شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 438-440


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله وأفضل أنبيائه، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما في هذا اليوم فعندنا ثلاثة أحاديث نمر عليها إن شاء الله وعلى مسائلها.

الحديث الأول عندنا: حديث جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تؤمن امرأة رجلاً، ولا أعرابي مهاجراً، ولا فاجر مؤمناً ).

تخريج الحديث

والحديث نسبه المؤلف رحمه الله تعالى -كما ترون- لـابن ماجه، وقال: إسناده واه، أي: شديد الضعف، والحديث رواه ابن ماجه كما أشار، وانفرد به من بين الستة، وهو في سنن ابن ماجه، في كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، ورقم الحديث (1081)، وقد ساقه ابن ماجه ضمن حديث طويل، أوله: ( يا أيها الناس! توبوا إلى الله قبل أن تموتوا .. )، ثم فيه الكلام عن الجمعة: ( .. وأنها فرض لازم على كل مسلم، فمن تركها وهو قادر فلا جمع الله عليه أمره، ولا وسع الله عليه رزقه و.. ) ودعا عليه، ثم جاء في آخره: ( ولا تؤمنّ امرأة رجلاً، ولا أعرابي مهاجراً، ولا فاجر مؤمناً، إلا ذو سلطان يخاف سوطه وسيفه ).

وكذلك ذكر البوصيري صاحب مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، ذكر هذا الحديث في زوائد ابن ماجه ؛ لأنه من مفرداته كما سبق، وأشار إلى ضعفه، كما أشار المصنف، فقال البوصيري : إن إسناده ضعيف، وأعله بوجود عبد الله بن محمد العدوي وعلي بن زيد بن جدعان، والواقع أن العدوي هذا متهم، اتهمه وكيع بأنه يضع الحديث، وأما علي بن زيد بن جدعان ففيه مقال مشهور وهو ضعيف، فكان حق الحديث وفيه العدوي أن يكون شبه الموضوع أو موضوعاً، ولكن عبارة البوصيري رحمه الله قصرت، فقال: إنه ضعيف، وأعله بالاثنين، لكنه ساق له طرقاً أخرى كما سأذكر .

وقد روى الحديث أيضاً كما ذكر الحافظ في التلخيص عبد الملك بن حبيب في رسالته الواضحة، وهو من فقهاء المالكية، وقال: عن فضيل بن عياض عن علي بن زيد -يعني: ذكره بإسناده- وعبد الملك نفسه صاحب الواضحة يتهم بأنه يسرق الأحاديث، ويخلط الأسانيد بعضها ببعض، كما قال ذلك ابن الفرضي .. وغيره.

وهذا من ذلك، فإن ابن عبد البر رحمه الله تعالى ذكر: أن عبد الملك قد غير وخلط في إسناد هذا الحديث، وأفسد إسناده كما قال، والصواب: أنه عن أسد بن موسى عن فضيل بن مرزوق، فقال عبد الملك : عن فضيل بن عياض، وإنما هو عن فضيل بن مرزوق عن الوليد بن بكير عن عبد الله بن محمد العدوي عن علي بن زيد، فحذف عبد الملك رجلين من إسناده، وغير اسم رجل آخر، فصار الإسناد عنده: عن فضيل بن عياض عن علي بن زيد وأخفى فيه عبد الله بن محمد العدوي، وهو آفته الكبرى، فرجع إلى الإسناد الأول .

شواهد الحديث

أما صاحب مصباح الزجاجة كما ذكرته لكم قبل قليل، فإنه ذكر للحديث طريقاً أخرى عند عبد بن حميد وغيره، وهذه الطريق أيضاً فيها علي بن زيد بن جدعان، فيظل الحديث ضعيفاً، ولكن رواه أبو يعلى الموصلي كما في مسنده المطبوع المحقق بإسناد آخر، فيه مجموعة من المجاهيل، وهو في الجزء الثالث (ص:382).

وكذلك له شاهد آخر عن أبي سعيد الخدري، أشار إليه البوصيري، وهو موجود في مجمع الزوائد للهيثمي، حيث ذكره ونسبه إلى المعجم الأوسط للطبراني، وقال: وفيه موسى بن عطية الباهلي ولم أجد من ترجمه، وباقي رجاله ثقات.

