خطب ومحاضرات
بادروا بالأعمال
الحلقة مفرغة
يقول الله سبحانه وتعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] ويقول سبحانه: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21] لاحظوا الآية الأولى سارعوا، والآية الثانية سابقوا.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس) فلفظ المسارعة، ولفظ المسابقة ولفظ المبادرة ولفظ الغنيمة كلها تحوم حول أمرٍ يفوت، وهذا الأمر إن لم يتدارك بالمسابقة والمبادرة والمسارعة وإلا فإن صاحبه يعض أنامل الندم على ما فرط فيما مضى، أو ضيع من هذه الفرص المتاحة بين يديه.
ومن زرع البذور وما سقـاها تأوه نادماً وقت الحصاد |
يقول صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبلك هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وخذ من نفسك لنفسك، ومن دنياك لآخرتك).
مدلولات المسارعة في حياة الأنبياء
أهمية الرغبة والرهبة في الدعاء
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح بذلك لما جاءه أعرابيٌ فقال: (يا محمد! إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة
تسألني أم الوليد جملا يمشي رويداً ويجيء أولا |
تريد جنة عرضها السماوات والأرض وأنت إذا قيل: حي على الفلاح، انقلبت على الجنب الآخر لا تريد أن تسمع بقية الأذان؟! تريد جنة عرضها السماوات والأرض وأنت إذا دعيت لتنفق في سبيل الله من مالك أصبح الإنفاق على شهوتك ولذتك وشهوات أولادك أحب إليك من الإنفاق في سبيل الله؟! تريد جنة عرضها السماوات والأرض وأنت قد أعطيت النفوس زمامها وأسلمت لها العنان وأطلقت لها الأمر فما اشتهت من شيء إلا وطئته حلالاً كان أو حراما؟! ثم إذا قيل هذا لا يرضي الله وهذا يسخط الله، وهذا لا يجوز وهذا لا ينبغي؛ أتيت بحججٍ وأقاويل وتأويل، وربما وكيف وأين ولعل ويمكن وقيل وسمعنا وروي، تتعلل في الهروب معللاً لنفسك فعل الحرام، وتتلون في الفرار مبادراً أو مسارعاً بالفرار عن المسابقة إلى مرضاة الله، ثم تقول: إني أريد جنة عرضها السماوات والأرض.
حتمية عذاب العصاة بقدر ذنوبهم
أسألكم بالله هل يستطيع أحد أن ينال الشهادة الجامعية ليسانس أو بكالوريوس بنومٍ في النهار وسهرٍ أمام القنوات والأفلام في الليل، فإذا جاءت الامتحانات كتب فيها ما يكتبه الغافلون والساهون، هل يستطيع أن ينال هذه الشهادة؟ لا، على أهل الشهادات مواظبة .. دوام .. حضور .. مراجعة .. بحوث .. دراسة حتى استطاع أن ينال شهادته، وربما تغرب زمناً طويلاً حتى نال شهادته، وربما اضطر أن ينشغل عن حاجات زوجه وأهله حتى ينال شهادته، وهي شهادة قرطاسية يسيرة من أمر الدنيا ما نالها إلا بالمشقة.
واسألوا ضابطاً من الضباط كيف علق نجمة أو تاجاً أو مقصاً أو وساماً أو نياشين، هل نالها بالنوم والعبث واللهو والعصيان والعناد للأوامر؟ ما نالها حتى جاع أياماً، وزحف على بطنه، واختبرت لياقته، واختبرت شدته وتحمله وصبره، وثبت على ذلك زمناً ودورة بعد دورة ومسابقة بعد مسابقة، حتى علق نجمة أو اثنتين أو تاجاً أو مقصين.
واسألوا التاجر كيف جمع هذه الأموال؛ أبالغفلة واللهو والإسراف والتبذير والعبث؟ بل بصرِّ الدينار على الدينار والدرهم على الدرهم والمتابعة، تعبٌ في جمع المال وتعب في متابعة الاستثمار حتى استطاع أن يجمع هذا المال كله.
إذا كان هذا في شأن ما نراه من أمور الدنيا ما نالها أربابها ما حصلها أصحابها إلا بتعب أتظنون أن جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أتظنونها تنال بالأماني؟ أتظنونها تنال بلعل وليس ولو أني؟
ولست بمرجعٍ ما فات مني بليت ولا لعل ولا لو اني |
دواعي المسارعة والمسابقة
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:8-10].
