لا يصبك الشك فيما ترى من فعل هؤلاء، فإنهم يعبدون ما كان يعبد آباؤهم من قبل.

قال ابن كثير: فلا تكن في مرية مما يعبد المشركون، إنه باطل وجهل وضلال، إنهم يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل، وليس لهم من مستند إلا اتباع الآباء في تلك الجهالات.

وقال عز وجل أيضاً: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [إبراهيم:9-10] أيضاً القضية في الآباء، أنتم تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ [إبراهيم:9] الرسل يدعونهم وينصحونهم ويأتي هؤلاء يردون أيديهم في أفواه الرسل حتى لا يسمعوا منهم حقاً، ولأجل ذلك تجد بعض المساكين إذا قيل له ما قيل، قال: لا. انتبه لنفسك، إن عندهم كلاماً كالسحر، ضع في أذنيك قطناً أو سدادة حتى لا تسمع هذا الكلام.

قصة الطفيل بن عمرو الدوسي

إن الطفيل بن عمرو الدوسي قبل إسلامه كان قد سمع بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث أخاً له يستفسر الخبر أو يستنبئ الخبر، فلم يشف غليله، فقال: إني أريد أن أذهب إلى هذا الصابئ -يعني محمداً صلى الله عليه وسلم- فأنظر في شأنه، فجاءه قوم محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: انتبه! إن عنده كلاماً كالسحر يفرق بين المرء وزوجه، فخذ قطناً وضعه في أذنيك حتى لا تسمع من كلامه، أي اذهب فاسأل أبا لهب أو أبا جهل، أو الوليد بن المغيرة أو أمية بن خلف، اسأل هؤلاء، أما هذا الرجل فلا تسأله فإن عنده كلاماً يفرق به بين المرء وزوجه، قال الطفيل : فوضعت في أذني القطن وقدمت إلى مكان هذا الرجل لأسأل عن حاله، قال: فلما كنت في الطريق قلت لنفسي: إني لشاعر، بل إني لمن شعراء العرب وأشعرهم، وأعرف سجع الكهان من كلام الحق، وأعرف رديء القول من طيبه وجيده، فلماذا أضع في أذني هذا الكرسف وهذا القطن، قال: فأزلته فجئت إلى محمد صلى الله عليه وسلم فسمعت منه، فما هو إلا أن شرح الله صدري للحق.

أيها الأحبة: إن كثيراً من الناس ليس لديه استعداد أن يسمع الحقيقة، أنا أقول لكل عاقل ولكل من يحترم عقله: إياك أن تجعل عقلك في خزانة جدك وأبيك، وإياك أن تجعل عقلك تحت سرير نومك أو في خزانة والدتك، أريدك أن تحمل عقلك معك أينما انتهيت، واسمع مني وأسمع منك، والله لو علمت أن الحق معك لتركت ما أنا عليه واتبعتك، لكن لو بينت لي بصريح قول الله، وصريح قول رسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا هو الحق، ليست القضية أن يقل هؤلاء أو أن يكثر هؤلاء أو العكس، القضية أين الحق فنتبعه؟ أين الهدى فنسير عليه؟ أين الصراط فنلتف حوله؟ أين الراية فنجتمع عندها؟ هذا الذي يرضي الله عز وجل.

نهاية أتباع الآباء والأجداد

قال الله عز وجل عن أهل الجحيم: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:69-70] أولئك الذين اتبعوا آباءهم فكانوا معهم والعياذ بالله في دار الجحيم.

أيها الأحبة: إن قضية الاتباع للآباء والأجداد سوف تحسم وتنتهي في الآخرة يوم أن يتبرأ المتبوع من التابع، ويوم أن يتبرأ القائد، من المقود، يوم أن يتبرأ كل من الآخر، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت:29] أين هؤلاء الذين أضلونا وغررونا، أين الذين كنا نرى الحق أبلج فيضعون على أعيننا غشاوة، وكنا نسمع الحق واضحاً فيضعون في آذاننا وقراً حتى لا تصل الحقيقة إلى قلوبنا.