إذاً: الحديث ضعيف وإن تعددت طرقه، وإن كان له شاهد إلا أنه ضعيف؛ لأنه حتى هذا الشاهد حديث أبي سعيد -كما ذكرت- فيه موسى بن عطية الباهلي، وهو مجهول.

هذا من حيث سند الحديث وتخريجه.

حكم الصلاة خلف الفاسق

أما من حيث المسائل الفقهية الموجودة فيه، فإن فيه مسائل فقهية أهمها اثنتان:

الأولى: إمامة الفاسق؛ لقوله في هذا الحديث فيما نسب إليه عليه الصلاة والسلام: ( ولا فاجر مؤمناً )، يعني: ولا يؤمنّ فاجر مؤمناً، فهذا دليل على أنه لا يجوز للفاجر أن يؤم غيره، وهذا إجماع من أهل العلم من حيث الكراهة، فقد أجمعوا على أنه يكره أن يؤم الفاسق قوماً إذا وجد غيره، أما لو كانوا كلهم فساقاً فهذا أمر آخر، لكن إذا وجد غيره، فإنه يكره أن يؤم الفاسق قوماً فيهم عدل؛ وذلك لعدم الثقة به في المحافظة على الصلاة، وأركانها، وشروطها، وسننها، وواجباتها، هذا في جانب.

وفي الجانب الثاني: فقد نقل ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه الفصل في الملل والنحل : الإجماع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وغيرهم، على جواز الصلاة خلف الفاسق، سواء في ذلك صلاة الجمعة.. أو غيرها، وذكر أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك، وهذا الإجماع الذي نقله ابن حزم رحمه الله فيه نظر، يبين بعد قليل، لكن قد يكون أراد بذلك الإجماع العملي، كما سيتضح أن الصحابة صلوا خلف مروان بن الحكم، وصلوا خلف الحجاج .. وغيرهم من أئمة الجور وأمراء الفسق.

إذاً: هناك إجماع على كراهية الإمام الفاسق إذا وجد العدل، وابن حزم نقل الإجماع على صحة الصلاة خلفه في الجمعة.. وغيرها.

أقوال العلماء في حكم الصلاة خلف الفاسق فسقاً اعتقادياً

ثم إن الفسق يقسمه أهل العلم إلى نوعين:

الأول: فسق عملي يتعلق بأعمال العبد، كارتكاب الكبائر، أو الإصرار على الصغائر.

والنوع الثاني: فسق اعتقادي، وهو يتعلق بالتأويل الذي لا يصل إلى الكفر، أن يؤول الإنسان بعض أمور الاعتقاد المتعلقة بأسماء الله تعالى وصفاته، وأمور الإيمان والغيب والقدر.. وغيرها، مما هو مخالف للنص الشرعي، ولكنه لا يصل إلى تكفير صاحبه وخروجه من الدين، فهذا يسمونه: فسقاً اعتقادياً، والصواب أن كثيراً من أهل العلم لا يرون تفريقاً بين هذا وذاك، يعني: يرون أنه لا داعي لهذا التقسيم أصلاً، لكننا سائرون على هذا التقسيم الآن.

فأقول: القسم الأول: الفسق الاعتقادي، وهو تحت التأويل الذي لا يصل إلى درجة الكفر، كما ذكرت، كفسق المعتزلة مثلاً، والخوارج .. وغيرهم من أهل البدع، مما لا يصل إلى درجة الكفر المخرج من الملة، فهذا فيه قولان:

القول الأول: صحة الصلاة خلف الفاسق فسقاً اعتقادياً وأدلته

الأول: أن الصلاة خلف هؤلاء تصح، أن الصلاة خلفهم صحيحة، يعني: ليست باطلة، ولا يجب إعادتها، وهذا مذهب الحنفية والإمام الشافعي رحمه الله، وهو رواية عن أحمد، وأكثر الحنابلة على خلافها، وإن اختارها طائفة من المتقدمين وبعض العلماء المعاصرين، كالشيخ عبد العزيز بن باز .. وغيره.