إذاً لكل شيءٍ مقدماته:
وكل امرئ والله بالناس عالم له عادةٌ قامت عليها شمائله |
تعودها فيما مضى من شبابـه كذلك يدعو كل أمرٍ أوائله |
من جد واجتهد، وحصل وكابد وجد نتيجة طيبة، ومن كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة.
الغنيمة أيها الأحبة لا تقال إلا لأمرٍ لا ينال بالهين من الحال، والغنيمة لا تكون إلا في شيء يفوت، والغنيمة لا تكون إلا في أمرٍ إذا فات لا يعوض، فدل هذا على أننا قد وجدنا في هذه الدنيا من أجل أن نتنافس هذه الغنيمة، من أجل أن نتبادر هذه الكرامة، من أجل أن نتسابق وأن نسارع كما هو الحال في شأن خيرة خلق الله وهم أنبياء الله ورسله، حيث قال الله عز وجل في شأنهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] الأنبياء أولو المعجزات الذين اختارهم الله واصطفاهم من بين الخلائق وأيدهم بالمعجزات، وأكرمهم بالوحي؛ فمنهم الكريم، ومنهم الذي آتاه الله ما لم يؤت أحداً من العالمين، ومنهم الذي سخرت له الجن والإنس ومع ذلك هؤلاء الأنبياء يصفهم الله عز وجل بقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً [الأنبياء:90] أي: طمعاً وحباً ورجاءً لما عند الله عز وجل من الخير ( ورهباً ) أي: خوفاً وإشفاقاً من النار.
أقول أيها الأحبة: إن الله عز وجل قال في شأن هؤلاء الأنبياء: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] فجمعوا بين المسارعة والرغبة في الجنة والخوف من النار والخضوع والذلة والإخبات والانكسار إلى الله عز وجل، ولو خرجنا عن موضوعنا قليلاً لاستفدنا من هذه الآية فائدة عظيمة وهي ردٌ على طائفة من طوائف الضلالة وهم غلاة الصوفية الذي يسمون بأصحاب مدرسة الحب الإلهي الذين يقولون: إننا عبدنا الله حباً في ذات الله لا خوفاً من عذابه ولا طمعاً في ثوابه وإنما حباً في ذاته، فنقول لهؤلاء: كذبتم وخبتم وخسئتم وخسرتم، لن تكونوا أمثل وأكمل وأفضل وأجل نهجاً وسمتاً وهدياً من خيرة خلق الله الذين اصطفاهم من سائر خلقه وهم الأنبياء والرسل ومع ذلك يقول الله عز وجل عنهم: وَيَدْعُونَنَا رَغَباً [الأنبياء:90] يطمعون في الجنة وَرَهَباً [الأنبياء:90]أي: خوفاً من النار وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح بذلك لما جاءه أعرابيٌ فقال: (يا محمد! إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة
تسألني أم الوليد جملا يمشي رويداً ويجيء أولا |
تريد جنة عرضها السماوات والأرض وأنت إذا قيل: حي على الفلاح، انقلبت على الجنب الآخر لا تريد أن تسمع بقية الأذان؟! تريد جنة عرضها السماوات والأرض وأنت إذا دعيت لتنفق في سبيل الله من مالك أصبح الإنفاق على شهوتك ولذتك وشهوات أولادك أحب إليك من الإنفاق في سبيل الله؟! تريد جنة عرضها السماوات والأرض وأنت قد أعطيت النفوس زمامها وأسلمت لها العنان وأطلقت لها الأمر فما اشتهت من شيء إلا وطئته حلالاً كان أو حراما؟! ثم إذا قيل هذا لا يرضي الله وهذا يسخط الله، وهذا لا يجوز وهذا لا ينبغي؛ أتيت بحججٍ وأقاويل وتأويل، وربما وكيف وأين ولعل ويمكن وقيل وسمعنا وروي، تتعلل في الهروب معللاً لنفسك فعل الحرام، وتتلون في الفرار مبادراً أو مسارعاً بالفرار عن المسابقة إلى مرضاة الله، ثم تقول: إني أريد جنة عرضها السماوات والأرض.