قال عز وجل: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:165-166] لاحظوا البراءة، أخذ بعضهم يلعن بعضاً، ويتبرأ ويتباعد عن بعض: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166] في الدنيا أتبعك وتتبعني، لأنك قريبي ومن جماعتي، ومن قبيلتي، ومن صحبي ومن جيراني، الآن تقطعت بنا الأسباب: فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] .. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:167] المساكين الضعفاء الذين يتبعون ويلحقون على غير علم ولا هداية: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] هذا الاتباع المحموم المجنون بغير ضابط ولا عقل يكون حسرة على التابعين أمام المتبوعين، وبراءة المتبوعين من التابعين يوم القيامة، بل إن الله عز وجل يبين أن طوائف من الذين يتبع بعضهم بعضاً يتحاجون في النار ويلعن بعضهم بعضاً، قال تعالى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [غافر:46-48].

فهؤلاء أهل النار يتحاجون ويتخاصمون، ويقول الضعفاء للكبراء، يقول الأتباع للمتبوعين، يقول المساكين للسادة والكبراء: إنا كنا لكم تبعاً، أطعناكم فيما دعوتمونا، واستجبنا لكم فيما وجهتمونا إليه في الدنيا من الضلال، فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار؟ هل تتحملون عنا شيئاً من العذاب، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا [غافر:48] إنا وإياكم سواء في النار لا أحد يتحمل عن أحد شيء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إذاً: من واجبنا أن نستخدم عقولنا لو أن رجلاً قال لي أو قال لك أو قال لأي واحد: أرجوك أن تغمض عينيك وأن ترمي بعقلك في الزبالة أو في صندوق، واتبعني في كل ما أنا فيه ولا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً؛ لقلت: لا وألف لا،إن الله ما خلق هذا العقل عبثاً.

لو أن رجلاً أراد يلقمك تلقيماً ويلقنك أموراً، وقال لك: احفظها ولا تناقش ولا تحاور ولا تجادل، ولا تبحث ولا تسأل ولا تناظر، إنما خذها وسلم بها؛ لقلت: وما قيمة العقل، وما الحاجة إليه إذاً؟! أيعقل أن العقل قد خلق عبثاً، إنما خلق العقل لكي يهتدى به إلى الحق، مستنيراً بنور الوحي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه [الحجرات:1].

بل إن الله عز وجل بين أن طوائف الكفار الذين يصلون جهنم وساءت مصيراً يعترفون بأن تعطيل عقولهم كان سبباً في دخولهم النار، قال تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10-11] فالأولى قالوا: لو كنا نسمع أو نعقل، لو أنا حكمنا عقولنا لما دخلنا النار، ثم قال: فاعترفوا بذنبهم، أي: فأقروا أن تعطيل العقول ذنب، وأقروا أن تعطيل العقول أمر منكر، فكانت العاقبة أنهم من أهل النار ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أيها الأحبة: اسمعوا قول الجبار عز وجل الذي خلقنا وإياكم، وخلق جميع البشر، وهو أدرى بما يصلح أحوالنا، وأدرى بما ينفعنا وأدرى بما يضرنا، قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] اسمعوا قول الجبار عز وجل: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود:109] يعني: لا يصبك الشك فيما ترى من فعل هؤلاء، فإنهم يعبدون ما كان يعبد آباؤهم من قبل.

قال ابن كثير: فلا تكن في مرية مما يعبد المشركون، إنه باطل وجهل وضلال، إنهم يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل، وليس لهم من مستند إلا اتباع الآباء في تلك الجهالات.

وقال عز وجل أيضاً: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [إبراهيم:9-10] أيضاً القضية في الآباء، أنتم تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ [إبراهيم:9] الرسل يدعونهم وينصحونهم ويأتي هؤلاء يردون أيديهم في أفواه الرسل حتى لا يسمعوا منهم حقاً، ولأجل ذلك تجد بعض المساكين إذا قيل له ما قيل، قال: لا. انتبه لنفسك، إن عندهم كلاماً كالسحر، ضع في أذنيك قطناً أو سدادة حتى لا تسمع هذا الكلام.