أدلة هؤلاء القائلين بصحة الصلاة متعددة، منها:

أولاً: الأصل، فإن الأصل صحة الصلاة، والقاعدة: أن من صحت صلاته صحت إمامته إلا بدليل يخرجه عن ذلك.

ومنها: ما رواه البخاري في كتاب الجماعة والإمامة، باب إمامة المفتون والمبتدع، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار : ( أنه دخل على عثمان رضي الله عنه وهو محصور في بيته، فقال له: إنك إمام عامة، ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا هذا الإمام إمام فتنة -من الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه- قال: فنحن نتحرج؟ فقال له عثمان رضي الله عنه: إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم )، فدل ذلك على أن عثمان رضي الله عنه أفتى الصحابة رضي الله عنهم أن يصلوا خلف إمام مفتون، خارج على إمام العامة، وعلى خليفة راشد رضي الله عنه، ولذلك بوب البخاري رحمه الله: إمامة المفتون والمبتدع، فكأنه أخذ منه جواز إمامة المبتدع.

ومن الأدلة وهو الثالث أيضاً: قوله أو ما نسب إليه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( صلوا خلف كل من قال: لا إله إلا الله، وصلوا على كل من قال: لا إله إلا الله )، يعني: صلوا عليه صلاة الجنازة إذا مات، وصلوا وراءه إذا أمكم، وهذا الحديث رواه الدارقطني .. وغيره من طرق عديدة كلها ضعيفة، ليس فيها شيء يثبت، وضعفه الدارقطني .. وغيره، والحديث لو صح لكان دليلاً، لكنه ضعيف كما ذكرت.

الدليل الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: ( صلوا خلف كل بر وفاجر )، والحديث رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي .. وغيرهم من طرق عن مكحول عن أبي هريرة، وهو منقطع؛ فإن مكحولاً لم يأخذ عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولهذا قال أبو أحمد الحاكم عن إسناد هذا الحديث: هذا حديث منكر. فهو منقطع مرسل، وكذلك حكم عليه أبو أحمد الحاكم بأنه منكر، وقد جاء من طرق أخرى أيضاً متعددة، ولكنها ضعيفة أيضاً: ( صلوا خلف كل بر وفاجر )، ولهذا قال العقيلي في الضعفاء : ليس في هذا المتن إسناد يثبت.

وكذلك نقل ابن الجوزي في التحقيق عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه سئل عن الحديث؟ فقال: ما سمعنا بهذا. والدارقطني قال: ليس فيها شيء يثبت، يعني هذه الأحاديث.

والحافظ ابن حجر قال كما في التلخيص : للبيهقي في هذا الباب أحاديث كلها ضعيفة غاية الضعف، وأصح ما فيه حديث مكحول عن أبي هريرة على إرساله، يعني: الحديث الذي ذكرته أولاً، وأبو أحمد الحاكم قال: حديث منكر.

إذاً: هذا الحديث والذي قبله لا يصح إسنادهما ولا يحتج بهما.

القول الثاني: عدم صحة الصلاة خلف الفاسق فسقاً اعتقادياً وأدلته

القول الثاني: أن الصلاة خلفه لا تصح، وهي رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وهو قول الإمام مالك، وهو أيضاً رواية عن أحمد، اختارها أكثر الأصحاب من المتقدمين والمتأخرين: أن الصلاة خلف الفاسق فسقاً اعتقادياً لا تصح، وعليه لو صلى أن يعيد.

أدلتهم: أولاً: حديث الباب: ( ولا فاجر مؤمناً ) فقالوا: إن هذا يعد فاجراً بمعتقده الخبيث، فلا يجوز أن يؤم مؤمناً على السنة والجماعة، وحديث الباب كما رأيتم إسناده ضعيف فلا يحتج به، ولو صح لكان حجة في الباب.