نحن لن نكون خوارج فنقول: إن أهل الكبائر وأهل المعاصي لا يدخلون الجنة، حاشا وكلا، فمعتقد أهل السنة والجماعة أن أهل الكبائر من أمة محمد عصاةٌ أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ولكنهم ليسوا بمخلدين في النار، ولكن من لم يغفر الله له فإنه لابد أن يمسه من عذاب الله ما يمسه حتى يطهر من ذنوبه وغفلاته وسيئاته، وربما شدد له العذاب في قبره، أو شدد له في سكرات موته، أو شدد له في مصائب دنياه، أو شدد له في عرصات القيامة، أو مكث في النار ما شاء الله له أن يمكث حتى يطهر من ذنوبه ويرد على الله عز وجل، لكن لا نتوقع أن أمر الجنة ومنازل الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين تنال بالأمر الهين.
أسألكم بالله هل يستطيع أحد أن ينال الشهادة الجامعية ليسانس أو بكالوريوس بنومٍ في النهار وسهرٍ أمام القنوات والأفلام في الليل، فإذا جاءت الامتحانات كتب فيها ما يكتبه الغافلون والساهون، هل يستطيع أن ينال هذه الشهادة؟ لا، على أهل الشهادات مواظبة .. دوام .. حضور .. مراجعة .. بحوث .. دراسة حتى استطاع أن ينال شهادته، وربما تغرب زمناً طويلاً حتى نال شهادته، وربما اضطر أن ينشغل عن حاجات زوجه وأهله حتى ينال شهادته، وهي شهادة قرطاسية يسيرة من أمر الدنيا ما نالها إلا بالمشقة.
واسألوا ضابطاً من الضباط كيف علق نجمة أو تاجاً أو مقصاً أو وساماً أو نياشين، هل نالها بالنوم والعبث واللهو والعصيان والعناد للأوامر؟ ما نالها حتى جاع أياماً، وزحف على بطنه، واختبرت لياقته، واختبرت شدته وتحمله وصبره، وثبت على ذلك زمناً ودورة بعد دورة ومسابقة بعد مسابقة، حتى علق نجمة أو اثنتين أو تاجاً أو مقصين.
واسألوا التاجر كيف جمع هذه الأموال؛ أبالغفلة واللهو والإسراف والتبذير والعبث؟ بل بصرِّ الدينار على الدينار والدرهم على الدرهم والمتابعة، تعبٌ في جمع المال وتعب في متابعة الاستثمار حتى استطاع أن يجمع هذا المال كله.
إذا كان هذا في شأن ما نراه من أمور الدنيا ما نالها أربابها ما حصلها أصحابها إلا بتعب أتظنون أن جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أتظنونها تنال بالأماني؟ أتظنونها تنال بلعل وليس ولو أني؟
ولست بمرجعٍ ما فات مني بليت ولا لعل ولا لو اني |
إذاً أيها الأحبة.. الله عز وجل أمرنا بالمسارعة، وأمرنا بالمسابقة، وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالمبادرة؛ لأن الأمر جد خطير وجد عظيم، ولابد أن يتبادر وإلا فات، وما الذي يفوت؟ الجنة باقية لها أهلها ورجالها، المتنافسون المتسابقون في ميادين الليل بالقيام، وفي ميادين النهار بالصيام، وفي المحاريب بالصلاة، وفي الأعمال بالدعوة إلى الله عز وجل، وفي السعي على الأرامل والمساكين، وفي الصبر على هذه الدنيا ونكدها وكبدها، وفي السير بصدقٍ وإخلاص وجدية في هذه الحياة، وفي التربية الحسنة لأبنائهم، وفي الثبات على دين الله، وفي الاستقامة على شرع الله: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112] تكون الجنة لمن رحمه الله ووفقه الله إلى هذه الأعمال، واعلموا أن لكل شيءٍ أسبابه، ولكل شيءٍ مقدماته التي تفضي إليه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5-7] لما أعطى واتقى وصدق بالحسنى أكرمه الله ويسره لليسرى.
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:8-10].
إذاً لكل شيءٍ مقدماته:
وكل امرئ والله بالناس عالم له عادةٌ قامت عليها شمائله |
تعودها فيما مضى من شبابـه كذلك يدعو كل أمرٍ أوائله |
من جد واجتهد، وحصل وكابد وجد نتيجة طيبة، ومن كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة.
يقول تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً [المائدة:48] ويقول صلى الله عليه وسلم في بيان شأن آخر بالأمر بالمبادرة: (بادروا بالأعمال فتناً .) أي: اعملوا اجتهدوا.