إن الطفيل بن عمرو الدوسي قبل إسلامه كان قد سمع بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث أخاً له يستفسر الخبر أو يستنبئ الخبر، فلم يشف غليله، فقال: إني أريد أن أذهب إلى هذا الصابئ -يعني محمداً صلى الله عليه وسلم- فأنظر في شأنه، فجاءه قوم محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: انتبه! إن عنده كلاماً كالسحر يفرق بين المرء وزوجه، فخذ قطناً وضعه في أذنيك حتى لا تسمع من كلامه، أي اذهب فاسأل أبا لهب أو أبا جهل، أو الوليد بن المغيرة أو أمية بن خلف، اسأل هؤلاء، أما هذا الرجل فلا تسأله فإن عنده كلاماً يفرق به بين المرء وزوجه، قال الطفيل : فوضعت في أذني القطن وقدمت إلى مكان هذا الرجل لأسأل عن حاله، قال: فلما كنت في الطريق قلت لنفسي: إني لشاعر، بل إني لمن شعراء العرب وأشعرهم، وأعرف سجع الكهان من كلام الحق، وأعرف رديء القول من طيبه وجيده، فلماذا أضع في أذني هذا الكرسف وهذا القطن، قال: فأزلته فجئت إلى محمد صلى الله عليه وسلم فسمعت منه، فما هو إلا أن شرح الله صدري للحق.

أيها الأحبة: إن كثيراً من الناس ليس لديه استعداد أن يسمع الحقيقة، أنا أقول لكل عاقل ولكل من يحترم عقله: إياك أن تجعل عقلك في خزانة جدك وأبيك، وإياك أن تجعل عقلك تحت سرير نومك أو في خزانة والدتك، أريدك أن تحمل عقلك معك أينما انتهيت، واسمع مني وأسمع منك، والله لو علمت أن الحق معك لتركت ما أنا عليه واتبعتك، لكن لو بينت لي بصريح قول الله، وصريح قول رسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا هو الحق، ليست القضية أن يقل هؤلاء أو أن يكثر هؤلاء أو العكس، القضية أين الحق فنتبعه؟ أين الهدى فنسير عليه؟ أين الصراط فنلتف حوله؟ أين الراية فنجتمع عندها؟ هذا الذي يرضي الله عز وجل.

قال الله عز وجل عن أهل الجحيم: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:69-70] أولئك الذين اتبعوا آباءهم فكانوا معهم والعياذ بالله في دار الجحيم.

أيها الأحبة: إن قضية الاتباع للآباء والأجداد سوف تحسم وتنتهي في الآخرة يوم أن يتبرأ المتبوع من التابع، ويوم أن يتبرأ القائد، من المقود، يوم أن يتبرأ كل من الآخر، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت:29] أين هؤلاء الذين أضلونا وغررونا، أين الذين كنا نرى الحق أبلج فيضعون على أعيننا غشاوة، وكنا نسمع الحق واضحاً فيضعون في آذاننا وقراً حتى لا تصل الحقيقة إلى قلوبنا.

قال عز وجل: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:165-166] لاحظوا البراءة، أخذ بعضهم يلعن بعضاً، ويتبرأ ويتباعد عن بعض: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166] في الدنيا أتبعك وتتبعني، لأنك قريبي ومن جماعتي، ومن قبيلتي، ومن صحبي ومن جيراني، الآن تقطعت بنا الأسباب: فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] .. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:167] المساكين الضعفاء الذين يتبعون ويلحقون على غير علم ولا هداية: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] هذا الاتباع المحموم المجنون بغير ضابط ولا عقل يكون حسرة على التابعين أمام المتبوعين، وبراءة المتبوعين من التابعين يوم القيامة، بل إن الله عز وجل يبين أن طوائف من الذين يتبع بعضهم بعضاً يتحاجون في النار ويلعن بعضهم بعضاً، قال تعالى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [غافر:46-48].

فهؤلاء أهل النار يتحاجون ويتخاصمون، ويقول الضعفاء للكبراء، يقول الأتباع للمتبوعين، يقول المساكين للسادة والكبراء: إنا كنا لكم تبعاً، أطعناكم فيما دعوتمونا، واستجبنا لكم فيما وجهتمونا إليه في الدنيا من الضلال، فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار؟ هل تتحملون عنا شيئاً من العذاب، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا [غافر:48] إنا وإياكم سواء في النار لا أحد يتحمل عن أحد شيء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2800 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2648 استماع
توديع العام المنصرم 2643 استماع
حقوق ولاة الأمر 2628 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2548 استماع
من هنا نبدأ 2492 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2457 استماع
أنواع الجلساء 2456 استماع
إلى الله المشتكى 2432 استماع
الغفلة في حياة الناس 2432 استماع