الدليل الثاني: ما نقل عن واثلة بن الأسقع صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه سئل عن الصلاة خلف القدرية؟ فقال: لا تصلوا خلفهم، ثم قال: لو صليت خلف قدري لأعدت الصلاة ) وهذا الأثر عن واثلة رواه الطبراني في معجمه الكبير، وفي إسناده مجاهيل، فهو لا يصح أيضاً.

وبناءً عليه فالراجح: هو القول الأول أن الصلاة خلفه صحيحة، وإن كان الإجماع على أن غيره من أهل السنة، الذين لم يتلطخوا ببدعة أفضل منه، وأنه يكره أن يؤمهم المبتدع مع وجود من هو على السنة والطريقة، ولكن الراجح أنه لو صلى بهم صحت الصلاة لأمور:

أولاً: أن هذا هو الأصل كما سبق.

ثانياً: قوة الأدلة.

ثالثاً: ضعف أدلة المعارضين.

رابعاً: أن ذلك قد يفضي إلى ترك الجماعة، فإن كثيراً من الناس يبدِّع بعضهم بعضاً، ويفسِّق بعضهم بعضاً على غير هدى ولا دليل ولا كتاب منير، فلو فتح هذا الباب، لما صلى كثير من هؤلاء من المخالفين حتى في الفروع، لما صلى بعضهم خلف بعض، وأفضى ذلك إلى ترك الجماعة وتنافر القلوب، كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية .. وغيره رحمهم الله تعالى.

اللهم إلا أن يكون ترك الصلاة خلفه سبباً في تركه لبدعته، أو إخمال ذكر البدعة، وعدم اقتران الناس به، وربما كان ما نقل عن بعض الأئمة من ترك الصلاة خلف المبتدع محمولاً على ذلك، أن يكون في هذا زجراً له بترك البدعة، أو إخمالاً لذكر بدعته؛ لئلا يغتر بها الناس.

أقوال العلماء في حكم الصلاة خلف الفاسق فسقاً عملياً

النوع الثاني: هو الفسق العملي بارتكاب الكبائر، أو الإصرار على الصغائر كما سبق، وفيه أيضاً القولان السابقان:

القول الأول: صحة الصلاة خلف الفاسق فسقاً عملياً

الأول: أن الصلاة خلفه تصح، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، هذا في الفسق العملي، وهو أيضاً رواية عن أحمد ومالك رحمهم الله أجمعين.

أدلتهم أولاً: حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له فيما رواه مسلم .. وغيره، قال له: ( كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ قال: كيف تأمرني يا رسول الله؟ قال: صل الصلاة لوقتها، فإذا أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة )، فهذا الحديث دليل على صحة الصلاة خلف الفاسق فسقاً عملياً.

أولاً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا ذر أن يصلي وراءهم، وبين أنها صحيحة نافلة، والأصل أن ما جاز في النفل جاز في الفرض، إلا بدليل يدل على خلاف ذلك.

الوجه الثاني في دلالة الحديث: أن ظاهر الحديث يدل على أنهم لو صلوا الصلاة لوقتها، مع أنهم فسقة، أنهم لو صلوا الصلاة لوقتها لكان أبو ذر رضي الله عنه مأذوناً له أن يصلي وراءهم فريضة لا نافلة.

الدليل الثاني: حديث أبي هريرة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم )، وهو ظاهر أيضاً في أن الإمام إذا أصاب فله ولمن وراءه، وإذا أخطأ فعليه ولمن وراءه، فدل على أنه لا يضر المأمومين ما يكون عليه حال الإمام، وأنهم يصلون وراءه، فإن أصاب في صلاته أو في غيرها فله ولهم، وإن أخطأ فعليه ولهم، وليس عليهم من وزره شيء.

الدليل الثالث: حديث مكحول السابق: ( صلوا خلف كل بر وفاجر )، وهو صريح في الباب، لكنه مرسل منقطع.

وكذلك الحديث الرابع: ( صلوا خلف كل من قال: لا إله إلا الله )، وهو ضعيف، ليس في هذا الباب شيء يثبت كما نقلته عن جماعة قبل قليل.