أحسن إذا كان إمكانٌ ومقدرة فلا يدوم على الإحسان إمكان |
أنت اليوم مبصر، وغداً لا تدري أكفيف أم بصير، وأنت اليوم تمشي، وغداً لا تدري أراجلٌ أو معوق، وأنت اليوم قادر، وغداً لا تدري أقادرٌ أم ضعيف، أنت اليوم قوي، وغداً لا تدري أقويٌ أم عاجز، وأنت اليوم عزيز، وغداً لا تدري أعزيزٌ أم ذليل، وأنت اليوم قد متعك الله بكل ما آتاك، وأنت لا تدري غداً هل تعيش وأنت محرومٌ مما أوتيت من قبل، أو لا تدري لعل غداً يأتي وأنت في جوف الأرض ولست على ظاهرها.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا) رواه الإمام مسلم.
ففي هذا الحديث يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبادر بالأعمال، فالواحد لا يدري لعل فتناً تحل بواقعه، وفتن الزمان عجيبة..
والليالي من الزمان حبالى مثقلاتٍ يلدن كل عجيب |
لا تدري أتصبح في فتنة قد لا تمسي فيها مؤمناً، أم تمسي في فتنة قد لا تصبح فيها مؤمناً، يفتن الناس فتناً عظيمة، ولا يقولن أحدٌ: أنا ذلك الحصن المنيع الذي لا يتسور، وأنا تلك الصخرة الصماء التي لا تخترق، وأنا ذلك الجدار الذي لا ينكسر، بل قل: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك.
إن فتناً حقيرة من أمور الدنيا، تعجب يوم أن ترى الناس يتعصبون لها ويتحزبون ويتدابرون فيها، ويتقاطعون بسببها، وهي أمورٌ تافهة ليس فيها من العجائب أو الغرائب أو المعجزات، ومع ذلك فتن الناس بها أو كثيرٌ منهم أيما فتنة، فما بالك إذا جاءت فتنٌ كقطع الليل المظلم يرقق بعضها بعضا، يصبح الواحد فيها مؤمناً فيمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً فيصبح كافراً.
ما دام الواحد منكم -يا عباد الله- في فسحة من العيش، في مهلة من الأجل، في قوة من العافية وسعة من الرزق.. في قدرة من الحال.. ما الذي يردك أو يصدك عن المبادرة؟
أقوامٌ بصر الواحد منهم حديد (ستة على ستة) فيقال له: اتل كتاب الله، تدبر كتاب الله، يقول: فيما بعد، أو إذا كبرنا، إذا ... إذا ... إن شاء الله، ثم إذا ضعف البصر واحتاج إلى عدسة غليظة، ثم ما عادت العدسة تنفعه، قال: يا ليتني أبصر لأقرأ في كتاب الله عز وجل، وأين القراءة في كتاب الله عز وجل يوم كان نظرك (ستة على ستة)؟
وآخر كان يسابق الذئاب والثعالب والتراحيل من شدة عدوه وسرعته، وينام عن الصلاة في المساجد، ثم إذا تقدم به السن قليلاً أو أصابه من مقادير الله ما أصابه فأصبح عاجزاً عن المشي على قدميه قال: يا ليت لي قدمان تحملني إلى المسجد لكنت أصلي كل فرضٍ في بيت الله، وأين أنت أيام كانت الأقدام قوية؟
وآخر كانت الدنيا في يده يعبث بها يمنة ويسرة في إسراف وشهوات، وفي أمورٍ كثيرة، ثم تقلبت به الأيام وتغيرت الأمور: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] فقال بعد أن افتقر بعد ذلك الغنى: يا ليتني كنت غنياً فأكفل الدعاة، وأكفل الأيتام، وأسعى على الأرامل والمساكين وأعطي المحتاجين.. وأين أنت يوم أن كاد الرصيد يئط كما يئط الرحل من حملٍ فوقه، أين أنت عن الإنفاق في سبيل الله عز وجل؟ أين أنت أيام قدرتك المالية؟ لما ضاع المال وذهب واضمحل وزال وولى وانتهى تأتي وتقول في حال الفقر: يا ليت وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28].. وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ.. [التوبة:75] إلى قوله عز وجل: فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِه [التوبة:76].
علامات انتهاء فرصة المبادرة
استغلال النعم المعاصرة لزيادة الطاعات
وأما الثياب فمعاناة، وأما المبيت فمعاناة، في الشتاء معاناة وفي الصيف معاناة، وفي كل حالٍ من أحوال الفرد معاناة.