الخامس: السيرة العملية، فإنه من المعلوم يقيناً أن الصحابة رضي الله عنهم صلوا خلف أئمة الجور، كـالحجاج صلى خلفه أنس وابن عمر وسائر الصحابة، وكذلك مروان بن الحكم كان أميراً على المدينة، وصلى الصحابة خلفه كلهم، العيد والجمعة والأوقات من غير نكير، وكذلك أبو سعيد الخدري معروف صلاته وراءه يوم العيد، مع أنه أنكر عليه أنه قدم الخطبة على الصلاة.

وهذا أمر معلوم مستفيض، ولهذا نقله ابن حزم إجماعاً كما ذكرت في مطلع هذا الكلام، فهذه الأدلة تدل على جواز الصلاة خلف الفاسق فسقاً عملياً.

القول الثاني: عدم جواز الصلاة خلف الفاسق فسقاً عملياً

القول الثاني: أن الصلاة خلفه لا تجوز ولا تصح، وهو رواية عن الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد اختارها أكثر الحنابلة، واستدلوا بحديث الباب وهو ضعيف، وببعض الآثار التي لا تثبت كما سبق عن واثلة .. وغيره.

والصحيح القول الأول: أن الصلاة خلفه تصح، وإذا كانت الصلاة خلف الفاسق فسقاً اعتقادياً تصح، فمن باب أولى أن تصح خلف الفاسق فسقاً عملياً، كما سبق. هذه مسألة.

أقوال العلماء في حكم إمامة المرأة في الصلاة للرجال

المسألة الثانية: الصلاة خلف المرأة.

ولعل هذا طريف، وأنا عرضت له في شرح عمدة الفقه في دروس الإجازة الصيفية الصباحية، عرضت له عرضاً سريعاً، ولم أكن استوعبت المسألة بحثاً، لكنني أعرض الآن بعض الأقوال في هذه المسألة.. مسألة إمامة المرأة.

أما إمامة المرأة للنساء فهذا باب آخر، فيجوز للمرأة أن تصلي بالنساء، وقد جاء في هذا حديث أم سلمة وعائشة وأم ورقة وجماعة، وذكر هذه الأحاديث أهل العلم، كـالزيلعي وابن حجر .. وغيرهم.

وكذلك فيما سبق في إمامة المرأة للنساء في وقوفها في وسط النساء أيضاً، إنما الكلام في إمامة المرأة للرجال؛ لأن الحديث يقول: ( ولا امرأة رجلاً )، فالكلام في إمامة المرأة للرجال.

وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال:

القول الأول: عدم جواز إمامة المرأة في الصلاة للرجال مطلقاً

الأول: أنه لا يجوز مطلقاً أن تؤم المرأة الرجال، وقولنا: (مطلقاً) يعني: لا في الفرض ولا في النفل، وهذا مذهب جماهير أهل العلم، مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو المشهور عن السلف رحمهم الله تعالى أجمعين.

واستدلوا بأدلة:

أولها: حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم، وسوف يأتي: ( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها )، فإن فيه: أن صفوف الرجال أفضلها المقدم، وصفوف النساء أفضلها المؤخر، فدل على أن المرأة كلما تأخرت كان ذلك أفضل لها، حتى ولو كانت في صفوف النساء، فكيف لها أن تتقدم على الرجال، وتصلي بهم إماماً.

الدليل الثاني: حديث أنس المتفق عليه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في دارهم قال: ( فصففت أنا واليتم وراءه، والعجوز من ورائنا )، فدل على أن المرأة تصلي خلف الصفوف، حتى ولو كانت منفردة، ولا تصاف الرجال وإن كانوا محارم لها، فلا تصلي إلى جوارهم، فمن باب أولى ألا تصلي أمامهم.

الدليل الثالث: حديث أبي بكرة وهو في صحيح البخاري : لما بلغ النبي عليه الصلاة والسلام أن فارس ولوا عليهم امرأة، قال عليه الصلاة والسلام: ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )، وهذا وإن كان سببه مخصوصاً، إلا أن العبرة بعموم اللفظ، وكذلك قوله: (أمرهم) الأمر هاهنا عام يشمل كل أمر، قال بعضهم: عام يشمل كل أمر، وقد يحمل على الأمر الخاص المعروف، وهو أمر الولاية العظمى والسلطة؛ لأنه ليس نكرة هاهنا، بل هو معرف بالإضافة، (أمرهم) يعني: الأمر المعهود.