أما الآن فكما يقول الشيخ الجزائري: نحن في زمنٍ طرنا في الهواء، وسرنا على الماء، وأكلنا فاكهة الصيف في الشتاء، وما كان ذاك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهل هذا دليلٌ على أن زماننا خيرٌ من زمن الأوائل؟ لا وألف لا -أيها الأحبة- ولكن الأمر أننا ابتلينا بما آتانا الله عز وجل.
إن كل ما سخره الله لنا من مبانٍ أو إضاءة أو خدماتٍ، أو غنى أو أمن أو طمأنينة؛ يبتلينا الله عز وجل فيه لينظر ما نحن صانعون؟ أنت في أمن والآمن يستطيع أن يفعل خيراً، وأن يعبد الله عز وجل، أما الذي هو في خوف فلا يعرف كيف يعبد ربه.
أنت في غنى والغني يستطيع أن يجد فسحة من الوقت ليعبد الله سبحانه، أما الفقير الذي منذ أن يصبح لا يفكر إلا في لقمة يسد بها رمقه، ويقيم بها صلبه وأوجه، فلا يستطيع؛ يفكر في هذه اللقمة ولا يفكر في غيرها، أما الغني فلا يفكر في هذا إطلاقاً وعنده فسحة من الوقت وفسحة من الزمن يستطيع أن يتعبد الله عز وجل بذلك.
المبادرة قبل حلول الأجل
لو أنك تقدمت في معاملةٍ تريد حقاً من حقوقك أو مصلحة من مصالحك، فقال لك المسئول: ننجزك ما تحتاج أو نخدمك بما تريد إذا حصل كذا، وعلقك على أمرٍ لا تدري متى يحل، فأنت لا تقبل بهذا الأجل، تقول: حدد لي أجلاً معيناً، فإني لا أريد أن أضيع وأن أسوف، ما أدري هل هذا الأمر يقع أو لا يقع، وما أدري هل أنا أبلغ هذا الأجل أم لا أبلغه، فكذلك قل لنفسك إذا دعيت إلى التوبة والمبادرة والإنابة إلى الله عز وجل، قل لها: هل تستطيعين أن تبلغي ذلك الأجل؟ هل تستطيعين أن تبلغي تلك الغاية التي جعلتيها أو علقت بها هذه التوبة وهذه الإنابة:
مضى أمسك الماضي شهيداً معجلا وأعقبه يومٌ عليك جديد |
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة فثن بإحسان وأنت حميد |
فيومك إن أعتبته عاد نفعه عليك وماضي الأمس ليس يعود |
ولا ترجِ فعل الخير يوماً إلى غدٍ لعل غداً يأتي وأنت فقيد |
يقول لي أحد الذين أعرفهم: كنت ممسكاً بيد والدي وقد خرجنا -في مدينة الرياض - من المسجد في شهر شعبان قبل سنتين أو ثلاث، يقول: ونحن في نهاية الشهر على قرب حلول رمضان يقول: فكان أبي وهو ممسكٌ بيدي يقول: يا ولدي! كم من نفسٍ لا تصوم هذا الشهر، وكم من نفسٍ لا تكمل صيام هذا الشهر، يقول: فكان أبي هو ذاك الذي ما صام من الشهر إلا أياماً فمات، رحمه الله رحمةً واسعة.
وهذا جليٌّ وواضح وليس بالغريب، وليست بقصة معجزة، بل ما أكثر الذين يتحدثون عن المنايا والآجال وهي تنتظرهم، لعل المتحدث أول من يموت، ولعل السامع أول من يموت، ولعل الصغير أول من يموت، ولعل الكبير أول من يموت، وتقول العوام: كم ناجحٍ شربت في جلد حوارها، يعني: ناقة عسراء أنتجت ثم إن نتاجها الحوار الذي خرج مات ثم بعد ذلك جعلوا من جلده سقاءاً فشربت الأم في جلد نتاجها ووليدها:
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجر |
فكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهر |
وكم من صغارٍ يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر |
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري |
تذكر الموت غايته الاستعداد والمبادرة
أحبتنا في الله! الحديث بصدقٍ وصراحة أقرب إلى النفوس من التعليل، ماذا لو أن أحدنا قيل له: إن ملك الموت ينتظرك عند باب المسجد! أو لو أن ملك الموت دخل على هؤلاء الحاضرين وقال: يا عباد الله من أهل شرورة! من منكم مستعدٌ للقاء ربه الآن؟ هل فينا أحد مستعد؟
لا والله، نقول له: انتظر لحظة.. دعنا نسدد الديون، دعنا نرجع حقوق الناس، نتخلص من بعض الذنوب، نتخلص من بعض المعاصي، نرجع بعض الأشياء، الإنسان أدرى بنفسه.