ولكن بعضهم قالوا: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقالوا: إن أمر الصلاة من أعظم الأشياء، وإن النبي صلى الله عليه وسلم أومأ بالتقديم في الصلاة، إلى التقديم في الإمامة العظمى، فقدم أبا بكر رضي الله عنه في الصلاة إشارة إلى أحقيته بالخلافة.

الدليل الرابع: حديث أبي سعيد الخدري المتفق عليه أيضاً، في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد وأنه أتى النساء فوعظهن وذكرهن وقال لهن: ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن )، فقالوا: إنه وصفهن بنقصان العقل والدين، ومن كان عقله ودينه ناقصاً، فليس جديراً بالإمامة والتقدم على الناس في هذه الشعيرة العظيمة، بل الأحق بها الأكمل عقلاً وديناً.

وهذا الحديث أيضاً في دلالته نظر؛ لأن الإمام يجوز أن يكون ناقصاً في عقله أو دينه عن غيره، فيمكن أن يكون أقل من غيره فهماً وحفظاً وإدراكاً، أو أقل من غيره علماً، أو أقل من غيره تديناً، وإن كان سبق الإجماع أنه يكره إمامة المفضول مع وجود الفاضل.

إذاً: القول الأول وهو مذهب الجمهور: أنها لا تجوز مطلقاً لا في الفرض ولا في النفل، لما سبق من الأدلة.

القول الثاني: جواز إمامة المرأة في الصلاة للرجال مطلقاً وأدلته

القول الثاني: أنها تجوز مطلقاً، يعني: في الفريضة والنافلة: أن تصلي المرأة إماماً بالرجال، هذا قول طريف، لكن لا بأس من ذكره ما دمنا في مجال البحث العلمي، وقد نسبه الإمام النووي وابن المنذر .. وغيرهما، نسبوه إلى أبي ثور وابن جرير الطبري .. وغيرهما، وهو مذهب المزني من الشافعية.

واستدلوا بأدلة: أهمها: حديث أم ورقة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تؤم أهل دارها )، وحديث أم ورقة رواه أبو داود والحاكم .. وغيرهما، وسأذكره بعد قليل بإسناده، سأذكر إسناده، المهم أنه جاء في الحاكم : ( أنه أمرها أن تؤم أهل دارها في الفرائض ).

قالوا: وكان من ضمن أهل دارها مؤذنها، وقد قال عبد الرحمن بن خلاد الأنصاري : فأنا رأيت مؤذنها شيخاً كبيراً، يعني: وكانت تصلي بهم، وهو من ضمنهم، فدل ذلك على أنه يجوز أن تصلي المرأة بالرجال، فهذه أم ورقة صلت بأهل دارها، ومن ضمنهم مؤذنها، فدل ذلك على الجواز، بل أمرها به النبي صلى الله عليه وعلى وآله وسلم.

القول الثالث: جواز إمامة المرأة في الصلاة للرجال في النفل دون الفرض وأدلته

القول الثالث: أن إمامة المرأة للرجال جائزة في النفل دون الفرض؛ لأنه يتسامح في النافلة ما لا يتسامح في الفريضة، ونص بعضهم على صلاة التراويح في رمضان أن ذلك يجوز، وهذه الرواية مشهورة جداً عن الإمام أحمد، بل هي المشهورة عند كافة المتقدمين من أصحابه، قال الزركشي رحمه الله: هو منصوص الإمام أحمد، يعني: نص على جواز ذلك، وهو اختيار عامة الأصحاب. اهـ

وهذا أيضاً هو الذي ذكره ابن هبيرة في الإفصاح عن الإمام أحمد، ولم يذكر غيره.

دليل هؤلاء بطبيعة الحال حديث أم ورقة، الذي ذكرته قبل قليل عند أبي داود وفيه: ( أن أم ورقة استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تغزو معه، فقالت: يا رسول الله! ائذن لي بالغزو معك أمرض مرضاكم، لعل الله أن يرزقني الشهادة، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا أم ورقة ! قري في بيتك، فإن الله يرزقك الشهادة فكانت -كما يقول عبد الرحمن بن خلاد - تسمى بعد ذلك الشهيدة، وكانت قد قرأت القرآن، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تتخذ في دارها مؤذناً، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لها وأمرها أن تؤم أهل دارها )، زاد الحاكم في روايته: ( في الفرائض ) قال ابن خلاد الأنصاري : (فأنا رأيت مؤذنها شيخاً كبيراً).

وجاء في رواية: ( أنها كان عندها عبد وأمة قد دبرتهما -يعني: أعتقتهما عن دبر بعد موتها- فقاما إليها بقطيفة في الليل فخنقاها فماتت، فلما أصبح عمر رضي الله عنه قال: من لي بهما؟ فجيء بهما إلى عمر رضي الله عنه فصلبهما، فكأنا أول مصلوبين في المدينة ) انظر الخبث! يعني: هي أعتقتهما عن دبر فعجلوا بموتها حتى يعتقا؛ لأن (دبر) يعني: يعتقون بعد موتها.

الحديث رواه أبو داود كما ذكرت في كتاب الصلاة، باب إمامة النساء.

ورواه الحاكم في المستدرك وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي .

ورواه الدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، كما ذكرت والذهبي، وسكت عليه أبو داود، وفي سنده الوليد بن جميع عن عبد الرحمن بن خلاد الراوي عن أم ورقة .

والرجلان ليسا بالمشهورين، وقد ذكرهما ابن حبان في الثقات، والحديث إذاً في سنده ضعف يسير، وعلى فرض صحته، فإنه لا دليل فيه لهذا القول في التفريق بين الفريضة والنافلة، بل رواية الحاكم نصت على الفريضة.

والأقرب -والله تعالى أعلم- هو القول الأول مذهب الجمهور: أنه لا يجوز أن تؤم المرأة الرجال لا في الفرض ولا في النفل، وينبغي أن يقال: إلا أن يكون لذلك حاجة شديدة، كأن يكون أو

والحديث نسبه المؤلف رحمه الله تعالى -كما ترون- لـابن ماجه، وقال: إسناده واه، أي: شديد الضعف، والحديث رواه ابن ماجه كما أشار، وانفرد به من بين الستة، وهو في سنن ابن ماجه، في كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، ورقم الحديث (1081)، وقد ساقه ابن ماجه ضمن حديث طويل، أوله: ( يا أيها الناس! توبوا إلى الله قبل أن تموتوا .. )، ثم فيه الكلام عن الجمعة: ( .. وأنها فرض لازم على كل مسلم، فمن تركها وهو قادر فلا جمع الله عليه أمره، ولا وسع الله عليه رزقه و.. ) ودعا عليه، ثم جاء في آخره: ( ولا تؤمنّ امرأة رجلاً، ولا أعرابي مهاجراً، ولا فاجر مؤمناً، إلا ذو سلطان يخاف سوطه وسيفه ).

وكذلك ذكر البوصيري صاحب مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، ذكر هذا الحديث في زوائد ابن ماجه ؛ لأنه من مفرداته كما سبق، وأشار إلى ضعفه، كما أشار المصنف، فقال البوصيري : إن إسناده ضعيف، وأعله بوجود عبد الله بن محمد العدوي وعلي بن زيد بن جدعان، والواقع أن العدوي هذا متهم، اتهمه وكيع بأنه يضع الحديث، وأما علي بن زيد بن جدعان ففيه مقال مشهور وهو ضعيف، فكان حق الحديث وفيه العدوي أن يكون شبه الموضوع أو موضوعاً، ولكن عبارة البوصيري رحمه الله قصرت، فقال: إنه ضعيف، وأعله بالاثنين، لكنه ساق له طرقاً أخرى كما سأذكر .