نعم أيها الحبيب الواحد خير شاهدٍ على نفسه، وإن مدحك الناس فأنت أدرى، وإن ذمك الناس فأنت أحرى وأدرى، فلو أن ملك الموت وقف وقال: يا عباد الله! من فيكم جاهز يسلم أمانته لله عز وجل الآن؟ لا والله ما فينا واحد مستعد، لماذا؟ لأننا لا نبادر بالعمل، لأننا نسوف، هذه حقوق مالية إن شاء الله نعطيها صاحبها فيما بعد، مع وجود ما نسدد به المال، وهذه مظلمة ما أنصفنا صاحبنا منها، وهذه خطيئة ما تبنا، وهذا ذنب ما أقلعنا عنه، وتلك مصيبة ما تبنا إلى الله منها، فكنا قد جمعنا أموراً، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) وأنا أقول: كثيرٌ منا يعمل حسناتٍ كثيرة، ولكن يعمل سيئات أكثر، فلا تغتر بكثرة حسناتك مع كثرة سيئاتك، إن التاجر الذي يكسب في الصباح مليوناً ثم يخسر في المساء مليونين لا يمكن أن يقال: إنه تاجر؛ لأنه خسر أكثر مما ربح، وإن الذي يعمل حسناتٍ ثم يثنيها بسيئاتٍ ترجح بها فحينئذٍ لا يمكن أن يسمى رابحاً أو فالحاً؛ إنما الفالح الذي رجحت حسناته على سيئاته، نحن لا نتوقع ولا نظن أن عبداً من عباد الله يخلو من الذنوب أو المعاصي الصغائر أو الكبائر، كلٌّ بحسب حاله، ولكن المصيبة كل المصيبة، والبلية كل البلية من عبدٍ تتراكم عليه الذنوب والمعاصي ولا يتوب.
إذا كنت جاداً صادقاً في هذا الأمر فتوقع وانتظر أن تلقى الله عز وجل في أي ساعة فتكون مستعداً، ثم إن الله سبحانه وتعالى قد شرع لنا من المبادرة ما ينظف الرصيد من المديونية أولاً بأول.
الواحد منا لا يسلم .. خطوة .. زلة .. كلمة .. نظرة .. صغيرة .. لمم .. فتجد عنده الأخطاء، لكن الله عز وجل شرع لنا ما يمحو هذه الخطايا أولاً بأول، ومن زلت به القدم فليبادر إلى التوبة، ولا يدع الذنوب حتى تجتمع عليه، أنت إذا جاءتك فاتورة الكهرباء قدرها ثلاثمائة ريال يمكن أن تسددها، لكن إذا تراكمت شهراً بعد شهر حتى صارت آلافاً فإنك تعجز عن أن تسددها، فكذلك بادر بالتوبة ما دامت الذنوب صغيرة، وجاهد نفسك ألا تقع في دين الذنوب مرة أخرى، وإن وقعت ثانية فتب ثانية، وإن زللت ثالثة فتب ثالثة، وإن أخطأت رابعة فارجع رابعة، وليس بينك وبين التوبة أحد، بل إن التوبة لا تحتاج إلى واسطة، والمهم المبادرة (وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن).
جاهد في محو كل ما يكدر ويسود ويلوث صفحة أعمالك، وخالق الناس بخلقٍ حسن، هذه معاملة مع الناس، والخلق الحسن من أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة كما أخبر صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أثقل شيءٍ يوضع في ميزان العبد يوم القيامة، فقال: (تقوى الله وحسن الخلق) الشاهد أن الواحد منا مأمور بالمبادرة، وقد شرع الله لنا المبادرة بأعمالٍ لا تبقي على الواحد بإذن الله سيئة إذا هو اجتهد.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أهمية الوقت في حياة المسلم | 2802 استماع |
حقوق ولاة الأمر | 2664 استماع |
المعوقون يتكلمون [2] | 2652 استماع |
توديع العام المنصرم | 2647 استماع |
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] | 2552 استماع |
من هنا نبدأ | 2495 استماع |
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] | 2461 استماع |
أنواع الجلساء | 2460 استماع |
إلى الله المشتكى | 2436 استماع |
الغفلة في حياة الناس | 2436 استماع |