وقد روى الحديث أيضاً كما ذكر الحافظ في التلخيص عبد الملك بن حبيب في رسالته الواضحة، وهو من فقهاء المالكية، وقال: عن فضيل بن عياض عن علي بن زيد -يعني: ذكره بإسناده- وعبد الملك نفسه صاحب الواضحة يتهم بأنه يسرق الأحاديث، ويخلط الأسانيد بعضها ببعض، كما قال ذلك ابن الفرضي .. وغيره.

وهذا من ذلك، فإن ابن عبد البر رحمه الله تعالى ذكر: أن عبد الملك قد غير وخلط في إسناد هذا الحديث، وأفسد إسناده كما قال، والصواب: أنه عن أسد بن موسى عن فضيل بن مرزوق، فقال عبد الملك : عن فضيل بن عياض، وإنما هو عن فضيل بن مرزوق عن الوليد بن بكير عن عبد الله بن محمد العدوي عن علي بن زيد، فحذف عبد الملك رجلين من إسناده، وغير اسم رجل آخر، فصار الإسناد عنده: عن فضيل بن عياض عن علي بن زيد وأخفى فيه عبد الله بن محمد العدوي، وهو آفته الكبرى، فرجع إلى الإسناد الأول .

أما صاحب مصباح الزجاجة كما ذكرته لكم قبل قليل، فإنه ذكر للحديث طريقاً أخرى عند عبد بن حميد وغيره، وهذه الطريق أيضاً فيها علي بن زيد بن جدعان، فيظل الحديث ضعيفاً، ولكن رواه أبو يعلى الموصلي كما في مسنده المطبوع المحقق بإسناد آخر، فيه مجموعة من المجاهيل، وهو في الجزء الثالث (ص:382).

وكذلك له شاهد آخر عن أبي سعيد الخدري، أشار إليه البوصيري، وهو موجود في مجمع الزوائد للهيثمي، حيث ذكره ونسبه إلى المعجم الأوسط للطبراني، وقال: وفيه موسى بن عطية الباهلي ولم أجد من ترجمه، وباقي رجاله ثقات.

إذاً: الحديث ضعيف وإن تعددت طرقه، وإن كان له شاهد إلا أنه ضعيف؛ لأنه حتى هذا الشاهد حديث أبي سعيد -كما ذكرت- فيه موسى بن عطية الباهلي، وهو مجهول.

هذا من حيث سند الحديث وتخريجه.

أما من حيث المسائل الفقهية الموجودة فيه، فإن فيه مسائل فقهية أهمها اثنتان:

الأولى: إمامة الفاسق؛ لقوله في هذا الحديث فيما نسب إليه عليه الصلاة والسلام: ( ولا فاجر مؤمناً )، يعني: ولا يؤمنّ فاجر مؤمناً، فهذا دليل على أنه لا يجوز للفاجر أن يؤم غيره، وهذا إجماع من أهل العلم من حيث الكراهة، فقد أجمعوا على أنه يكره أن يؤم الفاسق قوماً إذا وجد غيره، أما لو كانوا كلهم فساقاً فهذا أمر آخر، لكن إذا وجد غيره، فإنه يكره أن يؤم الفاسق قوماً فيهم عدل؛ وذلك لعدم الثقة به في المحافظة على الصلاة، وأركانها، وشروطها، وسننها، وواجباتها، هذا في جانب.

وفي الجانب الثاني: فقد نقل ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه الفصل في الملل والنحل : الإجماع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وغيرهم، على جواز الصلاة خلف الفاسق، سواء في ذلك صلاة الجمعة.. أو غيرها، وذكر أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك، وهذا الإجماع الذي نقله ابن حزم رحمه الله فيه نظر، يبين بعد قليل، لكن قد يكون أراد بذلك الإجماع العملي، كما سيتضح أن الصحابة صلوا خلف مروان بن الحكم، وصلوا خلف الحجاج .. وغيرهم من أئمة الجور وأمراء الفسق.

إذاً: هناك إجماع على كراهية الإمام الفاسق إذا وجد العدل، وابن حزم نقل الإجماع على صحة الصلاة خلفه في الجمعة.. وغيرها.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4787 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4394 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4213 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4095 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4047 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4022 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3974 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3917 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3900 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3879 استماع